حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   صالون الخيمة الثقافي (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=9)
-   -   مؤازرة (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=73766)

ابن حوران 03-09-2008 02:30 PM

مؤازرة
 
مؤازرة

كانت أرضية مكان الاجتماع مرشوشة بالماء، والسرادق منصوبة بشكل حرف u والكراسي مرقمة بأرقام وضعها متعهد المناسبات ووضع على ظهر كل كرسي اسمه ورقم تلفونه ، ووضعت في الوسط عدة مناضد لتحمل أواني حفظ الماء البارد، وسخانات القهوة المعدة سلفا، وعدد من علب المناديل الورقية، وثبتت في الواجهة الداخلية لصدر السرادق الأوسط قطعة قماش كتب عليها بخط واضح آية قرآنية (واعتصموا بحبل الله جميعا) وبجانبها وضعت صورة رأس الدولة وقطع قماش كتب عليها عبارات التأييد والولاء له وللدولة.

كان صاحب الدعوة (أبو يوسف) قد تعهد منذ مدة بإقامة مثل تلك الولائم لتقريب وجهات نظر المدعوين، في اختيار مرشح البرلمان من بين عدة عشائر تتحالف فقط في أيام الانتخابات سواء الانتخابات البرلمانية أو البلدية أو غرفة التجارة، وكون أبناء تلك العشائر يعرفون أنه ليس بالإمكان أن ينجح أحدهم دون تأييد باقي تلك العشائر، فقد اكتشف صاحب الدعوة أهمية مثل تلك المبادرات التي يقوم بها لتقريب وجهات نظرهم، دون أن يتدخل في شيء، لا في مزاحمتهم على ترشيح نفسه أو أحد أقربائه (القليلين). فكان يكتفي بتقديم المكان والطعام، ويأخذ مجده من تلك الناحية فقط، حيث يبقى الناس يربطون ما تم في هذه الدعوة باسم صاحبها.

كان هناك من يقول: أن تلك الدعوات يتم الإعداد لها بالخفاء من قبل أشخاص يتخفون وراء اسم صاحب الدعوة حتى لا يُكتشف أمرهم، وأن المدعوين يتم انتقائهم بعناية، في حين كان هناك من يقول أن تلك الدعوات كانت عامة وليس هناك بطاقات دعوة مخصصة بالأسماء.

(1)


كان لافي أول الحاضرين، لم تستطع سترته ذات اللون الأخضر الداكن أن تخفي بروز كرشه، رغم أنه كان يعتقد إذا أدخل الأزرار بالعروات سيخفي ذلك البروز.. لم يستفد لافي من التمارين التي قام بها أمام المرآة حيث كان يقف مرة بمواجهة المرآة ومرة يجعل جنبه الأيمن أمامها ومرة الأيسر، يبتسم ويعبس، ويراقب بروز الجزء الخلفي من رقبته التي كانت تبدو كرقبة (رباع بلغاري) من الوزن الثقيل.. حاول أن يغطي رأسه بكوفية لتتدلى فوق رقبته..

رآه أبو يوسف من وراء زجاج شرفة منزله في الطابق الثالث، فلم يأمر أحدا من أولاده الستة الذين كلفهم بخدمة الضيوف أن ينزل ويجامل ضيفه الأول، فأبو يوسف يعلم أن لافي لم يكن من المدعوين، كما يعلم ذلك لافي نفسه.. فالدعوات يقوم بتبليغ أصحابها أشخاص آخرون يعلم أسماءهم مجموعة ممن يعدون لتلك الاجتماعات، كما يعلمهم أبو يوسف نفسه.

حاول لافي إشغال نفسه في عد الكراسي ريثما يأتي بعض المدعوين، وكان بين حين وآخر يشفط بروز كرشه للداخل، لكنه يفشل في إبقاءه على وضعه، فيحاول تعديل جلسته، يشد أكتافه للخلف ويدفع بعجزه الى الأمام، كي يقلل من ظهور المنحنى المتشكل من جلسته، يفك أزرار سترته ويعود لتثبيتها من جديد..

(2)

حضر المدعوون تباعا، ولم يكن أحد منهم يحفل أو ينتبه لوجود لافي، رغم ضخامة جسمه، فقد تعودوا على رؤيته في مثل تلك المناسبات فأصبح كأنه جزء من ديكور السرادق.

وقف أبو يوسف بعد اكتمال حضور المدعوين، واكتفى بقول ( أهلا وسهلا) رغم أنه ذبح ما يقرب من خمسين خروفا، ولم تكن تلك المرة الأولى بل سبقها سبع مرات شبيهة بتلك الدعوة.

لم يسأل أحد عن سبب الدعوة، فهم يعرفون السبب جيدا. ولم يبادر أحد لاقتراح جدول للأعمال أو انتخاب أو اختيار رئيس للاجتماع، فمثل هذا النوع من الاقتراحات سيعجل ظهور الخلافات بين المجتمعين وقد تكلفهم انفضاض الاجتماع قبل تناول الطعام.

(3)

وقف (واثق) يصطنع ابتسامة ويتجول بعينيه دون أن يحرك رقبته، عله يعثر على بؤرة تخطط لتخريب الاجتماع كما يحلو له دائما أن يطلق على معارضيه إذا ما أبدوا معارضتهم لخططه، ثم التفت الى يمينه ليقول لا شيء لمن كان يقف جنبه، ثم يلملم ابتساماته ليعيد سحنته الى شكل صارم يتناسب مع وضع القائد المفروض على الآخرين ..

أنتم تعلمون أن الانتخابات البرلمانية على الأبواب، وأن غيرنا من التكتلات العشائرية قد أكمل صفوفه، وليس أمامنا إلا عدة أسابيع عن موعد الانتخابات، وإن صدقنا نوايانا فإن النجاح حليفنا بإذن الله وإن استمعنا الى المغرضين فإننا سنكون على خصومة مع النجاح.

إن (واثق) يعلم ما يقول، فالمعركة الانتخابية اشتقت اسمها من المعارك القتالية، لا بد من خطاب إثارة همم يسبق التعبئة العامة والنفير ولا بد أن يكون هناك خصم أو عدو أو هدف في كل معركة. فما هو الهدف ومن هو العدو وكيف سيتم الارتفاع بهمم الحاضرين لجعلهم مقاتلين أشداء في معركتهم؟
ليس هذا التجمع العشائري حزبا سياسيا له أهدافه وبرامجه أو نقابات تابعة له ومريدين يحترفون العمل السياسي احترافا. إنهم مواطنون عاديون جدا، ليس لهم علاقة بالعمل العام إلا في مناسبات متباعدة، فلذلك لا بد أن يكون العمل على كسبهم يخاطب واقعهم دون المس بمقام الدولة، ودون الاستخفاف بأي من الحضور كي لا تتسرب أصواتهم خارجا.

(4)

كان دكتور الجامعة عبد القادر يجلس في المقاعد الخلفية وبجانبه زميل له، فتمتم له قائلا: (هذه الأفلام مرت علينا كثيرا).. الى متى سيبقى مجتمعنا بتلك السذاجة؟ ما فائدة تلك الاجتماعات؟

أجابه زميله(حسن) متسائلا: والمطلوب؟ هل تعتقد أن مجتمعنا جاهز لتجارب أفضل من هذه التي نعيشها؟ وهل تعتقد أن التجارب التي تخوضها الشعوب الأكثر تقدما تختلف كثيرا عن تجربتنا هذه؟ إنها شبيهة كثيرا بتجربتنا، وبالعكس، فإن كانت تجمعاتهم هي تجمعات اصطناعية، فتجمعاتنا طبيعية، والهدف عند الطرفين هو نفس الهدف: هو المزاحمة على تبوء مراكز سلطوية عليا. ماذا يعني؟ إنه حق مشروع وفق رؤية إنسانية قديمة جدا تتجدد وفق أنظمة تخترعها المجتمعات لتقاسم مواقع النفوذ فيما بينها.

قال الدكتور عبد القادر: إن تحالف العشائر كان قبل الإسلام، وكان له ضرورة ووظيفة بنفس الوقت، فلغياب الدولة كانت العشيرة تحمي نفسها بإعداد مقاتلين يذودون عن حياضها ويصدون المعتدين، فإن استطاعت العشيرة أن تقوم بذلك وحدها وكان لديها ما يزيد عن أربعمائة مقاتل كان تستحق اسم (جمرة)، وإن لم تستطع، اضطرت للتحالف مع غيرها لتكوين حلفا يحمل (طوطما) يسمي التحالف باسمه، فإن كان الطوطم بشكل ( ثور أو أسد أو جحش) أصبحت العشائر المتحالفة تحمل اسم (بني ثور، بني أسد، بني جحش).

التفت الدكتور حسن بعينيه فقط، دون تحريك رأسه وابتسم قبل أن ينهي صمته المفتعل ليقول: نعم، إنها كذلك، فطالما يوجد هناك دولة ونظام يقوم بتأمين الحماية للمواطنين، فإن العشائر تتحالف من أجل الانتخابات فقط (المعارك الانتخابية).

(5)

قام الجميع لتناول الطعام، وكان يجري حديث جانبي بين أكثر المدعوين أهمية، وبعد تناول الطعام والشراب الذي يتبعه، أعلن أحدهم عن وجوب تسجيل ممثلين عن العشائر والأفخاذ لكي يحصر الاجتماع بهم مستقبلا، فكان العدد حوالي خمسين رجلا، ثم بادر بعضهم بتسمية لجنة من عشرة أشخاص، لم يعترض أحد على تلك الأسماء، وقد كان وراء عدم اعتراض أحدهم، هو الطقس الذي يتبع تناول الطعام وانخفاض جهوزية التفكير.

عاد الرجال الى بيوتهم، وكل واحد منهم سيتكلم عن الاجتماع بطريقته الخاصة، فقد يختزل ما قاله الكثير من الرجال، أو حتى لا يذكرهم أنهم كانوا في الاجتماع أصلا، وسيضيف على مساهمته المتواضعة عدة إضافات فيقول ما قاله داخل الاجتماع وما كان يود أن يقوله، وقد يضيف ما كان يقصد كل واحد من المتكلمين وفق نهج تحليلي يتناسب مع الشخصية التي أراد أن يطبعها في أذهان الذين يستمعون له.

السيد عبد الرازق 04-09-2008 12:22 AM

تحياتي لأخي الفاضل الكريم ابن حوران .
كل عام سيدي وأنت بكل خير .
مررت علي هذه المؤازة المصلحية المنفعية .
تحياتي لكم ومودتي
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

محمد الحبشي 04-09-2008 08:08 PM

ابن حوران ..

قلم يصعب جدا أن تقرأه بعينيك فحسب ..

فمع صفحته دائما يسبقنى تحفز وإعمال فكر وتشويق وإستسلام ذهنى تام ..

بل كثيرا ما أعجز عن الرد والتعقيب فأخرج محتضنا صمتى ..

كى أخرج كل مرة بأكثر من فكرة وكى يكبر صاحب القلم فى عينى أكثر وأكثر ..

ابن جوران ..

تقدير من هنا وإلى هام الثريا

محبتى

ابن حوران 08-09-2008 10:09 PM

الفاضل الشاعر السيد عبد الرازق

شكرا لتفضلكم بالمرور و تنسيق الخط

احترامي وتقديري

الفاضل قوس المطر

تخجلني في كلمات التبجيل والإطراء

ما أنا إلا مواطن يرى ما حوله ويحاول وصفه بطريقة
يتوفق بها أحيانا ويخفق أحيانا أخرى

احترامي وتقديري

ابن حوران 08-09-2008 10:14 PM

[

أخبر الزعيم زوجته وأولاده أنه سيستقبل حوالي ستين شخصا في منزله اليوم، وهم لجنة ممثلي العشائر، فعليهم أن يتهيئوا في عمل القهوة (السادة) وتجهيز ما يلزم لمثل هذا الاجتماع، وعليهم أن ( يبيضوا وجهه) أمام المدعوين.

لم يحضر أعضاء لجنة الممثلين (الخمسين) في آن واحد، وهي عادة معروفة في كل الاجتماعات. فمنهم من يعتقد أنه إن حضر مبكرا فإنه سيضع نفسه في موضع المتلهف لمثل تلك الاجتماعات، كما أن عليه أن يقوم من مكانه عدة مرات ليصافح من يأتي بعده، أو يفسح المجال لغيره للجلوس بمكانه، وهي إشارة ستفضح مكانة الرجال وتراتبهم فيما بينهم، وقد يكون التبكير في نظره مجالا لفتح أحاديث والإجابة عن تساؤلات من يصادفهم قبل حضور الكل، وبذلك سيجعل من نفسه مكشوف النوايا أمام أشخاص لا يريد أن يعلموا طبيعة موقفه من المرشحين.

ومنهم من يجعل من تبكيره في الحضور مصدرا لمنافع عدة، فاحتلال مقعد في الصدارة ورصد ما سيقول الحضور منذ بدء الاجتماع أو ما يسبقه من تصريحات لأشخاص يحاولون تقديم أنفسهم على أنهم أشخاص يعلمون ما لا يعلمه غيرهم، كلها مزايا تفيد ولا تضر.

(7)

التفت أبو محمد وهو رجل في السبعين من عمره يسرة ويمنى، وفرك (مسبحته) بين راحتيه، وتساءل: هل يطول انتظارنا؟ فأجابه الزعيم: لا إننا ننتظر السيد واثق، وقد أخبرني قبل دقائق بواسطة الهاتف أنه قادم في الطريق.

سارع أبو محمد في تقليب (مسبحته) بين يديه، وابتسم ابتسامة مقتصدة، وروى قصة قصيرة جدا مفادها أن قيادة الأسود للجماعات أفضل من قيادة الثعالب. ابتسم الدكتور حسن ولم يعلق على قصة أبي محمد.

ما هي إلا دقائق قليلة، حتى حضر السيد واثق، فقام الجميع بوجهه عدا أبو محمد الذي اعتذر لعدم قدرته على الوقوف بسهولة، ابتسم واثق له وقبل اعتذاره بعد أن طبع قبلة على جبينه.

بعد أن جلس واثق، وقدم له أحد أبناء الزعيم فنجانا من القهوة السادة، وحياه من كان يجلس في الصالة تحية المجاملة، انتبه واثق لململة أبي محمد، وقبل أن يعلن أبو محمد عن ضجره، بادر واثق بالطلب من أبي محمد أن يبدأ الحديث. لم يعتذر أبو محمد عن قبول تلك المهمة بشكل صريح، حتى لا يفهم الآخرون أنه فوض السيد واثق بها. لكنه بادر بالتساؤل عن سبب وجود المجتمعين، أليس للاهتداء لطريقة توفيقية يختارون فيها مرشحا يمثل هذا التجمع العشائري الذي تزيد أًصوات من ينتمون إليه عن خمسة عشر ألف صوتا.

(8)

ساد جو يكثر فيه الحديث دون تنظيم، فأحدهم يقول: يا جماعة دعونا نتسامح ونختار شخصا كفؤا يمثلنا ونتوكل على الله. فيرد أبو محمد ويقول: لماذا نحن هنا؟ أليس لعمل ما تطلب؟ ولكننا نريد أن (نبرجم) وكان يقصد (نبرمج) عملنا.

يخرج صوت من زاوية، لماذا لا يكون لكل عشيرة صوت واحد، ونقترع على المتقدمين الثمانية.
يجاوبه أحدهم من طرف آخر: هذا ليس عدلا، فلا يجوز أن تتساوى عشيرة لديها آلاف الأصوات مع عشيرة تكاد أصوات أبنائها لا تصل الى المائة صوت.
يعترض آخرٌ كان لا ينوي الحديث: وما بال أصحاب المائة صوت؟ ألا يكفيكم أنهم وقفوا معكم في كل المعارك الانتخابية ك (مصفقين) دون مزاحمتكم، حتى على عضوية مجلس بلدي، هل تستكثرون عليهم أن يكون لكل عشيرة منهم صوت يصوتون به لكم ( ويقصد هنا العشائر الأكثر عددا).

التقط (واثق) المداخلة الأخيرة، وحاول بسرعة استثمارها، فوافق عليها بصوت عال أسكت فيه كل المتكلمين، وجاءت أصوات التأييد من محبي ومؤيدي واثق لتتحول طريقة تمثيل كل عشيرة بممثل ـ بغض النظر عن عدد أصوات أبنائها ـ إلى نهج سيباشر فيه فورا.

هناك من همس لمن بجانبه، أن هذا سيناريو معد مسبقا من (واثق) ومن معه، فكل المداخلات التي صرح بها أصحابها كان متفقا عليها.

(9)

دخل الشيخ (صالح) ومعه خمسة رجال يشهد لهم بالنزاهة الى داخل غرفة، وتم استدعاء المندوبين واحدا تلو الآخر ليقترعوا على واحد من ثمانية تقدموا لترشيح أنفسهم مبدئيا، وقد أقسموا أغلظ الأيمان أمام الجميع أنهم سيقبلون بهذا التصويت المبدئي وسيقفون الى جانب من يقع عليه الاختيار بكل ما أوتي أحدهم من قوة.

كان (ناهي) ابن عم (واثق) أحد المرشحين الثمانية، ولدى عشيرتهما أكثر من ألف صوت، وهو أحد أهم ثلاثة رجال في إحدى الوزارات، وقد طلب التقاعد لنفسه ليتفرغ لحملة الانتخابات.

كما كان الى جانبه من بين الثمانية، رئيس بلدية قديم لم ينه فترة رئاسته للبلدية بل فر لاجئا سياسيا الى إحدى الدول العربية قبل ثلاثين عاما، وكان مشهورا بقوة حجته وطرافة ما يسوق من كلام. وكانت أصوات عشيرته لا تزيد عن ثلاثمائة صوتا.

كما كان (غانم) من بين المرشحين،وهو مساح في دائرة الأراضي، طلب إحالته على التقاعد، ليرتب سفرا الى دولة خليجية. كانت أصوات عشيرته أكثر من أربعمائة صوت بقليل، لكن تلك العشيرة تكرر القول أن أقاربهم في القرى التابعة للدائرة الانتخابية تفوق أي تجمع عشائري.

وكان هناك خمسة مرشحين، تزيد أصوات عشيرة كل منهم عن ألف صوت، أما الباقون فلم يكونوا مثيرين للانتباه.

( 10)

عدّل الشيخ (صالح) من وضع عباءته، بعد أن خرج من غرفة الاقتراع، وابتسم وسلم وبسمل ثم أعلن النتيجة: إن من اختاره الخمسون كان (غانم).

تعالت أًصوات الاحتجاج من أطراف متعددة، ولكن الوزير المتقاعد الوحيد الذي خرج من تلك البلدة (في وقتها) أنقذ موقف الشيخ (صالح) وأعلن تأييده لاختيار الجميع لغانم، كانت كلمته طويلة بعض الشيء، وكان يستغل ما برصيده من هيبة ليبقي الجو هادئا ريثما ينهي كلمته على الأقل.

انتبه (مقبل) وهو واحد من السياسيين الذين يمقتون هذا النمط من العمل الجماهيري بشكله البدائي، وقام وأعلن تبرعه بألفي دولار، فأحدث صدمة كبيرة للحاضرين، فارتبك الناس بين متبرع -حتى لا يوصف بالبخل أو عدم التأييد-وبين صامت خصوصا أولئك الذين أعلنوا اعتراضهم على الفور، وانفض الاجتماع عن تسجيل تبرعات بما يقارب عشرين ألف دولار.

ابن حوران 18-09-2008 02:07 PM

(11)

مرت ثلاثة أسابيع على تسمية (غانم) مرشحا لعشرات العشائر، واعترف الخصوم أن هذا الشخص قد ضمن النجاح منذ الآن، ومنهم من نقل خبرا عن الإذاعة الإسرائيلية عن تسمية غانم مرشحا يضمن النجاح!

التقى (مقبل) مع مجموعة من السياسيين الذين خاضوا عدة تجارب انتخابية وفشلوا فيها جميعا، لسيادة الجو العشائري، الذي لا يقر بانتخاب أمثالهم لأي منصب. وأخذوا يقلبون الأمور ويقيمون ما حدث، وما هي الخطوات القادمة الواجب اتباعها,

سأل (يوسف) : لماذا تبرعت بألفي دولار لهذا المرشح الذي يتصف بعدم القدرة، وليس هناك أمل في أن يتعاون معنا مستقبلا؟

أجابه مقبل: لقد جربنا ترشيح أنفسنا في أكثر من مناسبة انتخابية وفشلنا بها جميعا، فلا عشائرنا تكن لنا احتراما شديدا ولا أعداد أصواتها تكفي لنجاحنا حتى لو التفت حولنا، وما دامت رئاسة البلدية وعضوية البرلمان للعشائر الكبيرة، فلا أمل لنا بالنجاح في أي مهمة. فمؤازرتنا لهذا المساح المتواضع وعشيرته قليلة الأصوات، ستكسر تقليد سيادة العشيرة الكبيرة ونتخندق وراء العمل من أجل الجميع. وبهذا نكون غير بعيدين عن الأوساط الجماهيرية، وبنفس الوقت ننمي مهارات كوادرنا ونعرف الناس عليهم، خير لنا من الاختفاء وإعلان اشمئزازنا.

وصى مقبل جماعته أن لا يجلسوا قرب بعضهم البعض في الدواوين، وأن لا يعلنوا تأييدهم لبعضهم بشكل مكشوف، وأن يتجنبوا الضحك أو الابتسام إن تكلم أحد الشيوخ، فالمكان سيكون مليئا بالحضور، فإن انكشف أمر الاستخفاف بالمتكلمين، فإن هذا الموقف سيكون له شأن كبير في تقديم أحدهم للجمهور دون أن يجد معارضة.

وافق الجميع سريعا على هذا التوجه، وبدأ التخطيط للخطوات المقبلة.

(12)


ركب مقبل سيارته بصحبة يوسف، وتوجها الى عشيرة (غانم)، وعندما مرا من زقاق وجدا منهم مجموعة تزيد عن عشرة أشخاص يجلسون على رصيف الزقاق، وكان لمقبل دالة على واحد منهم، وبعد أن سلما على المجموعة خاطب مقبل من له دالة عليه: هل تعتقدون أنه بوضعكم هذا تستطيعون إنجاح مرشحكم للبرلمان؟ إنكم لا تستطيعون إنجاح (مختار). استغرب يوسف تلك اللهجة من مقبل تجاه هؤلاء، كما استغرب قسم من أقارب غانم تلك اللهجة، ولكن صاحب مقبل ضحك وأيد قول مقبل، وطلب من الجميع أن يدخلوا الى ديوان بيته بصحبة مقبل ويوسف.

أدرك يوسف، أن تبرع مقبل بالألفي دولار قد أثمر مبكرا، فلو لم يعلم هؤلاء عن مبادرة مقبل بافتتاح حفل التبرعات الذي سيكون له شأن في تسيير أمور الحملة الانتخابية، لكانت ردة فعلهم مختلفة تجاهه وتجاه صاحبه ـ أٌقلها زجره وعدم استضافته لديهم .

امتلأ الديوان بأبناء عشيرة غانم، ولم يكن (غانم) موجودا، لم يكن لدى معظمهم علم أو خبرة مسبقة في إدارة شؤون الانتخابات. وكان أكثر من ثلثيهم لا يعرف من هما الضيفان!

طلب صاحب الديوان من (مقبل) أن يتفضل بالحديث الى الحاضرين وينصحهم بالكيفية التي سيقومون بها لتسيير الحملة الانتخابية.

حياهم مقبل تحية المساء وأضاف: إن الجميع قد زكى ابنكم ليكون مرشحا للجميع، وقد برأ الناس ذمتهم تجاهكم، وها هي قد مضت عدة أسابيع وأنتم لم تأتوا بحركة تدل على جديتكم واهتمامكم وخبراتكم بمتابعة المشوار. وتأكدوا أن هناك من ينتظر فشلكم في المبادرة ليفكر بإعادة تسمية شخص آخر غير ابنكم!

كانت تلك الكلمات كقنبلة رميت في الديوان، فتعالت الأصوات المذعورة: والحل .. الحل يا أستاذ .. خطيئة من لا يعرف برقبة من يعرف!

(13)

سارع مقبل مع يوسف لزيارة (أبي محمد)، قبل أن يتخذ موقفا يصعب تغييره، وأقنعاه بضرورة تبني المساح المرشح وتفويت الفرصة على (واثق) وجماعته الذين يرددون أنه لا نجاح لأي مرشح لا نرضى عنه.

يعلم مقبل، أن أفضل طريقة لكسب تأييد أحدهم، هي التصرف معه كشريك وبسرعة قبل إعادة تقييمه للحديث الأخير الذي دار معه، فلذلك كلف أبا محمد بالذهاب لإقناع أبي نواف وأبي سليم وأبي ابراهيم.

لم يكتف مقبل بتكليف أبي محمد، بل زار كل من كلفه بزيارتهم وطلب منهم ما طلبه من أبي محمد. كان يحفظ الكثير من المناسبات التي تحتم على من يستمع اليه ان يقف الى جانب مقبل ضد الطرف الذي ينتقي القصص المحرضة ضده. فمن قصة طلاق قديمة الى قصة اعتداء بالأيدي في مناسبة العرس، الى تكرار قول قاله أحد رموز الطرف الآخر بحق من يكلمه (مقبل)، ويحرص أن تكون الأقوال والأحداث حقيقية يعرفها من يحدثه جيدا.

استطاع الفريق الذي تحرك مع مقبل أن يصنع حالة واضحة في التجمع حول المرشح (غانم)، فكان الفريق يستخدم وسائل تعبئة خاصة تعتمد على دغدغة الآمال والأحلام لمن تتم زيارته، وأحيانا تستخدم الأرشيف في نبش إساءات حصلت لمن يتحدثون له من أجل تهيئته وتعبئته ليكون جاهزا.

(14)

اختار فريق العمل الذي ترأسه مقبل مكانا لنصب سرادق ضخم، ثم أسست لجنة للمقر مهمتها استقبال الزوار والمؤيدين والإعلان (من إذاعة المقر) عن أسمائهم وتبجيل من قام بالزيارة وتقديم الحلوى والقهوة.

لقد تم وضع وصايا صارمة للمكلفين باستقبال الزوار والمؤيدين، وذلك بالاحتفاء بمن يأتي ومرافقته واختيار مكان جلوس يليق به، ثم تقديم القهوة له، وعدم إغفال خدمة أي زائر حتى لا يكون هناك مبرر يجعل الناس ينفضّون عن مؤازرة المرشح، كما تم توصية أبناء عشيرة غانم بعدم الرد على من يهمسون غمزا أو تصريحا برأي لا يوافق أقارب غانم، وأن يبتعد أقارب غانم عن خوض نقاشات داخل السرادق ويتركون تلك المهمة للمؤيدين.

امتلأت جوانب السرادق بقطع القماش التي تعلن تأييد كل عشيرة أولا بأول، وكان الخطاط ومن يساعده لا يوفرون جهدا في إنجاز عملهم بسرعة كبيرة.

لقد كان للإذاعة الداخلية واعتماد أسلوب الكتابة على القماش أثرٌ كبير في تزايد حجم كرة الثلج في تأييد المرشح غانم، حتى إنه في أحاديث التوقعات عمن سيفوز في المقاعد الثلاثة المخصصة للدائرة الانتخابية، كان غانم يحتل المكان الأول في لائحة التوقعات كلها.

(15)

تأخر واثق وأبناء عشيرته عن إعلان تأييدهم مدة تزيد عن شهرين، ولم يكن تأخيرهم إلا من باب الرهان على أن غانم وعشيرته لن يستطيعوا البدء بمشوار المعركة الانتخابية دون مساعدة واثق وأقاربه، وإن بدأوها فإنهم سيرتكبون من الحماقات ما يجعل الناس تبتعد عن تأييدهم.

كان واثق وهو محامي من طراز رفيع، يسافر كل عام لدولة عربية لحضور مؤتمر أو لقاء على صعيد الدول العربية. ولكنه لم يستخدم تلك الميزة في تقديم نفسه للمواطنين محليا، بل هو إضافة لكونه محام جيد، وابن عشيرة يحسب حسابها في المعارك الانتخابية، فإنه كان في فترة رئيسا للبلدية شهد له الجميع بنزاهته وعدم انجراره وراء العواطف والمحاباة، وهناك من يقول أن تلك الفترة كانت سببا في جعل واثق يفشل في أي انتخابات تلت تلك المرحلة التي لم يستغلها لإقامة علاقات تفيده انتخابيا.

لم يكن واثق متأكدا من وجود من يستطيع الوقوف في وجه خططه الانتخابية، أو التأثير في عموم الناس المحسوبين على التكتل العشائري الذي ينتمي له واثق. فقد كان يعتمد أسلوبا يرتكز على قاعدة (إذا مت عطشان فلا نزل القطر) أي إن لم يضمن واثق النجاح لنفسه، فلن يجعل أحدا يفرح بنجاح. لكنه بعد التنامي الملحوظ لمؤيدي (غانم) تيقن أن الركب قد سار دون انتظاره، فجمع عشيرته وقرروا الذهاب لمقر غانم من أجل تأييده.

سارع أهل غانم بالترحيب بواثق وعشيرته، وقد تجاوزوا كل التعليمات التي وضعها لهم (مقبل) مع جماعته، فرحبوا من خلال الإذاعة الداخلية للمقر الانتخابي بنفسهم دون الاعتماد على المذيع (أستاذ اللغة العربية).

وقف مقبل مع مجموعة من أصحابه المقربين، واكتفوا بمقابلات عيونهم لبعضها، لتنقل ما يحدث بشكل بث مباشر ودون كلام!

ابن حوران 08-10-2008 12:10 AM

(16)

تشكلت لجان ووضعت جداول لزيارات المواطنين لكسب تأييدهم، والتجول في القرى المحيطة بالقصبة. كان النظام الانتخابي يجيز انتخاب ثلاثة مرشحين بورقة اقتراع واحدة، لذا فإن المرشحين ومن يديرون حملاتهم الانتخابية كانوا منشغلين في عقد صفقات. والمرشح القوي كان محط أنظار المرشحين الآخرين لعقد الصفقات معه.

لم يهتم بمسألة تبادل الأصوات غير الذين يأخذون من اللعبة الانتخابية طريقا للتسلية والشهرة واختبارات توكيد الذات، فكما أن ألعاب الكمبيوتر بها مستويات كل مستوى جديد أعلى من سابقه يزيد تعقيدا عنه ويؤكد مهارة من يجتازه، فإن موضوع تبادل الأصوات يجعل من دائرة معارف من يقومون بالتوسط والتنسيق في عقد مثل تلك الصفقات أوسع، وتبقى شهرتهم ماثلة إذا نجح المرشحان لفترة طويلة فيستفيدون من مثل تلك النجاحات في التوسط في فض النزاعات العشائرية أو الحضور الاجتماعي وربما السياسي.

تناول الجمهور موضوع التبادل والزيارات لإدارات حملات المرشحين الآخرين بسخرية لاذعة، فمنهم من قال: أنهم يبيعون ويشترون بأصواتنا وكأننا عبيد لهم فلم يكتفوا بأن ينتزعوا منا مؤازرتنا لهم بالتخجيل والرجاء ولكنهم صاروا يساومون الغير على أصواتنا وكأنها أموال موجودة في رصيدهم بشكل مضمون.

(17)


في صالة النساء المخصصة لهن في مجلس عزاء، وبعد انتهاء موجة ولولة، وسرد تفاصيل اللحظات الأخيرة لموت المرحوم التي ترويها أرملته بين حين وآخر، وجدت النساء متسعا من الوقت لكي يتكلمن بموضوع الانتخابات.

قالت امرأة غانم (مرشح الإجماع) موجهة كلامها لزوجة الشيخ صالح عندما سألتها الأخيرة عن آخر أخبار الحملة الانتخابية: الحمد لله طالما أن الشيخ صالح يقف بجانب زوجها، فإن كل الأمور بخير، وأخذت زوجة المرشح تكيل المديح للشيخ صالح والحديث عن مناقبه، ولم تكن تعلم أنها كانت تغيض النسوة الجالسات اللواتي ينتظرن نصيب أزواجهن من المديح، دون جدوى. ولعل ما لم تستطع زوجة المرشح التنبؤ به هو تأثير حديثها السلبي على مواقف تلك النسوة، وربما مواقف أزواجهن أو حتى عشائرهن!

لم يكن (غانم) مصلحا اجتماعيا أو مخترعا أو قائدا عسكريا أو مرشح حزب سياسي تلتف القواعد حوله. إنه مجرد اسم من بين الأسماء وقف الحظ أو سياق التحرك الانتخابي بشكله معه، وأي خطوة لم تحسب جيدا قد تؤثر على النسوة وحتى الرجال.

كانت هناك امرأة تراقب انفعالات زوجة الشيخ صالح وهي تتلقى دفقات المديح من زوجة المرشح، فقد كانت زوجة الشيخ صالح تترنم على سماع مديح زوجها وتمثل دور التي لم تسمع جيدا ما قالته زوجة المرشح، فتطلب منها أن تعيد ما قالته، وقد استحت أن تطلب السكوت من النسوة للإصغاء لما تقوله زوجة المرشح، فكانت تهمهم بنشوة: "آخ لو تقول لهم واحدة يسكتوا.... آخ لو كان صوتها عالي شوي، ولا لو كانت تحكي في التلفزيون"
لكنها كانت ترغب بأن تتطوع إحدى النساء بالطلب من النسوة بالإصغاء،كرغبتها وتمنيها أنه لو كانت زوجة المرشح ذات صوت أعلى أو أنها تجلس خلف جهاز التحدث الآلي.

كانت المرأة التي تراقب زوجة الشيخ صالح، من إحدى قريباتها، لكن زوجها قد تزوج عليها أخت الشيخ صالح، فأخذت تفكر بالكيفية التي تشق موقف العشيرة نكاية بأخت الشيخ صالح (ضرتها) ونكاية بالشيخ صالح وزوجته، وليذهب غانم وفرصه للنجاح الى جهنم.

(18)

كان أبو محمد لا يخفي فرحته باستقبال (مقبل) و (يوسف) وأصحابهما، إذ كان يعتني بتحضير القهوة والشاي وتقديم بعض الحلويات، ومشاورة زواره بتحضير عشاء، وإن كانوا يزورونه يوميا بعد العشاء. ورغم أنه اعتاد النوم بعد العشاء بقليل، لكنه كان يستفيد من تردد هذه العينة من الناس، والتي من بينها الطبيب والمهندس والمحامي والكاتب المشهور في الصحف، وسياسيون تم استضافتهم بالمعتقلات. وكان يروق له الإحساس بأنه من يحركهم ويساهم في مجهودهم، وكان يبتسم فرحا عندما يأتي أحد أحفاده ويخبر الحاضرين عن (دوريات) المرشحين الآخرين ومرورها من جنب ديوان (أبي محمد) لمعرفة من يسهر عنده.

لم يكن أصحاب مقبل من صنف سياسي واحد، كان منهم من ينتظم بشكل دائم، ومنهم من لم يحضر اجتماعا حزبيا طيلة حياته، لكنه كان يحب أن يوهم كل الناس بأنه حزبي، أما المخابرات فكان مطمئن من جهتها لأنه بكل بساطة لم يكن حزبيا.

كان هؤلاء الرجال في معارك توكيد لذاتهم اجتماعيا، فيحبون أن تذكر أسماؤهم مع الأسماء الفاعلة في حملات الانتخابات، وكانوا يتبادلون المعلومات عن مواقف الناخبين، كونهم من عشائر مختلفة، لكن روح الفريق عندهم تتفوق على ولاءهم لعشائرهم، فلا يتورع أحدهم عن كشف موقف معاد يقوم به أحد أقاربه، وهذا ما يقوي روح المواءمة لديهم وظهورهم أمام الآخرين كفريق.

(19)

بينما كان أبو محمد منشغلا في تلقيم الشاي بالإبريق الرابض فوق الجمر أمامه، كان يدور حديث غير هام كثيرا بين ضيوفه الدائمين، بل كان يتناول ما يجري في الدوائر الانتخابية الأخرى.

ففي إحدى الدوائر الانتخابية كانت تضم مجموعة من القرى، لا تزيد أصوات القرية الواحدة عن ألف صوت في أحسن الأحوال، وليس هناك أمل في أن ينجح مرشح أي قرية من تلك القرى إلا بالتوافق مع القرى الأخرى، فكان المرشح يتم اختياره بعد ضرب القرعة على اسم القرية التي ستقدم مرشحا، وبعد أن يرسو الاختيار على تلك القرية يتم اختيار ذلك المرشح عن طريق قرعة أخرى.

وفي دائرة أخرى يتم وضع أدوار يلتزم بها أهل القرى والعشائر، فالدورة التي يتم فيها اختيار المرشح من قرية أو عشيرة لها الدور فإن القرى الأخرى أو العشائر الأخرى لا تتحرك إلا في حدود ما تطلبه منها تلك القرية أو العشيرة صاحبة (الحق أو الدور)!

ضحك يوسف وهو يستمع لمثل تلك الأحاديث، وقال أي مشرع سينتخب الناخبون دون أن يتعرفوا على قدراته الفكرية، كيف سيقوم بالتعامل مع القوانين والقضايا المطروحة عليه، وقد تم اختياره عن طريق (الحصوة) [كناية ساخرة عن ما تقوم به البصارة في رمي الودعٍٍٍ ]؟

تناول مقبل الحديث فقال: في اليابان لا يسمح للمتقدمين بالترشيح للبرلمان بقبولهم بقوائم المرشحين، إلا إذا أبرز شهادات تؤكد أنه كان عضوا في إدارة جمعية أو نقابة أو بلدية أو غيرها لخمس سنوات على الأقل. وفي بريطانيا تقدم الدولة للنائب مبنى خاصا به ومجموعة كبيرة من الموظفين يتابعون القضايا ويفرغون الإحصاءات ويعدون شكل المداخلة للنائب. إذ لا يعقل أن يلم المعلم (النائب بالبرلمان) بأمور الصحة والزراعة والرياضة دون مساعدة فريق متخصص.

ضحك الدكتور عبد القادر وقال: إذا أنتم تعرفون تلك المسائل لماذا تخوضون هذه التجربة السخيفة وتساعدون مرشحا لا لون ولا طعم ولا رائحة له؟

أحس يوسف بأنه بدأ حديثا كاد أن يزلزل فيه وحدة الجماعة فأراد أن يلطف الجو أو يحرف مسار الحديث فقال: لو فتشنا أدبيات البعثيين والشيوعيين والاخوان المسلمين لوجدنا أنهم يهاجمون الانتخابات بصفتها لعبة استعمارية وليبرالية وخادعة. ولكن إذا نجح لهم أحد المرشحين أو مجموعة من المرشحين لرأينا حديثهم وتقييمهم للتجربة يختلف. لا بد لتلك القوى من حسم لموقفها من موضوع الانتخابات والاستعداد لها واحتراف لعبتها إن أرادوها طريقا لتناقل السلطة.

انتبه أبو محمد الى حديث ضيوفه الذي لم يفهمه بشكل جيد ولم يستوعب ما تعنيه الكثير من المفردات التي قيلت فيه، لكنه فهم أن إيمان ضيوفه بموضوع الانتخابات لم يكن إيمانا راسخا، فتوجه الى أكثرهم شكوكا وهو الدكتور عبد القادر وقال: عمي يا عبد القادر.. إذا مررت على أناس يتقاسمون (البُراز) فقف وخذ حصتك..
رد الدكتور عبد القادر مشمئزا: لماذا تلك النصيحة المقززة؟
بصبر ودون تردد أجاب أبو محمد: يا ابني إن كانوا اليوم يتقاسمون البراز فغدا سيتقاسمون الذهب. أبقى أبو محمد عينيه مركزتين على وجه عبد القادر، ليتفقد أثر ما قاله له.
أُعجٍب مقبل بالطريقة التي عبر بها هذا الشيخ عن المواطنة!

ابن حوران 20-10-2008 11:13 PM


( 20)

ازدادت حركة الوفود الى المقر الانتخابي للمرشح (غانم)، وأصبح نشاط الإذاعة الداخلية للمقر مخصصا للإعلان عن البطاقات الانتخابية التي أعدتها اللجنة التنظيمية وكان يكتب عليها اسم الناخب أو الناخبة ومكان الاقتراع ورقم الصندوق وتسلسل الناخب بين جداول الناخبين، وذلك لتسهيل عملية لجان الاقتراع الحكومية ولكي لا تعيق عملية التصويت وما يؤثر ذلك على نفسيات المقترعين وعودتهم الى بيوتهم دون أن يدلوا بأصواتهم.

امتلأت البيوت المجاورة للمقر الانتخابي بلجان مختلفة، كون اليوم الذي يليه هو يوم الاقتراع. فمن تلك اللجان ما ترشد المندوبين الذين يشتركون بمراقبة عملية الاقتراع، حيث توزع عليهم قوائم المتوفين أو الطلاب خارج البلاد أو المسافرين، والتي تم استخراج أسمائهم من القوائم النهائية التي أعدتها الهيئة العليا للانتخابات بعد فترة الاعتراض على المرشحين.

في بيت آخر، كانت لجنة أخرى تنظم حركة السيارات والحافلات التي تنقل الناخبين، وكان كل سائق من السواق المتعاقد معهم يستلم نصف المبلغ المتفق عليه، واسم ضابط الارتباط الذي يوجه حركته.

كانت لجنة التنظيم توجه التعليمات للمندوبين الذين يراقبون فرز الأصوات، فكان من بين المرشحين من تتشابه أسماؤهم الأولى (محمد .. كذا) أو من يتشابهوا باسم العائلة، أو اللقب، كأن يثبت المرشح لقبه بأبي محمود، فكانت التعليمات للمندوبين أن يعترضوا بقوة على الأسماء المثيرة للبس لكي يحرموا الخصوم من الاستفادة من الأصوات الموجودة في ورقة الاقتراع.

في ردهات الساحة والشوارع القريبة من المقر، كان أشخاص يطلبون من المرشح أو بعض أعضاء الهيئة العليا التنظيمية تفسيرا للبطء الذي لم يحلّوا فيه مشكلة أحد الموقوفين للتوسط في الإفراج عنه، ويعرضون بعض المشاكل التي تحتاج بعض المال لحلها. لقد عرف هؤلاء، خصوصا إذا كانوا يملكون القدرة على حشد مجموعات من الناخبين، أن تلك الفرصة من أفضل الفرص لابتزاز المرشحين. كما أن منهم من كان يذكر أن بعض أقاربه قد التقى ببعض المرشحين الآخرين وعُرض عليه بعض الأموال للتصويت لصالح ذلك المرشح!

استغل بعض المخبولين تلك المناسبة، للدعاء للمرشح بالنجاح وكيل المديح الطريف له، وكانوا يحظون ببعض النقود لقاء (النِمرة) التي يقدمونها.

اصطف أكثر من مئة رجل في حلقة (جوفية) وهي حركات رقص بطيئة تعتمد على رتابة الخطوات، مع ترديد عبارات التبجيل والمديح بالمرشح، وتنتقل تلك العبارات للافتخار بهمة وقوة هذا الجمع الواسع.

يقوم عشرات الشباب بتوزيع الحلوى على كل الموجودين، وكان هذا الطقس يتم يوميا دون أن تدفع اللجنة المالية ثمن تلك الحلوى، بل كان بعض الوجهاء من المؤازرين هم من يشترونها لإثبات التفافهم حول المرشح بصدق.

(21)

في ديوان أبي محمد، وبعد أن خف التواجد بالمقر الرئيسي للمرشح، اجتمع أصدقاء أبي محمد (مقبل وجماعته)، وقد كانت تبدو على وجوههم علامات من المشاعر غير المصنفة بدقة، فلم يعودوا يعلموا إن كان فضلهم في هذا الالتفاف الجماهيري واضحا أم لا. فتكتّل الناس بهذا الشكل أخفى أثر القيادات المحركة للعمل الانتخابي.

ضحك أستاذ الرياضيات فجأة، فانتبه الجميع إليه، فكرر ضحكته، فشاركه الجميع بالضحك دون أن يعلموا ما هو دافع ضحكه المفاجئ.

بعد انتهاء نوبة الضحك، قال معلم الرياضيات: إن نجح غانم في تلك الانتخابات ستكون مصيبة، وإن رسب ستكون كارثة!

أدرك الجميع ما قصده معلم الرياضيات بما فيهم الشيخ (أبو محمد)، فعلّق مقبل على ذلك بقوله، إن نجح وهذا مؤكد حسب المؤشرات الظاهرة، فسنكون أحد أركان المجتمع المحلي التي لا يمكن تجاوزها في اتخاذ قرارات تعني بشؤون الانتخابات، وعندها نستطيع أن نثبت أقدامنا كقوة وطنية حقيقية مؤثرة في الساحة.

انتبه الدكتور عبد القادر لما قاله مقبل، وفكر بأنه ليس ممن يؤمنون بما يؤمن به مقبل، فلماذا يترك له تلك الفرصة ليجير ذلك الانتصار له، وبالأساس لماذا استمر بمجاراة تلك العصبة بما ذهبت إليه، بلع الدكتور عبد القادر أفكاره ولم يعلن عن ردة فعله، وإن كانت تبدو تعبيراتها على وجهه.

أطرق أبو محمد وعبث في جمرات النار أمامه، وقام بسكب القهوة السادة وناولها ليوسف الذي كان جنبه، فارتشف يوسف ما في الفنجال ثم ناوله الآخر ليناوله لمن في جنبه حتى شرب الجميع. كان أبو محمد بحركته تلك يداري عدم رضاه عما صرح به مقبل، فالشيخ لم يكن من المصنفين من المعارضين السياسيين، ولم يكن يخشى مساءلته عن صحبته مع تلك الجماعة، فسنّه وتعدد نشاطاته لا تجعله في دائرة الشبهات، لكنه لم يرغب أن يعتبره الغير (متراسا) ينفذون من ورائه خططهم!

(22)

صلى الشيوخ الفجر، وتوجهوا الى صناديق الاقتراع، يلبسون ملابسهم الثقيلة حيث إن صباحات نوفمبر/تشرين الثاني باردة جدا.

تفاجأ أعضاء اللجان التنظيمية عندما أفاقوا مبكرين على غير عادتهم أن الطوابير أمام المدارس (مراكز الاقتراع) يصل بعضها عدة مئات، وموعد بدء الاقتراع لا يزال أمامه حوالي الساعة.

دخل أعضاء اللجان مع المراقبين من قبل المرشحين واحتلوا مقاعدهم، فيما انتشر أفراد الشرطة والأجهزة الأمنية ضمن الخطط الأمنية التي وضعت لهم.

تتابع الناخبون في الدخول الى الغرف المخصصة للاقتراع، يسأل رئيس اللجنة الناخب عن اسمه وإبراز بطاقته الشخصية. كان الناخبون مهيئين سلفا لمثل هذا الموقف، حيث يمسكون بطاقاتهم الشخصية والبطاقة التي استلموها من اللجان التنظيمية للمرشحين، لكي يسهلوا مهمة مساعدي رئيس اللجنة في إيجاد أسمائهم ضمن القائمة التي يحق لها الاقتراع في هذا الصندوق، فبدل من أن يفتش المساعد في خمس وثلاثين صفحة ليعثر على الاسم، فإن البطاقة الانتخابية سترشده بسرعة أفضل.

يبتسم أحد المراقبين المخصصين للمرشحين في وجه من يدخل، عله يتذكر مرشحه ويصوت له، وهو يعرف حق المعرفة أن كل ناخب يدخل الى قاعة الاقتراع وهو يعرف لمن سيعطي صوته.

دخل أحد الرجال، وبعد أن تم إيجاد اسمه، ناوله رئيس اللجنة بطاقة الاقتراع ليذهب الى (الخلوة) ويكتب من يريد بكل سرية، لكنه رفض وقال أنه لا يستطيع الكتابة فسأله رئيس اللجنة: هل أنت أمي؟ وقبل أن يجيب، اعترض أحد المندوبين لمرشح آخر وقال: "سيدي هذا جامعي كل البلد بتعرفه"، ولكن الناخب اعتذر فقال: أعاني من (خدر) في يدي فلا أستطيع الكتابة، قبل رئيس اللجنة العذر وطلب من المعترض السكوت. ذكر الجامعيّ من يريد انتخابهم بصوت عال، لكي يثبت للمرشح أنه انتخبه!

(23)

أغلقت قوات الأمن المداخل التي تفضي الى المدرسة التي سيجري فيها فرز الأصوات، ووصلت السيارات الحكومية تحمل الصناديق المجمعة من سبع وثلاثين قرية ومدينة، ومعها مرافقون من القضاء ومراقبون من أطراف المرشحين.

وزعت اللجنة العليا الصناديق والمندوبين على الغرف المعدة لفرز الأصوات، وكان رئيس اللجنة يذكر للجالسين من المراقبين لوائح الانضباط داخل قاعة الفرز، وبعد أن أكمل قراءته اللائحة، قلب الصندوق وأظهر الشمع الأحمر الذي ثبتته لجنة الاقتراع، استخرج منها تقرير اللجنة التي بيّنت أن عدد المقترعين كان 554 من أصل 682 مسجل كان له حق الانتخاب، وبعد تعداد الأوراق وضعها فوق بعض بنسق معين، حتى يطلع الموجودون على مطابقة العدد مع التقرير.

طلب رئيس اللجنة من الموجودين أن يتطوع منهم اثنان ليسجلوا ما تمليه عليهم اللجنة من أصوات، خرج شابان يتمتعان بطول كاف وقدرة على الانتباه والتقاط الاسم ووضع إشارة مائلة على كل صوت، فكلما أصبحت أربع الإشارات وضعت الخامسة بشكل يتقاطع مع الأربع.

كان بعض المندوبين، يضعون أمامهم علبتين من السجائر وورقة عريضة بها أسماء المرشحين كلهم معدة للتشطيب، وكانت آذانهم صاغية لسماع نطق رئيس اللجنة، ومتابعة تشطيب من يقف أمامهم على (السبورة)، فإن حدث سهو أو خطأ يُسمع اعتراض مفاجئ لكل الحضور، حتى يتم تعديله.

كان كل مندوب مهيأ لنجاح مرشحه إلا مندوب (مفضي) الذي كان يعرف أن مرشحه لن يرى النجاح، فكان لا يكتب ولا يتابع، بل يعلق تعليقات ساخرة، فيضحك الجميع من طرافته، حتى أن رئيس اللجنة كان متسامحا معه.

في أطراف المدرسة، كان يقف لا يقل عن ثمانية آلاف من الجماهير المترقبة للنتائج، كانوا يملؤون الفضاء بأهازيجهم. وما أن انتصف الليل، حتى قاموا بإشعال إطارات السيارات، فأضفوا على المشهد طقسا استثنائيا.

(24)

انتهى الفرز، وكان غانم قد حصل على أكثر من 14 ألف صوت ومن تحالف معه كان قد حصل على 11 ألف صوت، أما الفائز الثالث فحصل على سبعة آلاف صوت، ومن يليه كان ثلاثة أحسنهم حصل على خمسة آلاف صوت، في حين لم يحصل (مفضي) إلا على 250 صوت.

خرج بعض المندوبين قبل إعلان النتيجة الرسمية بحوالي ساعة، وذهبوا لكي يداروا خيبتهم، وأطفأ المرشحون المخفقون أنوار بيوتهم، في حين سارت مواكب السيارات للفائزين الثلاثة في الشوارع، وبقيت حتى بعد الفجر.

في مقر الانتخاب للفائز (الآن) غانم، حمل المحتفلون نائبهم على أكتافهم وهتفوا له، وامتلأت الأجواء بزغاريد النسوة.

لم يحضر واثق ولا مقبل ولا يوسف ولا الدكتور عبد القادر مهرجان النجاح، كما لم يترددوا على بيت النائب غانم طيلة الأربع سنوات التي أمضاها في مجلس النواب.

لكن الشيخ أبا محمد حضر الاحتفالات ووليمة الغداء الكبرى، وكان يتردد على منزل النائب، ويحكي لأصحابه (مقبل وجماعته) الذين لم ينقطعوا عن التواصل معه ما كان يسمع ويشاهد في منزل النائب.

كانت حكايات أبي محمد عما يراه في منزل النائب في مجملها ذات طابع تهكمي، فأحيانا يتندر بما أكل في القصر، وأحيانا يروي لزواره عن كيفية فرح النائب بهدية الرئيس الفلاني أثناء زيارة الوفد البرلماني لبلاده. ومن القصص التي كان أبو محمد ينقلها تلك التي تتناول طلبات الحضور من أقارب النائب، فأحدهم يريد أن يوظف ابنه حارسا في مدرسة والآخر قدم للتوسط بالإفراج عن ابنه الذي شتم القاضي فلان الخ.


انتهى القسم الأول

ابن حوران 19-11-2008 10:32 AM

الجزء الثاني

انتخابات البلدية

قال أحد الحكماء: لا تناقشوا نضالكم من أجل الحرية، بل ناقشوا ما ستفعلون بحريتكم عندما تحصلون عليها.

وقال آخر: إن الرابحين يتقاربون والخاسرين يتباعدون.

(1)

تأمل الدكتور عبد القادر الجموع الغفيرة التي تواجدت هذه المرة، دون دعوة وليمة كبرى كما جرت العادة، بل جاءت لأنها انتصرت بمعركة الانتخابات البرلمانية، فاستحلت طعم الانتصار، وراق لها فكرة الكلام من أجل الكلام الذي سينسب لمن يتكلم عندما يتحقق نصرٌ. ابتسم ابتسامة سخرية متسائلا بينه وبين نفسه: هل هؤلاء يعرفون عن تخطيط المدن؟ وهل هؤلاء يعرفون عن صفات القادة المحليين؟ وهل هؤلاء يقبلون إن جاءهم من يستطيع القيام بأعمال رئاسة أو عضوية المجلس البلدي بشكل يتناسب مع المعطيات الحضارية؟ أم أن لعبة الصوت وتوزيع (الكوتة) هي الأمور التي تقرر من هو المرشح للرئاسة ومن هم المرشحون لعضوية المجلس؟

نقر (مقبل) بأصابعه على (الحاكي) وأراد أن ينبه الحضور لوجوب الاستماع لما سيقول. وبعد أن قدم (ديباجة) افتتاحية كلمته قال: إن مدينتنا بها ما يزيد عن 600 حامل دكتوراه، وأكثر من خمسة آلاف حامل شهادة جامعية أولية وهي نسبة تزيد عما في (بلجيكا)، ودأبتم كل دورة انتخابات بلدية على تقديم وجهائكم الذين يفتقرون للدراية العلمية والثقافية، وقد علمتم أن إدارة المدن تحتاج الى المزيد من المعرفة والقدرة على التخطيط واستنبات مشاريع العمل لتستوعب أبناء مدينتكم.. إن توزيع تلك الشهادات الجامعية العليا لا يقتصر على عشيرة دون غيرها، لذا نهيب بالحضور الذين سيزكون مندوبي عشائرهم للترشح لعضوية المجلس البلدي أن يراعوا هذا الجانب، وليتنحى آباؤنا وأعمامنا من الوجهاء والذين نكن لهم خالص الاحترام عن مزاحمة أبنائهم ليجربوا القيام بتحديث عمل البلدية الذي بدأ منذ عام 1927.

تعالت صيحات الهتاف والتصفيق بالموافقة، فمن يتكلم هو من مَهَد لغانم أن يصل للبرلمان وكلامه في محله. وهناك من علق على ذلك بالقول: إن أول المتكلمين هو من يرسم خط بداية الانتخابات، ولو وقف أحد غير (مقبل) ورفع من شأن الوجهاء ورجاحة عقلهم لحظي بنفس القدر من الهتاف والتصفيق.

اتفق الجميع على تسمية لجنة لتستقبل أسماء المرشحين، وقسمت العشائر التي تزيد عن 50 عشيرة الى عشرة دوائر، تكون أعداد الناخبين في كل دائرة حوالي ألف وخمسمائة صوت. وقد روعي وضع أربع عشائر يزيد عدد الناخبين فيها عن ألف ليكون لهم مرشح دون مزاحمة أحد (دول كبرى!).

(2)

تعفف الكثير من الشيوخ عن قبول تسميتهم كمرشحين لدوائرهم، ويبدو أن كلمة مقبل قد تركت أثرا في نفوسهم. وقدم إلى اللجنة أسماء 14 مرشحا، كان من بينهم محامي و مهندس ورئيس لجنة نقابية عمالية وثلاثة عقداء متقاعدين من الجيش والشرطة، ومعلم متقاعد وموظف موانئ متقاعد (ينتمي لجماعة دينية) وسكرتير بلدية متقاعد، وشيخ كان عمره فوق الثمانين وهؤلاء الذين أصبحوا فيما بعد القائمة (الشعبية) المعتمدة لهذا التجمع العشائري، فيما تم إقناع الأربعة الآخرين بالانسحاب.

أما في الجهة الأخرى، فكان هناك (فهمي) رئيس البلدية التي كانت قائمة، ومعه تسعة معظمهم من الشيوخ الذين تم انتقاءهم وفق (الكوتات) العشائرية القديمة.

كثرت الحلوى التي تقدم للمؤازرين الذين كانوا يأتون لخيمة الكتلة الشعبية، واستمرت اللجان في إعداد الخطط وأسماء المندوبين ومرافقي الحافلات التي ستنقل الناخبين والناخبات الى مراكز الاقتراع.

ودرّب المدربون الناخبات والناخبين على حفظ الأسماء، والألقاب المعتمدة في الفرز بالتنسيق مع اللجان الحكومية المشرفة على الانتخابات.

(3)

توجه الناخبون والناخبات الى صناديق الاقتراع، وانتهى الاقتراع في السابعة مساء، بعد أن وصلت نسبة المقترعين 78%.

توزع مندوبو فرز الأصوات على قاعات الفرز، وقام رؤساء اللجان بما يلزم لطمأنة المندوبين، فهذا الشمع الأحمر وهذا تقرير لجنة الاقتراع وأعداد من يحق لهم التصويت في الصندوق كذا وأعداد من صوت كذا، ثم قام بعد الأوراق الموجودة في الصندوق، ويستبعد البيضاء التي ليس فيها أسماء مرشحين. ثم طلب من الحضور أن ينتدبوا اثنين منهم للوقوف عند (الصبورة) ووضع إشارة لكل من يحصل على صوت.

أما البقية من المندوبين، فكانوا على استعداد لمتابعة الفرز، وانتبه كل منهم الى الصبورة والى الورقة التي أمامه وقد وضع عليها أسماء 26 مرشح، ينتسبون لثلاث كتل كتلتين رئيسيتين كل كتلة عشرة أسماء وكتلة للسياسيين الذين لم يستطيعوا إكمال كتلتهم وضمت ستة مرشحين. كانت تلك النماذج من الأوراق من توليف أحد المكتبات الذين لهم دراية في الانتخابات، يحضرونها ويصورونها ثم يعرضونها للبيع في مثل تلك المناسبات المتباعدة الحدوث.

كان من في القاعة يستطيع معرفة العشيرة التي ينتمي لها من كتب الورقة، حيث كان يبدأ بكتابة اسم مرشح عشيرته، ثم يذهب الى المرشحين الآخرين، وهو تكنيك لم تُفهم دوافعه حتى اليوم، فما الذي يجعل الناخب يضع اسمه أو اسم قريبه بالأول، هل كان يخشى أن تأتي أوامر بالتوقف عن الكتابة أو أنه سيصاب بسكتة قلبية قبل كتابة اسم قريبه؟ كان هذا النمط من التدوين يفضح العشائر، فعندما لا يكتب اسم مرشح في ورقة فإن المندوب للمرشح الذي حجب عنه الصوت سيعلم من أي عشيرة جاء الحجب، فيجمعها في الصندوق الذي يراقب فيه ويجمع المندوبون الآخرون مثل ذلك التصرف ويضعونها في وجه العشيرة التي مارست الحجب.

كانت معظم الأوراق تضم أسماء كتلة كاملة، وكان بعضها ينقصه اسم أو أكثر، وكان بعض الأوراق به بعض أسماء المرشحين من كتلة أخرى. وكان حظ فهمي رئيس البلدية المنتهي (دورته) أكثر الأسماء التي تظهر في قوائم الكتل الأخرى.

فازت الكتلة الشعبية بتسعة مقاعد، وفاز فهمي رئيس البلدية السابق بأعلى الأصوات، ولم يفز أحد آخر من كتلته ولا كتلة السياسيين، أما الكتلة الشعبية فقد أخفق منها أحد العقيدين المتقاعدين من الجيش، مما جعل ذويه أن يأتوا الى مكان احتفال مؤازري الكتلة وإفساد الاحتفال، متهمين الآخرين بالحجب
.

ابن حوران 18-12-2008 12:50 PM


(4)

تمنح الحركات المكررة، والأعمال المتراكمة في أي مجال، أصحابها مهارات يتميزون فيها عن غيرهم. وقد يتعب أحدنا نفسه في البحث عن تلك المهارات في بطون الكتب ولن يجدها، فالاصطفاف بحلقات (الدبكة) ومراسيم تحضير طعام شعبي، أو البداية في هتاف تشجيع أحد فريقي كرة قدم في مباراة، كلها مهارات من هذا النوع.

كذلك هي الحيل الشعبية في الانتخابات البلدية أو البرلمانية، لا تخضع لخطوات مكتوبة، ولم يناقشها السياسيون في كتبهم، حتى وإن فسروها بعد حدوثها، فإن التنبؤ بالكيفية التي ستسير عليها، يبقى مجالا لم تتناوله مثل تلك الدراسات المكتوبة.

كان أهل البلدة يعلمون أن من يُزاحم على رئاسة البلدية في الانتخابات سيكون عرضة لعدم النجاح لأن المتحالفين معه سيحجبون عنه الأصوات (هذا في الأنظمة التي تجعل من اتفاق الناجحين على تسمية أحدهم رئيسا كما هي حال البلدة موضوعة السرد). ولكي يتجاوزوا تلك العقبة، اتفقت جميع الأطراف لتسمية العقيد المتقاعد فؤاد مرشحا للرئاسة وكان له ذلك بعد نجاح تسعة من أعضاء كتلته.

(5)

بعد استقبال المهنئين وإتمام الاحتفالات، عقد المجلس البلدي أول اجتماعاته بغياب العضو (فهمي: الرئيس السابق).

كان أكثر من نصف أعضاء المجلس، يرغبون في الخدمة من أجل الخدمة، أو هكذا كانوا يعلنون، فبادر الرئيس المنتخب (فؤاد) بإحضار المصحف الشريف، وأقسم أنه لن يعود لترشيح نفسه مرة أخرى، وانتقل القرآن الى الأعضاء الآخرين فأقسموا عليه مثلما فعل رئيسهم.

انتقل المجلس لتوزيع مسميات العضوية، فابتدءوا بنائب الرئيس الذي تنافس عليه اثنان من الأعضاء، فوضعت ورقتان كتبا على كل منهما اسم مرشح، وتكريما لكبر سن الشيخ (مطيع) اتفق الجميع على أن يسحب ورقة من المغلف ليكون نائب الرئيس من كتب اسمه عليها، وتم ذلك دون أي خلاف.

تناوب معظم أعضاء المجلس على الحديث، فمنهم من قدم مشكلة التمويل على بقية المشاكل، ومنهم من قدم مشكلة مخالفات البناء على بقية المشاكل، ومنهم من اعتبر أن الكادر الوظيفي الذي يبلغ مائتان وخمسون موظفا وموظفة هم من أكبر المشاكل، حيث أن نسبة المعاقين بينهم تزيد عن الثلث، وعدم الكفاءة تسيطر على البقية، وأن هؤلاء الموظفين قد جيء بهم كترضية للمؤثرين في عمليات الانتخابات للتجديد لمن يسعى في توظيفهم، وقد تراكمت تلك العينات على المجالس البلدية فأصبح هذا الكادر يستحق لقب أسوأ جهاز وظيفي في تاريخ البلديات.

هنا، بادر المهندس (العضو المنتخب) وطلب إحضار القرآن ليقسم عليه الجميع، أن لا يسعوا بتوظيف أي مستخدم جديد، وأن يحاولوا تدريب الجهاز الوظيفي القائم قدر المستطاع، وأن من لم يتقدم في كفاءته أن يذهب لبيته وسيأتيه راتبه كل شهر، وأكد أن ذلك أقل ضررا على البلدية وعلى مصالح المواطنين، فهو لن يستهلك مياه ولن يهدر من القرطاسية ولن يقصر من عمر أثاث وبناء البلدية. ابتسم الجميع ووافقوا على ذلك.

استغل رئيس البلدية والذي يترأس الجلسة فرصة التقاط الأعضاء لأنفاسهم، وبلغهم بأن أحد وجهاء البلدة، ينتظرهم لتناول طعام الغداء. لم يعلق أحد على ذلك، فمنهم من اعتبر ذلك من مقتضيات العمل في مثل تلك المؤسسات، ومنهم من اعتبر ذلك تمهيدا لإثقال المجلس بتوسط لغض النظر عن مخالفة ما، ولكنه آثر السكوت، حتى لا تصل كلماته لصاحب الدعوة!

لكن المهندس، علق قائلا: لم يكن هذا الرجل يوجه لنا الدعوات لو لم نفز بانتخابات البلدية، إذن فهو يدعو شخصياتنا الاعتبارية، لا شخصياتنا المجردة، وإني أعلن أنني لن ألبي مثل تلك الدعوات لا هذه ولا ما سيتبعها من دعوات، وأنصحكم أن لا تستجيبوا لمثلها إن أردتم العمل النزيه. استجاب لطلب المهندس كل من نائب الرئيس والعضو (النقابي العمالي).

(6)

بعد مرور أسبوع، كان المجلس أو الأعضاء التسعة قد عقدوا خمسة اجتماعات في بيوتهم (بالتناوب) لبحث مسائل تتعلق بالسياسات الواجب إتباعها، فمنها ما كان يناقش عادات إطلاق الأعيرة النارية في الأعراس والاحتفالات، ومنها ما كان يناقش تعبيد 72 كم طولي من طرقات البلدة، وتقسيم هذه الخطة على أربعة سنوات (مدة الدورة الانتخابية) وكيفية التحايل على التمويل، ومنها ما كان يعني بتسرب التلاميذ من المدارس ومنها ما كان يتعلق بتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة بالاستعانة بالجامعتين القريبتين من البلدة، ومنها ما كان يتعلق بتشجيع الشعراء والكتاب والمبدعين وتنظيم مهرجان سنوي لهم في الملعب الرياضي.

في هذه الأثناء، وبعد أن ابتدأ الاجتماع الرسمي الثاني في مبنى البلدية، دخل الرجل صاحب دعوة الغداء، ومعه أحد أقاربه وكان في الستين من عمره، وقد كان يعمل في قطاع البناء قبل خمسة عشر عاما، فسلم على الجميع وقطع الجميع كلامهم، وأخذوا بمجاملات لا معنى لها معه، فانتبه نائب الرئيس أن ذلك مخالفا، ولكنه لم يشأ أن يكون فجاً ويطلب من صاحب الدعوة أن يخرج لأن المجلس في حالة اجتماع، فنبه الرئيس لوجوب العودة لجدول أعمال الاجتماع.

لكن صاحب الدعوة، التفت إليه، وعاتبه: (أنا زعلان منك)، فرد عليه النائب: لماذا؟ فقال: أطعامنا لا يؤكل؟ فاعتذر أنه كان مشغولا و أضاف (خيرك سابق) ..
أدرك الستة الذين لبوا الدعوة أن الممتنعين لتلبية الدعوة كانوا أكثر حكمة منهم.

قال صاحب الدعوة: أنا لا أريد أن أعطلكم عن اجتماعكم، ولكن حرصي على خدمة البلدية ومصالح المواطنين هو ما دفعني للحضور الى هذا الاجتماع، وأحال الحديث لمن معه، فقال: أعلم أن البلدية تهدر الكثير من الأموال لترميم القنوات والعبارات والأطاريف، وكلكم تعرفون أني خبير بأعمال البناء، وقد اعتزلت هذا العمل منذ مدة، ولكن إسهاما مني في خدمة بلديتكم التي هي بلديتنا والتي لم تحظ في يوم من الأيام بهذا القدر من الكفاءات الممثلة بهذه النخبة الشابة، قررت أن أعدل عن قراري في الاعتزال ووضع نفسي تحت خدمتكم!

قاطعه المهندس ضاحكا: من يسمعك سيقول أننا تحايلنا عليك كثيرا من أجل القبول بمثل هذا العمل. ثم جعل من لهجته أكثر صرامة وقال: أترى هؤلاء الأعضاء ؟ لقد أقسموا أيمانا غليظة على أن لا يوظفوا أحدا طيلة مدة دورتهم، أرح نفسك من تلك المهمة.

تجهم صاحب الدعوة، ونظر الى المهندس شزرا واستأذن وخرج.

ابن حوران 27-01-2009 02:53 PM

(7)

لم يتذكر الشيخ مطيع بأنه ساهم خلال أكثر من سنة في أي حديث جاد، ولم يتذكر أنه تقدم بأي مقترح، ولكنه اكتفى بدور أنه سحب أوراق القرعة في الاجتماع الأول، وأصبح هذا الحدث أو الإنجاز لا يبعث له الشعور بالراحة، كان يحس ببعض الرضا عندما يبادر الجميع بتخصيص تحية رقيقة له كونه أكبر الأعضاء عمرا، ولكن هذا التخصيص أصبح موضع مضايقة نفسية له، فبعد أن يجيب عن الأسئلة المرافقة لتحيات الملاطفة عن أولاده وأحفاده وأولادهم، يتمتم ببعض كلمات الشكر المتزاحمة دون ترتيب، ثم يعدل من جلسته ويوازن موضع عقال رأسه، ويبلع ريقه، فهو لا يدخن، ولا يتحدث ويخجل أن يخرج (مسبحته) ليسبح بحمد الله في حضور الآخرين.

وإذا ما سأله رئيس المجلس عن رأيه، يوافق على رأي الذين سبقوه في إبداء رأي ما، وكان لا يعرف حتى إعادة تفاصيل ما تحدث به من سبقه، أو حتى أحيانا لا يستطيع التعبير عن الموضوع بإيجاز، فيقول: مثل ما تفضل (أبو فلان) ولم يخطر بباله أن أبا فلان لم يتحدث مطلقا، فعندما يصحح له أحدهم اسم ابن آخر من تحدث، يزداد حرجا وتحمر وجنتاه، ويتمنى ساعتها أنه لم يتقدم لمثل هذا المنصب الذي يسبب له الحرج.

(8)

استخرج رئيس اللجنة النقابية العمالية ورقة من جيبه، وطلب من رئيس المجلس أن يبدأ بطرح محتويات مقترحه والذي تم تثبيته بجدول الأعمال لتلك الجلسة، كان الموضوع يخص الاحتفال بعيد العمال العالمي والذي بقي عنه خمسة شهور، وتم تقديم المشروع ليكون هناك متسعا من الوقت للاستعداد اللائق لمثل ذلك الاحتفال.

كان المشتركون بالمشروع أربعة من أعضاء المجلس البلدي، فالغاية الأساسية منه هي نقل المعلومات التقنية الى المواطنين بصورة احتفالية، فاختاروا أول أيار/مايو ليكون موعدا لذلك.

تم الاتفاق على التحضير لتسمية العمال المبدعين من عمال البناء وعمال النظافة والنجارين المهرة والحدادين وتم تسمية أكثر من عشرين مسمى لهؤلاء المبدعين، مثل أفضل مربي للنحل، أفضل مزارع زيتون أوائل الطلبة، أفضل شاعر أفضل امرأة عاملة الخ.

كان على اللجنة أن تتصل بالبنوك والشركات التجارية للمساهمة في تخصيص جوائز قيمة للمكرمين، وكان على اللجنة أن تتصل بجامعتين حكوميتين وغرفة التجارة والنقابات المهنية للمشاركة في إنجاح هذا الاحتفال. وكان على اللجنة أن تتصل بفرق الفنون الشعبية لتأخذ وصلات بين الفقرات. وكان المكان الذي تم اقتراحه هو الملعب البلدي حيث يتسع لعشرات الآلاف من المواطنين.

كان رئيس المجلس البلدي يهز رأسه موافقا على ذلك، وكان الشيخ مطيع لا يخفي فرحه أن ينتسب لمثل ذلك الفريق.

استخرج المحامي ورقة من جيبه، وهي دراسة حالة المتسربين من المدارس، وكيفية التعاون مع مديرية التربية ومجالس الآباء والأمهات لمعالجة تلك الظاهرة الخطيرة.

اعتذر رئيس المجلس عن دراسة تلك الورقة ورحلها الى اجتماع قادم.

(9)

لاحظ بعض أعضاء المجلس البلدي أن هناك قطع (لوحات إعلانية) تخص شركة (كوكا كولا) وهي شركة مدرجة ضمن قوائم الشركات الواجب الالتزام بمقاطعتها من الجامعة العربية. قد انتصبت فوق بعض المحلات التجارية، فطلب من رئيس المجلس البلدي أن يضع تلك النقطة على جدول الأعمال.

عندما انعقدت الجلسة، بادر المحامي بالحديث عن وجود تلك اللوحات وخطوة ذلك، وكون المجلس البلدي يمثل القيادة الأدبية للمدينة، فلم تكلف جهة ما نفسها حتى بتبليغ المجلس البلدي بالسماح لتلك الشركة المشمولة بالمقاطعة العربية.

تجهم رئيس البلدية، وقال: ألا تعلمون من سمح لتلك الشركة بذلك؟ كان الجميع يعلم تفاصيل إعطاء بعض الرجال المهمين نسبة معينة، ولكن بعضهم أصر أنه لا يعرف ولا يريد أن يعرف، وطرح اقتراحا بإغلاق المحلات التجارية التي تتعامل مع تلك الشركة أو تضع لوحاتها الإعلانية.

تم طرح المشروع للتصويت، فلم يصوت لصالح إغلاق المحلات إلا اثنان، فسقط المشروع.

استطاع المحامي الالتفاف على القضية، بأن استخرج مادة تلزم الشركة المنتجة بدفع عشر دولارات عن كل متر مربع من اللوحات الإعلانية، وبعد موافقة المجلس على الاقتراح الجديد تم مخاطبة الشركة، فأرسلت (شيكا) بمبلغ 15 ألف دولار بدل لوحات الإعلانات للبلدية.

وبعدها بأسبوعين تم حل المجالس البلدية كافة دون حجة قوية

انتهى الجزء الثاني




ابن حوران 16-02-2009 04:44 PM

انتخابات نقابة مهنية

تختلف النقابات المهنية عن النقابات العمالية أو الحرفية، بأن النقابات المهنية تضم في صفوفها أصنافا من المهن الطبية (أطباء وأطباء أسنان) والهندسية والجيولوجية والممرضين والبياطرة والزراعيين والمحامين وأحيانا في بعض الدول العربية تشمل الصحافيين ومهن أخرى. في حين لا تشمل في مسماها عمال البناء والسكك وعمال الكهرباء والحلاقين وعمال المطاعم الخ.

النقابة بشكل عام مخترع لم يُستنبت في بيئتنا، بل نشأ مع بدايات النهضة الصناعية في أوروبا، وقد جاء لرفع جور أصحاب العمل عن العمال ولتكون النقابة ممثلا لجمهور العمال الذين يريدون رفع أجورهم أو يريدون تقليص ساعات العمل، أو أي مطلب آخر.

هناك من يقول أن النقابة مخترع عربي، ظهر في العصر العباسي، عندما كان لكل حرفة شيخ يرجع إليه المختلفون ليحكم بينهم، فهذا شيخ للوراقين، وهذا شيخ للتجار، يضع ما يشبه القوانين لإبطال صفقة بين اثنين، الخ. وهناك من يقول أن (القرامطة) هم من ابتكر فكرة تنظيم أصحاب المهنة، فقد ابتدءوا بساسة الخيول من (الزنج ) ليحرضونهم على الدولة العباسية!

على أي حال، لقد دخلت فكرة النقابات الحديثة على بلادنا، كما دخلت معها أشكال من المفاهيم المهجنة فهذه قومية وهذه اشتراكية وهذه حزبية، لقد دخلت الى منطقتنا دون ربط ماضيها بحاضرها ودون تهيئتها لتكون خادمة لتحقيق المستقبل الذي يحلم به أبناء الأمة، فكانت كاستيراد أبقار (الفريزيان والهولشتاين) تعطي حليبا في هولندا وألمانيا ثلاثة أضعاف ما تعطيه في بلادنا، علاوة على أنها حلت محل أصناف محلية عاشت مع شعوبنا منذ الأزل!

(1)

كان (قمر الدين) ابن الخمسين عاما، خريج الجامعات التركية، وصاحب شركة هندسية تهتم في تزويد المنشئات بنظم الري الحديثة، كان شخصا أنيقا يعرف كيف ينتقي ملابسه الفاخرة وعطوره الملائمة التي كأن من ابتكرها وضع أمامه ربطات عنق (قمر الدين) وأخذ يجرب أي العطور أكثر ملائمة لتلك الربطات.

استطاع قمر الدين أن يجمع أرقام هواتف مجموعة من المهندسين الذين يتوسم بهم أن يكونوا مؤثرين في مناطقهم، وكان عندما يرفع سماعة الهاتف ليتصل بأحدهم، يبادر بصوته الدافئ القريب من القلب ليشعر المستمع أن حدثا مهما سيظهر من تلك المكالمة، فبعد أن يشعره بافتقاده الطويل، ويسأل عن صحته وشأن معين تدرب على معرفة تفاصيله، يستنهض همته في موضوع الانتخابات المقبلة، ولا بد أن يذكر له مسألة يكره الذي على الطرف الآخر من أنها ستتحقق إذا لم يبادر للوثوب والاصطفاف من أجل منع تحقيقها.

بعد يومين من مكالمة قمر الدين بالأسماء التي أدرجها في قائمته، يقوم أصحاب تلك الأسماء بالاتصال ببعضهم البعض، فتكون حركتهم كحركة الدوامة في ماء نهر تلتف لتعود الى مركزها. والغريب أن أحدا من هؤلاء لم يستنكف عن الاستجابة لنداء (قمر الدين)، ليس لأنه قائد فذ، وليس لأنه ابن مبادئ وابن نضال، وليس لأنه ودودٌ مع رفاقه، فلم يكن لديه واحدة مما ذكر. بل لأن هؤلاء الأفراد لا يريدون تفويت فرصة يؤكدون فيها ذاتهم. فأحدهم يفرح عندما يُنسب عنه قول يعاتبه فيه آخر، ويفرح أكثر عندما (يقبل) أحد المرشحين رأسه طالبا منه المساعدة.

يتفق الجميع على حضور اجتماع موسع لأنصارهم في قاعة النقابة المركزية، ويحددون موعدا لذلك.

(2)

كان (عصام) ابن تنظيم إسلامي سياسي، وهو يقف على رأس جماعة تنافس الجماعة التي فيها (قمر الدين). كانت جماعته تتقن لعبة الصوت بطريقة أفضل من الطريقة التي تتبعها الجماعة الأخرى. فالجماعة الأخرى تعتمد أسلوب التحالف بين مكونات المعارضة الكلاسيكية، فهذا يمثل حزب كذا، وهذا يمثل حزب كذا، وهذا من الجبهة الفلانية، وهذا من المستقلين القوميين وذلك من اليساريين المنشقين وهكذا، في حين كان عصام وجماعته يطرحون أنفسهم كفصيل نقي خال من أي عنصر خارج عنه.

كان عصام شابا ذكيا ابن ثمانية وثلاثون عاما، له علاقات واسعة مع الكثير من المهندسين، وفوق ذلك، كان ابن تنظيم سياسي خبر لعبة الصوت بإتقان، كان يخابر بعض المهندسين الذين يتمتعون بسمعة جيدة وسلوك قويم، وقد تنقلوا في سنوات عملهم بأكثر من أربعة أو خمسة شركات كبرى، وكونهم كذلك فإنهم ولا بد قد تعرفوا أثناء خدمتهم على المئات من المهندسين، خصوصا عندما ينتقلون من مدينة لمدينة لعرض سلعهم وخدماتهم.

كانت تلك الجماعة، تبحث عن وجوه (نجيحة : أي قابلة للنجاح في الانتخابات)، وكانت صيغة المخاطبة لهؤلاء المهندسين، أن الجماعة قد وقع اختيارها عليك لأن تكون أحد أعضاء الكتلة الانتخابية للنقابة، كان من يُعرَض عليه هذا الأمر، يشعر بدفقة من الاعتزاز بالنفس، أن الجماعة الفلانية قد زكته على أنه رجل مستقيم ومحبوب، وهذه فرصة لأن يصبح أحد أعضاء مجلس النقابة وبالتالي فإن باب الأحلام سيفتح أمامه ليكون مستقبلا شخصية عامة يُنسب عنها أنها قالت كذا وقد يُنسب عنها أنها حاولت فعل كذا.

كانت الجماعة تكتفي بواحد أو اثنين من أعضاء المجلس من الملتزمين تنظيميا، وتختار بقية أعضاء المجلس من الوجوه القابلة للنجاح، وهي بفعلها هذا، تضمن كسب أصوات هؤلاء المرشحين غير المنظمين، وتهيئ هؤلاء المرشحين لينخرطوا تنظيميا في صفوفها المنضبطة.

كان كل مرشح من المستقلين الذين خاطبتهم جماعة عصام يعتقد أنه الوحيد الذي أضيف للكتلة من خارج التنظيم، فكان يحرص على موافقة رئيس الكتلة الذي ينقل توجهات تنظيمه. ولم يحدث أن اعترض أي من هؤلاء المستقلين على توجه الجماعة، لشعوره بأنه مدين لتلك الجماعة بمنحه (حظوة) أن يكون محسوبا عليها.

ابن حوران 02-03-2009 11:19 PM

(3)

حرص (رشيد) أن يصل الى بيت (قمر الدين) قبل غيره من المدعوين الأربعين، كان رشيد قد تخرج من الجامعة التركية التي تخرج منها قمر الدين، وبنفس السنة، لكنه اختار العمل في القطاع الحكومي، عكس زميله وصاحبه (قمر الدين).

كان كلاهما قد انتسبا الى حزب قومي أثناء وجودهما بالجامعة، ولكنهما انقطعا عن التنظيم منذ عشرين عاما، أي فور تخرجهما، ولم يعرف أحد إن كان ابتعادهما عن التنظيم تم بإرادتهما أم بفعل خارجي. كانا يتمتعان بنفس الصفات تقريبا، وهي الحرص على إيهام الآخرين أنهما لا زالا بالتنظيم، أما عن علاقاتهما مع الدوائر الأمنية، فلم يكن عليها أي شائبة، لأنهما بكل بساطة يعلمان أن الدوائر الأمنية تعلم عن عدم ارتباطهما بأي تنظيم!

حاول رشيد في حضوره المبكر لبيت صاحبه قمر الدين، أن يقنعه بضرورة ترشيح وكيل وزارة ـ لا زال على رأس عمله ـ وهو من نفس صنفهما أي ممن كان له ماضٍ سياسي بعيد، وحجة رشيد بذلك، هي أن وكيل الوزارة أقدر على كسب الأصوات بفعل موقعه بالوزارة، وما لذلك دور في التفاف العاملين بالوزارة من المهندسين حوله، وبالتالي فنجاحه مضمون، وتبقى مكانة قمر الدين ورشيد وأصحابهم محفوظة، واحتمالية ترقية قسم منهم ليكونوا مدراء عامين في الوزارة ستكون واردة.

لم يرتح قمر الدين لطرح صديقه رشيد، ولم يوافقه عليه بشكل فوري، ولكن دعاه لينتظر ما سيسفر عنه الاجتماع الذي كانت دعوة الإفطار في رمضان من أجله.

(4)

انقطع الحديث الثنائي بين الصديقين، بسبب توارد المدعوين الأربعين، فانشغل قمر الدين كونه صاحب الدعوة، باستقبال المدعوين ومصاحبتهم لمقاعدهم. ثم تحيتهم وسؤالهم عن أحوالهم، وتفقد حرارة استجابتهم للدعوة رغم بعد المسافة بين العاصمة ومدن أولئك المدعوين، والذين يُفترض أن تكون استجابتهم لمثل تلك الدعوات وفي شهر رمضان على وجه الخصوص.

كان من بين المدعوين أشخاص يلتزمون في هيكلية التنظيم، وكانوا يعرفون على وجه الدقة مَنْ مِن هؤلاء الحضور معهم بالتنظيم، ومن منهم خارج التنظيم، ولكن هؤلاء لم يريدوا طرح مثل تلك المسألة، بل بالعكس، فإنهم يقبلون بادعاء الذين خارج التنظيم أنهم داخله.

حضر أربعة وثلاثون رجلا من أصل أربعين، وكان أربعة منهم من المسيحيين، ومع ذلك ساد المكان جوُ من الأريحية والود كون هؤلاء الحضور يرتبطون وجدانيا بأكثر من رابط، إما اشتراكهم في الدراسة، أو اشتراكهم في التوجه السياسي، فكان كل واحد منهم يجد أكثر من موضوع (سؤال) يطرحه لمن ينتقيه من بين الحضور.

أحضر أحد الخدم، ماعونا به من التمر، كما أحضر آنية بها من اللبن، ووضع أكوابا، وأخذ يملأها من اللبن (المخيض)، ويوزعها على أركان مختلفة من الموائد المنضدة.

(5)

كان الحضور يتوقفون عن الكلام قليلا، علهم يسمعون صوت (مدفع الإفطار) أو صوت المؤذن ليعلن نهاية صيام ذلك اليوم.

بعد أن تيقن الجميع أنه حان وقت الإفطار، بادروا لتناول قليلا من اللبن والتمر الذي أمامهم، ثم اقترح أحدهم الذهاب لأداء صلاة المغرب، في مسجد قريب بجوار (بيت: فيلا) صاحب الدعوة، لكن صاحب الدعوة بادر للقول: من أراد الصلاة فليتفضل، وكان قد أعد إحدى صالات بيته لمثل ذلك الموقف، فانتقل قرابة ثلاثين شخص لأداء صلاة المغرب وراء (قمر الدين) الذي زكاه الحضور ليؤم بهم كونه صاحب البيت!

كان صوت قمر الدين واضحا وغير مهزوز في تلاوة الفاتحة والسورة القصيرة، لكنه كان يتلو القرآن كمن يتلو نشرة أخبار أو كبيان سياسي.

كان الأربعة من المسيحيين، يشعرون بالحرج من هذا الموقف، لكن وجود اثنين من المسلمين الذين لم يشاركا في أداء صلاة المغرب، قلل من حرجهما.

وبعد الانتهاء من الصلاة، حاول واحد من الاثنين الذين تخلفا عن أداة الصلاة أن يمازح صاحب الدعوة بالقول: هل أنتم متأكدون أننا لسنا في حضرة جماعة سلفية؟ لم يشأ المسيحيون أن يبدوا مشاركته بالابتسام، كما لم يعلق على ملاحظته أحد!

تناول الجميع إفطارهم، أو عشاءهم (للبعض القليل)، ثم تناولوا حلوياتهم التي أحضرت من مطعم مشهور، ليكمل قمر الدين واجب الضيافة.

(6)

لم يكن سعدون ليتوقع أن يقدمه الآخرون لافتتاح الاجتماع الذي عقب الدعوة، وعندما تطوع قمر الدين لتسميته لاستهلال الاجتماع، لم يعترض أحد من الحضور على تسميته. كان سعدون شخصا يلف نفسه بهالة من الغموض، فقد كان مجرد ذكر اسمه بين المهندسين، حتى يتصوروا أنه يملك جهازا وشبكة قادرة على جعل أي مرشح طامحا يخفق في الانتخابات يخفق في مهمته إن لم يباركه ذلك (السعدون). ولكن تلك القدرة غير كافية بالتأكيد على أن يجعل من يطمح يحقق نجاحا بشكل مضمون.

كان سعدون رجل تنظيم بارع، فهو يتابع أدق التفاصيل، وقد فهم رغبة قمر الدين، في ترشيح نفسه لمركز النقيب، ووافق على إعطاءه مثل تلك الفرصة، بعد التشاور مع تنظيمه، ولكنه لم يشأ أن يفصح عن رغبته تلك، في ذلك الاجتماع، لترك انطباع بين الحضور بأن مسألة الترشيح تأتي بالتشاور والتوافق مع كل القوى التي تحسب على ذلك التكتل.

كان نبرات صوت سعدون منخفضة، وكلماته غير متراصة، لكن كان لها عذوبة كعذوبة ابتسامة ثغر يكشف عن أسنان متباعدة قليلا. حاول سعدون ترتيب أفكاره ليجعل من الهدف المراد سببا وجيها للتعبئة في تلك الحملة، كان يتحاشى ذكر الولاء للدولة كسبب محفز لتلك الحملة، هو يعرف كيف يصور الآخر على أنه خصم جدير بهذا التكتل أن يهزمه، لكن كان يبتعد عن التفصيلات الدقيقة، خصوصا، عندما كانت تعليقات الحضور تفصح عن استعدادهم الكامل لخوض تلك المعركة الانتخابية.

كان يعرف ما يقول، فافترض أن من ينجح يحتاج الى خمسة آلاف صوت على الأقل، وبذلك يكون على كل واحد من الحاضرين أن يقنع عشرة من المهندسين ويعبئهم، وحتى لا يكون واحد أو أكثر من هؤلاء العشرة يشتركون في اهتمام أي من الآخرين، بادر لتشكيل أمانة عامة مكونة من عشرة أشخاص للتنسيق في إدراج جداول المهندسين الذين يتم التحرك عليهم.

وعندما يصبح العدد 340 يطلب من كل واحد أن يتحرك على خمسة من المهندسين، وبعدها يتم الطلب من هؤلاء التحرك على ثلاثة. ثم متابعة شؤون هؤلاء الناخبين، من تسديد اشتراكاتهم وترتيب نقلهم الخ.

قسم سعدون خطة العمل بما يتناسب مع الزمن، لتكون النتيجة واضحة للعيان بفوز المرشحين قبل أسبوعين أو ثلاثة قبل الموعد الرسمي للانتخابات.

ياسر الهلالي 03-03-2009 01:10 AM

ممرت سريعا من هنا
ايه الكاتب القدير ابن حوران تقبل مروري
ولي عودة اكيدة بأذن الله

اشكرك على هذه المؤازة بهذا القلم المعطاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ابن حوران 16-03-2009 03:24 PM

أشكركم أخي على تفضلكم بالمرور الكريم

ابن حوران 16-03-2009 03:25 PM

(7)

كانت قاعة الاجتماعات التي حجزها أصحاب هذا التوجه، قاعة واسعة يستطيع القائمون على تنظيم الاجتماعات فيها أن يجعلوها تستوعب ألفان من المجتمعين، كما أنه بالإمكان جعلها أن تكون قاعة كقاعة مؤتمرات رفيعة. فلم تثبت بأرضيتها مقاعد الجلوس، بل كانت تترك لتقدير المنظمين لمثل تلك الاجتماعات.

تم رص العديد من المناضد بجانب بعضها، لتكون مستطيلا أضلاعه من المناضد، ووضعت مقاعد متحركة من الجهة الخارجية للمناضد، تستوعب مائتين من المجتمعين، في حين كانت الأضلاع الداخلية بلا مقاعد، ليكون المستطيل الداخلي فارغا من المقاعد والحركة. ووضعت ملاءات بيضاء على المناضد لتبدو وكأنها منضدة واحدة عملاقة.

كان هناك مجموعة من المنظمين، يلمحون دخول الحضور فيرافقوا الأشخاص ليوصلوهم الى مقاعدهم التي تم الاتفاق عليها مسبقا، بحكم التجربة وبحكم مكانة وأهمية الأشخاص.

وزعت دوارق المياه وأكوابها، والحواكي (مايكروفونات الصوت) على المناضد بعناية، كما تم توزيع كراسات بيضاء فارغة مع أقلام حبر جافة.

وما هي إلا عشرة دقائق أو تزيد قليلا، حتى امتلأت المقاعد بالجالسين، وقد ازداد عدد الحضور عن عدد المقاعد المتحركة التابعة للمنضدة العملاقة، فطلب المنظمون إضافة مقاعد تبعد عن المنضدة العملاقة بخمسة أمتار تقريبا، لتستوعب الحضور الإضافيين.

كان من بين الحضور، وزيران سابقان وستة وكلاء وزارة، منهم واحد لا يزال على رأس عمله، وكان أكثر من عشرين مديرا عاما، لا يزال قسم منهم على رأس عمله.

كما كان من بين الحضور سبعة فصائل سياسية، تُحسب على هذا الخط، قسم من تلك الفصائل ليس له من أعضاء النقابة إلا خمسة أعضاء.

كان رقم (1) في تسلسل أعضاء النقابة حاضرا، كما كان من بين الحضور من كان رقمه أكثر من عشرة آلاف.

(8)

جاء سلمان متأخرا بضعة دقائق، فلم يحظَ بمقعد من تلك التي تؤطر المنضدة العملاقة، فجلس في مكان يستطيع من خلاله رؤية من على المنضدة كاملين.

ساوره الشك في تعريف تلك الخلطة العجيبة من المجتمعين، فهي في نظره ليست حزب ففيها من المتشددين حزبيا وفيها من أنصار الدولة التي لا تتفق مع هؤلاء المتشددين.

وليست جماعة (جبهوية) تلتقي على محور من المطالب الرئيسية وتختلف في نقاط ثانوية، آثرت تنحيتها من أجل الهدف الجبهوي.

وليست جماعة نقابية، فكل نقابة لها طرفان: طرف يمثل أرباب العمل وطرف يمثل العاملين، وفي هذا الاجتماع يلتقي الوزراء ووكلائهم مع العاملين.

وليست جماعة جهوية، فهناك أعضاء من مختلف أقاليم البلاد، فلا يمكن تقديم مصلحة جهة على جهة.

وليست جماعة دينية، ففيها من كل الطوائف والأديان، وفيها من يواظب على صلواته الخمس في المسجد، وفيها من لم يصم يوما واحدا.

حاول سلمان أن يقوم بتسلية نفسه، في اختراع أشكال مماثلة لهذا التحرك، فقارنها مع العشائر ووجد أوجه شبه كثيرة، وقارنها مع الدول العربية في مؤتمراتها فوجد أوجه شبه كثيرة، فيجلس ما يسمى بمعسكر الممانعة مع ما يسمى بمعسكر الاعتدال.

قطع تفكير سلمان نقرات أصابع أحدهم على (الحاكي)

(9)

كان المتحدث، رقم (1) في النقابة، وكان اختياره مخرجا مرضيا لجميع الأطراف، وهو نهج دأبت عليه مثل تلك الاجتماعات.

ذهب المتحدث بعيدا، في حديثه عن نشأة النقابة قبل قرابة ثلاثة عقود، وكم كان عدد الأعضاء وكم أصبح الآن، وعن الإنجازات التي تحققت، وعن الراتب التقاعدي، وصندوق التكافل، وما الى ذلك من مواضيع حيادية لا تمت الى حرارة التعبئة العامة للمعركة الانتخابية بصلة.

كان الحضور يستمعون إليه، كاستماع أُمِيٍ لإذاعة (قبرص)، كانوا يعتبرون كلامه طقسا من طقوس الاجتماعات الواجبة، ولكنه كنوبة لا بد من احترامها.

(10)

أخذ الحديث، آخر نقيب للنقابة من هذا التوجه، وكان وكيلا للوزارة. كان يعلم كم هو اجتماعهم مشاعا، فلم يحب أن يُنسب عنه أنه تطرق بسوء لأي شخص أو جهة حاضرة كانت أم غائبة، حتى لو كانت تلك الجهة (ساحل العاج). كان كلامه كمواضيع المسلسلات التي تنتج في دول الخليج، يطمع منتجوها أن توزع في كل البلدان العربية، فيحرصون أن لا تمس بأذى أي دولة أو شعب.

قاطعه أحد الحاضرين بقوله: كلنا يعلم أنه ليس من الممكن لأبناء هذا التكتل أن يغير مكانه وينتقل للتكتل الآخر، فلماذا تلك التورية بالحديث ولماذا تلك الإطالة؟ نحن أتينا من مدن بعيدة، وكنا نتوقع أن تكون أسماء المرشحين جاهزة، فإن كانت كذلك فأطلعونا عليها، وإلا دعونا نبحث في ذلك مباشرة.

ضحك (قمر الدين) وهو يعلم أن أسماء المرشحين لا تناقش في مثل تلك الاجتماعات الموسعة، بل تناقش في اجتماعات ضيقة ويتم الاتفاق عليها من خلف الكواليس. ولكنه حاول أن يعرض نفسه كبريء ويتعاطف مع ذلك المعترض. فقال: (يا جماعة أنا مع هذا الرأي، من أراد ترشيح نفسه فليتقدم الى هذا الاجتماع بطلب لترشيح نفسه، دعونا ننتهي من تلك المسألة)

حاول أحد أصدقاء (قمر الدين) التعديل على الاقتراح، فطلب تشكيل لجنة من الحضور لاستقبال الطلبات وتنقيحها بالاتفاق عليها ثم عرضها على اجتماع لاحق. وتم ذلك.

ابن حوران 30-03-2009 01:29 PM

(11)

هناك من يعول على الليلة الأخيرة التي تسبق يوم الانتخابات في تغيير النتائج، فإن حدث بها اتفاق جديد يؤثر على سير الانتخابات والتحالفات، فإن الوقت لن يسعف من سيتأثر جراء ذلك التغيير، والانتخابات كمباريات كرة القدم، قد يتم تسجيل هدفٍ فيها في الدقائق الأخيرة من المباراة، ويكون ذلك الهدف هو من يقرر من فاز ومن خسر، وسيترك المدرب واللاعبين في حسرتهم.

وهناك من يعول على الجو الذي يسود يوم الانتخابات، فإن كان القائمون على إدارة الحملة الانتخابية على قدرة في ترك انطباع عام لدى جمهور الناخبين أن مرشحيهم في وضع أفضل، فإنهم يستطيعون بذلك اجتذاب أصوات لم تكن لتحسم أمرها بعد فيمن ستنتخب من المرشحين.

(12)

بدأ وصول الحافلات التي تقل الناخبين من مختلف المحافظات، كما بدأت سيارات الناخبين الذين اعتادوا على التصويت بشكل يعتقدون فيه أنهم خارج تأثير القوى الدعائية، وكان بانتظارهم أطقم الاستقبال من الكتلتين، وفوجئ البعض بأن هناك مرشح مستقل لمركز النقيب، كان المرشح هو (رشيد) صاحب (قمر الدين) ورفيق عمره.

كان هناك فتيات بعمر لا يوحي أنهن من النقابة، بل كن من بنات المرشحين أو من يلتف حولهم من المؤيدين، كن يتوشحن بأوشحة ملونة منقوش عليها اسم الكتلة المرشحة التي ينتمين إليها، كن يقفن عند المدخل الرئيسي، يناولن الداخل زهرة من القرنفل و(مطوية) تحتوي أسماء المرشحين وصورهم ونبذة قصيرة عن كل واحد منهم، وبرنامج عمل الكتلة.

في زاوية أخرى، كان يجلس طاقم إداري من النقابة، يقوم بتثبيت اسم الناخب أو الناخبة، ويناول كل من يشطب اسمه، بطاقة تحدد القاعة والصندوق، كما تناوله (بونات) لوجبات (الفطور والغداء والعشاء) وشرائح ورقية تسمح له بتناول المشروبات الساخنة المتوفرة كلما أراد.

(13)

انشغل الحضور في مسائل عدة، فهذا يعانق زميلا له لم يره منذ عدة سنوات، وذلك يسلم آخر بطاقة مثبتا بها أرقام هواتفه، وذلك يتمتم بعدم الرضا عن تلك التشكيلة الانتخابية، وإن كان سيلتزم بها.

كما كان هناك الكثيرون مَن يجلسون على المقاعد يستمعون للتقارير الكلاسيكية المًعَدة تذكر إنجازات النقابة خلال الدورة الانتخابية السابقة، ومن تلك التقارير ما يتعلق بمطالب الأعضاء، ومنها ما كان يكون بشكل توصيات، ومع ذلك فإن المنصتين لتلك التقارير ليسوا بوضع يسمح لهم أن يناقشوا تلك التقارير بأريحية وإسهاب، فكان من يعترض يذهب صوته ضائعا بين تحريك المقاعد وضحكات الذين اشتاقوا لبعض لمدة طويلة، وكانت إدارة الاجتماع الكبير تعلم أن من حضروا جاءوا ليصوتوا للمرشحين، فكانت إدارة الاجتماع تطرح ما قيل للتصويت، فترتفع الأيدي موافقة، ومعظم من يرفعون أيديهم لا يعلمون على وجه الدقة ما هو موضوع ما وافقوا عليه، ومن باب التغني بالديمقراطية تطلب إدارة الاجتماع من المعارضين أن يرفعوا أيديهم، فيرفع القليل من الحضور أيديهم، فيبادر رئيس الاجتماع بقفل الموضوع.

(14)

انطلق الحضور لتناول الغداء، فامتلأت القاعات والردهات والممرات والحدائق وما جانب المسابح الخاصة بالنقابات، بأعضاء يحملون وجبات غدائهم معهم، يأكلون ويتحدثون ويضحكون، وكأنهم في رحلة سياحية.

وبعد أن انتهى الكل من تناول وجباتهم، نادى صوت (الحاكي) الحضور للاستعداد للتوجه الى صناديق الاقتراع، ليقوموا بالخطوة الحاسمة التي جاءوا من أجلها.

كان من لم ير صاحبه أو زميله من بين هذا الحشد الضخم، يستطيع التحري عنه عند المناداة على الأسماء، وكان من يريد أن يتعرف على أسماء كان يسمع بها بنشرات الأخبار، أو يقرأ عنها بالصحف، أو يستمع إليها بأحاديث الزملاء، كان بإمكانه أن يشخص بصره على ممرات السائرين الى التصويت.

(15)

كان البعض عندما يقوم بالتصويت، يغادر الى بيته، وهم أولئك الذين لا يهمهم أن يعرفوا من فاز ومن أخفق على وجه السرعة، فكانوا يمنون أنفسهم بأن الأخبار ستعلن غدا.

بقي بضع مئات من المهندسين الذين أدلوا بأصواتهم، وأصروا أن يعرفوا النتائج النهائية بتفاصيلها الدقيقة.

انتصف الليل، وامتلأت الأجواء بدخان التبغ المنفوث عصبية ومراقبة، وبعض المحللين الذين لا يتوقفون عن شرح النتائج أولا بأول، كالمعلقين على المباريات أو كالمراسلين الصحفيين. فهذا يذكر أن قمر الدين في المقدمة وكتلته تتفوق على كتلة عصام، وعندما تستمع إليه وتراقب النتائج التي تظهر فرز الأصوات على اللوحة (الصبورة)، تدرك أن هذا المعلق هو من أنصار قمر الدين حتى العظم.

لم يمض وقت طويل بعد منتصف الليل حتى ظهرت النتائج النهائية، كان عصام في المقدمة ومعه كل أعضاء كتلته عدا اثنين أخفقا في النجاح. كان الفرق بين الأصوات التي حصل عليها عصام وقمر الدين 14 صوتا، فقد حصل عصام على 3778 صوتا و حصل قمر الدين على 3764 صوتا في حين حصل رشيد على 78 صوت.

خرج أنصار قمر الدين صامتين، وهم يعرفون أن الطعنة أتت من داخلهم من طرف (رشيد). ركبوا سياراتهم دون أن يعلقوا على شيء!

ابن حوران 21-04-2009 02:01 PM

انتخابات غرفة تجارة

في كل الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، تلجأ بعض الحكومات في العالم الى تشجيع تكوين بعض المؤسسات التي يبنيها المواطنون المعنيون لتكون ممثلة لهم أمام الأجهزة الحكومية، ولتساعد المشرعين على سن قوانين يرضاها المواطنون المعنيون، فتكون متكاملة غير منقوصة، تؤمن حاجة الدولة (بجانبها الحكومي) لمراقبة ورصد حركات المجتمع، ولتحول دون انتشار الفوضى وإثارة المشاكل بين الأفراد أو المؤسسات.

هذا النمط من النشاط ينتمي لما يُسمى (المجتمع المدني). وقد يرتقي هذا النمط من النشاط في الدول المتقدمة الى أن يصبح التشكيل المدني شريكا معترفا فيه، يراقب الخلل وبوادر الفساد، ويترافق جهده مع جهد مؤسسة البرلمان التي تستجوب الجهاز الحكومي التنفيذي بمسائلة ترشد أجهزة الدولة بطرفيها الحكومي والشعبي على الكيفية التي تعيد فيه مسار الحركات لوضعه الصحيح.

في دولنا العربية، يقف الهاجس الأمني حائلا دون اكتمال نمو مثل تلك المؤسسات، فتؤسس مؤسسات للمجتمع المدني، لكن بشروط يصنعها الهاجس الأمني، فلا تدقق بكفاءة المرشحين لتبوء مقاعد إدارة مثل تلك المؤسسات، لا بل تمهد الطريق أمام أشخاص غير أكفاء ليحتلوا تلك المقاعد.

ومن بين تلك المؤسسات، غرف التجارة، وقد كانت غرفة تجارة دمشق أول غرفة تجارة في المدن العربية، حيث أسست عام 1840، ووضعت لنفسها أهدافا لخدمة الاقتصاد الوطني وحماية منتسبيها. ثم نشأت غرف تجارية في معظم المدن العربية، وتطورت خدماتها فأصبحت تنظم العقود التجارية، وتمنح الرخص التجارية والسجل التجاري الخ.

ومع ذلك، بقيت غرف التجارة قاصرة في أداءها من حيث أنها لم تستطع ربط نقل التقنيات مع العقود التجارية فبقي التاجر العربي مسوقا لبضائع غيره، في حين كان بإمكان غرف التجارة أن تربط تلك الخدمة مع نقل التقنيات و نقل التصنيع الى المنطقة العربية، وقد جاء إنشاء غرف الصناعة متأخرا ليقوم بدور مثل ذلك. وقد يكون لطبيعة انتخابات إدارات تلك الغرف أثر في تواضع أداءها لنرى.

(1)

دعا محمود خمسين تاجرا من أكبر تجار المدينة، وبالغ في دعوته حيث كانت أصناف الطعام الفاخر، والحلويات الفاخرة، والكلام المعسول، والتنقل بين مقاعد المدعوين بابتسامة ثابتة وكأنه قد ثبت خديه مبتسمين بملقطي غسيل غير مرئيين.

لم يكن لديه خطاب واضحا، فهو يعرف أن الخطاب المتعارف عليه هو أنه (مشتهي ليكون رئيسا للغرفة)، وحتى يكون خطاب الشهوة مؤثرا، لا بد أن يكون له قدرة على المقارنة، فكان قد بحث بحسه الفطري عن تاريخ كل تاجر من الحضور، ومعرفة من هم خصومه ومن هم منافسيه ومن هم الذين كادوا أن يخرجوه من السوق عندما طالبوه في دين كان لا يملك منه شيئا، ومن الذي أنقذه من مأزقه. فتكون حملة التعبئة العامة هي إحياء عداوات قديمة تتعلق بمن يفكر أن يكون منافسا لمحمود.

وبعد أن تمتلئ البطون، ويتجشأ الجميع، ويمسحوا (دلاغيمهم) من أثر الحلوى والشراب، تكون المرحلة الأولى قد اكتملت، فهم غير مطالبين بشيء غير أن يعلنوا عن تأييدهم لمحمود في حملته. أما ضمان الناخبين وتسديد رسوم تسجيلهم ونقلهم من أماكنهم الى موقع الاقتراع فهي مهمة محمود، وهنا يبرز المثل ( من يريد أن يصبح جَمَالاً عليه أن يُعلي باب داره).

(2)

كان (جاسر) كالكثير من أصحاب الدكاكين، الذين يفتتحون دكانا ببعض النقود، يضعون فيه حاجيات الجيران من مواد تنظيف وحلوى للأطفال وبعض المواد التموينية كالرز والسكر والزيوت، وهؤلاء قد لا يطيلوا مدة افتتاحهم لدكاكينهم فقد تنقل زوجاتهم محتويات الدكان الى البيت، فيضطرون لإغلاقها بسبب عدم النجاح بالمشروع. وكونهم كذلك، فلا خبرة لديهم بالإجراءات الواجب إتباعها لاكتمال شروط فتحهم للدكان، فلم يكونوا قد راجعوا البلدية أو غرفة التجارة، ولو علموا بالرسوم التي تترتب عليهم لما فكروا بفتح مثل تلك الدكاكين، ولكون دكاكينهم تقع في أطراف الأحياء، فإنهم لن يكونوا عرضة لمداهمة أجهزة الرقابة بسرعة، وقد يطول غياب تلك الأجهزة لسنتين أو ثلاثة أحيانا.

فوجئ (جاسر) بموظفين اثنين من البلدية والصحة، يحملون معهما دفاتر للإنذار وتحرير المخالفات، يسألان عن (الرخصة) وأوراق أخرى تتعلق بدكان (جاسر). لم يعرف جاسر ما سيقول لهما، ولكنه تذرع أنه لم يمر على فتحه للدكان سوى أيام قليلة، وهو في صدد التوجه لاكتمال أوراق الترخيص. كان يعلم أن أحد الموظفين كان قد اشترى من دكانه قبل عام بعض الخضراوات، فابتسم ذلك الموظف، وأعطاه إنذارا لتصويب وضعه خلال أسبوع.

كانت تلك الحركات، توجه من خلال (لوبيات) الكتلتين المتنافستين على انتخابات غرفة التجارة. فهم يعلمون أن أصحاب الدكاكين هؤلاء سيكونون مادة سهلة أمام من يسبق إليهم ويتبرع بتسديد ما عليهم من مستحقات للبلدية وغيرها من الدوائر.

(3)

في المساء، حضر (محمود) ومعه مجموعة من أصحاب الملابس المكوية جيدا، وأوقفوا سياراتهم الفارهة أمام بيت (جاسر)، فتفاجأ بهم وبهيبتهم، ولم يكن لأمثال هؤلاء أن يطرحوا على مثله السلام، فما الذي جاء بهم؟

شاغلهم قليلا، بعدما توجه بأكثر من نصف وجهه الى داخل المنزل، ليخبر زوجته بضرورة تهيئة مكان لاستقبال استثنائي. ثم طلب منهم الدخول.

لم يكن ضيوفه مهتمين بالمكان الذي سيجلسون فيه، ولم يكن واجب الضيافة الذي سيقوم به (جاسر) هو ما يهمهم. كانوا مهتمين بمسألة واحدة، هي أن يأخذوا وعدا صادقا منه على التصويت لهم.

كان (جاسر) يتوقع أن يتعرض الى زجر من هؤلاء على رداءة تهوية غرفته، فكان يهم بالاعتذار في كل لحظة، وكان يتحرك قياما وقعودا ليجعل من جسمه المتحرك عاملا لتشتيت تركيز هؤلاء على تواضع أثاثه، أو أنهم سيلحظون الرقعة على أحد (الوسائد).

طلب منه محمود، أن يجلس ويتوقف عن حركته، ففعل، وهم محمود بالكلام عن هدف الزيارة، فقاطعه (جاسر) بالسؤال: شاي أم قهوة؟ فهب به الجميع: أنهم لا يريدون شيئا، وطلبوا منه الاستماع. فانصاع لطلبهم وتحدث محمود عن هدفه بالترشيح، وعرض على جاسر أن يسدد ما عليه من رسوم للبلدية ويصوب وضع دكانه.

كان بؤبؤ عين (جاسر) اليمين لا يستطيع التناغم مع البؤبؤ اليسار، فكانا يدوران بحركات غير إرادية، لا يعلمان أين سيستقران من هول المفاجأة، فهؤلاء جاءوا لينقذونه مما هو فيه من حرج أمام البلدية.

قبل أن يكمل محمود شرحه، كان رأس جاسر يتحرك بالموافقة، وشفتاه يتحركان دون أن يخرج منهما حرف، كان موافقا على اقتراح محمود، فهجم عليه وقال ( احنا زلمك : نحن رجالك).

ابن حوران 08-05-2009 02:21 PM

(4)

في الأيام الماطرة، نادرا ما يتوجه أحد لغسل سيارته في مغسلة أبو عارف، فلا فائدة من الغسيل، طالما أن الجو ينذر بمزيد من الأمطار، وحتى لو لم ينزل المطر، فإن ارتطام عجلات السيارات بالأحواض المنخفضة التي تتكون نتيجة رداءة تنفيذ الطرق، سينثر الماء الموحل ويوزعه على السيارات فيلوثها من جديد.

لكن غالب الذي يأمره عمه بفتح المغسلة في وقت مبكر، حتى في مثل تلك الأجواء، لم يتوان عن فتح المغسلة في ذلك اليوم البارد، ولم يستطع عمل الشاي لنفسه ليتغلب على برودة الجو، فعمه (أبو عارف) يعد أكياس الشاي الصغيرة التي يخصص كل كيس لكوب، وكل كوب يخصص لمن يغسل سيارته، فيحاسب ابن أخيه على الغسيل من خلال عدد ما نفذ من أكياس، فإن نقصت أعداد أكياس الشاي عشرة، فعلى غالب أن يناول عمه (صاحب المغسلة) عشرين دينارا.

لم تساوره نفسه قط، أن يعمل كوبا من الشاي، ويعوض عمه بدينارين عنه، ولم يكن يرغب أن يأتيه زبون أو أكثر ليعمل (إبريقا) من الشاي، يقدم لنفسه كوبا، من بين المجموع، فسهل عليه أن يضع ثلاثة أكياس ويقدم من خلالها أربعة أكواب من الشاي. لكن هؤلاء إن أتوا فإنه سيقوم بغسل سياراتهم أولا، وهذا ينذر بأن جسمه سيطوله بعض رشقات من الماء البارد.

(5)

اصطفت ثلاثة سيارات، بساحة المغسلة، وقام أكثرهم وجاهة بالسؤال عن صاحب المغسلة (أبو عارف)، فأجابه غالب بأنه لم يأت بعد، ولكنه قد يأتي في أي لحظة، وطلب من الجميع التفضل بالجلوس في المكتب، وكان لا يفتحه إلا لأبي عارف، ففتحه لهم، بعد أن علم أنهم جاءوا خصيصا لأبي عارف من أجل انتخابات غرفة التجارة.

كانت فرصة لغالب أن يشعل المدفئة الكهربائية التي يشعلها عمه لنفسه فقط، وفرصة أيضا ليصنع لهم إبريقا من الشاي، قد يحظى ببعضه، وقد أعد سيناريو يبرر ما عمله فيما لو سأله عمه عنه.

كان (سعد) من بين الوفد الانتخابي، وكان زميلا لغالب في المدرسة، وكان معروفا بتدني مستواه العلمي وحتى العقلي، حيث كان يستعين بغالب في كل واجباته المدرسية. لكن (سعد) أكمل دراسته الثانوية، في حين ترك (غالب) المدرسة عندما توفى أبوه، وطلب منه عمه أن يساعده في المغسلة.

كان الوفد الانتخابي، يحاول التسابق مع الفريق الآخر من المرشحين للوصول لكل أعضاء غرفة التجارة، ليأخذوا منهم وعدا بالمؤازرة، فكانوا لا يسألون عن الوقت ولا عن حسن الضيافة، بقدر ما كان يهمهم الحصول على وعد صادق بالتصويت، ولديهم معرفة بالطريقة التي يحسبون فيها من معهم حقا ومن ليس معهم، ومن يحتاج لمزيد من التأثير حتى يضمنوا صوته.


لم يكن غالب من المؤهلين للتصويت، فالمغسلة باسم عمه وعضوية غرفة التجارة لعمه. لكنه لم يكن يعرف الكثير عن غرفة التجارة ودورها، ولماذا يتسابق هؤلاء للفوز بها. فبالأمس كان وفد آخر قد زار عمه، وضحك عمه بوجوههم، فهل يا ترى سيضحك بوجوه هؤلاء؟

(6)

دخل أبو عارف بوجهه النحاسي الحليق، وصوت مبحوح مشوش بفعل (النرجيلة)، وملابس لا يمكن أن تجدها في المحلات الراقية، ولا في محلات الملابس المستعملة، فكان دائما يحضر ملابسه من ألمانيا، كما يقول، ولكن لو فتش أحد عنها في ألمانيا، فلن يجدها، كانت بلون لا هو بالأصفر ولا بالبني، ذات زغب خفيف، كانت على مر السنين تبدو متشابهة ولكنها ليست نفسها.

كان أبو عارف محترفا لطرق التعامل مع تلك الوفود والجماعات، فلم يقل لأحد بأنه ليس معه في الانتخابات، ولم يقل له أنه معه في نفس الوقت، لكن دائما ما تحسب الكتل المتصارعة على الانتخابات أن (أبا عارف) معها، كان كلاعب البوكر لا أحد يخمن ما بيده من أوراق.

أما هو، فكان ذا حضور (وجاهي) في كل المناسبات، فباستمرار تضعه الدوائر الحكومية من بين المدعوين للقاء بمسئول، ويدعى لكل الولائم، ولكل اجتماعات فض الخصومة بين أفراد وجماعات المجتمع المحلي. وأي نشاط انتخابي حتى لو كان لانتخاب هيئة لنبش قبور العباد ستجده حاضرا.

أما لماذا لم يكن قاسيا وواضحا وحادا في إجاباته، فيقول عن ذلك لبعض أصدقاءه المقربين، أنه لا يهمه من ينجح ومن يرسب في الانتخابات، أي كانت تلك الانتخابات، إن ما يهمه أن تبقى علاقاته طيبة مع كل الناس فهم بالنسبة له زبائن، يشترون من محلات السجاد والحلويات والمغسلة وقطع غيار السيارات، وهو متواجد في كل الساحات ليذكر الناس بأنه يراهم ويحب أن يراهم كثيرا!

رحب أبو عارف بالحضور، وسأل ابن أخيه: هل قمت بالواجب؟ فانشرحت أسارير غالب، حيث لم يعد مضطرا لخلق تبريرات ما فعل، وبعد أن تكلم الجميع، وأبو عارف يمثل دور المفتون بما يسمع، خاطبهم لماذا تضيعون وقتكم عند (ربعكم) توكلوا على الله وابحثوا عن عوامل نجاحكم في أمكنة أخرى!

ابن حوران 20-05-2009 01:05 PM

(7)

كان (دعاس) ابن الخامسة والخمسين عاما، متقاعدا من (الدفاع المدني) وقد افتتح محلا لتصوير الوثائق وبيع (إكسسوارات) التطريز، ويضع أمام محله منصبا يثبت عليه الجرائد اليومية، وأحيانا يلبي طلبات من يبحث عن أوراق جرائد قديمة، حتى لو كانت كميتها بالأطنان.

كان عندما يقبل، يبدو بمشيته كمن يتهيأ لركل (ضربة جزاء)، رغم ظهور كرشه بشكل بسيط من بين سترته التي لا تطبق تماما على وسطه، وربما يكون لقدمها وعدم كيها، فكانت بلونها الذي هو بين الأخضر القاتم والبني القاتم، تعطيه طابعا خاصا به.

لم ينشغل كثيرا بالتجارة، وتلبية طلبات الزبائن القلائل يقوم بها شابٌ رقيق الجسم بشرته فاتحة، كأنه لم يعرضها لأشعة الشمس إلا دقائق قليلة. كان هذا الوضع يتيح لدعاس أن يشارك جيرانه من أصحاب المحلات في حفلات شرب الشاي الطارئة، أو حفلات (اغتياب) الآخرين من قبل أمثاله الذين يمارسون البيع بفترات متباعدة تسمح لهم بإكمال ما بدءوا الحديث به دون مقاطعة زبون فجائي.

كان لدعاس مجموعة من الأقارب الذين يمتهنون تجارة الأدوات المنزلية والسجاد الصناعي والستائر، وكان لمن يريد أن يشكل كتلة لانتخابات غرفة التجارة أن يختار أحد هؤلاء التجار ليضمن أصواتهم.

(8)

عندما فاتح (محمود) (دعاس) بأمر انضمامه للكتلة، لم يجبه بشكل فوري، لا نفيا ولا قبولا، فقد خشي إن سمع أقاربه بانضمامه للكتلة دون استشارتهم أن يخذلوه، ولا يعلنون مؤازرتهم له. كما أراد أن يستمع لمحمود أكثر من أن يناقشه، فهو لا يملك سيارة خاصة، ولا يستطيع إقامة الولائم، ولا يستطيع أن يسهم ماديا بحملة الانتخابات.

أراد محمود أن يريح دعاس مما يفكر فيه، فالوقت لا يسمح كثيرا في الانتظار، وقد يأتي (مسعود) رئيس الكتلة الأخرى لمفاتحة دعاس أو أقاربه. فطمأنه أنه لن يترتب على انضمامه للكتلة أي عبء مالي، وفيما يخص موافقة أقاربه، دعاه محمود للقيام بالتوجه فورا الى أكثر أقارب دعاس من التجار تأثيرا، ومفاتحتهم بالاشتراك بالكتلة، كلا على حده.

نظر دعاس بربع ابتسامة الى محمود، إعجابا بقدرته على قراءة ما كان بنفسه، ووافقه على التحرك الى أقاربه الذين تم انتقاء أسماءهم من قبل محمود أولا. وفعلا كان مجرد حضور دعاس مع محمود يجعل من يُفاتح أن يزكي (دعاس) لتلك المهمة.

وهكذا أصبح دعاس أحد أعضاء كتلة محمود وأصبح يتجول مع محمود في سيارته الخاصة، ويشاركه معظم جولاته.

(9)

في الجانب الآخر، استطاع (مسعود) بخبراته التي لا تقل عن خبرات محمود بتشكيل كتلته المشكلة من ثمانية مرشحين، وقد كان منهم ثلاثة على صلة قربى من ثلاثة مرشحين في كتلة محمود.

كان (مسعود) قد فاتح أحد المرشحين من كتلته ليكون نائبا له بحالة فوز كتلتهم، وكان هذا المرشح يسمى (خلف)، في حين كان أكثر من مرشح يطمح لأن يكون نائبا لمسعود بحالة النجاح.

لم يكن لكتلة مسعود، أي برنامج انتخابي، وهذا الحال ينسحب على كتلة محمود، فأعضاء الكتلتين ينشغلون في حشد الأنصار والمؤيدين وتعبئتهم من أجل النجاح فقط، ولا يشغلهم كما لا يشغل جمهور الناخبين أي برنامج انتخابي.

(10)

انتهى التصويت والفرز، ونجح محمود مع ثلاثة من كتلته من بينهم (دعاس)، كما نجح مسعود مع ثلاثة من كتلته من بينهم (خلف).

أعطى الحاكم الإداري للناجحين فرصة أسبوعين ليختاروا من بينهم واحدا ليكون رئيسا للغرفة التجارية، كما عليهم أن يختاروا واحدا آخرا ليكون نائبا للرئيس.

كان على كل من محمود ومسعود، محاولة سرقة أحد الناجحين من الكتلة المنافسة ليكسبوه لصفهم من أجل اكتمال النصاب (نصف + 1) حسب اللوائح الداخلية المحددة لأصول تلك الانتخابات.

كان المشهد الليلي، بعد الساعة الواحدة من بعد منتصف الليل أن تملأ سماء بيت محمود المفرقعات الاحتفالية، ويشاع في الصباح أن الاختيار وقع على محمود، وفي طريقهم الى مقر الحاكم الإداري، ينسحب أحد الخمسة الذين صوتوا لصالح محمود، فيعود الجميع أدراجهم الى بيوتهم لتتكرر الجولة.

وبعد منتصف الليل، تملأ المفرقعات سماء بيت مسعود ليعلن صباح اليوم التالي، عن أن الاختيار وقع على مسعود، وفي طريقهم الى مقر الحاكم الإداري ينسحب أحد الأعضاء لتعاد المحاولات مرة أخرى.

كان كل عضو من الناجحين الثمانية يرفع شعارا (لأجل أمواتك سأحرم أمواتي الصدقة)، فقد سال لعاب كل واحد من الثمانية ليكون رئيسا لغرفة التجارة، أو على الأقل نائبا للرئيس.

في اليوم الرابع عشر توجه الثمانية الى مقر الحاكم الإداري، وجرى التصويت سريا عند الحاكم الإداري، فكان الرئيس (دعاس) ونائبه (خلف)!

انتهت انتخابات غرفة التجارة

ابن حوران 12-06-2009 10:00 AM

صدقوني .. أنا لست مُزَوِرَاً

لم يكمل دراسته الإعدادية بنجاح، ولم يعرف الكثير من الناس كيف احترف التجارة، وكيف أصبح من كبار رجال الأعمال، لم يكن وسيما بما فيه الكفاية، ولم يكن في يومٍ من الأيام رجل فكر، ولم يدعِ هو ذلك، بل كان يتندر برجال الفكر والسياسة، وكان المثقفون لا يحبوا ذكر اسمه.

اتسعت دائرة معارفه، بعدما أصبح بصدفة غير تامة رئيسا للبلدية، فكان يدخل بيوت الوزراء وكبار رجال الدولة بيسر وأريحية، كما كان بيته يستقبل من هؤلاء الرجال كل أسبوع، ما يدلل على نجاحاته الشخصية ليكون شخصية كاريزمية حاضرة.

(1)

عندما رشح نفسه لانتخابات البرلمان، وكان من منافسيه وزيران متقاعدان، والعديد من الضباط الكبار المتقاعدين، لم يضعه أي مراقب من مراقبي الانتخابات ليكون أحد القريبين من النجاح، ولكن بعد أن ظهرت النتائج كان يتصد قائمة الناجحين الثلاثة في دائرته، وكان بينه وبين من يليه من الناجحيَن الآخرين حوالي أربعة آلاف صوتا.

حار الجميع بنجاحه، فكيف يكون أصلا من المرشحين لعشيرته وبينهم من الوزراء والمدراء العامين وحملة شهادة الدكتوراه ما يجعل ترشيحه (عشائريا) من الصعوبة بمكان؟

تطوع أكثر من فرد (مندهش) بوضع افتراضات جعلت هذا النموذج ينجح، فمنهم من قال إنه ذكي يعرف كيف يجمع الأصوات، فما أن يتوفى أحد المواطنين حتى يبادر بإرسال طعام يكفي لثلاثمائة شخص، ودون أن يشاور أهل الميت. وعندما يصل الطعام، يصل هو بعده بعدة دقائق مبدي أسفه على عدم القدرة على حضور مراسم الدفن، في حين لا يستمع لمن يعترض على الطعام من أقارب الميت، ويذكر موقفا من مواقف (المرحوم) يشتت فيه تركيز المندهشين من أقارب المتوفى، ثم يعتذر لسبب طارئ ولا يشاركهم الطعام.

وآخر يقول: إنه يذهب لألمانيا أو السوق الحرة، ويحضر بعض سيارات (فان) التي تصلح لنقل الموتى ويعمل على دهانها و كتابة ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية)، ويتصل بأحد معارفه في دائرة الجمارك، ثم يتبرع بتلك السيارات للقرى التابعة للدائرة الانتخابية.

وآخر يقول: إنه يبادر قبل الانتخابات بسنة لفرش مساجد القرى التي ليس بها من المرشحين لانتخابات البرلمان ليصنع هالة من محبيه ومرددي اسمه وليكونوا معاونين له.

(2)

عندما فاز بانتخابات البرلمان للمرة الثانية، تطورت النظريات التي تفسر نجاحه، فهناك من افترض أنه يشتري الأصوات من الناخبين، حيث يقوم أعوانه بقطع ورقة النقد الى قطعتين، يعطون الناخب نصفها ويسلمونه النصف الآخر بعدما يتأكدون بطرقهم أنه صوت لمرشحهم.

ثم افترض أحدهم أنه شخص (خدوم) يركض مع صاحب الحاجة حتى يحصل على حاجته، ويضربون أمثلة، قسم منها جرى داخل البلاد وقسم منها جرى خارجها.

وقد وضع أحدهم فرضيات أنه رجل كاذب يستعين بمجموعة من موظفيه للاتصال به وإيهام من يستمع للمكالمة أنه يتكلم مع مدير الأمن العام أو الوزير الفلاني أو السفير الفلاني.

(3)

وعندما نجح بالمرة الثالثة، طور المحللون فرضياتهم، فقالوا إنه التزوير والغش بالانتخابات، وقد كان النظام الانتخابي في تلك الدورة، يقضي بعمل بروز في البطاقة الشخصية (البلاستيكية)، فقالوا أنه أحضر سلفا من لبنان جهازا (يكوي) البروز، الذي أحدثه الخاتم الرسمي للجنة الانتخابية.

ويذكرون بعض الأسماء التي صوتت أربعين مرة، وتذهب عملية الحساب أنه لو (كوى) 500 بطاقة عشرة مرات لحصل على خمسة آلاف صوتا.

ويذكر أحدهم أنه شاهد (حافلات) تنقل من مناطق بعيدة ناخبين (لا تعنيهم عملية الانتخاب) تم تسجيلهم سلفا في دائرته الانتخابية مقابل مبلغا من المال لكل ناخب.
وعندما يشكك أحدهم بالكيفية التي يضمن أن الناخب سيصوت له، وضع صاحب الفرضية عملية معقدة جدا، فيقول:

يُعطى الناخب الأول في الصندوق، ورقة بيضاء (غير صادرة عن إدارة الانتخابات) ويذهب ليسجل اسمه لدى اللجنة، فتناوله اللجنة ورقة انتخاب (رسمية)، فيضع في صندوق الاقتراع الورقة البيضاء، ويحضر الورقة الرسمية لمن يقف عند الباب، فيكتب اسم المرشح عليها ويذهب ويضعها في الصندوق ويحضر ورقة رسمية جديدة ليكتب الاسم من جديد.

شهق أحدهم تعجبا، وقال: آه لقد لاحظت وأنا في لجنة الفرز أن هناك ورقة بيضاء ليست رسمية! ثم أيده آخران، وكان يبدو عليهما عدم الصدق.

(4)

في إحدى الجلسات معه، حلف أغلظ الأيمان أنه لم يقم بالتزوير، وسخر ممن ينظر الى الانتخابات على أنها قضية وطنية سامية!

وقال ماذا يريد المثقفون مني؟ هل يريدوا أن أحرر فلسطين؟ إن الدول العربية بجامعتها وجيوشها لم تستطع أن تفعل ذلك، وكذلك الحرب على العراق، هؤلاء مجانين يظنون أن مجلس النواب بيده شيء!


ثم يردف ويقول: كم هي نسبة الاقتراع في بلدنا أو بلدان العالم؟ هل هي 50% أم 70%، أنا أتحرك على النسبة التي تقاطع التصويت، فإن أقنعتهم أن يقترعوا بأي طريقة هل أنا أقوم بالتزوير؟؟؟

ابن حوران 29-06-2009 06:54 PM

السرخس والصنوبر

السرخس، نبات لا جذور عميقة له، يعيش متطفلاً على من يجاوره من النباتات الدائمة كالأشجار الباسقة ذات الجذور المتعمقة، مثل الصنوبريات، وخضرة السرخس تتفوق على خضرة الصنوبر، فلذلك احتل هذا النبات مكانة متقدمة في تزيين الصالونات.

بعكس الصنوبر، الذي يُعرف ببطء نموه، وتأثره بسنين الجفاف، وتجاوز جامعي الحطب الذين يتسللون الى غابات الصنوبر ليأخذوا خشبه يدسونه في مواقد صالونات الأغنياء.

صحيح، أن أشجار الصنوبر هي التي تظهر في صور الأقمار الصناعية، وصحيح أن أشجار الصنوبر هي التي تقوم بجلب الأمطار التي تحمل الخير للبلاد، لكنه لا يمكن مشاهدة شجرة صنوبر في صالون.

عندما نشر (جورج قرم) كتابه (الفوضى الاقتصادية العالمية الجديدة) بنسخته العربية عام 1994، لم يقف المثقفون العرب عند ذلك الكتاب وقفة تناسب ما جاء فيه من قراءة جديرة بالاهتمام، فقد أشار بكتابه كيف أن الفساد والتوجه للربحية على حساب الأخلاق وحساب النظام الاقتصادي المستقر، قد أتى بقيادات رأسية على مستوى العالم ومستوى البلدان ومستوى الإدارات الفرعية، حتى آلت الأوضاع الى ما أصبحت عليه الآن.

(1)

أوقف سمعان سيارته الأنيقة (موديل 2009 bmw)، ونزل منها يمسك بنطاله من طرفي الخصرين، ويتلفت ببطء نحو جهة اليمين، فلمحه أحد عمال الشركة، فعرف بعضهما ولكن سمعان لم يطرح السلام على العامل.

وقف مدير الشركة مُرَحِبا بسمعان، في حين تجمع خمسةٌ من العمال ليتمعنوا في السيارة الفخمة الواقفة في الخارج، وهم يتمتمون بكلام به من الغرابة عن الكيفية التي وصل بها سمعان الى تلك المرحلة من الفخفخة، فقال أحدهم: إنه من الذين تعاونوا مع الأمريكان لنقل مخلفات الجيش العراقي وبيعها الى الهند، كمواد أولية لتصنيع الصلب.

تمتم آخرٌ، يعدد أمثال سمعان الذين اغتنوا من على هامش البؤس الذي حل بالشعب العراقي، ولم ينس أحدهم ذِكْر اثنين قد قُتلا وهم على الطريق، وكيف أن الناس لم يذهبوا للمشاركة في تشييع جنازتيهما.

ضحك أحدهم ضحكة مقتصدة، متذكرا كيف أن سمعان ابن صفه وزميله في الدراسة الذي كان لا ينافسه أحدٌ من التلاميذ على احتلال المرتبة الأخيرة في الفصل، كيف أنه استفاد من كل قوانين وزارة التربية والتعليم حتى وصل الى الصف الثاني المتوسط.

نهرهم أحد المسئولين الفرعيين في العودة الى عملهم، والابتعاد عن الجمهرة قرب السيارة.. فهمس أحدهم: ماذا يريد سمعان من زيارة مديرنا؟

(2)

ـ كيف تريد أن تكون قهوتك؟
ـ أشكركم، أعرف أنني أثقل عليكم بتلك الزيارة، وقد اتصلت مسبقا لأعرف إن كان بالإمكان استغلال بعض الدقائق من وقتكم الثمين.

ـ تفضل كلي أذان صاغية.
ـ باختصار أريد رأيكم في مسألة رغبتي في ترشيح نفسي لرئاسة النادي الممتاز، وأعرف مدى تأثيركم في أوساط الناخبين الأعضاء، كونكم أحد المؤسسين وعضو مجلس الإدارة لثمان سنوات.

ـ لماذا ترغب أن تكون مرشحا للرئاسة؟
ـ لقد راقبت وضع النادي وتهور إدارته الحالية والتي ابتعدتم أنتم عنها، وكيفية تبذير الأموال على شراء لاعبين ليسوا بالمستوى الذي يحسن من ترتيب النادي بين الأندية الممتازة.

ـ بعد أن ضحك ضحكة سخرية واضحة، قال له: أنك لم تكن يوما من الأيام من المهتمين لا بهذا النادي ولا بالرياضة بشكل عام، فاصدقني القول، واترك تلك المقدمات، وقل رغبتك بالضبط، حتى أعطيك رأيي بالضبط.
ـ يعجبني ذكاؤك وطريقتك المباشرة في مناقشة الأمور.

ـ سأقول لك بكل صراحة عن الدوافع التي جعلتك تفكر في ذلك.. وإن كنت مخطئا أرجو أن تصحح لي ما فكرت فيه.
ـ تفضل..

ـ لقد جمعت أموالك، وبنيت قصرك، وأسست لنفسك شركة تديم عليك السيولة.. وراقبت من حولك، فرأيت رئيس البلدية، ورئيس غرفة التجارة، وعضو البرلمان هم من الأصناف التي تنتمي إليها، فبحثت عن إطار يقدمك للمجتمع على أنك رجلٌ مهم، فاعتقدت أن النادي سيكون ذلك الإطار.
ـ يا سلام، تمام والله! أليس الرئيس الحالي للنادي هو من نفس الفئة التي تتكلم عنها، لماذا نترك له المجال ليجعل النادي قاعدة له؟

ـ أنظر، أنا مع عدم جعل تلك الفئة أن تحس أنها في أمان، وأفضل طريقة لمقاومتها، هي تسليط أشخاص من نفس الصنف عليها، ولا تستبعد أنه في الدورة القادمة ـ إن فزت ـ سنبحث من نسلطه عليك، حتى تتغير الأمور ولن يعود أمثالكم الى الطفو على السطح.
ـ أنا موافق، لكن ادعموني في هذه الدورة وسأكون رهن إشارتكم مستقبلا.



ابن حوران 16-07-2009 01:55 PM

السيقان المعوجة

في القديم غير البعيد، كانت النساء يربطن ساقي المولود بلفافة قوية من الأقمشة حتى يبقيا مستقيمين، وقد انسحبت تلك المعرفة على ربط مفاصل صغار الخيل والحمير، حتى تبقى قوائمها مستقيمة وغير معوجة. كما أنه يلاحظ أن تلك التقنية تنتشر عند مزارعي البساتين، فمن المألوف أن يلاحظ من يمر بجانب بستان حديث الزراعة، أن المزارعين قد ربطوا شتلات الأشجار بعصا تستند إليها الشتلة حتى تبقى مستقيمة.

النساء في الوقت الحاضر، عهدن بتهيئة الطفل المولود الى ممرضات المستشفيات العامة والخاصة، وفي كلتا الحالتين لا تهتم الممرضات بتقنيات ربط سيقان المواليد.

ليس هذا بمهم في موضوعنا، لكن المهم هو التأسيس التربوي للنشء الجديد على تحديد شكل أعداءه وهوياتهم، وكيفية الاستعداد لمواجهتهم.

في الماضي القريب، كان صمت الوالدين الذي يعززه الجهل بمعرفة الأمور، أكثر نفعا من ثرثرة الوالدين الذين يزعمون المعرفة. فصمت السابقين يبقي حالة التعايش بين الجيران والمواطنين في حالة أكثر سلما من تلك التي نعيشها في أيامنا. كان الآخر (العدو) عند قليلي المعرفة أكثر خطرا من الآخر (المُنتخب) عند من يزعمون المعرفة.

وتعتبر تجربة انتخابات اتحادات الطلبة في الجامعات العربية مثالا قويا على ما انحدرت إليه معالم التربية الوطنية. فبينما كان الطلاب في الستينات والسبعينات من القرن الماضي يمضون عشرات الساعات في مناقشة شعار المؤتمر السنوي لاتحادهم، حيث كان الشعار المكون من كلمات قليلة يلخص نظرة ذلك النشء عن الديمقراطية والسياسة والوضع الاجتماعي، أصبحت مناسبات الانتخابات الطلابية اليوم مثارا للسخرية.

(1)

جاء الطلبة يجوبون الشوارع المحيطة بالجامعة بسياراتهم التي أطلوا رؤوسهم من نوافذها، يهتفون: (عليهم .. عليهم .. عليهم)، وكانوا يلبسون ألبسة تدلل على هويتهم الضيقة. وبعد قليل تبعتهم سيارات فريق آخر يلبسون ملابس مختلفة ويركبون سيارات مشابهة ويهتفون هتافات مشابهة (عليهم .. عليهم .. عليهم).

تساءل وهو يرى تلك التظاهرات الصبيانية: (عليهم؟ على من؟) ماذا حل بهؤلاء الطلبة؟ هل انحدر المستوى الفكري والسياسي في الجامعات ليصل الى هذا المستوى؟ ألا يدرك هؤلاء أن أمثالهم (قبل عقود) كانوا قد غيروا من سياسات دول وألغوا معاهدات؟ كحلف بغداد مثلا؟

عاد وتأمل الظاهرة بينه وبين نفسه بهدوء أكثر، كان الآخر في الماضي أكثر وضوحا من الآخر في أيامنا الحاضرة، فكان الوطنيون (القوميون، أو الماركسيون، أو الإسلاميون) يصطفون ضد آخر واحد، رغم محدودية المعلومات عن ذلك الآخر، أما اليوم، وبالرغم من سعة المعلومات عن الآخر، فإن الهمم قد تراخت في الاصطفاف للإيقاع به، وربما يكون لبعده عن مدى (الرؤية) أو لاختفائه وراء (سواتر) تحول دون (التنشين : أي التصويب) عليه، فاخترع هؤلاء الطلبة من بينهم آخرا أكثر قربا وأكثر وضوحا وأسهل نتيجة!

(2)

كان أحدهم يضع (عصبة) على رأسه ملونة بلون أخضر، ومكتوب عليها شعارا يبشر بسعادة الأمة إذا ما اتبعوه! فعندما سُئل: من هو آخرُك الذي تستنفر أنت و(ربعك) ضده؟ أجاب: إنهم أولئك الذين لا يقرون بنهجنا!

وعندما سُئل آخرٌ كان يضع (يشماغا) بلون معين على رأسه: من هو الآخر الذي تسعى لإسقاطه؟ أجاب: إنهم أبناء الإقليم (الفلاني) الذين يريدون الاستحواذ على مراكز قيادتنا.

وعندما سُئل آخرٌ، انتهى لتوه من تقديم وجبات الغداء وتوزيع الحلوى، وقد عمل منها الكثير خلال أسابيع لحشد الأنصار حوله، أجاب: المهم أن ينجح أبناء مدينتي ولا أهتم بماذا يفكر هذا أو ذاك!

عكف راجعا، يلوم نفسه وأبناء جيله، يقول لنفسه: نحن من زرعنا التيه في نفوس هذا الجيل ونحن من جعلناه يبحث عن آخرٍ أكثر وضوحا من الآخر الذي لم نستطع إيضاح شكله لأبنائنا.

ثم قال: لم ننسَ أن نربط سيقانهم، ومع ذلك ظهر الاعوجاج على تلك السيقان. صمت قليلا وأضاف: ربما ربطناها وهي معوجة فتصلبت مفاصلها وبقيت معوجة.



Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.