حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   صالون الخيمة الثقافي (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=9)
-   -   مصر .. فى موكب الزمان (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=75607)

محمد الحبشي 02-01-2009 08:25 PM

مصر .. فى موكب الزمان
 
مصر .. فى موكب الزمان

http://img155.imageshack.us/img155/5...1024768tf0.jpg

لم يأتى هذا الموضوع من كونى مصريا مسلما .. بل كان له أن يكون لألف سبب ، ليس لأنه على أرضها قامت أقدم حضارات الأرض وأشهرها فى كل العالم القديم ، ولا لأنها نزلت مكانة خاصة فى قلب رسول الله وقلب صحابته بل لقد خصها الله عز وجلّ بإفرادها من بين كل أمم الأرض حين ذكرها فى كتابه وكان شرفا لم تحظ به سواها ، ولا لأن ترابها الطاهر وطأه كثير من أنبياء الله . ليس لكل هذه الاسباب وحسب ، فتاريخ مصر ينصهر تماما مع تاريخ هذه الأمة المسلمة ، وسنرى كل هذا تباعا . والأهم ، أن يقرأ هذا التاريخ كل مصرىّ ليعرف أن من هنا كان الطريق ، هكذا كان أجدادنا فأين نحن منهم ؟
.. كان لهذه الاسباب وغيرها أن نستعرض تاريخ مصر عبر موكب التاريخ ونلقى الضوء على كبار الحادثات فى وادى النيل .

إن طبيعة هذا الشعب ذات طبيعة خاصة تختلف تماما مع طبائع الشعوب الأخرى ، فهو شعب مبدع ، منتج ، مؤثر .. تحت أى حضارة ومسمّى بل لولا طبيعته هذه ما قدر له البقاء والنجاة إلى يومنا هذا مع العلم أنه عبر هذا التاريخ السحيق ومنذ إنتهاء فترة الفراعنة بكل ما فيها من حسن وسىء ، لم يحكم مصر من ساعتها حاكم من أهلها وإلى عام 1952م .. أى أنها بحكم التعريفات الحديثة "مستعمرة" ،، لكن طبيعة هذا الشعب تتحمل فوق حد التحمّل وبشكل مذهل ، بل إنها لا تزال تبهر الكون وتعدّ له المفاجأة تلو الأخرى عبر كل فترة وأخرى . فمن حضارة الفراعنة وأعجوبة الهرم ، إلى حكم البطالسة وكليوباترا ومكتبة الإسكندرية أعجوبة الفكر ومنارة العلم فى كل العالم القديم ، وهى مركز الخلافة المسلمة العسكرىّ والإقتصادىّ فى كل إفريقيا وشمال أوربا ، وهى حضارة المماليك والفاطميين والعثمانيين إلى سائر الحكومات والممالك التى مرت عليها وتركت بها وليس لها أثرا بين صفحات التاريخ .


محمد الحبشي 02-01-2009 08:39 PM

فتح مصر




يبدأ تاريخ مصر بهذا الفتح وإن عدنا بالزمن إلى الوراء لأكثر من 4000 عام قبل الميلاد وحتى أزمان الفراعنة فسوف يظل هذا التاريخ تحديدا هو لحظة نشوء وميلاد هذه الدولة العريقة .. 640 - 642م \\ فمنذ هذا التاريخ ومصر عربية مسلمة بخلاف كل مستعمر نهش من خيراتها عبر تاريخها السحيق ومرّ فى موكب التاريخ كأن لم يكن ، أطلق المصريون من لحظتها وإلى يومنا هذا على هذا الحدث العظيم "فتح مصر" .

مضى حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ، وأترك سيدنا حاطب رضي الله عنه يتحدث عن نفسه إذ يقول :

"ثم توجهت أريد مصر ولم أزل إلى أن أتيتها، فلما وصلت إلى باب الملك، قالوا: من أين جئت؟ قلت: أنا رسول إلى ملككم ، فقالوا: من عند من؟ قلت: من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمعوا بذلك أحاطوا بي وأوقفوني على باب الملك فأمرهم بإحضاري بين يديه ، فعقلت راحلتي وسرت معهم عند المقوقس، وإذا هو في قبة كثُرَ الجوهر في حافتها، ولمع الياقوت من أركانها، والحجَّاب بين يديه، فأومأت بتحية الإسلام، فقال حاجبه: يا أخا العرب، أين رسالتك؟ قال: فأخرجت الكتاب، فأخذه الملك من يدي بيده. قال: فقبله ووضعه على عينيه، وقال: مرحبا بكتاب النبي العربي، ثم قرأه وزيره ، فقال له: اقرأه جهراً؛ فإنه من عند رجل كريم، فقرأه الوزير إلى أن أتى إلى آخره، وهذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فَأَسْلِمْ تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {آل عمران: 64 فقال الملك لخادمه الكبير: هات السفط الذي عندك؛ فأتى به ففتحه واستخرج نمطا ففتح ذلك النمط ، وإذا فيه صفة آدم وجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وفي آخره صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لي: صِفْ صاحبك حتى كأني أراه.

قال حاطب: ومن يقدر أن يصف عضوا من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لابد من ذلك، قال: فوقفت بعدما كنت جالسا، وقلت: إن صاحبي وسيم قسيم، معتدل القامة، بعيد الهامة، بين كتفيه شامة، وله علامة كالقمر إذا برز صاحب خشوع وديانة، وعفة وصيانة، صادق اللهجة، واضح البهجة، أشم العرنين، واضح الجبين، سهل الخدين، رقيق الشفتين راق الثنايا، بعينيه دعج ، وبحاجبيه زجج، وصدره يترجرج، وبطنه كطي الثوب المدبج، له لسان فصيح، ونسب صحيح، وخُلُقٌ مليح.

قال: والملك ينظر في النمط، فلما فرغت قال: صدقت يا عربي هكذا صفته، فبينما هو يخاطبني إذ نُصِبت الموائد، وأحضروا الطعام؛ فأمرني أن أتقدم فامتنعت، فتَبَسَّمَ وقال: وقد علمتُ ما أُحِلَّ لكم وحُرِّمَ عليكم، ولم أقدم لك إلا لحم الطير، فقلت: إني لا آكل في هذه الصحاف الذهب والفضة؛ فإن الله قد وعدنا بها في الجنة، قال: فبدلوا طعامي في صحاف فخار فأكلت، فقال: أي طعام أحب إلى صاحبك؟ قلت: الدباء (يعني: القرع)، فإذا كان عندنا منه شيء آثرناه على غيره. فقال: ففي أي شيء يشرب الماء؟ فقلت: في قعب من خشب. قال: أيحب الهدية؟ قلت: نعم؛ فإنه قال صلى الله عليه وسلم: "لو دُعِيتُ إلى كراع لأجبت، ولو أُهديَ إليَّ ذراع لقبلت". قال: أيأكل الصدقة؟ قلت: لا، بل يقبل الهدية ويأبى الصدقة، قد رأيته إذا أُتِيَ بهدية لا يأكل منها حتى يأكل صاحبها. فقال الملك: أيكتحل؟ قلت: نعم، في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى اثنتين، وقال: "من شاء اكتحل أكثر من ذلك أو أقل" وكحله الإثمد، وينظر في المرآة، ويرجل شعره، ويستاك.
فقال المقوقس: إذا ركب ما الذي يحمل على رأسه؟ فقلت: راية سوداء ولواء أبيض، وعلى اللواء مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله. فقال: أله كرسي يجلس عليه أو قبة. قلت: نعم، له قبة حمراء تسع نحو الأربعين. قال: فما الذي يحب من الخيل؟ قلت: الأشقر الأرتم الأغر المحجل في الساق، وقد تركت عنده فرسا يقال لها: المرعد.

قال: فلما سمع كلامي انتخب من خيله فرسا أفخر خيول مصر الموصوفة، وأمر به فأسرج وألجم، فأعده هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرسه المأمون، وأرسل معه حمارا يقال له: عفير، وبغلة يقال لها: دلدل، وجارية اسمها: بريرة وكانت سوداء، جارية بيضاء من أجمل بنات القبط اسمها: مارية، وغلام اسمه: محبوب، وطيب وعود وندّ ومسك وعمائم وقباطي، وأمر وزيره أن يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يقول فيه: "باسمك اللهم، من المقوقس إلى محمد، أما بعد؛ فقد وصل كتابك وفهمته، أنت تقول: إن الله أرسلك رسولا وفضلك تفضيلا وأنزل عليك قرآنا مبينا، فكشفنا - يا محمد - خبرك، فوجدناك أقرب داع إلى الله وأصدق من تكلم بالصدق، ولولا أنني ملكت مُلكا عظيما لكنت أول من آمن لعلمي أنك خاتم النبيين وإمام المرسلين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته مني إلى يوم الدين.
قال: وسلم الكتاب والهدية إلي و قبلني بين عيني، وقال: بالله عليك قَبِّلْ بين عيني محمد عني هكذا، ثم بعث معي من يوصلني إلى بلاد العرب وإلى مأمني .


محمد الحبشي 02-01-2009 08:48 PM



كان فتح مصر هام من الناحية العسكرية أولا لأن مصر هي الامتداد الطبيعي الجنوبي لفلسطين، كما أن فتح ما فُتِحَ من مدن فلسطينية قد أجهد البيزنطيين، ولابد من ضربة قاصمة لوجودهم في هذه الأماكن الجنوبية فكان ذلك.

ومن ناحية أخرى فإن "أرطبون" قائد بيت المقدس (داهية الحرب الذى وجّه الخليفة لحربه أرطبون العرب – عمرو بن أبى وقاص) قد انسحب منها بنظام إلى مصر لإعادة المقاومة، ودفع المسلمين عن الشام ثانية، ولذلك استدعى الأمر مباغتة هؤلاء والإيقاع بهم قبل تزايد خطرهم واستعمال قوتهم.

وكذلك كان من الممكن عند إغفال فتح مصر مهاجمة البيزنطيين دار الخلافة عن طريق البحر الأحمر، فتهبط قواتهم إلى ميناء جدة أو الجار، وتتم مهاجمة الحجاز.

كما أن معرفة عمرو بن العاص رضي الله عنه لمصر ودرايته بها، وهو القائد المختار لفتح البلاد، وَفَّرَ على المسلمين كثيرا من المعاناة والتكاليف. إضافة إلى أن أغلب الجند الذين اشتركوا في الفتح كانوا من العناصر اليمنية، وهؤلاء اليمانية مهروا في قتال الحصون الساحلية، واشتركوا مع عمرو في فتح الحصون ببلاد الشام، فهم أقدر الناس على فتح مصر ومعالجة شئونها العسكرية، كما كانوا على دراية ببناء المدن واختطاطها، والإلمام بالزراعة، فهم من هذه الناحية العسكرية أقدر الناس على تفهم أمور مصر ومعالجة شئونها.
أدرك المسلمون ذلك كله، وأدركوا معه غنى مصر وثراءها، وعلموا أن ضمها إلى بلدان الإسلام يضمن انتعاشا في اقتصاد المسلمين، ويوفر لهم الأموال التي تساعد على مزيد من الفتوح، إضافة إلى أن مصر كانت مركزا رئيسيا لتمويل بيزنطة بالقمح، ومع انهيار الجيش البيزنطي، وما حَلَّ بمصر من ضعف وانقسام كانت الفرصة مواتية للإقدام على فتح مصر.

بعد موافقة الخليفة عمر رضي الله عنه والمجلس العسكري على فتح مصر وخطة الفتح، تحرك الجيش الإسلامي بقيادة عمرة بن العاص رضي الله عنه وتحت قيادته دون أربعة الآلاف مقاتل معظمهم من الفرسان

ولما بلغ المقوقس مجيء جيش المسلمين إلى مصر أرسل جيشا لملاقاة عمرو، فتلاقيا على الفرما فكان أول قتال، والفرما: مدينة من أقدم الرباطات المصرية بقرب الحدود الشرقية لمصر، وكانت في زمن الفراعنة حصن مصر من جهة الشرق لأنها في طريق المغيرين على مصر واسمها القديم "برآمون" أي: بيت الإله آمون، ومنه اسمها العبري "بَرَمُون"، والقبطي "برما"، ومن هذا أتى الاسم العربي وهو الفرما .

ولابد أن عمرو قد حدد من قبل وجهته على أرض مصر أن يكون هدفه الأساسي هو مدينة الإسكندرية التي زارها من قبل في الجاهلية؛ فهي عاصمة البلاد، وتتصل بالقسطنطينية بحراً وبكافة موانئ الدولة على بحر الروم، وهى أكبر حاضرة في مصر منذ بناها الإسكندر الأكبر، ولكي يزول حكم الروم تماما عن مصر فإنه يتعين إخراجهم من كل شبر من أرضها، فكيف يكون طريقه إليها؟ لابد أنه قد حدد مساره.. هل يخترق أرض الدلتا بزروعها وأنهارها وفيض مائها، أو يدور حولها من جنوبها إلى غربها ويساير الصحراء حتى يصل إلى الإسكندرية؟
اختار عمرو الخيار الثاني، وهو الطبيعي والمنطقي، فالسير في الصحراء أفضل للعربي ودوابه من التورط بين الحقول وأوحالها .

أرسل المقوقس إلى عمرو يقول :" إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنت عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم، وجهزوا إليكم، ومعهم العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسرى في أيدينا فابعثوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفًا لطلبكم ورجائكم فابعث إلينا رجالاً من أصحابك نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء "

فلما رجعت رسل المقوقس إليه قال لهم: كيف رأيتموهم"

قالوا :"رأينا قومًا الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم ما يعرف رفيعُهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، إذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم "

فقال المقوقس" والذى يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محاصرون بهذا النيل لن يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.

فتح حصن بابليون

وعلى أسوار بابليون ، قال الزبير بن العوام "إنى أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين" ووضع سلمًا من الخشب (إرتفاع السور 20 مترا) إلى جانب الحصن ، وأمر المسلمين إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعًا. كان الزبير فدائيًا شجاعًا لا يدري ما سوف يلقى فوق السور من قوات الروم، وكان في نحو الخمسين من عمره.

ولم يخطر لهم على بال، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر ومعه سيفه والمسلمون يرددون تكبيره، وقد تسلقوا على السلم حتى نهاهم عمرو خوفًا من أن ينكسر، ثم انحدر الزبير ومن معه إلى داخل الحصن، والأرجح أنهم نزلوا على سلالم البرج، وأصاب الرعب أهل الحصن فهربوا من أمامهم، وعمد الزبير إلى باب الحصن المغلق من الداخل ففتحه واقتحمه المسلمون من الخارج..

كان الحصن في قلب مصر، وكان أحصن ما بيد الروم في مواجهة جيش المسلمين، فلما سقط صار واضحًا حرج موقف الروم أمام عملية الفتح. نعم مازال أمام المسلمين أن يعبروا مجاريَ مائية خاصة نهر النيل، ولكن أيضًا صار مألوفًا لديهم أن يجدوا حلاً أمام كل عقدة. وتم الصلح بين عمرو والمقوقس .


محمد الحبشي 02-01-2009 09:04 PM



كتب المقوقس إلى ملك الروم يعلمه بذلك. فجاءه من ملك الروم جوابه على ذلك يقبح رأيه وبعجزه ويرد عليه ما فعل ويقول "إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفًا (بعد إمدادات الخليفة) وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى !
قال المقوقس:والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا، إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة.
ثم أقبل المقوقس على عمرو بن العاص وقال له:إن الملك قد كره ما فعلت وعَجَّزني وكتب إليّ وإلى جماعة الروم ألا نرضى بمصالحتك وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه وإنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني، وقد تم صلح القبط بينك وبينهم ولم يأتِ من قِبَلِهم نقض، وأنا متم لك على نفسي، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاهدتهم، وأما الروم فأنا منهم براء. وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال".

قال عمرو "ما هن ؟"
قال: لا تنقض بالقبط وأدخلني معهم وألزمني ما لزمهم وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما عاهدتك عليه فهم يتمون لك على ما تحب، وأما الثانية إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئًا وعبيدًا فإنهم أهل ذلك لأني نصحتهم فاستغشوني ونظرت لهم فاتهموني، وأما الثالثة أطلب إليك إن أنا مت أن تأمرهم يدفنونني في أبي يُحَنَّس بالإسكندرية". فقال عمرو: هذه أهونهن علينا ".

لم يغير المسلمون النظام الإداري المعمول به في مصر قبل الفتح، سواء على المستوى المركزي لإدارة الولاية أم على المستوى المحلي لإدارة الإقليم، اللهم إلا في حدود ضيقة استدعتها الضرورة والظروف، ولم تكن تلك السياسة نابعة من جهل العرب بالنظم الإدارية، أو رغبة في استمرار تدفق الضرائب إلى خزانة الخلافة كهدف يمكن الفتح من ورائه وإنما كان إبقاؤهم على النظام الإداري، نتيجة عدم معرفتهم باللغتين اليونانية والقبطية المستعملين في دواوين مصر، ثم احترام نصوص عهود الصلح التي تم التعهد فيها بالحفاظ على الحريات، وصون الممتلكات والأموال، وعدم التدخل في شئون الأقباط..

الأوضاع الاقتصادية

ـ الزراعة

تعتمد مصر منذ القدم على حرفة الزراعة اعتمادًا أساسيًا، وقد كان المسلمون يعرفون خيرات مصر الوفيرة، فقد أُثِرَ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قوله: "ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة".. وأثر عن ابنه عبد الله قوله: "من أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثله، فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها، وتخرج ثمارها"..

ومعلوم أن المسلمين مُنِعُوا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مزاولة الأنشطة الاقتصادية عامة خاصة الزراعة حتى لا ينشغل الجند عن واجبهم الأول الجهاد في سبيل الله، وكم أن في مقابل ذلك يكفل لهم عمر رضي الله عنه معاشهم ومعاش أولادهم وذويهم إلى جانب ما يحصلون عليه من غنائم حربية، وكان لا يسمح لهم بالخروج إلى الريف ومخالطة الناس إلا في وقت الربيع يرعون خيولهم ودوابهم، ثم يعودون إلى أماكن سكناهم ثانية..

ومما يشهد بالخير للمسلمين من فاتحي مصر أنهم لم يصادروا أراضي القبط الزراعية، ولم يستولوا عليها لأنفسهم .

دخل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصر على رأس الجيش الذي فتحها وكان على رأس الجيش كما نعلم عمرو بن العاص وابنه عبد الله والزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعقبة بن عامر الجهني، وغيرهم كثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم وحصرهم.

لما فتحت مصر أتى أهلُها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤونة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سُنَّةُ لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك ؟ قالوا: إذا دخلت ثنتا عشرة ليلة من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أباها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل، قال لهم: إن هذا لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤونة، وأبيب، ومسرى لا يجري قليلاً ولا كثيرًا حتى همَّوا بالجلاء عنها فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر: "إنك قد أصبت لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وكتب بطاقة داخل كتابه وكتب إلى عمرو: "إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة فإذا فيها: "من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قِبَلَََك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك" فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج، لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، فقطع الله تلك السُّنَّةَ السُّوء عن أهل مصر إلى اليوم.

محمد الحبشي 02-01-2009 09:07 PM

ماذا كان يحدث لمصر لو لم يأتها الفتح الإسلامي؟



الواقع أن هذا السؤال ضروري للغاية لمن يريد أن يقيم الفتح الإسلامي لمصر تقييمًا نزيها مخلصا مبرءًا من الأغراض؛ لأن الفتح الإسلامي كان ذا أثر عظيم على مصر، وكان علامة فارقة في تاريخها-ليس هي وحسب- بل في أفريقية بأسرها، والباحث المنصف يرى أنه لو لم يأتِ الفتح الإسلامي لمصر لظلت:

1- خاضعة للدولة البيزنطية تُعاني من الاضطهاد والظلم إلى ما شاء الله، ولهجر أبناؤها أرضها فخربت، ودبت المجاعات وعصفت بأهلها، ولتداولت عليها أيدي الدول الاستعمارية الظالمة يخطفها مستعمر من مستعمر، يذيقونها العذاب ألوانًا، وينهبون خيراتها ويخربونها ليعمروا أوطانهم، ولتجرع المصريون كأس المهانة والذل، ولانتهى بهم الحال إلى بيع أبنائهم وأعراضهم ليسددوا الضرائب الجائرة، واستمر القتل والسجن والتعذيب والفتنة في عقيدتهم إكراها لهم على اتباع ديانة غيرهم (أُجبر القبط على إتباع بيزنظة فى معتقداتها والتى تخالف عقيدة أقباط مصر) ثم يكون المصير النهائي للجميع: النار...النار للمُكْرِهِ الروماني والمُكْرَهِ المصري على حدٍّ سواء؛ جزاءً على الكفر والشرك بالله ( عز وجل)، ولكن الإسلام أتاها فأضاء جنباتها بنوره، وأنقذ أبناءها من وهذه الكفر ورفعهم إلى قمة الإيمان السامقة، كما حماها من الاستعمار قرونًا عديدة نَعِمَتْ خلالها بسماحة الإسلام.

2- لو لم يأتِ الإسلام لحُرِمَ الأقباط من ممارسة شعائرهم الدينية وحقوقهم، ولظل الإسلام قابعًا في الجزيرة العربية ولم يستضيء بنوره أهل أفريقية ولا بلاد الأندلس.

3– أو لأصبحت مصر بؤرة من بؤر محاربة الإسلام، ولا كانت شعلة من مشاعل نصرة الإسلام عبر التاريخ ، ولحُرِمَ أبناؤها من ثواب الرباط إلى يوم القيامة.

وخلاصة القول: لو لم يأتِ الإسلام لظلت مصر ميتة بين الأحياء.

ريّا 03-01-2009 03:44 PM

لك الحق سيدي أن تفخر بمصرك ......موضوع رائع يستحق وقفة .......ولي عودة
دمت وسلمت ......تقبل مروري المتواضع ........كن بخير ........ريا

محمد الحبشي 03-01-2009 08:15 PM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة rayaa (المشاركة 616899)
لك الحق سيدي أن تفخر بمصرك ......موضوع رائع يستحق وقفة .......ولي عودة
دمت وسلمت ......تقبل مروري المتواضع ........كن بخير ........ريا


وأفخر بعراقى ويمنى وحجازى ومغربى ..

كلها مصرى ووطنى .. إنما كان موضوعى هذا وقفة لكل مصرى ..

كى يعرف الفرع إلى أى الجذور ينتمى ..

ومن هنا .. كان الطريق

ريا ..

لروحك النقاء

محمد الحبشي 03-01-2009 08:16 PM


إن أحداث غزة التى نشهدها اليوم ، ورغم تعاطف كل الشعوب العربية والغربية على حد سواء .. لا أكاد الوم فيها كلها سوى قطر واحد .. بلد واحد .. طالما كانت هذه البلاد تحت حمايته عبر هذا التاريخ وهو وحده منوط بها أكثر من غيرها .. مصر ..

ولماذا مصر ؟
فلسطين أرض رباط وثغر من ثغور الإسلام رغم ما يحيط بها من بلدان مسلمة لكنها مطمع لشعارات شتى أكانت صليبا أم نجمة زرقاء .. لذا كان على كل المسلمين واجبا مقدسا للجهاد والذود عنها وعلى مصر خاصة بحكم موقعها الجغرافى أن تحمل أكبر هذا الشرف وهذا العبء .. فلا أمان مطلقا لمن يملك فلسطين طالما لم يأمن مصر وسنجد هذا واضحا جليا منذ نشأة الحرب وفنونها .. أضف إلى كل هذه الأسباب أسبابا أخرى منها إرتباط شعب مصر بهذه الأرض إرتباطا روحيا وثيقا حتى تكاد القلوب فى هذه الأمة أن تخفق وتحلق مع النسائم شرقا كلما ذكر القدس أو استرجع الدهر أحداثه فيها .

لقد كانت الحملتين الصليبية والصهيونية متشابهتان إلى حد كبير ..
ومن أهم أوجه الشبه، أن الدين قد اتخذ ستارا وشعارا في الحملتين، ففي الأولى كان الصليب هو الشعار، وفي الثانية كان الشعار هو نجمة داود … وكان الهدف الظاهر في الأولى "إنقاذ القبر المقدس"، وفي الثانية كان الهدف "إعادة بناء هيكل سليمان".

ولكن الواقع الذي لا مراء فيه أن الحملة الصليبية كانت مجرد غزوة استعمارية استيطانية، كالغزوة الصهيونية المعاصرة سواء بسواء…والدلائل على ذلك سهلة المنال.

فهذا المستشرق المعروف لامونت يقول عن الصليبيين أنهم "لم يحاولوا الاستيلاء على البلاد الإسلامية لكونها بلادا إسلامية….بل خرجوا ليستولوا على البلاد وليؤسسوا فيها إمارات لهم…."وأن أمراء الإفرنج "كانوا يستهدفون غايات دنيوية محضة " …وأن الواحد منهم "لم يجد أي بأس في أخذ البلاد من أيدي المسلمين واليونان والأرمن أو من أيدي أبناء جنسه من الإفرنج".

وهذا مؤرخ غربي آخر هو "غروسيه" يقول في عبارة جازمة عن "الحاج" الذي ذهب لزيارة الأماكن المقدسة في بيت المقدس بأنه "أصبح رجل فتح يذهب لإنشاء ممالك تحت شمس الشرق، كما اتجه بارونات الأرض المقدسة إلى تطبيق سياسية استعمارية".

بل إن مؤرخا غربيا منصفا قد أدان الحملة الصليبية بأنها "أول تجربة في الاستعمار الغربي قامت بها الأمم الأوروبية خارج حدود بلادها لتحقيق مكاسب اقتصادية واسعة النطاق.

والواقع أن أهل الصليب أنفسهم لم ينجوا من الحملات الصليبية. فقد ارتكب الصليبيون مع أخوانهم في الدين في بلغاريا والمجر فظائع رهيبة، وهم في طريقهم إلى بيت المقدس. وحين وصولهم إلى القسطنطينية خربوا الكنائس ونهبوا نفائسها، واقتحموا كنيسة القديس أيا صوفيا وهم سكارى، وعبثوا بما فيها من ستائر وأدوات وكتب مقدسة فحرقوها وداسوها بأقدامهم، ونهبوا ذخائرها، وما حوته من آلات ورخام، وحملوه معهم إلى الديار المصرية والشام، وبيع في الأسواق، ووصل منه إلى دمشق رخام كثير.
ومثل هذا قد فعلته الحملة الصهيونية في فلسطين، فقد هدمت المساجد والكنائس والمقابر، وأحرقت جانبا من المسجد الأقصى، ونهبت النفائس الدينية من كنيسة القيامة.

وأوجه الشبه أكثر من أن تحصى بين الحملة الصليبية والحملة الصهيونية، والدين الحق براء من الحملتين.

لقد إقتربت الحملة الصليبية الأولى الآن على مشارف القسطنطينية وتوغلت في آسيا الصغرى، واخترقت جبال طوروس، وها نحن نجدهم في تشرين الأول سنة 1098 معسكرين حول أسوار أنطاكية، وسيوفهم مشرعة نحو ديار الشام، وبيت المقدس هوالغاية والنهاية.

ودارت معركة رهيبة من أجل أنطاكية والإفرنج يستميتون للاستيلاء عليها، فهي باب المشرق العربي….والعرب يستبسلون في الدفاع عنها، دفاعا عن الوطن العربي بأسره.
ولكن العرب الذين نعنيهم هنا، هم القوات العربية في أنطاكية وما حولها. أما حكام العرب في بغداد ودمشق والقاهرة، فلم يكن الأمر يعنيهم من بعيد أو قريب .

وكانت حلب ودمشق أقرب الحواضر العربية إلى أنطاكية، وهما أولى بالنجدة من غيرهما.... ولكن الذي جرى أن الصراع كان على أشده بين الأخويين – العدوَّين الألدَّين: رضوان ملك حلب، ودقاق ملك دمشق .
وبسبب هذا الصراع على دمشق….وقف الملكان، دقاق ورضوان، يشاهدان أنطاكية وهي تقاتل الإفرنج وحدها….دون أن يدريا أن القدر والإفرنج يخبئان لهما معا أوخم العواقب والنوائب…

وما أشبه اليوم بالبارحة ..


وقد لعبت الخيانة دورها في معركة أنطاكية ..


وسقطت إنطاكية ...


وكان سقوط أنطاكية في اليوم الثالث من حزيران عام 1098. وكانت هزيمة مروعة، لا تقل ضراوة عن هزيمتنا المعاصرة في حزيران المشؤوم…
ويشهد مؤرخ أجنبي أن الإفرنج قد ذبحوا في أنطاكية ما لا يقل عن عشرة آلاف من أهلها، واضطرالجند إلى المسارعة في دفن الجثث قبل أن ينتشر الوباء في المدينة .

وفي أوائل الشتاء (11 ديسمبر 1098) حين كانت الرياح الباردة تتناوح السهول السورية، اهتزت رفات أبي العلاء المعري فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وهي تضج في قبره…ذلك أن الإفرنج قد اقتحموا بلدته التاريخية "فقتلوا أكثر من عشرين ألف رجل وامرأة وصبي" في رواية اين العديم، "وما يزيد على مئة ألف" في رواية ابن الأثير. أما أحد المؤرخين الغربيين فقد ذكر أن الإفرنج قد أحرقوا المعرة أولا عن آخر.

ولكن ديار الشام كانت مهيأة للهزيمة أمام الإفرنج، فقد كانت البلاد مجموعة ممالك وأمارات.

فهذه إمارة في أنطاكية يحكمها أحد الأمراء، واسمه سيَّان.
وهذه مملكة في حلب على رأسها الملك رضوان.
وهذه مملكة في دمشق على رأسها المملك دقاق.
وهذه إمارة في حمص يحكمها شمس الدولة جناح بن ملاعب.
وهذه إمارة في الموصل يحكمها أحد أمراء التركمان واسمه كربوغا.
وهذه إمارة في حماة يحكمها سلمان، أمير آخر من أمراء التركمان.
وهذه إمارة في حصن عزاز، شمالي حلب، وعلى رأسها الوالي عمر.

كانت هذه هي الحال في ديار الشام، أما الحال في مصر والعراق فكانت أشد تمزقا….خلافة فاطمية شيعية في القاهرة، وخلافة عباسية سنية في بغداد، وأوصال مفككة، تسودها الشحناء والبغضاء…والشعوب هي الضحية، والوطن هو الثمن.

لقد كانت القدس تحت إمرة الخلافة الفاطمية ومقرها مصر .. شأن فلسطين عبر أكثر أوقات هذا التاريخ .. والأشد ألما أن سقوطها الأول والثانى كانت فيهما تحت حماية مصرية ..
إذا تصفحت أقرب خارطة لهذه المنطقة فسوف ترى بعينيك حقيقة هامة .. إن مصر إمتداد فلسطين وفلسطين إمتداد مصر .. ليس فحسب إمتدادا جغرافيا .. برا وبحرا ستجد أن فلسطين فى أحضان مصر .. أضف إلى هذا كثافة العدد والقدرات البشرية الكثيرة والخبرة العسكرية ووفرة المال ، كل هذه العوامل جعلت من شعب مصر جيشا من الفلاحين والتجار الذى يسهل تشكيله فى وقت جدّ قصير وهنا مكمن خطورتها .. لذلك لا تجد حملة صليبية على بغداد أو دمشق رغم تساوى الخطر فى هاتين العاصمتين .. لكن لا أمان أبدا لمن يملك فلسطين سوى بتشكيل عمق دفاعى له فى مصر .. وقد برزت هذه الحقيقة عند كل جنرالات وقادة الحرب منذ هذا الوقت السحيق .. بدءا من بلدوين وحتى عمورى ملك مملكة القدس الذى لم يهدأ إلى أن يضم مصر إلى سلطانه .. ولم يترك له صلاح الدين هذه الفرصة أبدا بل جاهده على كل بقعة فيها واستمات فى الدفاع عنها بشراسة عجيبة سنأتى عليها فى وقتها .. لم يكن كل هذا سوى لإدراكه بأهمية مصر الإستراتيجية فى خطة تحرير بيت المقدس ..

ظلت فلسطين وبالأخص القسم الجنوبى منها تحت رعاية وحماية مصرية وحتى العام 1967 حين إجتاحت الآلة النازية الصهيونية هذا القطاع وعجزت مصر فى الدفاع عنه ولا عن أرضها والأكثر ألما حين تخلى عنها جنرالات الحرب فى حرب العاشر من رمضان لتظل تحت الأسر والقيد إلى يومنا هذا ..


إستغاثت فلسطين ببغداد ولكن لا حياة لمن تنادى .. وكانت ذروة المآسي وقمة المخازي قد رست على رأس الخلافة الفاطمية في القاهرة، فلم يكتف الفاطميون بالقعود عن الجهاد والتخاذل في معركة العروبة والإسلام، بل راحوا يعملون على إقامة تحالف مع الإفرنج نكاية بالسلاجقة المسلين في سورية ، وبالخلافة العباسية في بغداد، ويا لخزي الزمان وعار الأبد!

وكان صاحب الأمر والنهي في القاهرة في تلك الأيام الحالكة السوداء، الخليفة الفاطمي المستعلي، والوزير الأفضل بن بدر الجمال، أثبتت الأيام أن نكبة الإسلام كانت على يد هذا "المستعلي" وذاك "الأفضل".

وموجز النكبة التي تستعصي على الإيجاز أنه حين كانت المعارك الطاحنة دائرة بين العرب والإفرنج حول أسوار أنطاكية، بعث الوزير الأفضل بسفرائه إلى معسكر الإفرنج لإقامة تحالف بين الفريقين، بحيث تكون أنطاكية للإفرنج، وبيت المقدس للفاطميين!!

وقد اهتز التاريخ العربي غداة أن سقطت أنطاكية ، وراح يصيح مستنكرا ومنددا بموقف الوزيرالأفضل .
بل إن التاريخ قد ذهب إلى أبعد من ذلك, واتهم الخلافة الفاطمية بمصر بأنها هي التي دعت الإفرنج لاحتلال ديار الشام نكاية بالسلاجقة المسلمين الذين كانوا ينافسونهم في المشرق العربي. وقال التاريخ بأفصح كلام "أن أصحاب مصر (الفاطميين) ,وقد رأوا قوة الدولة السلجوقية واستيلاءها على بلاد الشام….خافوا، فأرسلوا إلى الإفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوها ويكونوا بينهم وبين المسلمين ولو أن الفاطميين، قد ذهبوا إلى أنطاكية محاربين مجاهدين، لا مفاوضين لا خائنين….لو أنهم شدوا أزر القوات العربية التي كانت تتصدى للإفرنج، لأرتدت الحملة الصليبية الأولى على أعقابها، وما استطاعت أن تجتاح في ما بعد ديار الشام، وفلسطين، وسيناء، والقاهرة نفسها مقر الدولة الفاطمية ويغرق العالم العربي في النهاية في خضم المصائب والويلات عبر مئتي عام ويزيد..

ولم يكن الإفرنج بالقوة الخارقة التي لا تقهر، فإن حرب أنطاكية قد أرهقتهم إلى حد بعيد، وتخلى كثيرمنهم عن المعركة وعادوا إلى بلادهم وقد بلغ من الضائقة التي حلت بهم أنهم على حد تعبيرا بن الأثير، "ليس لهم ما يأكلون، وتقوَّت الأقوياء بدوابهم، والضعفاء بالميتة وورق الشجر .


محمد الحبشي 03-01-2009 08:18 PM

ودار الفلك دورته..وجاء حزيران آخر ….ليشهد انتصارنا، بعد أن شهد انكسارنا.

ففي 20 حزيران من عام 1268 تبدل الحال في الوطن العربي. فلم يكن على مسرح الأحداث ملك دمشق، وملك حلب، وأمير الموصل، وأمير حماة، وأمير أنطاكية، ولا الخليفة في بغداد ، ولا الخليفة في القاهرة…..لم يبق هؤلاء، وإنما جاء رجل واحد، هو الظاهر بيبرس، وقاد الأمة العربية من جديد.
وسجل التاريخ في ذلك اليوم أن أنطاكية قد سقطت على يد العرب فقتل من أهلها وحاميتها ستة عشر ألفا، وسبي ما يبلغ ماية ألف، بيع بعضهم في أسواق مصر، "وغنم العرب أموالا طائلة، وأحرقت أنطاكية وقلعتها، ولم تنهض المدينة بعد ذلك".
ومن العبارات الحلوة التي تركها لنا التاريخ عن سقوط أنطاكية بيد الظاهر بيبرس أنه بلغ من كثرة الغنائم والأسرى "أن قسمت النقود بالطاسات، وأنه لم يبق غلام إلا وله غلام .

وفي الثلاثين من شهر تموز، عاد البطل بيبرس إلى القاهرة، بعد هذا النصر المؤزر، عودة وادعة متواضعة من غير أن تعج بأقواس النصر أو تضج بالمواكب والهتافات، ليقول التاريخ إن الظاهر بيبرس "قد حمل عن الناس كلفة الزينة".

الوضع الآن كالتالى :
خلافة عباسية في بغداد، وخلافة فاطمية في القاهرة، وإمارات عربية شتي في ديار الشام، ومعهم السلاجقة الأتراك المسلمون، وهؤلاء بدورهم انقسموا على أنفسهم، وأصبحوا يعرفون بسلاجقة الروم وسلاجقة فارس .
وفي تلك الحقبة التعيسة، كان الإفرنج، قد احتلوا أنطاكية. وما أن فرغوا من قتل أهلها، وتدمير قلاعها، ونهب ذخائرها وأموالها، حتى شب الخلاف بين أمراء الإفرنج، لمن تكون أنطاكية من يحكمها، ومن يكون أميرها….هل يكون بوهيموند، أم ريموند ؟

واشتد الخلاف بين أمراء الإفرنج الطامعين…ووصلت أصواتهم إلى الخليفتين في بغداد والقاهرة، والى الملوك والأمراء في حلب ودمشق والموصل وغيرها من ديار الشام والعراق، ولكنهم "تقاعدوا عن الجهاد"، كما قال مؤرخو العرب، كما سيقولون بعد جيل أو جيلين، عن حكام العرب في القرن الواحد والعشرين ..

وبدأ زحف الإفرنج، في تلك الأيام الماطرة العاصفة، يستهدف بيت المقدس، وكان عليه أن يجتاز بقية أرض الشام أولا، قبل أن يصل إلى فلسطين، خاتمة الزحف والمطاف.
والمواطن العربي يعرف هذه الأجزاء من الوطن العربي، مدينة مدينة، وقرية قرية، سواء كان مقيما فيها أو زائرا إليها، أو دارسا عنها، ولا بد أن يثيره العجب والغضب كيف سار زحف الإفرنج خلال البلاد (لبنان وفلسطين) في يسر وسهولة، كأن الأمر نزهة سياحية أكثر منها غزوة استعمارية!!

وفي 23 أيار تجاوز الإفرنج صرفند وصور، وهما آخر المدن اللبنانية جنوبا، إلى أن وصلوا إلى عكا، القلعة التاريخية الشهيرة، فاستسلمت لهم من غير قتال.
وفي 26 أيار واصل الإفرنج زحفهم واحتلوا حيفا وارسوف ثم قيسارية.
وفي أول حزيران، احتل الإفرنج الرملة واللد- وهنا اجتمع أمراء الإفرنج في مجلس حربي ليتشاوروا في أمر الزحف على بيت المقدس…الهدف الذي تطلعت إليه أوروبا منذ خطب البابا أربانوس، في كلرمنت بفرنسا داعيا إلى غزو الديار المقدسة.

والى هنا فقد انتهت النزهة السياحية التي بدأت من اللاذقية في سوريا، إلى الرملة في أواسط فلسطين، رحلة استغرقت خمسة أشهر, ولم تتجاوز أصابع اليد، كما يقول عامة الناس الذين لا يجمعون ولا يطرحون!

وقد يعجب المواطن العربي كيف استطاع الإفرنج أن يحققوا تلك الانتصارات في مدة وجيزة، ومن غير مقاومة تذكر، وكأنما خلت البلاد من أهلها وحُماتها، أو كأنما الأمة العربية التي وصلت إلى إسبانيا وفرنسا، قبل قرنين، قد اندثرت أو حجبت، وأصبحت أثراً بعد عين!

ولكن التاريخ، أبو العظات والعبر، يؤكد ولا يمل أن يؤكد، أن عوامل التجزئة والانقسام والخيانة كانت السبب الأول والأخير في سقوط الوطن العربي بهذه السرعة، مدينة بعد مدينة، وقلعة بعد قلعة.
ونحن لو شئنا التحديد، لقلنا والتاريخ معنا يقول، أن الخلفاء والملوك والأمراء هم الذين ألحقوا بالأمة العربية تلك الهزيمة النكراء، وما جلبت على الوطن العربي من خراب ودمار، وذل وعار.

غير أنه من واجب الإنصاف للأمة العربية الماجدة، على صعيد جماهيرها وشعوبها، أن نستذكر بكل إباء وشمم، أن المقاومة العربية للإفرنج كانت ضارية وباسلة حيث كانت تتيسر لها أسباب المقاومة…. ذلك أن الإنسان العربي مقاتل من الطراز الأول حينما يجد السلاح بين يديه، وحين تتهيأ له الفرصة المواتية….
والتاريخ يشهد، وهو خير شاهد، أن وقعات كثيرة شجاعة نشبت بين الشعب العربي والإفرنج، من أنطاكية في شمال الشام إلى الرملة في قلب فلسطين، وتكبد الإفرنج خلالها خسائر فادحة في الرجال والعتاد والأموال. وكان من نتيجة ذلك أن عاد كثير من الإفرنج إلى ديارهم، وفقد كثيرون آخرون عزمهم وحماسهم.
ومن هذه الوقعات الشهيرة أن أهل "عرقة" ، وهي مدينة صغيرة تقع شمال طرابلس قد صمدت أمام هجمات الإفرنج صمودا رائعا، فقد استبسل أهلها في الدفاع عنها وصمدوا أمام جموع الإفرنج، على غير تكافؤ في العَدد والعِدد، رغم ما حصل عليه الإفرنج من الخيرات الوفيرة في إقليم طرابلس ، وما وصل إليهم من التموين عن طريق البحر. ولم يسع الإفرنج إلا أن يفكوا الحصار عنها، وأن يستأنفوا زحفهم إلى أواسط فلسطين، وبقيت عرقة ثابتة صامدة .

ومن المواقف الرائعة، أن أهل حلب قد استماتوا في الدفاع عن مدينتهم العريقة .. و تلك الوقفة الرائعة التي وقفتها معرة النعمان حين أحاط الإفرنج بها من كل جانب، وهب أهلها للدفاع عنها بكل ما ملكت أيديهم، ولم يستطيع الإفرنج اقتحامها إلا على جثث الآلاف من المقاتلين البواسل .. وليس لنا أن ننسى وقعة جريئة أخرى قام بها أهل صيدا، فقد تعرضوا لقوات الإفرنج وهي في طريقها إلى فلسطين، وأنزلوا بها خسائر فادحة، كما تحمل أهل صيدا أضراراًَ كبيرة في مزارعهم وبساتينهم.

وكان البيت الفاطمي ذروه الخيانه العربيه الاسلامية في تلك الحقبة من الزمان…..فالخليفة الفاطمي الذي ينتسب إلى الرسول العظيم، وهو صاحب الدعوة الرفيعة إلى الجهاد، كان "متقاعدا عن الجهاد" حسب تعبير جميع المؤرخين المسلمين الذين تركوا لنا هذا التعبير الشاجب الغاضب .

هذا مع أن قوات الإفرنج التي كانت تتصدى للمدن العربية في بعض الغزوات، لم تكن تتجاوز في تقدير المؤرخين الغربيين، ألف فارس وخمسة آلاف من المشاة ويا لخزي الخلفاء والأمراء والملوك والرؤساء.
لقد انتصر الإفرنج في نزهة سياحية من اللاذقية إلى الرملة، في بضعة أشهر، في عهد ملوك متخاذلين، وأمراء متقاعدين، وخلفاء متقاعسين. وانتصرت إسرائيل، في ما يشبه النزهة السياحية، وفي أيام معدودات، في أعوام 1948، 1956، 1967 ,وفي عهد ملوك متقاعدين ورؤساء متقاعسين، وبهذا يبدو جليا أن الأسباب هي الأسباب، مع اختلاف في الأسماء والألقاب…

وما أشبه الليلة بالبارحة..

محمد الحبشي 03-01-2009 08:20 PM

دار الزمان دورته ، وانتكس نكسته ، فخرج الإفرنج من أوطانهم القاصية يقصدون بيت المقدس ، فاجتازوا ديار الشام في غفلة من الخلفاء والأمراء ,حتى وصلوا إلى فلسطين ، فاحتلوا عكا ، وحيفا ، وقيسارية، واللد ثم الرملة ، حيث أقاموا فيها بضعة أيام . ويقول المؤرخ الإسلامي المعروف ,أبو المحاسن ,إن الإفرنج "جاؤوا إلى الرملة وأخذوها وقت إدراك الغلة وما أبدع فلسطين وأروعها في أيام الحصاد والغلال ، ذلك أن فلسطين كلها في أيام الربيع باقة أزهار وسلة ثمار ، وجنة أطيار ..

ولكن فلسطين ، ويا ويح فلسطين ، لم تشهد ربيعاً عام 1099 ، كما لم تشهد ربيعاً منذ عام 1948 ، وما تلاه من أعوام عجاف ، فإن فلسطين اليوم ذبلت فيها الأزهار ، وتهاوت الثمار ، وتشردت الأطيار .

ومدينة الرملة بالذات ، مدينة النسمات الرقراقة ، والقسمات الحلوة المشرقة، الزاهية بالسهول اليانعة ، والمروج الخضراء ، وما أن نزل فيها الإفرنج حتى استحالت إلى قفر يباب وبلد خراب ، فنزح أهلوها وأصبحوا مهاجرين لاجئين ، ونزحت معهم أمجادهم وذكرياتهم ,الطارف ، والتليد .
ولقد أُعجب المتنبي بالرملة ، وكان قد عرّج عليها قبل أن عرج عليها الإفرنج بخمسين عاماً ، فامتدح أميرها أبا محمد الحسن بقصيدة رائعه كان يحفظها أهل الرملة ، ومنها قوله وكأن المتنبي تنبأ بما سيحل بالرملة :

ومن عرف الأيام معرفتي بها * وبالناس رَوّى رمحه غير راحم

في مدينة الرملة هذه ، وكل رملة فيها جنة ، عقد أمراء الإفرنج مجلسهم الحربي ، والعمارات من حولهم تعج بذكريات الأمويين الذين كانوا يخلدون إليها أيام الراحة والدعة ، وبدأ الحوار الساخن بينهم ، وماذا بعد الرملة؟ هل نمضي إلى مصر ونقضي على دولة الفاطميين في عقر دارهم ، أم نزحف على بيت المقدس ، ونرى بعد ذلك ما يكون ؟

وانقسم الأمراء في ما بينهم ، فرأى فريق أنه "لا بد من الزحف على مصر والاستيلاء على الدلتا ، فإن مصر هي مفتاح بيت المقدس ، ولا قرار ولا استقرار في بيت المقدس إلا بالاستيلاء على مصر" .. ورأى فريق آخر" أن الزحف الطويل من اواسط أوروبا قد استنفد الكثير من قواتهم ، وليكن الإستيلاء على بيت المقدس أولاً ، ثم يتّم الاستعداد للزحف على مصر".

وتساءل أهل فلسطين يومذاك .. كما تساءلوا في غزوات إسرائيل .. أين الخلفاء والامراء ، أين الملوك والرؤساء ، أين الخليفة الفاطمي الناعم في قصوره في القاهرة ، أين الخليفة العباس الساجي في طيلسانه في بغداد ، وأين أمراء الشام ,شمس الدولة ، وفخر الدولة ، وقوام الدولة .. وسائر الألقاب ، وهي لا تتصل "بالدولة " من قريب أو بعيد .

ومرة أخرى أطلّ حزيران على صفحات التاريخ ... وكان اليوم السابع من حزيران ، وحزيران ما أشقاه بنا ، وما أشقانا فيه ..
في ذلك اليوم وصلت جموع الإفرنج إلى بيت المقدس ، وعسكروا حول أسوارها ، ومن سخرية القدر أنه هو اليوم نفسه الذي سقط فيه بيت المقدس على يد القوات الاسرائيلية .. في السابع من حزيران من عام 1967.

ووصلت أنباء الزحف إلى بيت المقدس ، وكانت يومئذ تابعة للدولة الفاطمية في القاهرة ، واسم واليها افتخار الدولة ، حاكم آخر من الذين تشرفوا باسم "الدولة " ولم تتشرف بهم ..
ولكن الشعب ، افتخار الشعب ، هب عن بكرة أبيه للدفاع عن مدينته المقدسة الغالية ، التي بناها جدنا الأعلى يبوس العربي ، وإليه ينسب اليبوسيون العرب، الذين استوطنوا بيت المقدس قبل اليهودية والمسيحية والإسلام بأجيال وأجيأل .

وراح الشعب يحمل المعاول بيديه ، والحجارة على كتفيه ليقوي الأسوار والأبراج ، ويسد المنافذ والمعابر ، وانطلق المتطوعون بالعشرات يسممون الآبار خارج المدينة ، ويجمعون المواشي من الحقول ، حتى لا تقع في يد العدو .

ولم يكن في بيت المقدس إلاّ حامية من العرب والسودان لا يتجاوز عددها ألف مقاتل ، يقابلهم من الفرنجة عشرون ألف محارب ولكن أهل بيت المقدس ، تعاهدوا في ما بينهم ، على ان يدافعوا عن مدينتهم المقدسة ، إلى أن يفنى الرجال والنساء والأطفال .. أليست مدينتهم مسرى الرسول ومعراجه .. ألم يقل القصصي الشعبي " وتُزف الجنة يوم القيامة زفا مثل العروس إلى بيت المقدس .." وإليها يُزف الحجر الاسود ، وتزف مكة بحاجها.

وشدد الإفرنج الحصار ، وراحوا يهاجمون الأسوار ، يحاولون اقتحام أبواب المدينة الغالية ، ولا تزال أبوابها قائمة بأسمائها التي يعرفها أطفالنا إلى يومنا هذا ، باب العمود ، باب الساهرة ، باب الخليل ، إلى آخر الأسماء التي ازدادت بها صفحات التاريخ ..

وازدادت لهفة الإفرنج إلى اقتحام المدينة المقدسة ، بعد أن أيقنوا أن القوات العربية والاسلامية في الوطن العربي متقاعدة ومتقاعسة ، وبدأوا يضربون الأسوار بالمجانيق ، ويصعدون إلى الأسوار على السلالم ، التي صنعوها من الغابات والأحراش التي اقتطعوها من المناطق المجاورة وامتد الحصار نيفا وأربعين يوماً ، والقتال دائر بين الفريقين ، إلى أن قام الإفرنج بهجومهم الكبير في اليوم الرابع عشر من شهر تموز عام 1099 ، وكان يوماً من أيام التاريخ الحزين ..

وانسحب افتخار الدولة وجنوده إلى محراب داود ، في القسم الجنوبي من المدينة ، واعتصموا به وقاتلوا ثلاثة أيام ،" ثم لم يلبثوا أن ألقوا السلاح بعد أن بذل لهم الإفرنج الأمان ، وسمح الإفرنج لافتخار الدولة وجنوده أن ينسحبوا من القدس وذهبوا إلى عسقلان .. في ذل وامان ".

وبدأت المذبحة الرهيبة ، وأصبح بيت المقدس كله مسرحاً كاملاً للدماء والدمار ، في البيوت والشوارع والمعابد ، وعلى الأسطحة ، وفي المسجد الأقصى .. من بابه إلى محرابه !!
ولقد سجل المؤرخون ، المسلمون والمسيحيون على السواء ، وأناملهم راجفة واجفة ، الوقائع الهمجية لتلك المذبحة الرهيبة التي حلّت بالمدينة المقدسة ..

يقول ابن الأثير أن الإفرنج قد ذبحوا ما يقرب من سبعين الفاً ، بينهم جماعة من أئمة المسلمين وعلمائهم.
ويقول ابن القلانسي أن الإفرنج قد "جمعوا اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم "ويقول أبو المحاسن "وهرب الناس إلى الصخرة والأقصى واجتمعوا بهما فهجموا عليهم ، وقتلوا في الحرم ماية ألف ، وسبوا مثلهم ، وقتلوا الشيوخ والعجائر ، وسبوا النساء ، وأخذوا من الصخرة والأقصى سبعين قنديلا ، منها عشرون ذهباً ، وخمسون من فضة ... وتنّورا من فضة زنته أربعون رطلاً بالشامي ، وأخذوا من الأموال ما لا يحصى ".

أما المؤرخون المسيحيون ، وبعضهم كان يقاتل في صفوف الإفرنج، فقد تركوا لنا وقائع رهيبة أشد هولاً مما أشار اليه المؤرخون المسلمون . فهذا المؤرخ المسيحي ابن العبري الملطي يقول "ولبث الإفرنج في البلد أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين ، وقُتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً.
أما المؤرخ المسيحي الآخر متى الرهاوي فقد أنقص العدد بمقدار خمسة آلاف ، وقال "إن عدد من قتلهم الإفرنج من المسلمين زاد على خمسة وستين ألفاً ".

وكان مؤرخ آخر من الذين قاتلوا في صفوف الإفرنج ، ذهب لزيارة الحرم الشريف بعد المذبحة الرهيبة, ولم يجد بدأً من الاعتراف بانه لم يستطع أن يشق طريقة "وسط أشلاء المسلمين إلا بصعوبة بالغة ، وأن دماء القتلى بلغت ركبته" .

ويشاء القدر أن يحفظ لنا مذكرات وافية كتبها أحد الذين قاتلوا في تلك المعركة ، وترجمت أخيراً إلى اللغة العربية . وقد ورد في مذكرات ذلك المؤرخ المقاتل وقائع تقشعر لها الأبدان ، منها قوله " إن الإفرنج جدّوا في قتل الأهلين ومطاردتهم حتى قبة عسر ، حيث تجمعوا واستسلموا لرجالنا الذين أعملوا فيهم أفظع القتل طيلة اليوم باكمله ، حتى فاض المعبد كله بدمائهم .. وانطلق رجالنا في جميع أنحاء المدينة يستولون على الذهب والفضة والجياد والبغال ، كما أخذوا في نهب البيوت الممتلئة بالثروات .. وفي صباح اليوم التالي تسلق رجالنا على أسطح "المعبد " وهجموا على الأهلين رجالاً ونساء ، واستلموا سيوفهم وراحوا يعملون فيهم القتل ، ورمى بعضهم بنفسه من أعلى المعبد ، وصدر الأمر بطرح الموتى كافة خارج البلدة لشدة النتن المتصاعد من جثثهم ، ولأن المدينة كادت أن تكون باجمعها مملوءة بجثثهم ... وتعالت أكوامهم حتى جاوزت البيوت ارتفاعاً "ويمضي التاريخ بعد ذلك يروي كيف استتب الأمر للإفرنج ، وحكموا بيت المقدس ، وأقاموا فيها مملكة دامت ثمانية وثمانين عاماً ..

فحق ضائع وحمى مباح
وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليباً
ومسلمة لهـا حرم سـليب
أمور لو تأملـهنّ طفـل
لطفّل في عوارضه المشـيب
أتسبى المسلمات بكل ثغر
وعيش المسـلمين إذاً يطيب
أما لله والإسـلام حـق
يدافـع عنه شـبان وشـيب

محمد الحبشي 03-01-2009 08:22 PM

يقول التاريخ إن استيلاء الإفرنج على بيت المقدس في عام 1099 قد تم بعد مقاومة ضارية .. وأن الحصار قد اضني المهاجمين أكثر مما فعل بالمدافعين ."وان الإفرنج كانوا يحاربون في بلاد لم تسبق لهم معرفة بها ، وكان يعوزهم السلاح ، ولم يتوافر عندهم من الأقوات ما يكفي لحصار المدينة ، يضاف إلى ذلك اشتداد الحرارة وتعذر الوصول إلى أماكن ظليلة ، وثقل الأسلحة التي يحملها الفرسان ، وتعرض العساكر للهجمات المفاجئة ، إذا توجهوا لالتماس الماء من جهات تبعد عن مواضعهم ، فضلاً عن أن الأقوات أخذت في النفاد.
وهكذا لم يسقط بيت المقدس سهلاً ومهلاً في عام 1099 ، كما سقط على يد اسرائيل !!.

وحين نعود إلى المقاتل الإفرنجي صاحب المذكرات نجد وصفاً دقيقاً للضائقة الخانقة التي كان يعيشها الإفرنج في معركة القدس ، إذ يقول – "وفي اثناء هذا الحصار بقينا عشرة أيام لا نجد خلالها خبزاً نشتريه .. ووقعنا فريسة الظمأ المحرق ، واحتملنا أشد المخاوف حتى لقد كنا نمشي ستة أميال لإرواء جيادنا وحيواناتنا ، غير أننا وجدنا الماء عند نبع سيلو (سلوان) الواقع عند سفح جبل صهيون ، إلا أنه كان يباع بيننا بثمن جد غال ... وكابدنا وطأة الظمأ ، حتى لقد كنا نخيط جلود الثيران والجاموس لنحمل فيها الماء مسافة أميال ، وكان الماء الذي حملناه معنا في الأواني قد أسِن ونتن ، واقتصر طعامنا اليومي على خبز الشعير ، مما صار مثار حزننا ومبعث أسانا ، حتى لقد أصبح الرجل منا يعجز عن أن يجد جرعة كافية من الماء تروي غلته لقاء دينار .. أما بصدد معركة الاقتحام ، فيقول المحارب الإفرنجي صاحب المذكرات .. " وفي يوم الاثنين ، 12 يونيو(حزيران)،هاجمنا البلدة هجوماً عنيفاً ، وحطمنا السور الصغير ، ورفعنا السلم على السور الرئيسي ، وصعد فرساننا وضربوا المدافعين عن المدينه بالسيوف ، وناوشوهم بالرماح ، وكان قتلاهم أكثر من قتلانا ، والأهالي حصنوا المدينه تحصيناً عجيباً ، وقوموا الدفاع عن الأبراج أثناء الليل وفي يوم الجمعة قمنا بهجوم على البلد دون أن نستطيع أخذها . فاصبحنا في ذهول وخوف شديدين، وقد حمي وطيس القتال بين المدافعين عن المدينة ورجالنا " وهنا .. هنا يذكر التاريخ .. أن الإفرنج قد ساءت حالتهم لقلة الماء, وندرة الأقوات ، وشدة الحرارة ، وتعرضهم باستمرار لهجمات المدافعين ، ونشوب النزاع بين أمراء الإفرنج أنفسهم .. كل ذلك حمل كثيراً من الإفرنج على أن يتسللوا وأن يتوجهوا إلى يافا ، لعلهم يجدون سفناً تحملهم إلى بلادهم .

لقد سقطت يافا في عام 1948, كما سقطت عام 1099 .
وكما تلقى الإفرنج المؤن والسلاح والرجال من يافا في الماضي ، فقد تلقى اليهود في زماننا ، السلاح والرجال بعد أن استولوا على ميناء يافا ...

ولقد سقطت القدس في عام 1099 ، والإفرنج يعانون الجوع والعطش ، وسقطت القدس الجديدة في عام 1948 وكاد مئة ألف من اليهود أن يستسلموا بعد أن حاصرهم العرب ومنعوا عنهم الماء ، لولا الوساطة العربية ولولا وقف إطلاق النار ... ثم سقطت القدس القديمة في عام 1967 من غير حصار ولا قتال .
وكان أول ما فعلوا أن زحفوا صوب مدينة نابلس في أواخر تموز 1099، ولم تكن المدينة قادرة على الدفاع عن نفسها، فلم يبقَ أمامها إلا أن تستسلم، وأنباء المذبحة الرهيبة التي ألمَّت ببيت المقدس لماّ يمض عليها إلا شهر واحد…. وهكذا استسلمت مدينة نابلس أو "دمشق الصغرى" كما حلا للمؤرخين أن يصفوها.
ثم توجه الإفرنج بعد ذلك شمالا، في اتجاه منطقة الجليل في فلسطين، فاحتلوا بيسان وطبريا والناصرة، وأنشأوا فيها تحصينات قوية وأقاموا حاميات عسكرية.

وبعد أن تم للإفرنج توطيد أقدامهم في تلك المناطق، توجهوا نحو الساحل، لتحقيق هدفين استراتيجيين، الأول تمكين اتصالهم البحري بأوروبا، وثانيها قطع الصلة بين العالم العربي وفلسطين.
ووضع الإفرنج خطتهم للاستيلاء على أرسوف-شمال يافا-(كانون الأول 1099) ولكن هذا الثغر العربي لم يكن هدفا سهل المنال، فقد أخفقت الحملة، وارتدت على أعقابها خائبة، فقد دافع الأهلون عن مدينتهم دفاعا باسلا…جعل لأرسوف مقاما مرموقا في التاريخ.

وترصد الإفرنج لأهالي أرسوف قرابة شهرين، وهم يشنون عليهم غارات متوالية حينا بعد حين، إلى أن خرج المزارعون من هذه المدينة الباسلة للعمل في أراضيهم، ولم تكن معهم إلا معاولهم، فانقض عليهم الإفرنج وأسروهم وانتقموا منهم انتقاما وحشيا بالغا، فقطعوا أنوفهم وأقدامهم وأيديهم…..وهذا ما أثبتته المصادر الغربية قبل العربية .

وعاد الإفرنج إلى مناطق الجليل مرة ثانية، فسيطروا على إقليم السواد شرقي بحيرة طبريا، وكان هذا الإقليم تابعا لدمشق، و وقعت بين الإفرنج والأهلين مناوشات متعاقبة، وأنزل الإفرنج بالقرى والمزارع المجاورة خسائر فادحة، حتى توغلوا في الجولان، واقتربوا من دمشق نفسها. وجولان الماضي تذكرنا بجولان الحاضر!!

وكانت أخبار هذه المعارك التي خاضها الإفرنج لاحتلال فلسطين بأسرها، بعد أن فتحوا بيت المقدس، تتجاوب في أرجاء العالم العربي فتهزه هزاً عميقا، وتبعث في نفسه كل مشاعر الحزن والغضب وراح الشعراء في الوطن العربي يندبون سقوط بيت المقدس، وينعون على حكامهم تقاعدهم عن الجهاد.


وكانت النقمة، أشد النقمة، على الخلافة الفاطمية في القاهرة، فقد كانت البلاد من غزة حتى نهر الكلب شمالا تحت حكم الفاطميين.

وأخيرا تحرك الفاطميون، إزاء النقمة العارمة، وخرج الوزير الفاطمي، الأفضل، على رأس جيش لمقاتلة الإفرنج، ووصل إلى عسقلان في شهر آب 1099، وكان ذلك بعد أن استولى الإفرنج على بيت المقدس بثلاثة أسابيع، أي "بعد أن فات الأمر" كما عبر المؤرخ العربي. وهو مماثل للتعبير الشعري:

وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل ..

ذلك أن الحب والحرب سواء بسواء، ..كلاهما له أوانه وزمانه"!!

محمد الحبشي 03-01-2009 08:22 PM

ولعل الوزير الأفضل قد عاد بذاكرته، عامين إلى الوراء، حين كان يفاوض الإفرنج للمرة الأولى، وهم يحاصرون إنطاكية، فأرسل يعاتبهم على احتلال بيت المقدس، ولم يكن من التاريخ العربي إلا أن يسخر منه، كما يسخر من حكام هذا الزمان، فقال "إن الأفضل قد أرسل رسولا إلى الإفرنج يوبخهم على ما فعلوه"….كأن التوبيخ والاستنكار والاحتجاج يرد المعتدي عن عدوانه.

ولكن الإفرنج، لم يتركوا جيش الأفضل يعود أدراجه إلى مصر، فجمعوا قواتهم وهاجموه عنيفا، ودارت معركة حامية بين الطرفين كانت الغلبة فيها للإفرنج…وتشتت شمل الفاطميين، حتى "أن بعضهم لم يجد نجاة إلا في البحر، فألقوا بأنفسهم فيه وغرقوا، واحتمى البعض الآخر بشجر الجميز، وكان هناك كثيراً فأحرق الإفرنج بعض الشجر حتى هلك من كان فيه". أما الوزير الأفضل فقد هرب إلى عسقلان ومعه بعض رجاله , وركبوا سفينة وهربوا الى مصر بحرا، وهكذا وصف التاريخ العربي تلك الهزيمة العربية .

وكان طبيعيا أن تحل الهزيمة بالفاطميين، فقد كانوا كحكام هذا الزمان، يحسنون الظن أمام العدو، ولم يجد المؤرخ العربي في وصف تلك المأساة إلا أن يقول "…….تمكنت سيوف الإفرنج من المسلمين، فأتى القتل على الراجل والمطوعة وأهل البلد، وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس، ونهب العسكر. وهكذا تكون عاقبة الذين يحسنون الظن بالأعداء، يفاوضونهم متهافتين، وإذا حاربوا، يحاربونهم متخاذلين!!
وسقطت هيبة الفاطميين، ولم يستشعر أهل البلاد أن لهم أملا في الخلافة الفاطمية في القاهرة أن تحميهم، ولم يبق أمام الإفرنج إلا أن يتوجوا انتصاراتهم في سائر أنحاء البلاد، بأن يعلنوا في بيت المقدس، قيام المملكة وتسمية الملك.

وفي عيد الميلاد، في كانون الأول من عام 1099، كانت كنيسة العذراء في بيت لحم تدق أجراسها، فرحا وابتهاجا، بتتويج أمير الإفرنج بلدوين، أول ملك على بيت المقدس، يتبعه بعد ذلك ثمانية عشر ملكا، آخرهم هنري الثالث.... والشعوب العربية غامضة مذهولة، والملوك والخلفاء يتوارثون العروش في قصورهم الباذخة…واحداً بعد واحد...

وأدرك بلدوين أن "مملكته" لا تزال تحت رحمة "جيوب" عربية قائمة على ساحل فلسطين، أهمها قيسارية، وأرسوف، وكان الأهلون يقومون بغارات باسلة على مواقع الإفرنج القريبة منهم، ويكبدونها خسائر فادحة . ذلك أن الشعب يظل دوما يقاوم الاحتلال حتى ولو كان حكامه سادرين في الضلالات والجهالات.

ولهذا فقد عزم بلدوين على أن يضرب مقاومة الشعب في عقر دارها، فوجَّه حملة إلى قيسارية وأرسوف، وكان قد وصل إلى حيفا أسطول بحري من جنوة (آذار سنة 1101) محمل بالمؤن والعتاد…واستطاع الإفرنج، ما لم يقدروا عليه في الماضي، فاستولوا على قيسارية وأرسوف، وأعملوا السيف في رقاب الأهلين، حتى أن المراجع التاريخية الأوروبية ذكرت أن الإفرنج قد ارتكبوا مذبحة بالغة الوحشية في قيسارية، فقتلوا كثيراً من أهلها الأبرياء، ولم يتركوا شيئا إلا نهبوه…وعندما احتمى الأهالي بجامع المدينة لحق بهم الإفرنج وذبحوهم داخل الجامع عن آخرهم، دون أن يفرقوا بين الرجال والنساء والأطفال، وتحول الجامع إلى بركة من دماء قتلى المسلمين.

ووصلت أنباء هذه الفواجع والمذابح، إلى أرجاء العالم العربي، وضج الناس ينددون بالحكام أجمعين، وأحس الفاطميون في القاهرة بأن الأبصار الغاضبة تتجه إليهم، وأن أصابع الاتهام تكاد تفقأ عيونهم.
فشرعوا يعدون العدة للقيام بحملات عسكرية ضد مواقع الإفرنج في فلسطين.

وحدثت أربع معارك ..

انتهت إلى أربع هزائم…


وكانت المعارك في ربيع 1101، وكان قائد الفاطميين صاحب لقب آخر ينتسب إلى الدولة، "سعد الدولة القواسي"، وقد تجمعت الحملة المصرية، بعد اجتيازها سيناء، عند عسقلان….وقضى الجيش الفاطمي عدة أشهر من غير قتال ولا يزال ينتظر المدد من الفاطميين…ثم اتجه إلى الرملة حيث يستطيع منها أن يضرب مواصلات الإفرنج في يافا، ويزحف على بيت المقدس.
وسارع الإفرنج بقيادة مليكهم، ولم تكن قوتهم تتجاوز مائتين وستين فارسا، وتسعماية من المشاة، تقابلها قوات كبيرة من الجيش الفاطمي.
وفي صباح السابع من شهر أيلول التقى الجيشان، وشهدت سهول الرملة معركة قاسية بين الفريقين، انتصر فيها الإفرنج، وانهزم الفاطميون وقتل منهم عدد كبير، وفر الباقون في اتجاه عسقلان، وقُتل القائد سعد الدولة القواسي، ولحق الإفرنج بالمسلمين وظلوا يطاردونهم حتى أسوار عسقلان، وغنم الإفرنج أموالا كثيرة وعِددا وفيرة.

وقد تملك الحزن ابن الأثير، كما تملكنا اليوم، فلم يجد في وصف تلك المعركة، إلا أن يقول أربع كلمات وحرفا واحدا ...

فملك الفرنج جميع ما للمسلمين .

ووقعت المعركة الثانية، في السنة الثانية-أيار 1102-ذلك أن الهزيمة التي حلت بالفاطميين قد انتشرت أخبارها، وأصبح الناس يتندرون بها، ويسخرون من حكامهم، فجدد الوزير الأفضل الحملة مرة ثانية، في محاولة لإزالة آثار العدوان حسب تعبير هذا الزمان.

ووصلت الحملة إلى الرملة، فهي ساحة المعارك التي يفصل فيها بين النصر والهزيمة، وكانت هذه المعركة بعد عام من المعركة الأولى، ففي ربيع 1102، وصلت قوات الفاطميين إلى عسقلان ومنها اتجهت إلى الرملة واللد ويازور، وكما في الحملة السابقة، فقد كان الهدف الاستيلاء على يافا لقطع الشريان بين أوروبا ومملكة الإفرنج في بيت المقدس.

ودارت رحى الحرب بين الفريقين، وانهزم الإفرنج في المرحلة الأولى من الحرب، وكاد الملك بلدوين أن يسقط في المعركة، فقد "اختفى في أجمة قصب، فأحرقها المسلمون ولحقت النار ببعض جسده وفر إلى الرملة" وسقطت الرملة في يد المسلمين ولكن لبضعة أيام…..
غير أن الإفرنج كانوا أكثر تنظيما وأحسن تنسيقا، فدرات الدائرة على الفاطميين، وألحق بهم الإفرنج هزيمة ساحقة، وظلوا يطاردونهم حتى وصلوا إلى عسقلان…و كانت الهزيمة الثانية.

ووقعت المعركة الثالثة حول أسوار عكا، وهي المدينة التاريخية الشهيرة، وكانت عكا بحكم مركزها الجغرافي مفتاح ديار الشام، مَنْ ملكها فقد ملك ديار الشام، حسب تعبير المؤرخين الإفرنج والعرب….ودارت هذه المعركة، متقطعة عبر عامين متعاقبين.

وكان أن بدأت المعركة في ربيع عام 1103، بأن قام الملك بلدوين بمحاصرة المدينة، ولكنه لم يستطع الاستيلاء عليها لمناعة حصونها واستبسال أهلها في الدفاع، مع أن بلدوين حسب قول ابن الاثير، "ضيق عليها وكاد يأخذها"…ولكنه اضطر إلى أن يرفع الحصار عنها ونكص على أعقابه.

وأطل حزيران مرة أخرى، وأطلت معه الهزيمة ….ففي الأول من حزيران من عام 1104 عاد الملك بلدوين إلى عكا وضرب عليها الحصار مرة ثانية، وكان حاكم عكا في تلك الفترة زهر الدولة الجيوشي، فلم يستطيع الصمود أمام الحصار، "وقاتل حتى عجز" وهو أبلغ تعبير خلفه لنا التاريخ العربي عن أنباء تلك المعركة الطاحنة.

وسقطت عكا، وأصبح مفتاح ديار الشام في يد الإفرنج!!

وكانت المعركة الرابعة وهي آخر معركة كبرى في تلك الحقبة، في صيف 1105، وقد وقعت هذه المعركة في سهول الرملة، حيث التقت قوات الفاطميين بالإفرنج وكانت نتيجتها، أن حلت الهزيمة بالفاطميين وتمزقت قواتهم شر ممزق.

وهكذا فقد انتصر الإفرنج على العرب في أربع معارك خلال أربع سنوات (1101-1105) وكانت الهزيمة الكبرى على أسوار عكا، وفي شهر حزيران…شهر الهزائم و الأحزان.

لماذا انهزمنا في المعركة تلو المعركة…والأمة العربية قبل ثلاث قرون من تلك الهزائم قد حققت انتصارات باهرة ؟

الأسباب أولا: إن إقليم الجليل كان موضع نزاع بين دقاق ملك دمشق، والخلافة الفاطمية في القاهرة، أهو تابع للقاهرة أم لدمشق.
وبسبب هذا الخلاف، خرج هذا الإقليم من سلطة حكام القاهرة، ودمشق معا، واستولى عليه الإفرنج بسرعة فائقة، ونزح عن أهله كما نزحوا عنه اليوم، على رغم قلة المقاتلين الإفرنج….كما أكد هذه الحقيقة أكثر المصادر التاريخية الغربية.

والأسباب ثانيا: إن قادة الفاطميين في معارك الرملة، لم يكونوا متحدين على خطة واحدة، فقد كان الانقسام والانفصال ديدنهم، ومن ذلك ما رواه لنا ابن الأثير من أن قائد القوة البحرية وأميرها "تاج العجم" رفض أن يسند قائد القوة البرية، وأميرها القاضي ابن قادوس، أثناء المعركة….وقد ترك لنا ابن الأثير وصفا مروعا لما دار بين القائد البحري والقائد البري، ووصف لنا كيف رفض تاج العجم معاونة ابن قادوس قائلا له "ما يمكنني أنزل إليك إلا بأمر الأفضل-الوزير بالقاهرة-ولم يحضر عنده ولا أعانه، فأرسل القادوسي إلى قاضي عسقلان وشهودها وأعيانها وأخذ خطوطهم، بأنه أقام على يافا عشرين يوماً، واستدعى تاج العجم فلم يأته ولا أرسل رجلاً.

وليت لنا من يرسم اليوم، كاريكاتوراً لهذه الكوميديا التراجيدية: القوات البحرية تخذل القوات البرية.

ويقول مؤرخ عربي، إكمالا للمأساة، إن الوزير الأفضل قد طلب من شمس الملوك دقاق، ملك دمشق، أن ينجد المسلمين على الإفرنج في تلك المعركة، ولكن شمس الملوك "اعتذر عن ذلك ولم يحضر" وهذا كلام المؤرخ ابن ميسر".

والأسباب ثالثا: إنه في معركة الرملة، كذلك، كان شقيق دقاق ملك دمشق، قد لجأ إلى الملك بلدوين بسبب خلافات عائلية على السلطة، ولما نشبت معركة الرملة قاتل شقيق دقاق، ومعه ماية من رجاله إلى جانب الإفرنج، وظل معهم إلى النهاية، حتى النصر… نصر الإفرنج على المسلمين.

والأسباب رابعا: إن الفاطميين قد تركوا عكا محاصرة، تقاتل وحدها من غير نجدة حقيقية، ويقول مؤرخنا وهو يكظم غضبه ويكتم حزنه عن المعركة مع الإفرنج "وقاتلهم أهل عكا حتى عجزوا، لقصور المادة بهم، وكان أهل مصر لا يمدونهم بشيء، فسلموا (عكا) إليهم (الإفرنج) وقتلوا منهم خلقا كثيرا .

هذه الأسباب وغيرها، كان من نتيجتها أن الأمراء المحليين في فلسطين والشام، لم يجدوا أمامهم إلا أن يجعلوا "هدنة" بينهم وبين الإفرنج ، كاتفاقية الهدنة العربية الإسرائيلية، ووقف إطلاق النار، المعروفة في هذا الزمان.

ويعود المواطن العربي ليسأل في نبرة ونفرة….كيف وقعت الأمة العربية الشجاعة الباسلة فريسة هذه الهزائم؟

والجواب الصادق الأمين، يقدمه لنا الصادقون الأمناء، الثوار الأبرار، وهم المؤرخون المسلمون.
ويقول أبو المحاسن، في سياق كلامه عن سقوط البلاد الإسلامية على يد الإفرنج، في عهد الخليفة الفاطمي، " كان الخليفة متناهيا في العظمة ويتقاعد عن الجهاد حتى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها في أيامه ….ولم ينهض لقتال الفرنج البتة، وإن كان أرسل مع الأسطول عساكر، فهو كل شيء".
ثم يذهب أبوا لمحاسن، في غضبه وثورته، يصف ملك حلب، فيقول "كان بخيلا شحيحا، قبيح السيرة، ليس في قلبه رأفة ولا شفقة على المسلمين، وكانت الفرنج تناور وتسبي…ولا يخرج إليهم..

محمد الحبشي 03-01-2009 08:23 PM

ولعل المواطن العربي المعاصر، وهو يقرأ ذلك كله يحسب أن المؤرخين المسلمين السابقين، قد بُعثوا من قبورهم، ليجدوا أنفسهم أن الصورة هي الصورة ، فالملوك هم الملوك، والأمراء هم الأمراء… ولم تتبدل إلا الألقاب والأسماء.

وكذلك، فإن المواطن العربي، وهو يقرأ وقائع التاريخ، يرى كثيرا من أَوجه الشبة بين الماضي والحاضر ...بين الهزائم بالأمس، والهزائم اليوم. والأسباب واحدة.

وأسماء المدن ...نابلس-عكا- اللد- الرملة- طبريا – وغيرها.

وغيرها، لقد سقطت كلها قبل ثمانية قرون….. وهي تسقط اليوم تحت الأسباب والعوامل والظروف نفسها:

التجزئة والانفصال، والخيانات والنكايات….
وسقطت المدن مدينة تلو الاخرى .. ولنا قصة مبكية ومضحكة فى آن معا ..

إنها مأساة سقوط طرابلس ..

محمد الحبشي 03-01-2009 08:24 PM

سقوط طرابلس




وكانت طرابلس ذات مزايا كثيرة وإغراءات كبيرة، فهي مدينة حصينة، وثغر كبير على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ولها تجارة وافرة، وأموال متكاثرة.

والواقع أن طرابلس كانت بذاتها إمارة مستقلة، يحكمها بنو عمار، وليس أمام الإفرنج إلا أن يستولوا عليها ويجعلوا منها عاصمة لدولة إفرنجية ثالثة، بعد مملكة بيت المقدس، وإمارة أنطاكية.

كانت طرابلس، وكما هي اليوم، تقارب أن تكون شبه جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، وهذا ما مكن حكامها من بني عمار أن يظلوا على اتصال دائم بالبحر، للحصول على ما يلزمهم من المؤن، إذا ضُرب الحصار على المدينة برا……

وكان أول ما فعله الإفرنج أن بنوا قلعة في مواجهة طرابلس مباشرة، على الجبال المقابلة، وذلك لإحكام الحصار عليها، وقطع صلتها بالعالم الخارجي.

وقد حاول بنو عمار هدم هذه القلعة وإشعال النار فيها (أيلول 1104) ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا….ذلك أن حاكم طرابلس ليس بمقدوره بمفرده، أن يتصدى لقوات الإفرنج الهائلة الزاحفة من أواسط أوروبا.

وتوالت الإمدادات على الإفرنج عن طريق قبرص، ليزيدوا الحصار على طرابلس إحكاما، ولكن أهل طرابلس الشجعان كانوا في معظم الأحوال يصادرون سفن الإفرنج وهي في البحر، ويسوقونها إلى ميناء طرابلس في بسالة نادرة وشجاعة خارقة .

غير أن الحصار قد أخذ يضيِّق الخناق على أهل طرابلس، "فساءت الأحوال وارتفعت أسعار المؤن ارتفاعا فاحشا، وهجرها الفقراء، وافتقر الأغنياء"، كما عبر عن ذلك جارهم القريب، مؤرخ دمشق ورئيس ديوانها.

وكان أمير طرابلس في تلك الحقبة فخر الملك بن عمار، قد حاول أن يستنجد بملك دمشق، وخليفة الفاطميين في القاهرة، ولكنهما كانا يطمعان في إلحاق طرابلس بأملاكهما، وراحا ينتظران الفرصة الأولى للانقضاض عليها، ولعل حصار الإفرنج يكون فاتحة الطريق….. وكانت تلك أحلى أحلامهم وأعز آمالهم!!

وضاق طوق الحصار على طرابلس، وأهلها مستميتون في الدفاع عنها، ولم يبالوا أن يبيعوا ما يملكون "من الحلى والأواني لشراء ما يلزمهم من المؤن.

غير أن الشعب في طرابلس تصدى لحصار الإفرنج ثلاث سنوات أخرى، (1105-1108) واستعان الأغنياء بكنوزهم من الذهب والفضة فاستوردوا المواد الغذائية لأسواق طرابلس من كل مكان… حتى من جزيرة قبرص البيزنطية، ومن إمارة أنطاكية الواقعة بيد الإفرنج .

ولما اشتد أمر الحصار على طرابلس وحكام المسلمين في دمشق والقاهرة وبغداد، يراقبون ويتفرجون، قرر فخر الملك بن عمار أن يسافر في ربيع 1108 إلى دمشق وبغداد لطلب النجدة، تماما مثل رسائل النجدة التي أرسلها إلى العواصم العربية المستنجدون المستصرخون من أبناء فلسطين في الثلاثين عاما الأخيرة!!

وشاء القدر أن تكون رحلة فخر الملك بن عمار مأساة إنسانية مثيرة، لا بد أن يقف المواطن العربي أمامها متعظا ومعتبرا، وأوجه الشبه والمقارنة تتزاحم في ذهنه بين الأمس البعيد، واليوم القريب.

وتفصيل الأمر، في غاية الإيجاز، أن فخر الملك قد أناب عنه ابن عمه في حكم طرابلس، ودفع مرتبات الجند لستة أشهر سلفا، وخرج في رحلة الاستنجاد والاستصراخ، حاملا الهدايا الفاخرة النادرة. وما كان أكثرها في قصور طرابلس.

ووصل فخر الملك إلى دمشق. وتصف كتب المؤرخين كيف خرج للقائه ملك دمشق وأمراؤها بالحفاوة والتقدير، واستضافوه بكل إعزاز وإكرام، وكيف أقام عندهم وهو يحدثهم عن حصار الإفرنج لأهل طرابلس، والضائقة التي يعانونها، وكيف أن حكام دمشق قد كالوا المديح والثناء على ابن عمار، والسؤال "عن حالة وما يعانيه في مجاهدة الكفار ويقاسيه من ركوب الخطر في قتالهم" تماما مثل البيانات المشتركة التي يصدرها الملوك والرؤساء في ما بينهم ….هذه الأيام.

وانتهت رحلة دمشق، على غير طائل، أو نائل، واستأنف فخر الملك مسيرته إلى بغداد، وخرج ملك دمشق وأمراؤها، يودعونه بمثل ما استقبل به من حفاوة وإكرام، حسب تعابير الإذاعات العربية، اليوم، في وداع الملوك واستقبالهم.

واجتاز فخر الملك بادية الشام إلى بادية العراق، وهو يأمل أن يجد في بغداد النجدة والأريحية، أليست بغداد مقر الخلافة العباسية وعلى رأسها المستظهر بالله…. أليس فيها السلطان محمد السلجوقي …., هما زعيما العالم الإسلامي يومئذ، بلا منازع؟

ولم يكد فخر الملك أن يصل إلى ضواحي بغداد، حتى وجد حفاوة أشد كرما وإقبالا. فقد أرسل السلطان محمود سفينته الخاصة، لتقله هو وحاشيته في عبوره الفرات إلى بغداد.

ودخل فخر الملك إلى عاصمة العباسين في موكب فخيم، ونزل في قصر عظيم، أقام فيه أربعة أشهر، كانت المباحثات خلالها جارية على ساق وقدم، وفخر الملك يحدث الخليفة والسلطان عما يكابده أهل طرابلس من عناء الحصار، ويحضهم على مجاهدة الإفرنج، وإنقاذ الإمارة العربية من أن تسقط بيد الإفرنج.

وكان كل ما فعله السلطان والخليفة أن أشادا بجهاد فخر الملك وبسالة أهل طرابلس…، وانتهى الأمر بسخاء، ولكن بالحمد والثناء، من غير نجدة ولا مساندة.

وعاد فخر الملك في الطريق إياه، ولا تتسع الصحراء لآلامه، وهو حائر في أمره، والقدر يخبئ لأمير طرابلس، أن يصيح من غير طرابلس، ثم بعد ذلك لتسقط عاصمته العريقة الباسلة بيد الإفرنج…

وتمضي فصول المأساة، لتروي أن فخر الملك قد عاد بخفي حنين، خف من بغداد وحَف من دمشق، ذلك أنه لم يكد يصل إلى طرابلس حتى علم أن الفاطميين قد انتهزوا فرصة غيابه، فأرسلوا في صيف 1108، شرف الدولة واليا عليها، فاحتلها، وحمل إليها كميات وافرة من القمح، وقبض على رجال فخر الملك ونقلهم بحرا إلى مصر، وآلت طرابلس إلى الفاطميين. وهتف الناس للفاتحين.

وبقيت الفصول الأخيرة في المأساة…


أحد فصولها، أن ملك دمشق وجد فرصته الذهبية في ذهبها الزائف، ليستولي على أملاك فخر الملك ، فزحف على عرقة وضمها إليه…. ولكن لبضعة أيام، فقد تصدى لها الإفرنج، وضربوا حولها الحصار لمده ثلاثة أسابيع، وحينما يئست الحامية من المقاومة فرت ليلا وتركت القلعة خالية، واحتلها الإفرنج في اليوم التالي، وظل الإفرنج يطاردون الحامية وعلى رأسها ملك دمشق حتى مشارف حمص.

وفصل آخر… إن طرابلس نفسها، لقيت المصير الذي لقيته عرقة، فلم تستطع أن تصمد أمام حصار الإفرنج أكثر مما صمدت، وساءت أحوال الأهلين "وزادهم ضعفا تأخر الأسطول المصري عليهم بالنجدة والميرة، وأنه لم تكد تصل النجدة البحرية من مصرٍ إلى طرابلس حتى وجدوا البلد قد أخذ فعادوا كما هم".
والذي حدث، أنه قد أطل العاشر من حزيران سنة 1108، وتجمع في ذلك اليوم كله أمراء الإفرنج خارج أسوار طرابلس، وتمت تصفية الخلافات في ما بينهم، وتعاهدوا أن يحملوا على طرابلس حملة رجل واحد، واستسلمت المدينة بعد حصار رهيب دام ستة أعوام، أبلى فيها الشعب أعظم بلاء…. والخلفاء والملوك هم البلاء!!

وأخيرا وصل الأسطول المصري للنجدة، وكانت طرابلس قد استسلمت، ذلك أن إقلاع الأسطول المصري كان قد تأجل بضعة أشهر لفض المنازعات بين قادته .

ودخل الإفرنج إلى مدينة طرابلس، وسيوفهم عطشى إلى الدماء، فقتلوا الشيوخ والنساء والأطفال، وأحرقوا الدور بعد أن نهبوا ما فيها، وكان أعز ما تناولته النيران مكتبة بني عمار التي كانت تعتبر أروع مكتبات العالم، كما شهدت بذلك المراجع الغربية .

وكانت عبارة "لله الأمر من قبل ومن بعد"، وهي التي يرددها ملايين العرب والمسلمين، ولا يزالون، كلما رأوا تخاذل ملوكهم وأمرائهم في الأيام السوداء.

وهذا "المستعلي بالله " الذي كان الخليفة الفاطمي في تلك الحقبة ، لم يتورع أن يبعث بسفرائه إلى الإفرنج ليفاوضوهم على التحالف ضد حكام الشام والعراق ، وليتفقوا معهم على اقتسام البلاد : هذه لكم وهذه لنا !!

والمؤرخون المسلمون ، يتحدثون بمرارة وحسرة ، كيف أن السفراء الفاطميين جاؤوا إلى معسكر الإفرنج خارج أسوار طرابلس وهم يحملون الهدايا النفيسة إلى أمراء الإفرنج واحداً واحداً ... وكيف أن وفداً من الإفرنج قد رد الزيادة ، فجاء إلى القاهرة ودخل قصر الفاطميين ليستأنف المفاوضات من جديد !!
ومن أجل ذلك كان طبيعياً أن تسقط ديار الشام غنيمة باردة ولقمة سائغة ، والفاطميون يفاوضون الأعداء بدلاً من أن يجاهدوهم ، ويبلوا فيهم أحسن البلاء .

يقرأ المواطن العربي جميع هذه الوقائع ، وتقفز في ذهنه الأشباه والنظائر كما يراها في أيامه التي يعيشها ، وفي الأحداث التي يقرؤها أو يسمع بها.

يقرأ المواطن العربي كل هذا ، فيرى أن المفاوضات مع الأعداء هي المفاوضات ، وأن الهزائم هي الهزائم ... وأن الأسباب هي الأسباب ... لقد تبدلت الأسماء والألقاب ... ولكن الملوك والرؤساء هم الملوك والرؤساء ... والكوارث هي الكوارث ... والضحية هم الشعوب ...

استتب الأمر للملك بلدوين في بيت المقدس، ولكنه ظل خائفا يستبد به قلق حائر بعيد.. تجاوز أسوار المدينة المقدسة.

لقد أصبحت حدود المملكة شاملة فلسطين كلها، ومعها كثير من أقاليم ديار الشام، وأصبحت "حدوداً آمنة معترفا بها"، حسب تعبير الأمم المتحدة في هذه الأيام التي نعيشها في حوار مع إسرائيل!!

ومثل الإسرائيليون اليوم، كان بلدوين يتطلع إلى حدود أكثر أمنا… وكانت مصر هي مصدر مخاوفه، وكان اتصال مصر والشام هو مبعث أرقه في ليله، وقلقه في نهاره.

وراح بلدوين، يفكر ويخطط ...ثم راح ينفذ ...

محمد الحبشي 03-01-2009 08:25 PM

وكان أول تفكيره أنه لا بد من السيطرة على الصحراء الممتدة من البحر الميت حتى خليج العقبة، وهي المنطقة المعروفة بوادي عربة… وهذه المنطقة تؤلف بمواقعها الإستراتيجية خطاً دفاعياً عن بيت المقدس، واحتلالها من شأنه أن يعزل مصر عن بقية الوطن العربي، ويقطع الطريق البري بينها وبين ديار الشام والعراق والحجاز.

خرج بلدوين في غزوته الثالثة، وكانت هذه المرة مركزة على سيناء في اتجاه مصر، فإن مصر هي القوة العربية الكبرى ، ولا بد من التحرش بها، وتطويقها، بادئ ذي بدء، حتى يتيسر غزوها والاستيلاء عليها.
وكان الإفرنج على علم بحياة الفاطميين في القاهرة، وتخاذلهم وتقاعدهم عن الجهاد، فخرج بلدوين يتصدى لهم في عقر دارهم، وكانت القوة التي يقودها لا تتجاوز مائتين من الفرسان وأربعمائة من المشاة…. وكان ذلك منتهى الاستهانة بالخلافة الفاطمية .

وبدأ زحف الإفرنج على سيناء، واستطاع بلدوين أن يخترق الصحراء من غزة حتى العريش… ثم واصل الإفرنج زحفهم حتى وصلوا إلى الفرما في ربيع 1118 واستولوا عليها…. ونهبوها ووضعوا يدهم على غنائم وفيرة.

وفي هذه المسيرة الطويلة من بيت المقدس إلى الفرما، لم يجد بلدوين مقاومة تذكر، وكان احتلال الفرما نفسها سهلا يسيرا، فقد هرب سكانها المصريون، تاركين متاعهم وأموالهم نهبا للغزاة… وماذا يستطيع الشعب الأعزل، ومليكه ناعم في قصوره، غارق في فجوره…

هذا، ولا يفوتنا أن نلاحظ أن الفرما كانت مدينة من حصون مصر القديمة واقعة في الجهة الشرقية، وعلى بعد 25 كيلو مترا من مدينة بور سعيد… وكانت فيها على الدوام منذ عهد الفراعنة قوة عسكرية للمحافظة على حدود مصر الشرقية (وقد تابعنا أهميتها فى فتح عمرو بن العاص لمصر) .

والواقع أن القدر-والقدر وحده- هو الذي تدخل لإيقاف هذه الحملة عند المكان الذي وصلت إليه… فقد مرض بلدوين وتوفي قرب العريش. وعاد إلى بيت المقدس ميتا ليدفن في كنيسة القيامة.

ولكن الشعب، بطريقته الخاصة وبالوسائل التي يملكها، هو الذي أعرب عن مقاومته، وسخريته…والمصريون خاصة ، من الأمة العربية، يملكون مهارات خارقة بالنكته الساخرة، قولا وعملا… ولذلك حكاية طريفة، لا بد أن نقف عندها، ولو في غاية الإيجاز.

يقول ابن الأثير أن سبب وفاة بلدوين "أنه سبح في النيل عند تنيس وانتقض جرح كان به" كما يقول غيره من المؤرخين أن وفاته كانت بسبب أكلة سمك من بحيرة المنزلة.
وكأننا ما كان السبب، فقد ذكر أبو المحاسن بصدد وفاة بلدوين "فشق أصحابه بطنه ورموا حشوته (أمعاءه) هناك، وهي ترجم إلى اليوم بالسبخة".

وهكذا فقد مضت أجيال من الشعب المصري ترجم ذلك المكان. وسمته سبخة البردويل (بلدوين) ولا يزال هذا الاسم جزءا من جغرافية سيناء، ابتدعه الشعب منذ ذلك العدوان الغاشم!!

وإذا كان الشعب المصري قد رجم سبخة البردويل لعنا لملك الإفرنج، فإن مؤرخ النجوم الزاهرة، قد ندد الملك الفاطمي بقوله :"هذا كله- قد جرى- بتخلف هذا المشؤوم الطلعة" عن الجهاد…والمشؤوم الطلعة هو الخليفة الفاطمي الذي يعنيه أبو المحاسن، ولا يعني سواها‍‍‍‍‍‍‍‍!!

كانت هذه إحدى أسوأ اللحظات فى تاريخ مصر والعرب أجمعين ..

والتاريخ عجيب .. فلا يكاد الدهر يرزء أمة بخطب عظيم إلا ومن بعده نصر جديد ..

كانت هذه صفحة مظلمة سوداء من صفحات الإنكسار ..

لكننا الآن على موعد مع صفحة مشرقة من صفحات المجد ..

عهد جديد ..

وبطل جديد ..

محمد الحبشي 25-01-2009 07:01 AM

شمس نهار جديد


قام الإفرنج بخمس حملات على مصر، فاخترقوا سيناء، وأحرقوا بلبيس، واحتلوا القاهرة، وحاصروا الإسكندرية، ودمروا دمياط….. كل ذلك طمعا في مصر و تثبيتا لأقدام الإفرنج في ديار الشام، وفي بيت المقدس على وجه التحديد.
وكان الإفرنج، وفي النصف الأول من القرن الثاني عشر، قد استكملوا احتلالهم لما نعرفه اليوم باسم فلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان وشمال العراق، وأنشأوا فيها أربع دول- إمارة الرها، إمارة أنطاكية، إمارة طرابلس ومملكة بيت المقدس.

وما استكانت الأمة للإفرنج، فقد كانت غارات الشعب على مواقع الإفرنج تتكاثر يوما بعد يوم، ولم يبق إلا أن تنبثق الوحدة، وأن ينطلق بطل الوحده ، والشدائد والأزمات تلدن البطولات كان ذلك دوما هو حكم التاريخ.

وانطلق بطل الوحدة، وقامت دولة الوحدة ، وكان البطل الذى ظل يجاهد للوحدة، والوحدة جهاد، حتى شمل سلطانه الشام وشمال العراق، ولم يبق أمامه إلا أن يدخل مصر في إطار الوحدة.

وإن وحدة فيها مصر، شاملة للشام والعراق، لا بد قادرة على قهر الإفرنج وتحرير الأرض العربية.

كان ذلك ما عاش نور الدين زنكى من أجله ، ويكفي للتدليل على ذلك أن نور الدين نفسه قد حدد أهدافه بكلماته، وهذه إحدى رسائله يقول فيها إلى حكام دمشق :

"أنا ما أوثر إلا جهاد الإفرنج، فإن ظهرتم معي في معسكر دمشق وتعاضدنا على الجهاد، فذلك غاية المراد…


ومع هذه الوحدة العربية، وكانت ما تزال في بواكيرها، استيقظت مخاوف الإفرنج، واستشعروا أن التجزئة العربية التي مكنت لهم في الأرض العربية، ستأخذ بالزوال، وستزول معها دول الإفرنج الأربع، من بيت المقدس إلى أنطاكية.

وكان على عرش بيت المقدس في تلك الحقبة الملك عموري الأول (1161-1174) ولم يكد يرث المُلكْ عن أخيه حتى رأى أن الملك نور الدين قد استطاع أن يقيم نواة الوحدة الأولى بين دمشق وحلب وحماه وحمص ودمشق وبعلبك، وشمال العراق.

وثارت مطامح الملك عموري مع مخاوفه…. وكانت مصر هي مقر المطامح و المخاوف , فإن مصر هي مركز الثقل في الوطن العربي، فيها الخيرات الوفيرة، والقدرات البشرية الكثيرة، وكانت مصر هي التي انتزعت من يدها سواحل الشام، فلا بد من السيطرة على مصر، واحتلالها، أو إخضاعها، على الأقل.

ولم يكن عموري"غريبا" عن حال البلاد العربية وشؤونها، فقد كان حاكما على يافا وعسقلان بل لعله كان من مواليد فلسطين، فقد كان عمره حين اعتلى العرش (1162) سبعة وعشرين عاما، بعد غزوة الإفرنج بما يزيد على ستين عاما... وهو بهذا مثله مثل الجيل الثاني من الغزاة الإسرائيليون.

كان عموري يخشى أن تتعاظم دائرة الوحدة العربية فتمتد إلى مصر، ويقع الإفرنج عند ذلك بين فكي الكماشة، بين مصر والشام "ولا يبقى للإفرنج مقام".

وعبارة " لا يبقى للإفرنج مقام" ليست كلامي، ولكنها كلام عمره ثمانية قرون، سطره مؤرخو العرب، وهم يستعرضون حركة الوحدة العربية وخطرها على الإفرنج، عاجلا أو آجلا.

وفي ظل هذه المخاوف- مخاوف الإفرنج، من الوحدة، تجلى الصراع بين نور الدين ممثلا للوحدة والنضال, وعموري ممثلا للغزو والاحتلال واندفع الإفرنج على مصر في ست حملات متواليات , وكانت الحملة الأولى في شهر أيلول 1163 فقد قام الملك عموري بالهجوم على مصر، واجتاز سيناء والعريش وبرزخ السويس، واقتحم الدلتا، حتى وصل إلى مدينة بلبيس وضرب عليها الحصار.. ولكن فشلت الحملة الأولى وارتد عموري خائباً مهزوما، لسببين رئيسيين:

الأول أن الأهلين في مصر، وما أعظم الشعب دائما، قد أغرقوا الأراضي بمياه فيضان في النيل، وبذلك حالوا دون تقدم الإفرنج…والثاني وهو الأهم، أن نور الدين قد فتح على الإفرنج "جبهة ثانية" في ديار الشام، حسب التعبير الحديث فهاجم مواقع الإفرنج في حارم وإماره طرابلس وحصن الأكراد، مما اضطر الملك عموري إلى العودة إلى فلسطين قبل أن تسقط مملكته في بيت المقدس… ولم يكن قد مضى على تتويجه ملكا على بيت المقدس إلا بضعة أشهر.

وكانت الحملة الثانية في تشرين الأول 1164، فقد قام الملك عموري بالزحف على مصر، عندما استنجده الوزير المصري، ضرغام، وتعهد له أن تكون مصر تابعة للإفرنج، إذا أعانوه على خصمه ومنافسة الوزير شاور.

ولم يكتف نور الدين إزاء هذه الحملة بفتح جبهة ثانية في ديار الشام كما فعل بالحملة الأولى، ولكنه أرسل جيشا بقيادة أسد الدين الأيوبي ومعه ابن أخيه صلاح الدين، وكانت هذه النجدة كما عبر عنها الملك نور الدين "قضاء لحق المستصرخ، وحبسا للبلاد" ، ومعنى ذلك منعها من السقوط في حوزة الإفرنج.
وكانت هذه النجدة من السرعة والعزيمة بحيث وصل الجيش الشامي إلى دلتا نهر النيل قبل وصول الملك عموري على رأس جيش الإفرنج.. واحتل أسد الدين الأيوبي بلبيس والشرقية ودامت المعارك بضعة أشهر أضطر بعدها الملك عموري إلى الانسحاب ، وخاصة بعد أن أرسل نور الدين أعلام الإفرنج التي غنمها من قلاعهم في ديار الشام، ورفعها أسد الدين على أسوار بلبيس، فأدرك الملك عموري أن حصون الإفرنج سقطت الواحدة بعد الأخرى في يد نور الدين .

محمد الحبشي 25-01-2009 07:02 AM

وكانت الحملة الثالثة في كانون الثاني 1167، فقد قام الملك عموري بالهجوم على مصر، بناء على استنجاد آخر، من وزير مصري آخر، هو شاور، فسار الملك عموري في الطريق الذي أصبح يعرفه جيدا، من غزة إلى العريش إلى سيناء والى بلبيس، وهناك لقيهم حليفهم الخائن الوزير شاور، واجتازوا النيل وعسكروا على الضفة الشرقية. وهالهم أن يجدوا أن جيش أسد الدين الأيوبي ومعه صلاح الدين، كان قد سبقهم أيضا، فقد خرج من دمشق واجتاز الصحراء وعبر النيل عند أطفيح، ومنها إلى الجيزة، حيث عسكر في مواجهة الفسطاط على الضفة الغربية للنيل.

وقبل أن يبدأ القتال، شهدت القاهرة أتعس أيامها عارا وذلا، ففي ذلك اليوم وصل سفراء الملك عموري إلى قصر الخليفة الفاطمي، وعقدوا معه اتفاقية يلتزم بموجبها أن يدفع إلى الإفرنج مبلغ أربعمائة ألف دينار، في مقابل إخراج أسد الدين الأيوبي وقواته من مصر، وتم إبرام الاتفاق وعاد السفراء إلى الملك عموري، وقد انبهرت أبصارهم بالعجائب والغرائب التي شهدوها في القصر الفاطمي…من الستائر الذهبية، إلى الوسائد المرصعة باللآلى، إلى الجدران المكسوة بالياقوت والمرجان!!

وبعد الاتفاق بين الصليبيين وخليفة المسلمين، دارت المعركة بين الإفرنج وجيش نور الدين، وراج الإفرنج يعبرون إلى جزيرة الروضة… وأصبح موقف أسد الدين الأيوبي حرجا فاتجه إلى الصعيد، ولحق به عموري وشاور، وعند الأشمونيين في المينا دارت معركة البابين الشهيرة، وانهزم الإفرنج، مع أن عسكر أسد الدين لم يتجاوزوا ألفي فارس، وانبهر ابن الأثير لهذا النصر فقال "وكان هذا من أعجب ما يؤرخ أن ألفي فارس "جيش أسد الدين" يهزم عسكر مصر (الفاطميين) وإفرنج الساحل"

وتعاقبت المعارك بين الجانبيين بعد ذلك, وشدّد الإفرنج الحصار على الإسكندرية، وصبر أهلها وهم على ضيق شديد، وصلاح الدين معهم يقاوم الحصار، غير أن قوات الإفرنج ومعهم حلفائهم الفاطميون كانت أكثر عددا وعددا، مما اضطر أسد الدين الأيوبي إلى الانسحاب، والعودة إلى دمشق…وكانت النتيجة : لا غالب ولا مغلوب!!

وفي ختام هذه الحملة ….وبالتحديد في خريف عام 1167، وقعت واحدة من المآسي الرهيبة التي عرفها تاريخ الأمة العربية، ذلك أن الملك عموري بقي بضعة أسابيع في القاهرة ليضع قواعد الحماية على مصر، تنفيذا للاتفاقية مع الخليفة الفاطمي، وسجل ابن الأثير تلك المأساة الرهيبة في عبارة دامعة دامية، يقول فيها :

"أما الإفرنج فقد استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة ( نائب ملك)، وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ليمتنع نور الدين من إنفاذ العسكر إليهم،و يكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار" .

ولكن أنى للشعب المصري، الشعب الشجاع الأبي، أن يصبرعلى هذا الضيم… فإذا كان حكامه قد ارتضوا حماية الإفرنج ، فليس للشعب أن يخضع ويخنع … فقد هاجمت خواطر الناس في مصر وفي العالم الإسلامي وهم يرون في القاهرة، حامية من فرسان الإفرنج، ومندوبا (شحنة) يشارك في الحكم…حتى أصبحت مصر كما وصفها أبن الأثير :

"تمكن الفرنج من البلاد المصرية، وجعلوا لهم في القاهرة شحنة (مندوبا) وتسلموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكموا على المسلمين حكما جائرا وركبوهم بالأذى العظيم" .

ورأى الفاطميون، بالتجربة والممارسة، لا بالعقل والضمير، أن الشعب المصري لم يعد يطيق بقاء الإفرنج في القاهرة، فلم يجدوا مناصا من الاستنجاد بالملك نور الدين، لإنقاذهم من الحماية والاحتلال، وبلغ من سوء الحال أن الخليفة الفاطمي حين بعث إلى نور الدين يستنجده أرسل في كتبه شعور النساء ، وقال :

" هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج".

وكذلك يفعل الخونة، يحتمون في الشدة بالنساء ويستغيثون، بدموعهن وشعورهن !!

وتهيأ مسرح التاريخ على أرض مصر بالحملة الرابعة…ففي أواخر تشرين الأول 1168 خرج الملك عموري من عسقلان لغزو مصر فوصل إلى بلبيس ومنعه الشعب من دخولها وأن يعسكر فيها، كما كان يفعل في المرات السابقة، وقالوا له "لا تدخلها إلا على أسنة الرماح… أتحسب أن بلبيس جِبنة تأكلها ؟ ولكن عموري ركبة الغرور فرد قائلاً "نعم , هي جبنة والقاهرة زبدة". ولم يدرِ أنه هو وجيشه سيكون الجبنة والزبدة تأكلها مصر هنيئا مريئا.

وبادر نور الدين إلى النجدة، وزحف أسد الدين ومعه صلاح الدين إلى مصر، ودارت معارك طاحنة بين الفريقين، تجلت فيها بطولة الشعب المصري، "فاحترقت مدينة بلبيس وقتل من أهلها خلق عظيم وخرب أكثرها وأحرق جل دورها" وقاوم أهل القاهرة مقاومة ضارية… واحترقت الفسطاط، ولجأ أهلها إلى مدينة القاهرة….ووضع المصريون العقبات الكثيرة في مجرى النيل ليحولوا دون تقدم أسطول الإفرنج.. وقد رضي المصريون بكل هذه التضحيات الجسام، ‎" وأن تدمر بيوتهم وتحرق مدنهم حتى لا تقع بيد الإفرنج .

ولم يكن النضال قاصرا على الرجال فحسب، فقد قامت النساء بدورهن خير قيام، فإن كثيرا من نساء القاهرة جززن شعورهن لتباع في الأسواق ليساهمن بثمنها في مجهود الحرب . والشعب دائما، صاحب المروءات والاريجيات، الرجال والنساء، سواء بسواء….

واضطر الملك عموري في النهاية أمام قوات أسد الدين، ومقاومة الشعب المصري، إلى أن يعود مرة أخرى، مقهوراً مدحوراً إلى مملكته في بيت المقدس.

محمد الحبشي 25-01-2009 07:02 AM

وابتهجت مصر لهذا النصر العظيم، واستقبل أسد الدين الأيوبي استقبال الفاتحين، وعسكرت قواته عند أبواب القاهرة على أرض اللوق، وازدادت حماسة الشعب، إلا الوزير شاور فإنه لم يرق له أن يتم هذا النصر على غير يديه، فدفعته نفسه الحاقدة إلى مراسلة الإفرنج مرة أخرى، وطلب نجدتهم، مشيرا عليهم بأن :"يكون مجيئكم في دمياط في البحر والبر".

وعلم أهل مصر بالخبر، فاجتمع الأعيان عند أسد الدين الأيوبي وقالوا له "شاور فساد العباد والبلاد، وقد كاتب الإفرنج وهو يكون سبب هلاك الإسلام، وطالبوا بقتل شاور الخائن وتحدث أسد الدين إلى أصحابه حديث المجاهدين شارحاً مكانة مصر , وقدرها في الوطن العربي الإسلامي كأنه يتحدث اليوم إلى المواطنين المعاصرين فقال :" قد علمتم رغبتي في هذه البلاد ومحبتي لها وحرصي عليها ، ولا سيما وقد تحقق عند الإفرنج منها ما عندي، وعلمت أنهم كشفوا عورتها، وعلموا مسالك رقعتها، وتيقنت أني متى خرجت منها عادوا إليها، واعتدوا عليها، وهي معظم دار الإسلام، وحلوبة بيت ما لهم، وقد قوي عندي أن أثب عليها قبل وثوبهم، وأملكها قبل مملكتهم، وأتخلص من شاور الذي يلعب فينا وبهم… وقد ضيع أموال هذه البلاد في غير وجهها وقوي بها الفرنج علينا…"

ولقي شاور مصرعه، واستبيحت أمواله وقصوره، ليكون عبرة باقية للذين يهادنون الأعداء، ولا يرعون واجب الوطن وحق الشعب .

ولكن نصيحة شاور التي بعث بها إلى الإفرنج "بأن يكون مجيئكم في دمياط في البحر والبر" قد تحققت بعد وفاته… وبهذا جاءت الحملة الخامسة، وعن طريق دمياط برا وبحرا، كما نصح شاور في حياته.

والواقع أن الإفرنج لم يكونوا بحاجة إلى من ينصحهم بالقيام بحملة جديدة على مصر، فإن الوحدة بين مصر والشام وانتصارها الأخيرعلى الإفرنج في معركة القاهرة، قد جعلهم يخشون على وجودهم في "مملكة بيت المقدس"، وأصبح لا مناص من أن يجمعوا جموعهم وأن يقوموا بالحملة الخامسة على مصر.

ولم يكن خوف الإفرنج على بيت المقدس، وهماً أو خيالاً، بل كان حقيقة راسخة، فهذا ابن الأثير يصف خوف الإفرنج بقوله "كان الفرنج لما ملك أسد الدين مصر ,قد خافوا و أيقنوابالهلاك وانهم خائفون على بيت المقدس وطالبوا الفرنج الذين بالأندلس وصقلية وغيرهما يستمدونهم "، (أي يطلبون منهم المدد) ..وهذا ما تم فعلا…فقد كان الإفرنج "خائفين على بيت المقدس" واستقر في عزمهم أن الدفاع عن بيت المقدس يقتضي الهجوم على مصر. أوليست إسرائيل، اليوم خائفة على بيت المقدس، ومن أجل ذلك فإنها تتصدى لمصر حينا بعد حين !!

محمد الحبشي 25-01-2009 07:03 AM

وبدأت الحملة الخامسة في شهر تموز 1169، فقد غادر الأسطول البيزنطي مياه الدردينل قاصدا قبرص ، وكانت أحد مراكز التعبئة العسكرية عند الإفرنج، وانضمت إلى الأسطول قوات إضافية، لتسير كلها إلى عكا، وكانت من أكبر ثغور الإفرنج على ساحل البحر الأبيض لمتوسط…وتم هناك وضع الخطة الهجومية على مصر، ولضرب الوحدة العربية، ودفع الخطر نهائيا والى الأبد، عن بيت المقدس.

وعقد المجلس الحربي في عكا، برئاسة الملك عموري، ونوقشت الخطة بكل تفاصيلها، وسلفا، وزعت الأسلاب واقتسمت الغنائم ، وتخصص للفرسان "الإستبارية" نصيب كبير من موارد مصر، مع أهم المدن المصرية بالذات مثل، الفيوم وأسوان وأطفيح وقوص والإسكندرية ودمياط والمحلة وتانيس، وغيرها وغيرها….تماما مثل حكاية العدوان الثلاثي على مصر الذي تم الاتفاق بشأنه في باريس في صيف 1956 بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وتقاسموا الغنائم والأسلاب، قبل أن ينطلقوا إلى الميدان!!

وأقلع الأسطول من عكا متجها إلى دمياط، وفي نفس الوقت، زحف الإفرنج برا في الطريق ‎إياه، من عسقلان إلى الفرما، ومنها إلى دمياط حيث نصبوا معسكرهم، "ومعهم المنجنيقات والدبابات وآلات الحصار" ..
وأطبق العدوان الثنائي على دمياط من البحر والبر، وكان أسطول الإفرنج مؤلفا من ألف مركب تحمل على ظهرها مائتي ألف فارس وراجل، مزودين بكل آلات الحرب والدمار والحصار، مما حمل مؤرخي الإفرنج على أن يسموا هذا الأسطول "بالأرمادا" المعروفة بالتاريخ.

ونهض صلاح الدين الأيوبي…وكان في ذلك الوقت وزيرا لنور الدين، بواجب الدفاع عن دمياط خير قيام، ذلك أنها معركة فاصلة، فإن سقطت دمياط بيد الإفرنج سقطت معها القاهرة ومصر كلها، واستتب الأمر للإفرنج لأجيال وأجيال…وإن انهزم الإفرنج وبقيت دمياط عربية، فالمعركة الأولى المقبلة بين العرب والإفرنج ستكون على أسوار بيت المقدس.

ومن هنا فقد كانت خطة نور الدين وهو في دمشق، وصلاح الدين وهو في القاهرة، أن يلحقا الهزيمة بالإفرنج مهما كانت التضحيات، وهما يعلمان يقينا أن معركة دمياط ستكون المعركة أمام دولة الوحدة المصرية الشامية، وهي لا تزال على أول الطريق.

وشرع صلاح الدين في الإعداد للدفاع المستميت، فقام بتحصين دمياط وشحنها بالرجال والسلاح، وملأها بالذخيرة والميرة، وأرسل قسما من جيشه مع ابن أخيه تقي الدين عمر، وقسما آخر مع خالد شهاب الدين…وقام نور الدين من جانبه باستنفار الجيش والشعب في ديار الشام، وأمدهم بالسلاح والمال والمؤن، وراح يرسل القوات الشامية إلى أرض المعركة في دمياط لتؤدي دورها في القتال جنبا إلى جنب مع القوات المصرية .

ولم يكتف نور الدين بذلك، بل إنه فتح جبهة ثانية على الإفرنج في ديار الشام، فقام بهجمات متلاحقة على مواقع الإفرنج وحصونهم وقلاعهم، فأنزل فيها الدمار، وكبد الإفرنج خسائر فادحة.

وكان نور الدين يخوض هذه المعارك في ديار الشام، دفاعا عن الأمة العربية، ووفاء لعهد أخذه على نفسه بأن لا "يظله سقف حتى يثأر من الإفرنج" ملتزما الجد الصادق في نضاله، بعيدا عن الراحة والسكينة….وحتى عن البسمة الهادئة…فقد قال لأصحابة وهم يسألونه عن سبب عبوسه…"أني لأستحي من الله أن يراني مبتسما في حين أن المسلمين يحاصرهم الفرنجة في دمياط".

وأين ذلك من قهقهات الملوك والرؤساء في هذا الزمان .

محمد الحبشي 25-01-2009 07:04 AM

وبدأت معركة دمياط ضارية استبسل فيها الجيش والشعب معا .. فلم يستطيع أسطول الإفرنج دخول الميناء في وجه "المآصر"، وهي السلاسل الحديدية التي أعدها صلاح الدين عند مدخل الميناء. وقام أهل دمياط بإعمال فدائية باهرة، وعبئوا أواني فخارية بمواد مشتعلة، وانتهزوا فرصة جريان النيل من الجنوب إلى الشمال، فأرسلوها مع التيار، فأنزلت بأسطول الإفرنج حرائق كثيرة وخسائر فادحة.

وقام الإفرنج بدورهم بهجمات متلاحقة على دمياط، وضيقوا عليها الحصار، وقذفوها بالنار ليلا ونهارا، وامتد الحصار ما يزيد على خمسين يوما، "فشحت المؤن والأقوات، وارتفعت الأسعار"، ولكن أهل دمياط صبروا وصابروا …شأن المجاهدين.

وجاء اليوم التاسع عشر من كانون الأول 1169، فكان من أيام العرب الخالدة…لقد انحسمت المعركة بالنصر المبين لقوات صلاح الدين، فجلا الإفرنج عن دمياط، بعد أن غرقت المئات من مراكبهم وهلك الكثير من أمرائهم وجندهم، ودمرت منجانيقاتهم وأسلحتهم…وظلت الأمواج تتقاذف جثث بحارة الإفرنج لعدة أيام وأيام .

وانتهت المعركة بالنصر المبين على يد نور الدين وصلاح الدين..وبهذا انتهت حرب الأعوام الستة على مصر، وانتهت حياة الخيانة ممثلة في مصرع الوزيرين الخائنين ضرغام، وشاور، ولم يبق أمام نور الدين إلا أن يصفي الخلافة الفاطمية في القاهرة، ليصبح للدولة العربية الواحدة في العراق والشام ومصر، خليفة واحدة لا خليفتان!!

وأصدر نور الدين أمره إلى وزيره صلاح الدين في القاهرة بأن يخلع الخليفة الفاطمي المعتضد بالله، فأمر صلاح الدين بقطع الخطبة في صلاة الجمعة عن الخليفة الفاطمية، بعد حكم دام قرنين طويلين، قامت خلالهما حضارة رائعة، وهزائم مروعة ، وما تغني الأولى عن الثانية!!

وبانتهاء الخلافة الفاطمية استبشر الناس بقيام الوحدة العربية، وازدانت العواصم الثلاث، القاهرة ودمشق وبغداد بمعالم البهجة، وانطلق الشعر العربي يخلد تلك الأحداث الرائعة، وكان مما قاله العماد الأصفهاني، الناثر الشاعر المؤرخ، مخاطبا نور الدين، ومشيدا بالوحدة :

يـا سالبَ التيجـان من أربابهـا
حـزت الفخـار علـى ذوي التيجـان


ثم يقول في قصيدة أخرى:

فملك مصـر والشـام قد نظمـا
في عقد عـز مـن الإسـلام منتظــمِ


أما هتاف الجماهير الذي كان جاريا على كل لسان، فقد كان كما أثبته مؤرخ الشام المعاصر:" نور الدين يا منصور" ولم يكن هذه الهتاف مفتعلاً أو مستأجرا، كما يفعل الملوك والرؤساء في هذا الزمان!!

محمد الحبشي 25-01-2009 07:05 AM

على ربــا حطيــن



إن ما يصيب العضو الواحد في الأسرة العربية لا بد أن يصيب الأسرة بكاملها..وهذه معركة دمياط كانت معركة الأمة العربية كلها…وكان النصر فيها نصرا للأمة العربية بأسرها…

وهذه العظات كلها ليست نصائح أدبية مجردة، نجدها مسرودة في كتب الأخلاق والسياسة، ولكنها حقائق خالدة، ماثلة أمامنا، في ساحات الحرب وويلات الحصار، وحرائق المدن، وأكوام الجثث والضحايا، وهلاك الزرع والضرع… وكلها حلقات آخذ بعضها برقاب بعض… وما علينا إلا أن نسير مع التاريخ بعض خطوات، نرى الحقائق ناصعة ساطعة.

لقد سقطت أولا أنطاكية، وهي باب الوطن العربي، تخاذل عنها الملوك والرؤساء، فسقطت من بعدها ديار الشام، ثغرا بعد ثغر، وقلعة بعد قلعة.

ثم سقطت بيت المقدس، وتقاعس الخلفاء والأمراء، وتهاوت المناطق الأخرى في فلسطين من الناقورة شمالا حتى رفح جنوبا.

ثم زحف الإفرنج على مصر، من سيناء حتى الصعيد، في خمس حملات تهدد أمن مصر وسلامتها، بل تهدد وجودها .

وهنا أخذ الفلك يدور دورته، وأخذت الصورة تتبدل، وبدأت الهزيمة تنحسر شيئا فشيئا، أمام النصر يتقدم رويدا رويدا…وجاءت المعركة الفاصلة في دمياط لتوقع بالإفرنج هزيمة ساحقة ماحقة.

ودخل صلاح الدين الأيوبي إلى القاهرة دخول الفاتحين، في استقبال شعبي رائع، وتجاوبت نداءات التهليل والتكبير من على المآذن، مع زغاريد النساء وصيحات الرجال والأطفال في الشوارع، فكانت حفاوة بالغة صادقة، هو جدير بها، وهي جديرة به….. وحاشا الله أن يكون لها شبيه في احتفالات هذه الأيام التي يقيمها ملوكنا ورؤساؤنا لأنفسهم "احتفاء" بهزائمهم المتعاقبة، الواحدة بعد الأخرى!!

وصلاح الدين كان يعيش مع هذه الاحتفالات بجسده وخياله، فقد كانت روحه محلقة في سماء بيت المقدس، وكانت جوارحه في رحاب المسجد الأقصى تتطلع إلى يوم التحرير.

وعلى الطرف الآخر من مصر، عبر سيناء، كان الإفرنج يساورهم الخوف على مصير بيت المقدس بعد معركة دمياط.

وكان الإفرنج على حق في مخاوفهم…فقد كان تقدير الموقف العسكري، في تعبير هذه الأيام، يزيدهم خوفا، فقد أصبح صلاح الدين الأيوبي، هذا الكردي المسلم، القادم من قلعة تكريت في العراق، سيد مصر والشام واصبح الإفرنج بين فكي الكماشة , كما هي إسرائيل اليوم، ولكن مع أقزام صلاح الدين، هذا إذا أفلحوا أن يكونوا أقزامه أو خدامه!!

ولا يحسبن المواطن العربي أني أتكلم اليوم عن مخاوف الإفرنج استنتاجا أو خيالا، وقد مضى على تلك الأحداث ثمانية قرون، فذلك هو التاريخ الذي لا يكذب ولا يخون .

ولو كان عند المواطن العربي بعض الصبر ليقلب صفحات التاريخ العربي والإفرنجي عن تلك الحقبة لوضحت أمامه الحقائق جلية ناصعة.

فهذا ابن الأثير يقول عن إفرنج فلسطين "كان إفرنج الساحل لما ملك صلاح الدين مصر قد خافوا وأيقنوا بالهلاك…وأنهم خائفون على بيت المقدس " وواضح من هذا الكلام من الإفرنج كانوا يرتعدون خوفا من الوحدة بين مصر والشام.

وهذا ابن واصل، يقول في عبارة مماثلة حاسمة "ولما ملك صلاح الدين الديار المصرية… أيقن الإفرنج الهلاك"…هلاك الإفرنج المحتوم، من الوحدة بين مصر والشام.

وكما تفعل إسرائيل عند كل الأزمات حين تستنصر بالقوى الصهيونية والاستعمارية العالمية، فإن الإفرنج في بلاد الشام راحوا يستصرخون ملوك ألمانيا وفرنسا وصقلية والأندلس…وهذه أيضا حقائق تاريخية…

يقول أبن الأثير أن إفرنج الشام" كاتبوا الفرنج الذين بالأندلس وصقلية وغيرهما يستمدونهم ويعرفونهم ما تجدد من ملك مصر (صلاح الدين) وأنهم خائفون على البيت المقدس" .

ويقول ابن واصل في نفس الموضوع "أنهم كاتبوا فرنج صقلية واستمدوهم واستنصروهم".
وقد عَّبر عن هذه المخاوف نفسها، وليم الصوري، الذي كان مؤرخ حملات الإفرنج، والمقاتل في صفوفها، وتولى رئاسة أسقفية مدينة صور بعد ذلك في سنة 1175

ولم يكد صلاح الدين يستجم من معركة دمياط ويستحم من غبارها، حتى أخذ يستعد لمنازلة الإفرنج في فلسطين. ولم يكن التصدي للإفرنج سهلا، فقد استقرت أحوالهم في البلاد، وبنوا القلاع والحصون، وقامت علاقات تجارية بينهم وبين مواطنيهم الأول في أوروبا، فضلا عن الأساطيل البحرية تمدهم باالحجاج والمقاتلين في كل عام، ناهيك أن الجيل الثاني والثالث من أبناء الغزاة الأوائل قد نشأوا في البلاد. وصاروا أكثر معرفة بمواقعها، وأكثر قدرة للدفاع عنها…وفي جميع هذه الظواهر تتشابه إسرائيل والفرنج.

وبعد ضم مصر إلى الوحدة حدثت بعض الحركات الإنفصالية من اليمن والسودان لكن صلاح الدين قمع هذه الثورات وأعاد هذين القطرين من جديد إلى سائر الجسد .. وقام بببناء أول نواة لأسطول بحرى قوى فى البحر الأحمر ليؤمن الحجاز من غدر الصليبين وقد كانت هذه الخطوة إثر محاولة السفاح أرنولد دى شاتيو الشهير بأرناط إقتحام مكة والمدينة ..

قصة مختلفة كان لها بطل جديد .. هنــــا (صفحات من تاريخنا المضىء)

ولكن هذه الصورة المشرقة للوحدة العربية، وهي التي كان يرى فيها صلاح الدين طريقه إلى تحرير بيت المقدس انتكست أمام قضاء وقدر، لا سبيل إلى رده… وذلك أن البطل المجاهد نور الدين قد توفي في دمشق- أيار 1174-حين اكتملت هذه الانتصارات الوحدوية.

وتواترت الأنباء على القاهرة أن ورثة نور الدين وولاته، قد استقل كل منهم في إقليمه، وعاد الانفصال من جديد…. إمارة في كل مكان…. وأمراء متحاسدون ، وراء القلاع والحصون !!

ووقع على صلاح الدين العبء الأكبر أن يناضل في جبهتين …أن يكافح الانفصال، وأن يقاتل الإفرنج.
وعزم صلاح الدين على أن "يزحف" على ديار الشام ليخوض غمرات هاتين المعركتين الضارتين…وكان مشهدا رهيبا مهيبا ذلك اليوم خرج فيه أعيان البلاد من القاهرة ليودعوه، ويودعه الشعراء بقصائدهم…وكان مما أنشده بيت من الشعر العربي القديم …

تمتــع مـن شـمم عـرار نـجد
فمــا بعـد العشيـة مـن عـرار


وكان هذا البيت وداعا حقا، فلم يعد صلاح الدين إلى القاهرة، فإنه، كما يقول المؤرخ العربي "اشتغل بفتح الساحل وقتال الإفرنج" .

وترك عنه نائبا فى القاهرة "بهاء الدين قراقوش" .. وقراقوش هو لفظ تركي معناه بالعربي العُقاب ..
هذا الذى ظلمه التاريخ حيا وميتا .. لكن التاريخ يذكر عنه بأنه أعاد للقاهرة رونقها وأحسن تدبير أحوالها عليه. وكان حسن المقاصد ، جميل النية ، وصاحب همة عالية، فآثاره تدل على ذلك، فهو الذى بنى السور المحيط بالقاهرة، ومصر ومابينهما، وبنى قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام .

محمد الحبشي 25-01-2009 07:06 AM

وبعد أن فرغ من وضع الأمور في نصابها، خرج صلاح الدين من دمشق لاستكمال مهمة الوحدة. وما هي إلا بضعة أيام حتى استسلمت له مدينتا حمص وحماه. ولم يبق إلا حلب الشهباء، فضرب حولها حصاراً ليرغمها على الاستسلام من غير قتال.

ولكن أمير حلب أبى واستكبر. فأرسل إلى الإفرنج يطلب معاونتهم على صلاح الدين. ولقي هذا الطلب هوى في نفوس الإفرنج، فإن بقاء حلب "مستقلة" هو صمام الأمان في وجه أية وحدة عربية من النيل إلى الفرات.

ولجأ بادئ الأمر إلى الحيلة والمكيدة، فأرسلوا إلى صلاح الدين يفاوضون حول قضية حلب، كما يتفاوض الاستعمار في يومنا هذا مع الحاكم العربي أو ذاك… وشفع الإفرنج الترغيب بالترهيب، يلوحون له بأن " الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا واحدة"…. ورد صلاح الدين بذلك الجواب التاريخي قائلا "لست ممن يرهب بتأليب الفرنج" .

وتطور الموقف، فأغار صلاح الدين بقواته على إمارة أنطاكية، وأوقع بالإفرنج خسائر فادحة.

وخرج أمير الموصل على رأس قوة كبيرة للتصدي لقوات صلاح الدين – نيسان 1176 وانضمت إليه قوات أخرى من حلب، حتى بلغت كلها ما يربو على عشرين ألف مقاتل، ودارت المعركة في موقع يعرف بتل السلطان على مسافة عشرين ميلا إلى الجنوب من حلب.

ورغما عن أن قوات صلاح الدين لم تزد على ستة آلاف، فإن النصر كان حليف صلاح الدين، ووقع في يده عدد من الأسرى، فأطلق سراحهم واستولى على سرادق أمير الموصل نفسه، وكان فيه كثير من الحمام والبلابل والببغاوات والخمور، فجمع ذلك كله وأرسله إلى أمير الموصل ومعه رسالة تفيض بالسخرية اللاذعة. ويقول فيها "البلابل والببغاوات شيء والحرب شيء آخر.

وفي صيف 1181 قام أحد أمراء الإفرنج –أرناط-وكان متوليا على حصن الشوبك والكرك في شرق الأردن، بغارة على واحة تيماء الواقعة على الطريق إلى المدينة المنورة، ونهب قافلة إسلامية كبيرة كانت متجهة من دمشق إلى مكة.

وأغارت قوات صلاح الدين على مواقع الإفرنج في الأردن، فاضطر أرناط أن يعود أدراجه بعد أن أوشك على "الاستيلاء على تلك النواحي الشريفة" .

قال ابن الأثير في تاريخه "…..جمع صلاح الدين أمراءه واستشارهم فأشار عليه أكثرهم بترك اللقاء(الحرب) وأن يضعف الإفرنج بشن الغارات وإخراب الولايات مرة بعد مرة…فقال له بعض أمراء الرأي عندي أن نجوس بلادهم وننهب ونخرب ونخرق ، ونسبي، فإن وقف أحد من عسكر الفرنج بين أيدينا، فإن الناس بالمشرق يلعنوننا ويقولون ترك قتال الكفار، وأقبل يريد قتال المسلمين، والرأي أن نفعل فعلاً نعذر فيه ويكف الألسن عنا…."

وواضح من هذا الحوار، أن الرأي العام، يومئذ كما هو اليوم بشأن إسرائيل يريد قتال الإفرنج، وأن الناس كانوا يلعنون الأمراء. كما يفعل الناس اليوم مع الملوك والرؤساء طعنا ولعنا.

وقد حسم صلاح الدين ذلك الحوار، فقال كلمته الشهيرة، كما أوردها ابن الأثير"…. الرأي عندي أن نلقي بجميع المسلمين جمع الكفار، فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا ولا ينبغي أن نغرق هذا الجمع إلا بعد الجد في الاجتهاد." .

وهكذا يبدو صلاح الدين مع أمرائه وكأنه يستعجل أيام الجهاد، قبل أن يعاجله الموت، والأرض العربية يحتلها الغاصب الدخيل. ثم يؤكد هذا المعنى مرة ثانية ويقول "العمر قصير والأجل غير مأمون " .

وعزم صلاح الدين على الجهاد فكتب إلى "جميع البلاد يستنفر الناس للجهاد، وأرسل إلى الموصل والجزيرة وأربل وغيرها من بلاد الشرق، وديار بكر، والى مصر، وسائر بلاد الشام، يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم عليه والتجهيز له" .

ثم يروي ابن شداد أن صلاح الدين "نازل طبرية وزحف عليها، فهاجمها وأخذها في ساعة من نهار، واستولى على ما فيها من ميرة وذخيرة".

ولما علم الإفرنج أن صلاح الدين قد استولى على طبرية عقدوا مجلسا حربيا في عكا حضره جميع الأمراء، وهالهم أن يسقط هذا الموقع الاستراتيجي الهام بيد صلاح الدين، فتنادى أمراؤهم للقتال، وقال ملكهم "لا قعود لنا بعد اليوم، وإذا أخذت طبرية ذهبت البلاد بأسرها، فوافقوه، ورحلوا بجيوشهم نحو السلطان" .

والواقع أن صلاح الدين باستيلائه على طبرية كان يقصد انتزاع هذه المنطقة الاستراتيجية التي كانت تقف حائلا بينه وبين الساحل، كما كان يرمي إلى استدراج الإفرنج إلى محاربته في الزمان والمكان اللذين يختارهما، وقد أحسن في ما اختار.

لقد اختار الزمان شهر تموز وهو شهر الحرارة في هذه المنطقة، يطيقه الجنود العرب، ولا يطيقه جنود الإفرنج.

واختار المكان، هضاب حطين، على بضعة أميال إلى الغرب من مدينة طبرية، أرض مجدبة، فلا زرع ولا ضرع ولا مياه ولا ظلال.

وكانت جموع الإفرنج محتشدة في قرية صفورية، إلى الغرب، حيث المياه الوفيرة، والظلال الوارفة.
وهكذا أفلح صلاح الدين، باستيلائه على طبرية، فأخرج الإفرنج من الظل الظليل إلى هضاب حطين حيث البقاع الملتهبة الجرداء.

وما أن علم صلاح الدين أن الإفرنج قد خرجوا من صفورية، حتى بادر إلى استدراجهم إلى الفخ الجهنمي الذي ينتظرهم في حطين، وهو يقول، كما روى رفيقه العماد الأصفهاني :"قد حصل المطلوب. وجاءنا ما نريد" .

وتلاقى الجمعان عند هضاب حطين في عشية الثالث من شهر تموز من عام 1187، الموافق، الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني-ولم أذكر التاريخ العربي عبثا.

لقد اختار صلاح الدين ليلة الرابع والعشرين من الشهر العربي، حين كان القمر في أيام المحاق ، ففي مثل تلك الليلة يحسب للرأئي أن التلال فرسان، والفرسان تلال، ولا يميز هذا وذاك!!

وحين كان صلاح الدين يرقب أمور "الواقعة المباركة" كان الإفرنج يجوسون بين الهضاب بحثا عن الماء، ولكن أنى لهم ذلك، والمنطقة جدباء على حين كان الماء من خلف صلاح الدين أقرب إليه من حبل الوريد.

وأسفر الصباح في الرابع من شهر تموز عن شمس لافحة ورياح لاهبة والإفرنج يدهقهم العطش، وصلاح الدين وجنده، آكلون شاربون مسلحون وجها لوجه أمام الإفرنج، وقد عزموا أن يكيلوا لهم الكيل كيلين، ففي هذا المكان بالذات وقف السيد المسيح عليه السلام ينطق بكلماته في "عظة الجبل الشهيرة" ويقول :"وبالكيل الذي تكيلون يُكال لكم .

وكان قد مضى على الإفرنج ما يزيد على ثمان وثمانين عاما، هم يكيلون للعرب القتل والدمار والنار جزافا، وها قد جاء الوقت لتصفية الحساب. وكأنما وقف السيد المسيح في هذا المكان، ينثر عظاته الرفيعة لمثل هذا اليوم الرفيع!!

وكان ذلك اليوم حارا لاهبا، وأدرك الإفرنج أن صلاح الدين "قد أحاط بهم إحاطة الدائرة بقطرها".

محمد الحبشي 25-01-2009 07:08 AM

وأشعل المسلمون النار في الأعشاب حول الإفرنج، فأصبحوا بين طوقين السهام والنيران، وبدأوا بالهجوم على جيش صلاح الدين ليكسروا الطوق من حولهم، وكانت هجمتهم ضارية شرسة، فقد كانوا يقاتلون طلبا للنجاة، بل خلاصا من الإبادة وصمد المسلمون لهجمات الإفرنج فقد كانوا بدورهم أمام إحدى الحسنين: النصر أو الشهادة، ذلك أن المسلمين، في تعبير ابن شداد "كانوا من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو، وإنهم لا ينجيهم إلا القتال والجهاد…"

وهنا يأتي أروع فصل من فصول القصة البطولية، يرويه، الأفضل، ابن صلاح الدين، وكان صبيا يقف إلى جانب والده في المعركة، وها هو يروي للمواطن العربي الفصل الأخير من المعركة.

قال الأفضل :"…كنت إلى جانب والدي في ذلك المصاف-الحرب-وهو أول مصاف شاهدته، فلما صار ملك الإفرنج على التل في تلك الجماعة، حملوا حملة منكرة على المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي، فنظرت إليه وقد علته الكآبة، واربدَّ لونه، وأمسك بلحيته وتقدم وهو يصيح "كذب الشيطان" فعاد المسلمون على الفرنج فرجعوا وصعدوا على التل…فلما رأيت الإفرنج قد عادوا، والمسلمون يتبعونهم صحت من فرحي :" هزمناهم"، فعاد الفرنج فحملوا ثانية مثل الأولى، وألحقوا المسلمين بوالدي، وفعل والدي مثل ما فعل أولا، وعطف المسلمون على الإفرنج فألحقوا بالتل، فصحت أنا أيضا "هزمناهم"، فالتفت إليَّ والدي وقال اسكت…. ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة. ووالدي يقول لي هذا، إذا الخيمة قد سقطت. فنزل السلطان وسجد شاكرا الله تعالى، وبكى من فرحه".

ويتحدث العماد الأصفهاني عن المعركة، بصفته المتكلم الحاضر، فيقول :"فرمى بعض مطوعة المجاهدين النار في الحشيش، فبلوا الإفرنج، من نار الدنيا بثلاث، نار الضرام (الأعشاب) ونار الأوام (العطش) ونار السهام، فاووا إلى جبل حطين. فأحاطت بحطين بوارق البوار، وحطوا خيامهم على غارب حطين، فأعجلناهم بضرب السهام…. فترجلوا عن الجبل، وتم أسر الملك، وأبرنس (أمير) الكرك، وهمفري أخي الملك، وأمير جبيل، وابن همفري، وأبن أمير إسكندرونة، وأمير مرقية. وأسر من الداوية معظمها، ومن اليارونية".

وختم العماد وصفه للمعركة كأنما يرسم لنا لوحة زيتية رائعة فيقول:"….ومن شاهد القتلى قال ما هناك أسير، ومن شاهد الأسرى قال ما هنالك قتيل. ولقد رأيت في الحبل الواحد ثلاثين وأربعين فارسا يقودهم فارس، وفي بقعة واحدة مائة ومئتين يحميهم حارس .

ومن الطريف، أن هذه المعركة قد استبدت باهتمام مؤرخها ومعاصرها ابن الأثير، فقد مر على حطين بعد عام من المعركة وقال: "وقد اجتزت موضع الوقعة بعدها بنحو سنة، فرأيت الأرض ملأى بعظام الإفرنج، ومنها المجتمع بعضه على بعض، ومنها المفترق، هذا خلاف ما جمحته السيول، وأخذته السباع".

ولم يخلد صلاح الدين إلى الراحة، بعد معركة حطين، فإن هذه الهزيمة الساحقة التي نزلت بالإفرنج لا بد من متابعتها، ولا بد من مطاردة الإفرنج واللحاق بهم في كل معاقلهم.

ورأى صلاح الدين الفرصة الذهبية أمامه لتصفية مواقع الإفرنج في حرب خاطفة، لا تعطيهم فرصة للاستجمام والاستعداد.

ويمضي العماد الأصفهاني يروي أن قوات صلاح الدين، قد نازلت الإفرنج في معارك سريعة كالبرق الخاطف، تنتزع منهم المواقع التي بأيديهم، مدينة بعد مدينة وحصنا بعد حصن .

وقد استمات الإفرنج في الدفاع عن عسقلان لأهميتها الاستراتيجية بين مصر والشام، ولما يئس أهلها من المقاومة طلبوا الأمان فرضي صلاح الدين، و"أقتيد أهلها إلى الإسكندرية حيث قضوا فصل الشتاء في رعاية صلاح الدين إلى أن تم ترحيلهم في ربيع العام التالي". وهذه واحدة من مكارم صلاح الدين التي أشادت بها المراجع الغربية قبل العربية.

ونحن لو أنعمنا النظر في معركة حطين من بدايتها لنهايتها لوجدنا أنها هي حرب الأيام الستة المجيدة، لا الزائفة، فقد بدأت في اليوم الرابع من شهر تموز، ولم يأت العاشر إلا وكانت مدن الإفرنج وقلاعهم وحصونهم، قد سقطت بيد صلاح الدين واحد بعد الأخرى.

وأقول حرب الأيام الستة المجيدة، لا الزائفة، فإن المعركة بين صلاح الدين والإفرنج كانت معركة كبرى تطاحنت فيه القوى العربية والقوى الأوربية، وجها لوجه.

أما معركة الأيام الستة لعام 1967 فقد كانت المهزلة المأساة، انتصرت فيها إسرائيل، لأن الفريق العربي لم يحارب، بل لم يكن يريد الحرب أصلا. ولكنها كانت مظاهرة هوجاء، عرفت إسرائيل كيف تبددها وتذروها للرياح.

ومع ذلك، فإن المواطن العربي يتساءل اليوم: وكيف استطاع صلاح الدين في حرب الأيام الستة، وقبل ثمانية قرون: أن ينتصر على تلك القوى الأوروبية، في حين الأمة العربية قد انهزمت هزيمة منكرة أمام إسرائيل في ستة أيام، وجلست في اليوم السابع تمسح عن وجهها غبار الهزيمة.

والجواب، في غاية البساطة، إن الذي انهزم مع إسرائيل هم حكام العرب المعاصرون، وليست الأمة العربية، جيوشا وشعوبا… إن الملوك والرؤساء العرب، يتحملون وحدهم عار الهزيمة، كل حسب قدراته وطاقاته، ودوره في المعركة.

لقد انتصر العرب في حطين، لأنهم كانوا دولة واحدة، وملكا واحداً، وجيشا واحدا، وقد انهزم العرب في سيناء والجولان والأردن، لأنهم كانوا أربعة عشر ملكا، وأربعة عشر جيشا، وأربعة عشر وزير دفاع.

في معركة حطين كان الجيش العربي مؤلفا من قوات مصرية وشامية وحجازية وعراقية ويمنية، كلها جيش واحد في ميدان واحد، تحت قيادة واحدة.

وفي أيام حطين كانت دولة الوحدة تمتد من البصرة إلى برقة، ومن حلب إلى عدن، وكان أمراء البلاد يحاربون في الميدان، وفي طليعتهم أمير المدينة المنورة عز الدين الحسني.

ولكن في حربنا مع اسرائيل فقد كانت الميادين متعددة والجيوش متبددة واسرائيل تضرب في ميدان بعد ميدان وجيشاً بعد جيش, وفي أيام حطين كتب صلاح الدين إلى البلاد مستنفرا يدعو إلى الجهاد فلبى الناس بداعي الأيمان، على حين أن الدول العربية في حرب الأيام الستة لم يكن بأيديها إلا اتفاقيات الدفاع الهزيلة. فكان اتفاق الدفاع بين مصر وسوريا قبل المعركة بخمسة شهور، وكانت اتفاقية الدفاع بين مصر والأردن قبل خمسة أيام. وكانت اتفاقية الدفاع بين مصر والعراق بليلة واحدة. ووصل الجيش العراقي إلى الميدان في الأردن في صبيحة المعركة، واصطادت الطائرات الإسرائيلية الدبابات العراقية كما تُصاد العصافير.

وكان مفهوم الوحدة عند صلاح الدين أصيلا عريقا فقد قال: " إنما نريد أن يسيرا الناس معنا على قتال الأعداء فقط، وليس قصدنا من الفتح البلاد بل العباد " ثم أكد هذا المعنى بقوله: "إني دخلت إلى الشام لجمع كلمة الإسلام، وسد الثغور، وكف عادية المعتدين، وما قصدي إلا جمع كلمة الإسلام على الإفرنج".

على حين أن الدول العربية قد دونت في دساتيرها هدف الوحدة وبقي اللفظ ميتا في دستور ميت.
وبلغ صلاح الدين بيت المقدس في العشرين من شهر أيلول، ونزل عند جانبها الغربي حيث أقام معسكره، وراح يضرب الأبراج والأسوار خمسة أيام بلياليها، وصمد الإفرنج واستبسلوا واستماتوا.

ثم أتجه صلاح الدين صوب الشمال فنصب مجانيقه وجميع أدوات الحرب، وأرسل إلى الإفرنج مرة ثانية يمنحهم الأمان ويطالبهم بالتسليم حقنا للدماء وصونا لبيت المقدس. ولم يأل صلاح الدين جهدا، كما ذكر أحد مؤرخي الفرنج، أن يجنب بيت المقدس ويلات الحرب وأن يمنع عن معابدها دمار القتال.

ولكن الإفرنج أصروا على القتال، ودارت رحى الحرب داخل الأسوار وخارج الأسوار، وراحت قوات صلاح الدين توجه للإفرنج ضربات قاتلة، فهلكت طلائع الإفرنج أمام الأسوار، واقتحمت قوات صلاح الدين الخندق، ووصلوا إلى السور، فنقبوه وبدءوا يعدون لإحراقه، وهال الإفرنج ما رأوا، وطافوا في شوارع بيت المقدس يبكون ويبتهلون التماسا للنجاة، ثم أيقنوا أنهم هالكون لا محالة، وأن الهزيمة أصبحت أمرا واقعا، فكاتبوا صلاح الدين يطلبون الأمان، وبعد تبادل الرسل، استقر الرأي، فرضي صلاح الدين ومنحهم عهد الأمان.

وطلع الفجر، فكان يوم الجمعة، 27 رجب وهو يوم الإسراء والمعراج. ووقف التاريخ وقفة طويلة وهو يبصر بالملك الناصر صلاح الدين الأيوبي يدخل بيت المقدس ومن حوله أمراء الجيش والجند، من غير زهو ولا خيلاء يهللون ويكبرون، وكانت مصادفة تاريخية عجيبة، التقى فيها الإسراء مع النصر، والمعراج مع التحرير.

وكان موكبا حفَّه الزمان بكل مفاخره وأمجاده، ولم توضع السيوف في أغمادها إلا حين بلغ موكب النصر ساحة المسجد الأقصى، حيث وقف صلاح الدين في رحاب القبلة الأولى متجها بفؤاده إلى القبلة الثانية، يصلي صلاة النصر، ويدعو دعاء الشكر، فيرسله من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام.

ولقد توَّج صلاح الدين هذا النصر المجيد بروائع من الإحسان والرحمة، شملت جموع الإفرنج، أمرائهم ورهبانهم، ورجالهم ونسائهم وصبيانهم، حتى بلغت حد الأساطير، وما لحمتها إلا الصدق وما سداها إلا الحق، وكان أكثر رواتها هم فرسان الإفرنج الذين عادوا إلى أوطانهم، فقصوا أخبارها، وأصبحت قصائدهم في سمرهم، وأناشيدهم في أعيادهم!!

ومن تلك الأخبار أن صلاح الدين قد أطلق سراح الملكة مارية أرملة عموري الأول، كما أخلى سبيل ابنته، وأرملة أرناط الذي عرف بغدره وكيده للعروبة والإسلام.

وكان في جملة من أُخلي سبيلهم البطريق بما معه من الأموال والجواهر ومقدم عسكر الإفرنج وما حمل من زينة الكنائس والذهب والفضة، وسائر الأمراء وما نقلوا معهم من متاع.

ومن تلك الأخبار أن صلاح الدين قد كفل الأمن والسلامة والمؤن وأسباب السفر لجميع اللاجئين من الإفرنج الذين نزحوا عن القدس.


ومن تلك الأخبار كذلك ما رواه مؤرخو الإفرنج، من أن صلاح الدين لم يكتف بإطلاق سراح الشيوخ والأطفال واليتامى بغير فدية، بل إنه أغدق عليهم عونا ماليا ييسر لهم سبيل العودة إلى أوطانهم.

لقد فعل صلاح الدين هذه المكارم، وأكثر وأكثر، وكأنما المذبحة الكبرى التي اقترفها الإفرنج يوم سقوط القدس قبل تسعين عاما ما جرت، وكأنما التقتيل والدمار والفظائع التي وقعت في شوارع القدس آنذاك ما وقعت، وكأنما الدماء التي كانت تخوض فيها خيول الإفرنج ما نزفت، وكأنما أولئك العلماء الذين سقطوا سبعين ألف شهيداً ما لقوا مصرعهم، بل لكأنما ما فعله الإفرنج كان إحسانا، فجزاهم صلاح الدين إحسانا بإحسان….وهذا هو صلاح الدين.

وقد رأى صلاح الدين أن المسجد الأقصى لم يعد مسجدا كما كان، إذ غير الإفرنج معالمه ومظاهره، فهدموا فيه وأضافوا إليه، وجعلوه معبدا لهم.

وقف صلاح الدين يشاهد ذلك كله، فأزال ما أضافوا، وأعاد المسجد إلى حاله، ولكنه كان شديد الحرص ألا تطيش أحلام العامة والجند فيثأروا للمسجد الأقصى من معابد الإفرنج ومقدساتهم، فأمر أن لا تمس كنيسة القيامة بأي ضرر أو أذى، وأن تحفظ للمقدسات قدسيتها فقد قال صلاح الدين :" عندما فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه القدس في صدر الإسلام، أقرهم على هذا المكان ولم يأمر بهدم البنيان".

بل إن صلاح الدين كان أكثر من ذلك سماحة ورحابة، فقد ذكر أحد مؤرخي الإفرنج أن الإمبراطور البيزنطي أوفد بعثة إلى صلاح الدين يهنئه بفتح بيت المقدس، ويرجوه إعادة الأماكن المقدسة المسيحية إلى الكنيسة الأرثوذكسية، فرد صلاح الدين التحية بأحسن منها، واستجاب لطلب الإمبراطور.

وفوق هذا وذاك فإن صلاح الدين، كما ذكر مؤرخ غربي حديث، "وثق في عالم مسيحي أرثوذكسي من بيت المقدس أسمه يوسف بابيط، فاتخذه مستشارا في كل معاملاته مع الأمراء المسيحيين.



محمد الحبشي 25-01-2009 07:09 AM

ولم ينسَ صلاح الدين وسط تلك الأيام الجليلة، الحافلة بمظاهر البهجة ومجالي السرور، أن في عنقه أمانة غالية يجب أن يؤديها حقها.

كان المسجد الأقصى ينتظر منبرا رفيعا زخرفته الأماني وزينته الآمال، وكلها أماني العروبة الإسلام، وكان المنبر قد صنع على أبدع ما صنع، بأمر من بطل عظيم، مات وأبصاره متطلعة صوب بيت المقدس، فمن البطل، وأين المنبر ؟

ذلكم هو الملك المجاهد نور الدين محمود بن زنكي، صنع المنبر قبل وفاته في حلب، وظل المنبر في حلب ينتظر بضع سنوات، حتى أذن الله بالنصر، وحمل صلاح الدين منبر نور الدين إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وفاء للكفاح ورمزا للجهاد .

وقامت دولة الشعر، وطلع على الدنيا أدب "القدسيات" يمجد فتح بيت المقدس ويشيد ببطولات صلاح الدين. فما بقي وزن ولا بحر، ولا قافية ولا روي، إلا وأنشد لهذه الأمجاد وخلد ذكرها أبد الدهر.

وكان من أوائل الذين وصلوا إلى مخيم السلطان صلاح الدين من مصر الجواني المصري، وقصيدته مطلعها:

أترى مناما ما بعيني أبصر
القدس يفتح والفرنجة تكسرُ
ومليكهم في القيد مصفود ولم
يُر قبل ذاك لهم مليك يكسر


وعن صلاح الدين:

نثـر ونظـم طعنـه وضرابـه * فالرمح ينظم والمهند ينثر
حيث الرقاب خواضع حيث العيون * خواشع حيـث الجيـاه تعثر


وهذا الملك المظفر تقي الدين، ابن أخِ صلاح الدين، "وأحضر إلى قبة الصخرة أحمالا من ماء الورد، وتولى بيده كنس مساحاتها وعرصاتها، ثم غسلها بالماء مرارا حتى تطهرت، ثم أفاض عليها ماء الورد، ثم طهر حيطانها وغسل جدرانها ثم بخرها بمباخر الطيب".. هكذا يكون الحب والمحبوب. وكذلك تكون العبادة والعابدون. شأنهم في ذلك العاشق الولهان الذي راح "يقبل ذا الجدار وذا الجدارا" وقد فتنه "حب من سكن الديارا".

وهكذا احتفل بيت المقدس بالمعراج والإسراء كما لم يحتفل به في أي عصر من العصور من قبل ومن بعد، فلقد كان معراجا في موكب النصر، وكان إسراء في ركب التحرير.

وانطلق بيت المقدس في مباهجه ومسراته، وتجاوبت أصداؤها في كل أقطار العروبة وأمصارها وهي تردد ما قاله الشاعر المصري ابن سيناء الملك، مهنأ صلاح الدين بذلك الفتح المبين:

لسـت أدري بـأي فـتـح تُهنـا *يا منيل الإسلام ما قـد تمـنى
أنـهنيـك إذ تمـلكـت شـامـا* أم نهنيك إذ تملكـت عدنـا
قد ملكـت الجنـان قطـرا فقطـرا* إذ فتحت الشام حصنا فحصنا
إن دين الإسـلام منّ علـى الخلـق * وأنت الذي على الديـن منّـا
لك مدح علـى السمـوات ينشـا *ومحـل فـوق الأسنـة يبـنى
تخرج الساكنين منه ورب البيـت * في بـيـته أحـق بـسكـنى
كم تأنى النصر العزيز على الشـا * م ولمـا نهـضـت لم يتـأنى
قمت في ظلمة الكريهة كالبدر سنا* ءً والبـدر يـطـلـع وهنـا
لم تـقـف قـط في المـعـارك إلا* كنت يا يوسف كيوسف حسنا
يجتنى النصر من ظباك كـأن الـ * عضب قد صحفوه فصار غصنا
قصدت نحوك الأعادي فـرد الله * مـا أمـلـوه عنـك وعنّـا




واليوم يتساءل المواطن العربي، وهو يستعرض هذه المعارك التي خاضها صلاح الدين، من عسقلان إلى بيت المقدس إلى صفد إلى بانياس إلى اللاذقية، والى العديد من القلاع والحصون-يتساءل المواطن العربي، كيف سقطت فلسطين بأسرها في عصر الملوك والرؤساء، وكيف سقطت معها سيناء والجولان؟؟!!

وإنا لنجد الجواب حاضرا، على لسان أصدقاء صلاح الدين ورفاق جهاده. فلقد عرفوا صلاح الدين، كما نعرف الملوك والرؤساء، وما علنيا إلا أن نقرأ ما قالوا:

قالوا"…. كان السلطان صلاح الدين شجاعا شهما مجاهدا في سبيل الله، وكان مغرما بالإنفاق في سبيل الله…. وكانت مجالسه منزهة عن الهزء والهزل، ومحافله حافلة بأهل العلم والفضل، وكان من جالسه لا يعلم أنه جالس سلطانا لتواضعه". وأين هذا من أخلاق الملوك والرؤساء!!.

وقالوا، " أن صلاح الدين كان مناضلا أصيلا، وكان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلاته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة"

وأين هذا من سلوك الملوك والرؤساء!!

محمد الحبشي 25-01-2009 07:09 AM

وقالوا، إن صلاح الدين كان إنسانا قبل أن يكون سلطانا، فقد أوصى ابنه ونائبه في حلب "……أحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها، فإن الدم لا ينام…. ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد" وأين هذا من تصرف الملوك والرؤساء!!

وقالوا " إن صلاح الدين كان للوطن العربي كله، لا لمسقط رأسه فحسب، فقد كانت تكريت في العراق موطن صباه، وكانت بعلبك مسرح شبابه وفيها تعلم الفروسية، وفي دمشق أصبح مدير شرطتها، وفي القاهرة وزيرها، وللوطن العربي كله سلطانه". وأين هذا من ملوك الانفصال، ورؤساء التجزئة!!

وقالوا: إن صلاح الدين أنفق كل ما تجمع بين يديه من أموال في سبيل الجهاد، فقد "مات ولم يخلف في خزائنه إلا سبعة وأربعين درهما ناصرية، وديناراً واحداً ذهباً صورياً، ولم يخلف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا مزرعة".

وأين هذا من كنوز الملوك، وخزائن الرؤساء؟!

وقالوا: إن صلاح الدين قد التزم في حياته الجد والبساطة، فقد عزل نائب ديوانه "حين استجد دارا في دمشق لينزل فيها السلطان وأنفق عليها أموالا كثيرة، وقال له "هذا منزل لا يصلح لمثلي أبدا".

وأين هذا من قصور الملوك والرؤساء!!

وأخيرا، قالوا، " أن جنازة صلاح الدين لم تختلف عن جنازة سائر الناس، وغطى نعشه ثوب مخطط..‎ ولم يسمح لأحد من الشعراء أن ينشد في رثائه. وجرى اقتراض ثمن التبن الذي بلت به الطين اللازمة لقبره. ودفن معه سيفه الذي لزمه في الجهاد".

وأين هذا من مواكب الذين ماتوا من الملوك والرؤساء!!

ذلك كان صلاح الدين. أما الملوك والرؤساء فإن المواطن العربي يعرف أكثرهم، ويعرف لكل واحد منهم أكثر من حكاية، بالقصور، بالمظالم، بالدماء، بالكنوز، بالبغضاء، بالأحقاد، بالغدر، وبالخيانة.
فما أبعدهم عن صلاح الدين، وما أبعد هاماتهم عن مواطئ أقدامه…


وما أبعد الليلة عن البارحة!!

خالد صبر سالم 28-01-2009 10:48 AM

[quote=محمد الحبشي;616776]
ماذا كان يحدث لمصر لو لم يأتها الفتح الإسلامي؟



الاخ الحبيب محمد
لا ينكر انسان عظمة الشقيقة الكبرى مصر وتاريخها وعراقتها وحضارتها وطيبة شعبها
بل اننا يا عزيزي تفتحت عيوننا على الثقافة والادب والفن المصري
من منا لم يتأثر بطه حسين وشوقي ونجيب محفوظ وام كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم من المبدعين الذين اثروا حياتنا
من منا لم يستجب للنداء القومي التحرري الذي أطلقه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر
ان لمصر الحبيبة علينا دين كبير
ولكن يا صديقي انا استغرب من بعض اخواننا المصريين الذين يربطون بين النظام السياسي الحاكم
وبين الوطن العظيم مصر
فنراهم يتضايقون من شخص ينتقد النظام ويتصور ذلك تهجما على مصر
لا عاش من يضمر للمحروسة أي شعور غير شعور المحبة
شكرا لك على هذا الموضوع الثري
مع وافر محبتي واحترامي

محمد الحبشي 07-02-2009 02:28 PM

[quote=خالد صبر سالم;623018]
إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة محمد الحبشي (المشاركة 616776)
ماذا كان يحدث لمصر لو لم يأتها الفتح الإسلامي؟



الاخ الحبيب محمد
لا ينكر انسان عظمة الشقيقة الكبرى مصر وتاريخها وعراقتها وحضارتها وطيبة شعبها
بل اننا يا عزيزي تفتحت عيوننا على الثقافة والادب والفن المصري
من منا لم يتأثر بطه حسين وشوقي ونجيب محفوظ وام كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم من المبدعين الذين اثروا حياتنا
من منا لم يستجب للنداء القومي التحرري الذي أطلقه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر
ان لمصر الحبيبة علينا دين كبير
ولكن يا صديقي انا استغرب من بعض اخواننا المصريين الذين يربطون بين النظام السياسي الحاكم
وبين الوطن العظيم مصر
فنراهم يتضايقون من شخص ينتقد النظام ويتصور ذلك تهجما على مصر
لا عاش من يضمر للمحروسة أي شعور غير شعور المحبة
شكرا لك على هذا الموضوع الثري
مع وافر محبتي واحترامي

على العكس أيها الحبيب .. خالد

لم يأتى هذا الموضوع من عصبية ولا قومية .. بل عنيت به كل مصرىّ قبل غيره كى يعرف تاريخه ودوره ودور مصر المنوط بها فى هذا الزمان وكل زمان ..

من يخطأ الربط بين كيان ونظام وبين وطن عمره آلاف أعوام فهو واهم مخطىء الفهم ..

وخالد صبر سالم مصرىّ من قبل أن يكون عراقيا ..

ومحمد الحبشى عراقىّ قبل أن يكون مصريا ..

لحرفك هنا باقات من الخزامى

محمد الحبشي 08-02-2009 10:09 PM

"القدس بين سقوطين"

المراجع :

* معارك العرب - أحمد الشقيرى .

* ويكيبيديا .


آمال البرعى 14-02-2009 02:56 PM

لم يأتى هذا الموضوع من كونى مصريا مسلما ..

أخى الكريم
وما العيب إن كان كذلك فكلنا يفخر بإنتماءاته وجذوره
الإنتماء قيمة رائعة سيدى
رائعة تلك الدراسة اللراقية
ورائع الموضوعية فى الطرح هنا
بارك الله لك

محمد الحبشي 22-02-2009 06:31 PM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة آمال البرعى (المشاركة 626385)
لم يأتى هذا الموضوع من كونى مصريا مسلما ..

أخى الكريم
وما العيب إن كان كذلك فكلنا يفخر بإنتماءاته وجذوره
الإنتماء قيمة رائعة سيدى
رائعة تلك الدراسة اللراقية
ورائع الموضوعية فى الطرح هنا
بارك الله لك

ومن لا يحب الإنتماء إلى بلد أحبها الله وأحبها رسوله ..

قصدى أنى سواء كنت مصريا أم لا ، كان لهذا الموضوع أن يكون لألف سبب ..

إن الأمم والحضارات لا تقوم بين يوم وليلة .. ومصر الإسلامية تاريخ ضارب باصوله فى كل تاريخ الإسلام .. أحبها خالقها وآثرها بالذكر وحدها دون سائر البلاد فياله من حب .. وأحبها رسول الله ودعا لها ولأهلها وأوصى علينا صحابته ، ووصيته الرائعة بأن منا خير أجناد الأرض ليست مدحا ولا إطراء .. بل فيها تلميح رائع لمن يخلفه بضرورة فتح هذه البلاد فهى إسلامية الروح من قبل أن يدخلها الإسلام .. فكان حرص الفاروق عليها وكانت وشوشاته لنيلها ورسالته له من أجمل رسائل الحب فى التاريخ .. ومصر بوابة الإسلام التى عبر منها إلى إفريقية والأندلس .. وهى الدرع والحرس الخاص للأقصى ونحن من ضيعناه ونحن من سيعيده إلى حظيرة الإسلام ..

ولا زال المؤرخين الغربيين يكيلون المدح والشكر لمصر .. مصر الفرعونية التى كانت فجر العلوم .. ومصر الإسلامية التى أنقذت العالم بأسره من خطر المغول ..


المبدعة آمال ..

باقة ورد لحضورك


محمد الحبشي 02-04-2009 09:00 AM

واقتربت ساعة الصفر



كانت ليلة عصيبة قضاها السلطان ساهرا قلقا .. لم يكن يشغل تفكيره سوى أمر واحد .. فمعركة الغد لن تحدد مصير أمة واحدة فحسب ، بل هى معركة لا تعنى الهزيمة فيها سوى شىء واحد .. نهاية الإسلام .. ترى كيف كانت أحاسيسه فى هذه الليلة ..

تأمل .. تحفز .. ترقب .. قلق .. ثقة ..

فى الصباح .. تقدمت جحافل العدو الضخمة لتجد الميدان شبه خالى .. من بين صفوف العدو أمير مسلم تم أسره وإجباره على التعاون وإلا فالموت ينتظره .. وها هو الآن على يمين قائد جيش العدو مترقبا أوامر الطاغية ولا يفتأ يرمقه بنظرة حاقدة تخفيها ملامح وجهه المخادعة ..

لم يكن الميدان خاليا كما يبدو .. فلم تكن هذه الصفوف القليلة سوى طليعة جيش المسلمين فحسب .. وقد أعطى السلطان إشارة البدء لهذه الطليعة بالتحرك ..

وبدأت القوات الإسلامية تنساب من فوق التل إلى داخل السهل .. لم تنزل صفوف الجيش دفعة واحدة، إنما نزلت على مراحل، وفي صورة عجيبة.. عندها .. بدت ملامح القلق والترقب على وجه طاغية الحرب وقائد جيش العدو .. وهنا إستدعى الأمير المسلم يشرح له تفصيلا ما يدور .. ونترك الحديث لهذا الأمير المسلم .. يقول ..

فلما طلعت الشمس ظهرت عساكر الإسلام، وكان أول سنجق أحمر وأبيض، وكانوا لابسين العدد المليحة ..

موقف في غاية الروعة ..

لقد نزلت الكتيبة الإسلامية الأولى وهي تلبس ملابس أنيقة أحمر في أبيض .. للفرقة كلها زي واحد، وكانوا يلبسون العدد المليحة، بمعنى أن الدروع والسيوف والرماح والخيول كانت في هيئة مليحة جميلة.. لقد نزلوا بخطوات ثابتة، وبنظام بديع ..

الجنود الإسلاميون ينزلون إلى ساحة المعركة في غاية الأناقة والبهاء .. وكأنهم في عرض عسكري.. لهم هيبة.. وعليهم جلال.. ويوقعون في قلب من يراهم الرهبة..

وهذه هي الكتيبة الأولى..

هنا يقول هذا الأمير المسلم "فبهت الطاغية وبهت كل من معه من الجنرالات والقادة" ..

هذه أول مرة يرى فيها جيش المسلمين على هذه الصورة، لقد كان معتاداً أن يراهم وراء الحصون والقلاع يرتجفون ويرتعبون، أو يراهم وهم يتسارعون إلى الهروب فزعاً من جيشه ، أو يراهم وهم يسلمون رقابهم للذبح الذليل !!.. كان معتادا على رؤية المسلمين في إحدى هذه الصور المهينة، أما أن يراهم في هذه الهيئة المهيبة العزيزة فهذا ما لم يحسب له حساباً أبداً ..

فسأل الطاغية هذا الأمير المسلم والفزع يبدو على ملامحه : رُنك من هذا !

"ورنك" كلمة فارسية تعني "لون"، وهو يقصد كتيبة من هذه؟ إنها كتيبة مرعبة ..

وكانت فرق المسلمين فى هذا الجيش تتميز عن بعضها البعض بلون خاص.. فهذه الفرقة مثلاً لونها الأحمر في الأبيض، فكانت تلبس الأحمر والأبيض، ولها رايات بنفس اللون، وتضع على خيولها وجمالها وأسلحتها نفس الألوان، وتضع على خيامها نفس الألوان، وكذلك على بيوتها فى مصر، وعلى مخازنها وغير ذلك.. فكانت هذه بمثابة الشارة التي تميز هذه الفرقة أو الكتيبة..

وكثيرون لا يعلمون أن الجيوش القديمة كانت تميزها عن بعضها شارات على الذراع أو هيئة ملابس متقاربة ولم يكن الزى الموحد معروفا فى هذه العصور الأولى ..

سأل الطاغية في فزع: رنك من هذا؟

فقال الأمير : رنك "فلان" أحد أمراء المسلمين..

ومهما كانت عظمة الكتيبة المسلمة وبهاؤها فإننا لا نستطيع أن نفهم رعب القائد السفاح المهول من هذه الكتيبة الصغيرة جداً بالقياس إلى جيشه الضخم إ

نعود إلى السفاح وهو يراقب نزول الكتائب الإسلامية من فوق التلال ..
فبعد نزول الكتيبة الأولى نزلت كتيبة أخرى تلبس الملابس الصفراء عليها من البهاء والجمال ما لا يوصف ..

تزلزل الطاغية وقال للأمير : هذا رنك من؟

قال الأمير : هذا رنك "فلان"أحد أمراء جيش المسلمين ..

ثم تتابعت الكتائب الإسلامية بألوانها الرائعة المختلفة، وكلما نزلت كتيبة سأل السفاح: رنك من هذا؟

فيقول الأمير المسلم : فصرت أي شيء يطلع على لساني قلته.. يعني بدأ يقول أسماء مخترعة لا أصل لها، لأنه لا يعرف هذه الكتائب، ولكنه يريد أن يرعب هذا السفاح بكثرة الفرق الإسلامية ..

وكل هذه الفرق هي مقدمة جيش المسلمين فقط، وهي أقل بكثير من جيش السفاح المرعب الرهيب؛ فقد احتفظ السلطان بقواته الرئيسية خلف التلال، وقد قرر ألا تشترك في المعركة إلا بعد أن تُنهَك قوات العدو ..

وبعد أن نزلت مقدمة المسلمين بدأت فرقة الموسيقى العسكرية الإسلامية تظهر على الساحة .. وانطلقت في قوة تدق طبولها وتنفخ في أبواقها وتضرب صنوجها النحاسية.. لقد كانت الكتائب تتلقى الأوامر عن طريق هذه الدقات التي لا يعرفها الأعداء.. فكانت هناك ضربات معينة للميمنة وضربات معينة للميسرة وضربات معينة للقلب .. وكانت هناك ضربات للتقدم وضربات للانسحاب، وكانت هناك ضربات خاصة لكل خطة عسكرية .. وبذلك يستطيع السلطان أن يقود المعركة عن بعد، وعلى مساحة شاسعة من الأرض من خلال دقات هذه الآلات الضخمة .. هذا فوق الرهبة التي كانت تقع في قلوب الأعداء من جراء سماع هذه الأصوات المزلزلة ، بينما كانت هذه الدقات تثبت المسلمين، وتشعرهم بمعية القائد لهم في كل تحرك من تحركاتهم ..


واقتربت جداً ساعة الصفر ..

محمد الحبشي 02-04-2009 09:00 AM

الحلم الأكبر



كان الحلم الأكبر لدى جنرالات الحرب منذ قديم الأزل .. هو بناء جندى مقاتل لا يشق له غبار .. جندى على أعلى درجة من الكفاءة والقوة والمهارة .. وعلى أعلى درجة من الإنضباط .. والأهم من كل هؤلاء .. الولاء اللامحدود ..

وتدافعت المدارس العسكرية والأكاديميات إلى صناعة هذا الجندى الفريد ..

كثيرون حاولوا وكانت النتيجة هى الفشل .. حين تطغى القوة فدائما تصحبها نزعة من الشر والتمرد .. وفى عملية البناء هذه تنكسر الكثير من الأشياء فى روح هذا الطفل الصغير الذى يتم إعداده ليكون جندى الغد .. تنكسر مشاعر مثل الرحمة والعطف والحب .. فيصبح أشبه بآلة للقتل منه إلى جندى متفوق يحمل صفات الفارس النبيل .. وحتى حين نجح البعض كان نجاحهم هذا محدودا .. وظل هذا الحلم يراود العسكريين إلى يومنا هذا ..

وتحقق الحلم مرة واحدة .. حين افاق العالم مذهولا على خطر لم تشهد البشرية له مثيلا من قبل .. وكان الإمتحان الصعب والمثالى .. وكان لهذا الحلم أن يتحقق رأى عين فى هذه اللحظة أو أن يتلاشى إلى الأبد .. أمام قوة لم تقهر من قبل .. أمام طاقات لا محدودة .. وأمام أرقام هائلة تزحف كالجراد .. وتمتلك مع هذا كله براعة تخطيطية ومهارة قتالية ..

هل سيغدو الحلم واقعا لا خيالا ..

لهذا الحلم إسم وهو .. المماليك .. وقصة هذه الدولة أشبه بقصص الخيال التى تجسدها شاشات السينما .. المغول .. أمة تجبرت فى الأرض وبلغت من الطغيان منتهاه .. تصدت لها دولة عرفت بالخوارزميين وكانت الحرب بينهم سجالا .. وفى إحدى المعارك يقع إبن جنكيز خان أسيرا ويقتله جلال الدين ملك الخوارزميين .. فيقسم جنكيز خان أن ينال من كل العائلة الملكية لدولة خوارزم شاه .. وينجح فى قسمه هذا .. من هذه العائلة الملكية ومن بين هذه المأساة يهرب طفل صغير هو آخر الناجين من المذبحة الملكية .. ويشب هذا الصغير ليكون سيف الخلاص من هذه القوة الغاشمة .. ولكن لم تنتهى القصة بعد .. فمفاجآت أخرى فى الإنتظار .. لم يكن هذا الأمير الصغير هو الناجى الوحيد فقد نجت فى الوقت ذاته إبنة الملك .. وهى أيضا فتاة أحلام هذا الامير الصغير وحبه الأول والأخير .. إنهما يفترقان ويمضى كل منهما فى حياة طويلة تحفها المغامرات وهما أخيرا يلتقيان ليتحقق حلما طال إنتظاره .. ولم تطل سعادتهما طويلا .. فقد كان كلاهما على موعد مع وعد قطعاه منذ أمد بعيد .. كلاهما يحيا لهذا الوعد وهذه الأمنية .. وكأن يد القدر ترتب وتعد فى الخفاء كل الأوراق فيصبح هذا الأمير ملكا ، حين كان يجب أن يكون .. وها هو القدر المحتوم يسعى بهذه القوة الغاشمة تحت قدميه لتلقى مصرعها على يديه جثة هامدة .. تحقق الوعد .. وباتت حياة الملك الشاب بعدها لا معنى لها .. فى أتون المعركة الخالدة يتعرض هذا الملك لموقف خطير يكاد يودى بحياته .. وإذا بفارس ملثم يمنحه حياته فى لحظة حاسمة .. لم يكن هذا الفارس الملثم سوى زوجته التى لم يغب وجه حبيبها عن عينيها لحظة واحدة وها هى تمنحه حياة جديدة لقاء حياتها هى .. ولكن أى حياة هذه فى كون لا تشرق فيه عيناها .. كان الصديق الأول لهذا الملك وذراعه اليمنى مقاتل بارع وصديق وفىّ لكنه اتصف بالتسرع دوما .. تشتبك خيوط كثيرة أمام هذا الصديق ليتأكد من حدسه أن الملك ينوى قتله ولا شك فيبادر هو متسرعا إلى قتله .. وفى اللحظات الأخيرة لهذا الملك يوصى بالملك من بعده لهذا الصديق الذى ما زال خنجره يرقد بين اضلاعه .. بقى أن نقول أن حقيقة هذا الملك بقيت غامضة لا يعرفها أحد من حوله سوى شيخه وأستاذه .. فارس كفرسان الاساطير لا يسعى لمجد أو ملك فها هو ذا يخفى حقيقة اصوله الملكية عن الشعب وعن صديقه وحتى عن عيون التاريخ .. ولكن التاريخ يأبى إلا أن يضعه حيث يستحق .. ذات يوم .. يعبث الصديق بأوراق الملك القديمة فيجد رسالة من شيخه يعرف منها حقيقة هذا الملك البسيط .. تدمع عيونه إشتياقا لصديقه وتوأم روحه ..

تكاد تكون هذه القصة اشبه بأسطورة منها إلى واقع ملموس ..

لم تكن دولة المماليك بالدولة العابرة فى فى ساحة التاريخ .. أو ومضة من نور فى صباح جديد .. بل كانت دولة عريقة الأركان صنعت لها مجدا فريدا وأطاحت بأكبر خطرين عرفهما المشرق الإسلامى فى وقت واحد .. المغول والصليبيين .. وظلت مزهرة قرابة أكثر من قرنين ونصف .. لا أحد يعرف تحديدا ما كان سيكون من أحداث التاريخ إذا سقطت هذه القوة الأخيرة .. لا نبالغ إن قلنا أن المماليك كان الأمل الأخير لهذا العالم فى التصدى لهذا الخطر المدمر ..

يقولون أن أفضل الطرق لتتعرف على قوة ما تكون بالنظر إلى خصم هذه القوة .. ولكى نتعرف على المماليك كان لزاما علينا أن نتعرف المغول أولا .. من يكون هؤلاء .. ماذا يريدون .. لماذا إجتاحت جحافلهم نصف العالم الشرقى بسرعة مذهلة .. ومن هذه القوة العجيبة التى تصدت لها وكسرت شوكتها .. وهل شخص واحد باستطاعته أن يغير مجرى التاريخ ..

محمد الحبشي 08-04-2009 06:43 AM

رعبٌ وأهوالٌ



يُطلق اسم التتار ـ وكذلك المغول ـ على الأقوام الذين نشئوا في شمال الصين في صحراء "جوبي"، وإن كان التتار هم أصل القبائل بهذه المنطقة.. ومن التتار جاءت قبائل أخرى مثل قبيلة "المغول"، وقبائل "الترك" و"السلاجقة" وغيرها، وعندما سيطر "المغول" - الذين منهم جنكيزخان - على هذه المنطقة أطلق اسم "المغول" على هذه القبائل كلها .

http://upload.wikimedia.org/wikipedi...nghis_Khan.jpg
جنكيز خان

والتتار شعب همجىّ وكانوا يرددون مقولتهم الشهيرة :"لقد خلقنا الله من غضبه" لذا فهم فى معتقدهم الوثنى قوة الله الغاضبة ويده التى يبطش بها وهم لا يرحمون طفلا أو شيخا أو إمرأة ويتحركون بمبدأ الإبادة الجماعية وكأن قصدهم إفناء النوع، وإبادة العالم . لم يكن جلّ أطماعهم فى الثروة أو الأرض بل للحق لم تكن لهم اطماع أبدا سوى فى إهلاك الحرث والنسل وإعلاء الدمار ولهم حقد رهيب إزاء كل ما يمت للحضارة بصلة .

ولكن ما الذى أطلق الوحش من مكمنه ؟

ذهبت مجموعة من تجار المغول إلى مدينة "أوترار" الإسلامية في مملكة خوارزم شاه.. ولما رآهم حاكم المدينة المسلم، أمسك بهم وقتلهم ووسط مطالب جنكيز خان بتسليم قتلة التجار، أبى الحاكم المسلم العام "خوارزم شاه" بالطبع باعتباره تدخل خارجى غير مقبول ولم يكتف بالرفض بل قام بقتل المبعوثين الدبلوماسيين الذين ارسلهم جنكيز خان ..

لكننا لا نعلم على اليقين إن كانت حادثة قتل التجار أمرا مدبرا ام حادثا عرضيا .. فربما كانت متعمدة بقصد التضييق والحصار الإقتصادى خاصة أن قوة المغول وقتها كانت آخذة فى النمو .. وأيضا لن تكون حادثة التجار وحدها هى السبب الرئيسى لهذا الغزو المدمر بل يبدو أن هذه الأطماع كانت تراود خيال جنكيزخان وكانت حادثة التجار هى القشة التى قصمت ظهر البعير ..

إنطلق الوحش الهائج من مكمنه وصار يهدد العالم أجمع .. لم يعرف التاريخ رعبا أكثر من هذا الخطر المغولى .. رعب لم يسبق له مثيل يسكن قلب الكبير قبل الصغير .. والشجاع قبل الضعيف .. وكان يقينا مؤكدا لدى من عاصر هذه المحنة من المسلمين أن هذه نهاية الإسلام ولا شك .. بل لقد أحجم المؤرخون المعاصرون عن الكتابة عنها من هول الرعب والدمار وفيها يقول ابن الأثير :

" "فيا ليت أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا" .

ويقول أيضا: " فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى أدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها"

وهي عنده أعظم من فـتنة الدجال، بل لقد اقسم أن من سيجئ بعدها سينكرها وحق له ذلك: " وتالله لا شك أن من يجئ بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده ..

هذا الوصف كله من ابن الأثير وهو لم يشهد فاجعتهم الكبرى بسقوط بغداد سنة (656هـ) وقتل الخليفة العباسي وسفك دماء المسلمين، وهي فاجعة تضاهي ما سبقها بل تـزيد .

كان الرعب والهلع بين الناس اعظم ما يكون .. هذا الذى يصل بالمرء إلى درجة التجمد والذهول فى مواجهة الأحداث مستسلما لها دون أدنى مقاومة ..

ويكفي شاهدا على ذلك ما سطره المؤرخون المعاصرون للحدث وغيرهم؛ فقد نقل ابن الأثير رحمه الله أن رجلا من التتـر دخل دربا فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحدا واحدا حتى أفناهم ولم يمد أحد يده إليه بسوء. وأن آخر من التتـر أخذ رجلا ولم يكن مع التتري ما يقتله به فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض حتى ذهب التتري وعاد بسيف وقتله به .

وقال: وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلا في طريق، فجاءنا فارس من التتـر، وقال لنا: حتى يكتف بعضنا بعضا فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب ؟ فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل فأخذت سكينا وقتلته وهربنا فنجونا .

إرتكب المغول من البشاعة والوحشية ما يعجز عنه الوصف .. فقد كانت العادة فى كل مدينة يقتحمونها هى إبادة جماعية لكل من يسكنها .. قد نشير كمثال إلى مدينة "مرو" التى قتلوا فيها قرابة 700 الف .. وهكذا كان دأبهم فى كل مدينة تطأها اقدامهم .. إبادة جماعية ، ودمار شامل .. وكانت المذبحة الكبرى فى عاصمة الخلافة العباسية حين قتلوا فى بغداد - وعلى مدار 40 يوما - "مليونا" من المسلمين .. هذا على أقل تقدير فى كل المراجع التاريخية فالعدد يصل إلى 2 مليون كما فى بعض المصادر ..

محمد الحبشي 08-04-2009 06:44 AM

براعة عسكرية


وبالرغم من هذه الوحشية والبربرية والهمجية .. فقد كانوا على أعلى قدر من التنظيم العسكرى وعلى دراية كاملة بإستراتيجيات الحرب .. وتكفى الإشارة إلى خطة إجتياح بغداد .. وهى نموذج للهجوم على الخصم من محاور عدة ..

الجهة الأولى : هولاكو وجيشه من الشرق

الجهة الثانية : كتبغا من الجنوب

الجهة الثالثة : بيجو نزولا من شمال أوربا .

إن هذا الإعداد المتقن وعدم الإستخفاف بالخصم وإن أكدت كل التقارير الإستخباراتية وعلى رأسها الوزير الخائن "ابن العلقمى" أن جيش الخلافة لا يتجاوز بضعة آلاف وهو بالفعل كذلك .. لكن براعة هؤلاء العسكرية تحفزهم دائما على عدم الإستخفاف ابدا بالخصوم ..

ولكن ما سر هذا الإنتشار السريع والإكتساح المرعب والمقاومة المعدومة ؟

لقد كانت دولة خوارزم شاه دولة قوية لها الكثير وعليها من المآخذ أكثر .. لقد فتكت هذه الدولة فى أواخر ايامها بممالك كثيرة فى آسيا وحين سقطت لم يكن هنالك من يتصدى لهؤلاء .. فكان إنتشار كالوباء وتم هذا كله فى عام واحد فقط ..

ولم تكن للخلافة العباسية وهى راية المسلمين فى المشرق من قوة بل لم تملك الخلافة العباسية من مملكتها العريقة سوى عاصمتها فحسب .. بغداد .. وكبرى المهازل أن يكون وزير هذه الخلافة السنية العريقة "شيعيا" حاقدا لا يخفى على أحد تشيعه وكرهه للإسلام وأهله .. إنه الوزير الخائن "ابن العلقمى" .. الذى قوض عامدا كل أركان الدولة فاصبحت لقمة مستساغة فى ظل حكم خليفة عابث لاهى لا يكترث سوى لروحه البئيسة ..

وتتوالى المهازل المبكية حتى الضحك والمضحكة حد البكاء .. فقد ذكر ابن كثيـر – في أحداث سنة 658هـ - أن سلطان دمشق وحلب (الملك الناصر بن العزيز)، وملك الكرك والشوبـك (الملك المغيث بن العادل) قد عزموا على قتال المصريين وأخذ مصر منهم . كما انشغلت الدولة الخوارزمية بقتال المسلمين عن قتال المغول فى الوقت الذى كان فيه هذا الخطر الأعظم يجتاحها بكل شراسة ..

فكيـف إذا أضفنا إلى كل ذلك طبيعـة هؤلاء التتـر وكثرة عددهم – إذ هـم يخرجون عن الإحصاء – وقوة بأسهم، وشده صبرهم على القتـال؛ فهم لا يعرفون هزيمة، وعدم حاجتهم إلى غيرهم؛ فهم يعملون ما يحتاجـون إليه من السـلاح بأيديهم، ولا يحتاجـون إلى ميـرة ومـدد يأتيهم؛ فمعهم الأغنـام والبقـر والخيـل وغير ذلك من الدواب؛ يأكلون لحومها لا غيـر، وأمـا دوابهم التـي يركبـون فإنهـا تحفـر الأرض بحوافـرها وتأكل عـروق النبـات ولا تعرف الشعير.. فهم إذا نزلوا منزلا ، لا يحتاجـون إلى شيء من الخارج .

الموقف الآن كالتالى .. إتسعت رقعة المغول لتشمل كل آسيا بالكامل بالإضافة إلى نصف أوربا الشرقى .. وجيش المغول الرئيسى يقبع الآن على حدود آخر قوة تقف امامهم .. وبسقوطها تسقط كل إفريقية وأوربا وليتغير وجه التاريخ إلى الأبد ..


إن إضطرابات فى عاصمة المغول (قوراقورم) دعت هولاكو إلى الإنسحاب بسرعة إلى هناك ليضمن مكانه الشرعى أخيرا فى تاج الإمبراطورية بعد وصول خبر وفاة الخاقان الأعظم للمغول "منكوخان", و تم استدعاء أولاد وأحفاد "جنكيز خان" إلى مجلس الشورى المغولي لانتخاب الخان الأعظم.. وها هو يترك لذراعه الايمن واشهر قادة المغول هذه المهمة السهلة .. كتبغا .. لم يكن كتبغا بأقل دهاء من سيده فقد كان جنرالا متمرسا وله خبرة وباع طويلين فى فنون الحرب ..

وفى "عين جالوت" يصطف الفريقان لمعركة أخيرة حاسمة .. وفى هذه اللحظة تحديدا تأمل كتبغا هذا الجيش المميز أقصى درجات التميز عن أى جيش شاهدته عيناه فى كل تاريخه الطويل .. ولا شك أنه قد تردد فى طوايا نفسه هذا التساؤل الذى لا يكاد يفكر فى سواه ..

من يكون هؤلاء ؟

ولكن الإجابة على هذا التساؤل تسافر بنا إلى الوراء أعواما طويلة ..



Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.