حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   صالون الخيمة الثقافي (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=9)
-   -   أعمال أدبية تصف لحظة الكتابة (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=84802)

المشرقي الإسلامي 07-01-2011 10:53 AM

أعمال أدبية تصف لحظة الكتابة
 
بسم الله الرحمن الرحيم
لحظة كتابة العمل الأدبي هي لحظة استثنائية في ذاكرة أي مبدع ويسميها البعض لحظة الإضاءة أو التنوير ، خاصة الذين يُكتب لأعمالهم الأدبية الخلود ، وهذه اللحظة تحمل من معاني الإثارة والتشويق والترقب والقلق والجهد الجهيد ما يجعلها لحظة جديرة بأن توصف شعرًا آو نثرًا ، وعلى أي شاكلة كانت ، فهي لحظة عندما يظهر من يتحدث عنها فإنه بذلك يؤرخ لعبقرية -كاللحظة- استثنائية لأنها تصف حالة عميقة الغور شديدة الابتعاد والتلوي والتمنع على الفرد العادي ، فإذا بالمبدع يسبر أغوارها ويكشف أسرارها ويهتك أستارها ويخرج خباياها وكأنه يقول لها اخرجي إلى الوجود فما لك في السر وجود .إنها نفائس يستخرجها المبدع لتعرف من خلالها كيف ترتج مملكة النفس وتمور وتفور وتتلوى يمينًا ويسارًا من أجل نفائس الحروف وبدائع المعاني ، بينما الفاعل (تفاصيل اللحظة)مجهول ، فإذا به ها هنا يُكشف حتى لا يستأثر بأسراره على الناس .
ها هنا مجموعةمن القصائد التي تبوح بهذه الأسرار أسرار عالم النفس يليها مقال يشرح بعض خصائص اللحظة الاستثنائية لحظة الكتابة أو التنوير ، تفضلوا واستمتعوا ولا تحرمونا عبق تعليقاتكم ..



المشرقي الإسلامي 07-01-2011 10:58 AM

1- مقطوعة من قصيدة الناي والريح في صومعة كمبريدج للشاعر الراحل خليل حاوي

إليك الآن جزءًا من كتاب (عن بناء القصيدة العربية الحديثة) للراحل د.علي عشري زايد رحمه الله فيه جزء شائق للغاية ومقطع من قصيدة (الناي والريح في صومعة كمبريدج):


"وقد صور واحد من أنبغ شعرائنا العرب المعاصرين وهو الدكتور خليل الحاوي بطريقته الشعرية المتفردة تلك المعاناة الباهظة التي يعانيها الشاعر في سبيل اقتناص العبارة الشعرية الحقيقية ، وكيف يصارع الأهوال ،ويجتاز الخاطر من أجل تلك العبارة المتمنعة المدللة ، بكل ما تملكه من قدر ة خارقة على تغيير الوجود ،وإعادة صياغته.
يقول الدكتور حاوي في مقطع "الريح" من قصيدته الطويلة "الناي والريح في صومعة كيمبريدج" :

(4)
نهضت تلم غرور نهديها وتنفض عن جدائلها حكايات الرمال
تحدو ، تدور كما أشير بإصبعي
ولربما اصطادت بروقًا في دهاليزي تمر وما أعي
وبدون أن أملي الحروف وأدعي
تحدو، تدور،،تزوغ زوبعة طروب
وأرى الرياح تسيح ،تنبع من يديها منبع الريح المعطرت الجنوب
ومنابع الريح الطريقة والغضوب
للريح موسمها الغضوب
***
وحدي مع البدوية السمراء ،كنت مع العبارة
في الرمل كنت أخوض عتمته وناره
شرب المرارات الثقال بلا مرارة

فالشاعر في هذا المقطع الرائع من مقاطع القصيدة يجسد ذلك العناء المبدع الذي يتحمله الشاعر العظيم في سبيل اقتناص العبارة الشعرية ،هذه المتمنعة المدللة التي :"تعصي وليس يروضها غير الذي يتقمص الجمل الصبور".. ولكن الصبر والعناء وحدهما غير كافيين،بل لابد أن تسبقهما تلك الخبرة الشعرية الشفيفة النقية التي تماثل في نقائها وشفافيتها سريرة الأطفال لابد ان يكون الشعر "بقلبه طفل يكور جنة" وإذن فإن الشاعر العظيم الذي يستطيع أن يروض تلك العبارة الشموس هو ذلك "الذي يقتات من ثمر عجيب .نصف من الجنات يسقط في السلال ،يأتي بلا تعب حلال ،نصف من العرق الصبيب"،وليس هذا النصف الذي يسقط من الجنات في السلال حلالاً بدون تعب سوى تلك الومضة ــــــــــالمتوهجة التي ينعم بها الله على وجدان الشاعر ،فيستطيع على ضوئها أن يرى الوجود رؤية جديدة ،ثم القدرة على الهيام بتلك الومضة والإخلاص في معاناتها واحتضانها حتى تؤتي ثمارها الشهية.
أما النصف الثاني "
العرق الصبيب" فهو ذلك الجهد المبذول في معاناة الرؤية الشعرية وتجسيدها ،ولقد تفنن الشاعر أيما تفنن في تصوير هذا الجهد ..فهو يخوض إلى العبارة الشعرية "واحات العجين البكر"بكل ما توحي به من القدرة على التشكيل البكر والصياغة المتفردة و "أودية الهجير " و"زوابع الرمل المرير" و"الشوك ينبت في شقوق أظافره" و"الشوك في شفتيه يمرج
باللهيب
".. وهو"في الرمل ..يخوض عتمته وناره " و"يشرب المرارات الثقال دون أن يشعر بالمرارة".. فأية دروب مضنية تلك التي يجتازها إلى العبارة الشاعرة؟!
لقد تفنن الشاعر في تصوير تلك العبارة المتمنعة الشموس بمقدار ما تفنن في تصوير مدى المعاناة المبذولة في سبيل الظهر بها ؛فهو يجسد هذه العبارة في صورة "
بدوية سمراء " بكل ما تحمله هذه الصورة من بكارة الفطرة وحيويتها وتفجرها الهادر ، وهي شموس نافرة عصية لا يتسطيع ترويضها غير الصبور الشديد الصبر، وهي في العنفوان"ثم تلم غرور نهديها وتنفض عن جدائلها حكايات الرمال " وهي أخيرًا تملك قدرات خارقة ،فإذا ما سيطر عليها الشاعر استطاع أن يغير بها الوجود ، فيجعلها "تحدو .. تدور كما يشيبر بإصبعه" ويجعل "الريح تنبع من يديها "..إلخ.
***
هذا هو ما أورده الدكتور علي زايد عشري نقلاً عن خليل حاوي الشاعر اللبناني الراحل ،و أضيف عليهما بعض
ما أنعم الله عليّ به من رؤية في هذا المضمار .
وإذا كان الشاعر يتكلم عن حالة التوقد لكتابة عمل شعري ، فلا يختلف الأمر عنه في أي فن آخر فالحالة واحدة ولكن المدخلات وخصائصها فقط هي التي تتغير ، بغض النظر عن نوع العلم أو الفن .


طبتم ، والآن إلى العمل التالي ..

المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:04 AM


2-قصيدة عكازها وجع المسافة يقطع للشاعر الجميل أحمد مانع الركابي (من الخيمة)


يجتاح أوردتي الحديثُ فأمنعُ

تيارهُ يومٌ بأمسهِ يخدعُ

في زورق التذكار وحيُ قصيدةٍ

للآن( يجرحها/ يجرفها) الغيابُفتدمعُ

ما أنفكّ يفترش الزمان نهاية ً
في بدئها يومٌ لعامٍ يبلعُ

مأساتهُ ما سارَ يرسمها لهم
وهماً ولون شروقها لايقنعُ

صدء القرون على يديه منائراً
شماء تغسلها السنون فتلمعُ

قد ايقض الأسباب في الاصلاب حيــــ
ن تعطّلت ينتابها ما يهلعُ

ترك الجهات منقادةً لبزوغهِ
كالشمس أين يسيرُ شرقٌ يطلعُ

خلواتهُ تسبيح قبّرة الذرى
والفجر في حضن السواد مبرقعُ

ألقيتها والحرف سنبلة ً فما
من حبّةٍ إلا وسبعاً تينعُ

في قطفها الأبصار للأفكار نا
فذةً برغم عمايةٍ قد تمنعُ

فاتبع ضياء الأين يبحث وجهها
بملامح الطرقات حين تُضيّعُ

تمشي إلى مدن الحروفِ فريدةً
عكازها وجعُ المسافةِ يقطعُ

ألفٌ من الاسماء يحملُ جسرها
ومسيرها عامٌ بخمس ٍ يجمعُ

من جاء يقصدها يؤول قربه
بعدًا فيطلبها وقلبه ُ يوجعُ

هي أوّل الشطآن حرف هجائها
مرفا بساحلهِ اللغاتُ تولّعُ

يتفجرُ الإحساس خلف مسيرها
فمع المسافة ِ والزمانِ يوسّعُ

ألفاً من الأبواب يفتحُ بابُها
ولهُ صفاءُ حكايةٍ لم تسمعُ

زرع الحقيقة َ في الدليل فما نمى
شكٌّ وسار إلى اليقينِ يلعلعُ

حرفي زهورٌ والربيعُ روايتي
في كلّ بيتٍ حكمةٌ تتفرّعُ

لبست قميص الماء حين تقحّمت
لهب القصيدِ فأثمرت ما ينفعُ

هي نفثةٌ هي زورقٌ شطآنه
الأفق البعيد وأنجمٌ تتشعشعُ

حرفي دليل الضوء بوصلة النهى
أنى أدور يدور خلفي يتبعُ

ذوبت عمري كي أصوغَ بنارهِ

ظلاً يريحُ مصافحًا يتطلّعُ



المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:05 AM

للنفس أغوار لا يستطيع الإنسان سبرها ، وهذه الأغوار كلما حاول الواحد ترويضها بعصا الحرف ازدادت استعصاء ، ومن هنا تكمن إحدى مشكلات هذه النفس في استخدام اللغة التي تصف تداخلات الأفكار وسيرورتها إليها ، كما أنها -من ناحية أخرى- قد توحي للقارئ بأن الشاعر قصد الحديث عن عالم آخر غير عالم النفس .
هذه النفس هي ذلك الكائن الغريب الذي يجمع بين كل من مراوغة الحية وتخفي الحرباء ، لا يقتنصه إلا صقر يحسن استغلال علو المسافة التي يقبع منها وسرعة ولوجه حتى يكون فمه هو الجحر الآخر الذي تأوي إليه تلك الحية أو الحرباء مرغمة .
وهذا ما نجده متحققًا في هذه القصيدة والتي هي من القصائد النادرة التي يذكر فيها الشاعر لذة هذه المقاومة لكتابة قصيدته وما ينتابه من ألم ولذة في ذات الوقت ، وهذه الفكرة ليست بالمبتدعة فقد كان للشاعر خليل الحاوي قصيدة في هذا الفلك عن مدى معاناة الكاتب في إبداع قصيدته وكانت تحفة أدبية مكللة بطرفة غير تقليدية تخرج بالقارئ إلى حالة من الإدهاش لهذا التمكن غير الاعتيادي على سبر أغوار عالمه الخاص .
وهذه القصيدة أحسبها سائرة في ذات الفلك ، كما أنني لا أستبعد أن تكون متناولة قضية أخرى غيرها لتكون القصيدة بذلك في حالة إشعاع وامتداد دلالي لأكثر من واقع ، وتكون ثمة نقطة تلتقي فيها هذه الأبيات ومراميها.

يجتاح اوردتي الحديثُ فأمنعُ


تيارهُ يومٌ بأمسهِ يخدعُ


هنا نجد البداية متوترة من خلال الاجتياج الذي يصل إلى الأوردة ،وإذ تكون أوردة الإنسان في الحياة هي نبع الدماء ،فتكون الأوردة في عالم الشاعر هنا هي المخ وما فيه من أفكار ورؤى ، ويأتي الفعل أمنع لتعبر عن هذه الرغبة في (السيطرة) على عالم القصيدة ومنعها من الولوج إلى عالم الواقع ،وهذه حالة تنتاب الكثيرمن الشعراء حين تكون في رؤوسهم ما يشبه خيالات وأصداء لكنها لم تهتد بعد إلى مكانها الحقيقي على الورقة. وهذا هو فعل الخداع الذي لا يدري القارئ أثمة ما يجد ليكتبه فعلاً أم هو أز وشبيه وسوسة حتى إذا جاء ليكتب لم يجد شيئًا ؟!
في زورق التذكار وحيُ قصيدةٍ
للآن( يجرحها/ يجرفها) الغيابُ فتدمعُ

وهذا البحر عالم النفس تسير فيه قصيدة هي ذلك الزورق الذي كان آتيًا من ماضٍ
لم يكن يظن أنه سيأتي منه ،كأنها عملية البعث لأفكار ميتة ،ثم هي تلج إلى عالم الواقع
وكان التعبير يجرفها الغياب كان من التعبيرات الرائعة في وصوله إلى هذا العالم الخفي
وتشبيهه –وهو الغائب- بالبحر وهو واقع مرئي ملموس،وهذا التناقض المسمى إلغاء الروابط
وإعطاء الأشياء عكس دلالتها يزيد القصيدة رونقًا ويفتح مصارع الدهشة للداخلين ،وهذه الحالة من الصراع ما تزال مستمرة إذ يكون الغياب معلنًا سطوته عليها بينما في محاولاتها الولوج إلى عالم الحياة تجد هذه الممانعة فتدمع.
هذا التشخيص للأشياء وإعطاؤها سمات بشرية علامة على بلوغ هذه الأشياء مكانة استثنائية للشاعر يحسن توظيفها في النص .
وهذه الحالة المسيطرة على الشاعر هي حالة من المد والجزر ما يظنها تنتهي حتى تباغته مرة أخرى ،فهنا الانتقال من وصف القصيدة ومعاناتها إلى وصف إدراك الشاعر لها وتوقعه بانتهائها ولكنها تعاوده مرة أخرى :

ما أنفكّ يفترش الزمان نهاية ً
في بدئها يومٌ لعامٍ
يبلعُ
وعنصر الحركة في افتراش الزمان نهاية حتى كأنه بساط يمتد كان صانعًا حالة من التفاعل النشط مع المعنى
ومعطيًا دلالات أكثر توهجًا وحيوية إذ تعود هذه الأفكار مرة أخرى بعد إذ ظن أنها انتهت ، وهذه الأفكار المسيطرة
على الشاعر هي أقوى من الزمان وأشد استعصاءً إذ أنها تجيء كيوم يبتلع العام ،فهي الحالة تأتي مرة ولكنها تزيل آثار الزمن ومحاولاته الإقصاء.
وهذه الحالة التي هي مد وجزر بين الإنسان والفكرة تأتي مرة أخرى وقد تكون المعاناة في إفهامها الآخرين لتأتي على هذا النحو :
مأساتهُ ما سارَ يرسمها لهم
وهماً ولون شروقها لايقنعُ


قد يكون المبدع في سعيه الحثييث وراء الفكرة غير قادر على إيصالها لقارئه ،فتبهت ولا يقنع لون شروقها كما أن المعنى يتسع عن الإطار الضيق للقصيدة لتكون فلسفة الحياة ورؤية الإنسان لأحداثها هي ذلك الشبح المستعصي على الآخرين إمساكه ،ويتوازى عالم القصيدة مع عالم الإنسان الحي في أن كلاهما مأساة ومعاناة وكلاهما يبحث عن آخر غير قادر على فهمه .
وتظل هذه الحالة من الصراع حتى تستقر في لحظة استثنائية على هذا النحو الزاهي:
صدء القرون على يديه منائراً
شماء تغسلها السنون فتلمع

إنها لحظة البعث التي جاءت بالفعل وغسلت صدء القرون الماضية من هجرة الفكر والكتابة،وعلى العكس مما هو الواقع إذ تكون السنون عاملاً باعثًا على الصدء تكون هذه السنون مطرًا يغسل هذه الذاكرة ويعيد إلى زروعها خضرتها ونضارها وهذا لأن يومًا يبتع عامًا ، فتصير سائر الأعوام مبتلعة في هذه اللحظة وتجرفها تيارات النور فتأتي الفكرة ،لأنها بالفعل قد ذهبت السكرة.
وبعد هذا الوصف للمعاناة نجد القصيدة انتحت منحى آخر وهو حالة الاستقرار الذهني بعد تبلور الفكرة وظهورها كائنًا حيًا باعثًا على البهجة في عالم النفس :
قد أيقظ الأسباب في الأصلاب حيـ
ن تعطلت ينتابهاما يهلع
ترك الجهات منقادةً لبزوغهِ
كالشمس اين يسيرُ شرقٌ يطلعُ

وكان تعبير إيقاظ الأسباب مفاجئًا في بيئة هذه القصيدة وفكرة ميلاد القصيدة مولدًا إنسانيًا أراها
من الممكن أن تشوش الصورة على القارئ وتدخله في عالم غير العالم الذي كان فيه وإن كان عالم النفس والميلاد والطبيعة يشتركون في هذه الحركة الجديدة وهي حركة الميلاد ،بعد ذلك نجد نشوة الواقع الذي يسعى إليه الشاعر في هذا النبت الجميل كما في البيت :ترك الجهات ..... وإن كان فيه كسر عروضي في الكلمة منقادة وجمال هذا البيت في التعبير عن إشعاع الفكرة في كل اتجاه كما هو في الشطر الثاني منها ،ففي كل حال تشع القصيدة وتشع الفكرة وتشع الشمس على بساتين النفس .
بعد ذلك يستمر الوصف واصلاً إلى الشاعر نفسه بعد القصيدة ليؤكد الشاعر بذلك فكرة مفادها أن الأفكار أهم من أصحابها لأنها الأبقى بعد رحيلهم ، لهذا بدأ بوصف معاناتها هي وكأن الشاعر معزول عنها مع أنه هو الأكثر معاناة ،وذلك في البيت :
خلواتهُ تسبيح قبّرة الذرى
والفجر في حضن السواد مبرقع

إن الشاعر هو ذلك الإنسان الذي يجد هذه الصعوبات في انبلاج النهار من رحم الليل ،وهذه الخطوات اللتي يسيرها هي كالتسبيح لطائر القبرة لكني لاأعلم هل له تسبيح يختلف عن سائر الأطيار أو له تغيرد مميز عن سائر الطير ؟ وهذه الحالة من الانفصام هي حالة الطمأنينة التي تنتاب الشاعر بعد كتابة القصيدة وتأملها ، فرغم ما حول الشاعر من ظلمة إلا أن حالة الخلوة المسيطرة عليه تجعله متناسيًا بل ناسيًا فعلاً كل شيءوليبقى هذا الصوت صوت الشعر –الرؤية-الفكرة هو الذي يتغلب على الظلمة ،لأن المحسوسات السميعة تنتصر على نظيراتها البصرية، فكأن في البيت تعبيرًا عن إبصار من خلف الحجب .

المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:06 AM

غير أن الاستطراد وإعادة تكرار ما ذُكِرَ آنفًا قد يعيب القصيدة ويجعل من سيطرة اللاشعور عاملاً ليس في صالح النص ،هذا يتضح عند قراءةالبيت :
القيتها والحرف سنبلة ً فما
من حبّةٍ الا وسبعا تينع
الذي أراه أن هذا البيت هو شرح لبيت آخر:كالشمس أين يسير شرق يطلع
فهذا الشرق ليس محدودً بعدد ، كان التقييد بعد الإطلاق منقصًا من قيمته
اللامحدودة إلى قيمة –على علوها- فهي محدودة في نهاية الأمر،وهنا بلا شك كان
التناصّ مع الآية القرآنية "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئةحبة"
وعملاً بقوانين النسبة والتناسب يعود الحديث مرة أخرى إلى جمال هذه اللحظة ولواعجها وما يدور بها من أحداث مرة أخرى ،ولعل هذا بغية جعل مكونات هذه العملية الشاقة الجميلة في ذات الوقت أمام القارئ ليشعر بهذه المتعة الاستثنائية ، وهي أبيات تميل إلى المباشرة نسبيًا ، وينخفض فيها مستوى الرمزية لأن الشاعر –ربما – يريد أن يوضح الصورة بحيث لا تختفي في غابات الرمزية بما يعمي على القارئ فهم المراد منها ، وهذا يذكرني بما يقوم به المايسترو عندما يتحكم في الإيقاعات صعودًا وهبوطًا.
وهذا نلاحظه في هذه الأبيات :
في قطفها الابصار للافكار نا
فذةً برغم عمايةٍ قد
تمنعُ

فهنا نحن أمام واقع قريب من الحكمة العربية ، لكن من حق الشاعر أن ينتهج مثل هذا النهج حتى يكسر رتابة القصيدة من حيث الجو المسيطر عليها ، وليوجد تناسقًا من حيث الرمزية والمباشرة ،وليفتح الباب على تعدد التأويلات بقرائنها النصية.فقد تكون هذه الأفكار والتي نمّت بصيرة القارئ كالنافذة التي تبصر منها ما يدور حولك إلا أن ذلك لا يمنع من وجود بعض الضبابات وهنا نجدنا أمام البيت المحوري أو المركزي للقصيدة ، وهو يبعد عن المعنى التقليدي ليصل إلى معان فلسفية أو شبه فلسفية ،حيث أن المحصلة النهائية لعملية القراءة قراءة الأفكار والمعاني وقراءة الحياة نفسها أن الإنسان لا يصل إلى المعرفة الكلية ،وأن ثمة ما يجهل يبقى احتماالاً واقعيًا ، فليس كل شيء يدركه العقل ،بل ستبقى أشياء قد لا تُفهم وتستعصي على هذه النفس وهذا ما استدعى استخدام الأداة قد المفيد ة للاحتمال.

فأتبع ضياء الاين يبحث وجهها
بملامح الطرقات حين
تُضيّعُ
هنا كان إضافة (أل )التعريف لظرف المكان في غاية الروعة لأنه جعل المكان الذي ينطلق منه الضوء مهما كان مجهولاً فإنه يعرّف بهذا الضوء أي كأن الضوء هو أداة تعريف المجهولات وهنا نكون أمام وابل من المعاني الفلسفية العبقرية التي لا تنتهي كما أن تعبير يبحث وجهها ..إلخ أعطتني انطباعًا تصويريًا بأننا أمام مشهد سينيمائي تقع فيه الضياء على جسم معتم فتنيره وتزيد به الصورة إشراقًا.

تمشي الى مدن الحروفِ فريدةً
عكازها وجعُ المسافةِ
يقطعُ
الله!الله! عبارة عبقرية للغاية ، ونتحول من هذه الصور المختلفة إلى صور أكثر إشراقًا عندما نتحرك في أغوار النفس وتتقاطع الصور المرئية مع غير المرئية ،تلك الأنوار هي الأفكار والرؤى الإنسانية إذ تصل إلى منطقة الوعي وتستحيل حقيقة (قصيدة-فكرة) حقيقية على الواقع بعد أن كانت صورة مختمرة في الذهن فحسب ، والنفس هي هذه المدن مدن الحروف ،ويأتي التعبير عكازها وجع المسافة يقطع عبقريًا في توظيف هذه الجزئيات المختلفة لتكون بناء رائعًا في الكيفية التي تنساب بها هذه الأفكار وكأن النفس تتكئ عليها كالعصا ، فتقطع آلام المسافة .إن التعبير عن الأفكار بأنها عكاز النفس وأنها تقطع وجع المسافة والمسافة هنا هي طول المدة التي يستغرقها الواحد في التفكير حتى تأتي هذه الحروف كمضادات للوجع بشكل نهائي .والتركيب ذاته عكازها وجع المسافة يقطع فيه عبقرية تتمثل في البيت الشعري المكون كله من عالم غير مرئي محسوس لا ملموس ،وهذا التميع في الصورة تكمن روعته في تعبيره عن حالة هي نفسها مميعة ، وهذا الاستخدام اللغوي وطريقة تشكيله وصياغته عبر عن هذه القدرة الفريدة على وصف أغوار النفس وما يعتمل فيها من وساوس وهواجس بشكل رائع غير مسبوق مبتكر

المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:07 AM

الفٌ من الاسمـاء يحمـلُ جسرهـا
ومسيرهـا عـامٌ بخمـس ٍ يجـمـعُ
من جمال القصيدة هذه ما نراه في جعل الأفكار هي تلك الملكة المدللة التي ترتفع على العرش وحولها من يقومون برفعها وإضافة كلمة جسرها جعل القصيدة معبرة عن هذا الامتداد الخاص بالحروف من خلال المدن –الجسور لتعبر عن التواصل بين الإنسان والكلمة والخمس في الشطر هذا هي أصابع اليد ومن الممكن أن يكون الوصف منصبًا على القلم نفسه .
يتفجرُ الاحسـاس خلـف مسيرهـا
فمـع المسافـة والزمـانِ يـوسّـعُ
وهذه الحالة من الامتداد في التداعي والتأليف هي جزء من حالات الانتقال التي يحرص الشاعر على رصدها ، كلما تتسع مسافة الفكرة كلما اصبحت الأحاسيس أكثر التهابًا ووهجًا.
الفـاً مـن الابـواب يفتـحُ بابُـهـا
ولـهُ صفـاءُ حكايـةٍ لـم تسـمـعُ
أرى في هذا البيت إعادة للبيتين السابقين ولكن بصياغة مختلفة
زرع الحقيقة في الدليل فمـا نمـى
شـكٌّ وسـار الـى اليقيـنِ يلعلـعُ
في النهاية تأتي القصيدة عدسة تدور حول (الأبطال) الذين أبدعوا هذه الملحمة ،وهنا يكون الانتقال إلى القلم ذلك الجندي الذي يتصدر قائمة أبطال الملحمة ، فالحقيقة هي ذلك الفكر المكتوب والمرئي والدليل هي هذه الصفحة التي ساقت هذا اليقين وانجلت الرؤية وانطلقت الاحتفالات داخل مملكة النفس بهذا المولود الجديد.
حرفـي زهـورٌ والربيـعُ روايتـي
فـي كـلّ بيـتٍ حكمـةٌ تتـفـرّعُ
وبعد هذا النجاح يتجه المبدع نحو القارئ وبرهنة أسباب هذه الفرحة ، وتتمثل في هذه الحالة البهيجة التي تسيطر عليه ، والشطر الثاني كان في غاية الروعة من حيث تركيبه وإدخال المحسوس على الملموس وتكون للبيت صورة تشكيلية جميلة اعتمادًا على أسلوب التصوير.
لبست قميص المـاء حيـن تقحّمـت
لهـب القصيـدِ فأثمـرت مـا ينفـعُ
الله! ما أجمل هذا التعبير! حين يكون الماء هو ذلك القميص في عملية إبدال الدلالة واتخاذها شكلاً عكسيًا وتكون الفكرة هي التي ارتوت هذا الريّ ،عندئذ يكون هذا اللهب المنطفئ هو الذي يخرج من بعده النافع من الثمار .
هـي نفثـةٌ هـي زورقٌ شطـآنـه
الافـق البعيـد وانجـمٌ تتشعـشـعُ
مرة أخرى يعود الشاعر إلى هذه الحالة من الوله وله كل الحق في ذلك طالما انتهى هذا المخاض العسير بهذه الولاة السعيدة ، لتغدو الحياة والخبرة والحكمة بوجه أعم أضواء لا تُحدّ ، ليسير الفكر ذلك الزورق الصغير في أفق بعيد من قلوب الناس وعقولهم ويفتح لهم أبواب الأمل والنور القادمة .
حرفي دليل الضوء بوصلـة النهـى
انـى ادور يـدور خلـفـي يتـبـعُ
وهذه العلاقة الوطيدة بين الشاعر وحرفه تأتي بسيطة وكأن شاعرنا العزيز يربت على كتف هذا الحرف رفيق الدرب والذي ترجم خبراته وأفكاره وأنار له دروب الظلمات المحيطة به
ذوبت عمري كـي اصـوغ بنـارهِ
ظـلاً يريـحُ مصافـحـا يتطـلّـعُ

نهاية رائعة اعتمادًا على عنصر المقابلة صياغة الظل بالنار ، إنه الجهد الذي يبذله الإنسان ليستريح من هذه الأفكار المتسربة بداخله وغير المشذبة ،ما أجمله من تعبير عن تعب الإنسان من أجل إسعاد الآخرين إذ يكتب بالنار ليهدي الظلال إلى غيره ، وهنا تكون لذة الألم حاضرة مرة أخرى بالشكل الذي يستدعي العنوان عكازها وجع المسافة يقطع .
قصيدة أقل ما يقال عنها هو أنها رائعة وكان لحضور بحر الكامل خاصة في البيت الذي ورد فيه هذا الشطر "عكازها وجع المسافة يقطع" تأثير إيجابي ومميز في إعطاء الإيقاع دلالة تتناغم مع حالة دلال الأفكار والأحرف في مملكة النفس ، وكان التناول للأحرف من ناحية والشاعر من ناحية أخرى ووصف عملية ولادة الأحرف (إخراجًا) جيدًا يسير بأسلوب يشبه ما يسمى المونتاج على التوالي وهو أن يتحدث عن كل جزئية وحدها وكأنها منفصلة عن الأخرى ثم يفاجئنا بالتقائها في نقطة معينة .
عمل رائع أهنئك عليه واعذرني لتأخري في الرد ولكن لم يكن ذلك إلا لأن القصيدة لا يمكن أن يُمر عليها مرور العابرين .وفقك الله ودمت مبدعًا .

المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:10 AM


3-خاطرة في حضرة قلم للرائعة خاتون ابنة الخيمة


دعوته الى مكاشفة نفسي الأمارة بالسهر، راقصني بكل كرم وهمس بكلمات ناعسة
ذكرني بليالي الوصال والتوحد، وغنى لي سنفونية الحب الخالدة
ثم ابتسم ساخرا وألقى في وجهي ورقة وغاب

قرأتُ:
قبور صمتِك لا تعنيني... وشواهدها لا توقفني
أحلامك سراب وحميمك رماد لا يحييني
سلام على روحك الراقدة


ربما كان يحيى على نزيف عشقي وينسج كل يوم حكايات الوجد المتدفقة من شراييني
ربما كان يرتشف دموع الشوق لينتعش في صباحات التجلي
واليوم وقد هبت مواسم القحط،
أراه يستنكف عن مؤانستي في مساءات موحشة إلا من أنفاس محمومة توقد لهيب الحنق في أوصالي
أراه واثقا بكبريائه الأرعن أن لا ملجأ غيره
وأن لا دفئ إلا تحت جناحيه حين تلفني الأشواق بعباءة بالية



أيها القلم الرجيم
أعدك أن تركض وراء أحاسيسي حتى تصاب بالتلعثم والحيرة
وأعدك أن تحاصرك أشواقي حتى يجف زادك ومدادك


فانتظرني
وعلى باب الخواطر، ترقبني



خاتون: على عتبة الخواطر

المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:11 AM

أختي العزيزة خاتون :
من جماليات العمل الأدبي أيًا ما كان صنفه هو أن يتسم بقدر كبير من الديناميكية وأن يتبادل المبدع فيه الموقع مع الأشياء ويتحدث بلسانها ، ويستبطن أحاسيسها ومشاعرها. وبعد ذلك ، فإن الحديث عن بعض جوانب الحياة الخاصة بالشاعر كدخول صفحات المنتديات أوتناول قهوة الصباح أو غير ذلك من الجوانب الشخصية يعد ذا قيمة كبرى إذا كانت كيفية التناول تبعد به عن كونه شأنًا شخصيًا خالصًا لتحوله إلى شأن يتشارك الجميع فيه ، ويتحول إلى ظاهرة إنسانية رائعة ، وهذا ما لمحته في آخر الأسطر .
دعوته الى مكاشفة نفسي الأمارة بالسهر، راقصني بكل كرم وهمس بكلمات ناعسة
ذكرني بليالي الوصال والتوحد، وغنى لي سنفونية الحب الخالدة
ثم ابتسم ساخرا وألقى في وجهي ورقة وغاب
جميل للغاية أن تكون البداية بهذه الكيفية التي دخل فيها كل من الموروث الصوفي المتمثل في عبارة المكاشفة والتي تعبر عن شفافية نفسية وإنسانية ، والتناص مع الآية القرآنية في عبارة الأمارة بالسهر ،وكان الاستخدام لهذه الأفعال الرقص والغناء يميز الخاطرة ويجعل للحالة الحركية حركة القلم دلالة أكثر بعدًا وعمقًا وتغدو فلسفة الأشياء بهذه الكيفية لأنها تجعل للأشياء قيمة أكبر من القيم الاعتيادية التقليدية لها.



قرأتُ:
قبور صمتِك لا تعنيني... وشواهدها لا توقفني
أحلامك سراب وحميمك رماد لا يحييني
سلام على روحك الراقدة


هنا يكون للفعل قرأت دلالة غير تقليدية فهي قراءة بالقلب وليس بالعين ،وهذا دليل المكاشفة ، والمقصود أن الإنسان الذي ارتبط بهذه القيمة يستطيع استبطان هذه المشاعر من خلال تصويره حالة الجفاء بينه وبين القلم أو خواء الذهن من الكتابة ليأتي بهذه القطعة الجميلة ، خاصة في السطر الأخير سلام على روحك الراقدة والذي يأتي موزونًا على بحر المتقارب ، ويسير معنا الاستخدام لهذا الموروث الصوفي في هذا السطر الأخير ليكون القلم هو ذلك الرفيق المجادِل للمرء في صمته وحديثه ، والسطران الأولان يعبران عن حالة الحيرة التي تعتري المبدع عندما لا يجد ما يكتبه أو يجده مجرد تصورات لا تطاوع المرء للخروج من ذاته إلى رحاب ا لورقة .والصوت المنبعث من القلم يجعلني أشعر أننا إزاء هذه الحالة الحالمة التي يكون القلم فيها كالذي يظهر في الحلم يقول كلمته ثم يختفي بعدها تدريجيًا . وهنا يكون جميلاً أن تكون العبارة مؤدية إلى تصورات ذهنية تتعلق باليقظةوالمنام ، وهي بذلك تؤكد بشدة على معنى المكاشفة التي ربما يمكن القول بأنها مفتاح العمل الأدبي.
ربما كان يحيى على نزيف عشقي وينسج كل يوم حكايات الوجد المتدفقة من شراييني
ربما كان يرتشف دموع الشوق لينتعش في صباحات التجلي
واليوم وقد هبت مواسم القحط،
أراه يستنكف عن مؤانستي في مساءات موحشة إلا من أنفاس محمومة توقد لهيب الحنق في أوصالي
أراه واثقا بكبريائه الأرعن أن لا ملجأ غيره
وأن لا دفئ إلا تحت جناحيه حين تلفني الأشواق بعباءة بالية


في هذه الجزئية يكون من الجميل للغاية أن يتحول الحديث من القلم إلى الحديث للمبدعة ذاتها وهذا التنوع في الأصوات يُكسب الخاطرة حالة من الحيوية حتى كأنهما خصمان على المتلقي أن يحكم لصالح أحدهما!
كان السطر الأول جميلاً للغاية خاصة في هذه التشبيهات الرائعة الممثلة في التعبير الأول يحيا على نزيف عشقي ، إذ يغدو العشق ذلك الجرح الذي يلهم القلم الوجود ، من هنا تبرز علاقة بين الأشياء المختلفة كالجرح والإنسان ،والجرح والقلم.المبدعة ترينا نظرتها إلى ذاتها العزيزة التي يكون الجرح فيها أداة حياة للآخرين وهذا دليل التضحية تضحية بالوقت بالمجهود من أجل ذلك القلم ذلك القط الذي يظفر بالأفكار التي تتحرك بداخل الذهن كالفأر المتلصص الذي لا يكف عن المشاغبة.وكذلك الحكايات المتدفقة من شراييني ، كان هذا التعبير على درجة كبيرة من الإيحاء بالألم والصدق الممتزج به إذ أنها حكايات صادقة آتية من منبع الدماء ولا تكون تضحية الدماء كذبًا أبدًا.وأتى استخدام لفظة التجلي ليعبر مرة أخرى عن هذه الحالة التي تتولد من فعل المكاشفة وكأنه تنبيه إلى أهمية وجود هذه الدلالات المشوبة بالإنسانية المتوهجة والصفاء اللامتناهي.
كان جيدًا للغاية استخدام لفظة الألفاظ المحمومة لتعبر عن حالة تشبه الشغبطة ممثلة في تحريك القلم بشكل حائر وهذا دليل على حسن الاستمداد لأوجه التشابه والاختلاف.
والسطر الأخير لا دفء إلا تحت جناحيه كان مميزًا من حيث تعبيره عن هذه النشوة التي تتلبس الإنسان بخروج هذه الأفكار إلى الأسطر معلنة ميلاد فجر جديد يأذن بتجليات ما في الخبايا.غير أن تعبير تحت جناحيه لا أرى له مبررًا ، فالقلم ليس فيه ما يشبه الجناحين لهذا تنبتّ الصلة بين المشبه والمشبه به.
كان تشبيه العباءة البالية للأشواق رائعًا من حيث هو تعبير عن هذه الحالة من الجدب والتي لا تتمكن فيه الأشواق من تحقيق الدفء المطلوب المتمثل بخروج هذه الأفكار إلى الصفحة ،ذلك الموقد الذي يستعصي دفئه على أعتى الأعاصير المسماة أشواقًا.


أيها القلم الرجيم
أعدك أن تركض وراء أحاسيسي حتى تصاب بالتلعثم والحيرة
وأعدك أن تحاصرك أشواقي حتى يجف زادك ومدادك


هنا تأتي العبارة الرجيم معبرة عن حالة من التفاعل الذي يكون فيه أحد الطرفين معتادًا شغب الآخر ن بل ويتلذذ به ، كان فعل الركض وراء الأحاسيس متماشيًا مع حركة القلم كما أن تشبيه الأحاسيس وحركتها بهذه الطريقة يجعل النص أكثر ثراء لأنه يصنع تكاملاً في بيئة التشبيه عندما يشبه القلم بالراكض والأحاسيس بالهاربة ، وهذا ينطبق أيضًا على السطر الثاني وإن كان مختلفًا بعض الشيء عن السطر السابق عليه. ففي حالة هي تهرب منه وفي حالة منه هي تحاصره مما يجعل التجاذب بين الطرفين والإثارة الذهنية المتعلقة بهذا المولود المسمى بالخواطر دائمًا على طول الوقت ، ويكون القارئ هو ذلك المشاهد الأخير لهذا المسلسل وهو على أريكته يصفق لانتصار الإبداع .
فانتظرني
وعلى باب الخواطر، ترقبني
هنا الخواطر قد تكون خواطر بالمعنى التقليدي وقد تكون تورية بعنوان(بوح الخاطر)وهي إحدى التكنيكات الناجحة للإيحاء بدلالات ثرية للعمل.



خاتون: على عتبة الخواطر

كلنا ننتظر خطوات حروفك!


أختي العزيزة خاتون:
أنت بذلك تضطرينني إلى الكشف عن شيء كنت أود إخفاءه وهو كتاب أقوم بنقله إلى القارئ عن القصيدة الحديثة ، فيه جزئية هامة تتعلق بمعاناة المبدع في عملية تأليف العمل ونقله إلى الذهن وكيفية الجهد المبذول من أجل صيد فكرة أو عبارة ، والذي يعنيني من هذا الكتاب مقطوعة شعرية رائعة لخليل حاوي وأخرى لصلاح عبد الصبور تتعلقان بنفس المضمون الذي وضعتيه ، فما أجمل تعانق الشعر والخاطرة!
لك من الشكر بمثل ما للشوق لك على رؤية التعليقات ومن التحية بمثل ما لك من رياضة الحرف ورشاقة التعبير . دمت مبدعة وفقك الله .

المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:44 AM


4- خاطرة في جزيرة مجهولة منك لإسماعيل القبلاني(خارج الخيمة)
في جزيرةٍ مجهولةٍ منك .. تراودك أحلام البقاء .. وصرخات الحنين .. حيث تهودج في رأسك أفكار الرحيل .. ؟
اللاشيء .. نوبةٌ تصطدم دائماً بها .. والغريب في ذلك أن العاطفة تشتد .. فتلغي عاصفة الأفكار .. حينها يكون اللاشيء إجابة الطبيعة الخلابة على هذه الجزيرة .
فما أجمل الفكرة حين تكون مجهولة .. وما أعظم الطبيعة حين تكون مساحة شاسعة تمتد على مسافاتها تحية المعنى .. تبشر بمولد الرفض القادم على أنفاسك المتناقضة .. فتصبح التحية للقاء .. للقاء ما جمعته مخيلتك في تسعة أشياء ..
*.. حواسك الخمس .. وحاسة المكان السكون .. وصراخ الحبر .. وقدوم النص .. وأوراقك الخلابة ..*
فيكون مولد النص .. إما غريباً أو شريداً .. ويا لها الأفكار حين تراودك فإما أن تعانقها أو تتركك لعناق غيرها .
***
فهل ستعانق منفاك أم سيتركك لغيره .. ومن يستطيع نقض الروح في مرحلة رغبة .. نشوة .. شهوة .. والنار لا تتوقف في أعماق قلبك .. وأنت تحاول جاهداً .. أن تشعل النار على شاطئ المجهول .. والمجهول لا يوجد فيه عود ثقاب .. لحظتها .. لحظتك في إشعال النار .. هي الاختراع !
وإن كنت ستستخدم عود ثقاب حملته معك في رحلتك إلى المجهول فأنت محتال .. منتحل .. مختل عقلياً .. لا ترقى للبقاء .. حتى وإن كانت جزيرتك المجهولة ..
*.. لحظة الكتابة الخاصة بك هي إشعال النار على الطريقة البدائية ..*
فهل ستقوى على العيش متحجراً تكتشف جزيرتك المجهولة .. تشق طريق الوصول إلى أرقى مراحل لها تأملات المد والجزر على شاطئ الواقع
المهم أن لا تبتعد .. وتقدم .. ولتبقى دائماً في طريقك الخاص .
***
ويعاودك اليقين في جزيرةٍ حملتك إليها أمواج الوقت .. الفراغ .. فإن لم تكن بها رائداً .. لا تحسب نفسك رائداً قد يكون هناك غيرك .. في مكانٍ ما من نفس الجزيرة .. إن مر بها قبلك أخشى أن تمر بها وتصبح مقلداً..
وربما لصاً .. ولكن إن كان يلهمك فلا بأس حتى تشق طريقك .. تلميذاً ..
إياك أن تتوه في مخيلتك فلن يأتي إلا الشخص الخاطئ لإنقاذك .. بعاصفة كنت تحلم بها .. ومهما تهت ستوقظك أمطار الضمير داخلك .. حينها لن يكون للحيرة مكان .. إن كانت رؤيتك أوسع .. ستكون لك رغبة أخرى بالعودة
إلى هناك ..
*.. العاصفة لحظة الكتابة .. انفصام شخصية ..*
فمنذ ألاف العابرين إلى الحرف .. العواصف إبداع تكتنزه الذات الفردية .. أما تكلفك في الرغبة فهي صاعقة توجهها لنفسك .
***
لحظة أخرى بعد منتصف الليل وتبدأ العواصف .. إصابة .. خوف .. تشرد .. توحد .. لحظة ينقطع فيها كل شيء تعود لتراجع من البداية .. ثم تبدأ في فقدان ذاكرتك .. بتصنع النسيان .. وحده التشويش الملقى على عاتق الإجابة .. سؤاله التفرد في الضجيج .. فمن سيهتم لأمرك إن لم تتقن الإجابة .. لسؤال النص المراود لمخيلتك !
*.. السؤال هو مغادرة الواقع عندما ينتابك خلل وتحتاج لإصلاحه خارج إطار المنطق .. والإجابة هي العودة إلى الواقع وقد فلسفت المنطق برؤيتك الخاصة ..*
فهل نعتب على جمال الروح وهي تحلق بنا بعيداً ؟
ما بين دفتي الأيام وأشرعة الفكر على أمواج الأحداث المتلاطمة في بحر المخيلة .. حينها تكون لحظة الكتابة لذيذة جداً لدرجة الإبحار .. الإتقان .. الترسخ .. أو تسبب أعراض جانبية .. أعلاها .. السقوط .. ؟
وما أجمل الإبحار حين يكون القبطان .. مجهولاً .. !
***



إسماعيل القبلاني
ذات ليلة باردة جداً ..


المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:46 AM

العمل الأدبي هو صفقة بين أطراف عدة ، الكاتب ،المتلقي ،الموضوع ، وربما يكون التاريخ أو الزمن عنصرًا آخر ،والقائم بالإبداع عندما يكتب عمله ، فإن عليه أن يدرك أن طبيعة مفردات العمل لابد أن تتوافق مع طبيعة الموقف وعندما تكون الحالة نفسها لا منطقية ،فإن الحديث عنها يقتضي وبشكل كبير التعبير عن هذه الحالة الجنونية بنفس المصطلحات ولكن بجنون رشيد !
هذا الجنون أقصد به تكسير العلاقات القائمة بين المنطق والمدلول ، ولكنه ليس كسرًا مرضيًا اعتباطيًا كما يشوع في قصائد أدونيس ومحمد عفيفي مطر رحمه الله ، وإنما هو اجتماع الفكرة والنبوءة ،الفكرة من حيث هي رؤية واضحة يحاول المبدع تبنيها والبرهنة عليها والنبوءة من حيث هي مغامرة لا يعلم نتائجها إلا عالم الغيب والشهادة .
ومن هنا فإن هذا العمل ينطوي على مغامرة تبدت من العنوان نفسه وهو جزيرة مجهولة منك .

مفهوم يسميه اللغويون(وللأسف لست متخصصًا في مجال علم اللغة )سحر الكلمة وهو التأثير الذهني الذي تحدثه الكلمة في نفس المتلقي ، فعندما نقول -مثلاً-باريس يتخيل الفرد كل مكونات الأناقة والعطور والملابس ..إلخ وعندما نقول مثلاً بغداد-قبل الاحتلال-تتجلى في المخيلة صور قصور (ألف ليلة وليلة) وأسواق على طراز معين من الأصالة والتناسق والروعة ...إلخ
وهكذا.. الجزيرة كما في المصطلحات الجغرافية منطقة من اليابسة محاطة بالمياه من جميع الجهات، وهذا يعني أن الجزيرة كيان استثنائي لأنها تنتمي إلى البر بينما البحر يحيط بها ،ولأنها محاكة بالمياه فقد تكون محاطة بما فيها من نِعَم كما تكون محاصَرة بما فيها من أمواج هادرة وكائنات غامضة ..
هكذا تكون الصورة الأولية للجزيرة باعتبارها مادة استثنائية مدخلاً للنص باعتبارها مادة غير محسومة في دلالتها البهيجة أو الخطيرة ويكون هنا الخيط الأول للنص المسمى بانفتاح الدلالات واتساعها لتكون كذلك لحظة الكتابة هي كالجزيرة والحياة كالبحار ...
أما الخيط الثاني فهو المتمثل في الغموض والمجهول ، الغموض في العرف اللغوي والسيكولوجي يتسم بحالة من الخطر أو الترقب الوجِل ، وفي رأيي أن هذا غير دقيق بما يكفي ، فالغموض هو عدم وضوح وعدم الوضوح يقتضي إمكانية أن يكون الشيء غير الواضح جميلاً أومخيفًا . لكن عندما يقترن لفظ الغموض بالجزيرة ، فلابد أن تتجه بوصلة الذهن الإنساني للكثير من التصورات الأبعد من مجرد القلق والترقب الحذر ؛إذ أن الأماكن الغامضة في كثير من الأحيان تكون هي (أغطية) الكنوز والنفائس ، مما يستدعي المغامرة وإرهاق النفس من أجل هذا المكنون الذي عندما ينجلي تتضح روعة هذا الغموض (المجهول) .
هذا المجهول سبب تجاهله هو انعدام الصلة بين الناس إلا في محيط المرئيات الخارجية ، ومن هنا يكتسب النص روعة في الاستخدام للمدلول لعادي للفظة وتحويلها إلى مدلول ذي أثر نفسي - على الأقل - مشوق لدى القارئ .
وليست الجزيرة المجهولة إلا لحظة الإيماض والإضاءة التي قلما تأتي إلى الإنسان وذلك لأن المواصلة التي أدت إلى الوصول إلى هذه الجزيرة هي أسرع من الطائرات التي تطير بسرعة الضوء .
والتعبير جزيرة مجهولة منك جاء كتركيب يحمل دلالة أكثر غموضًا بسبب النكرة وغياب أل التعريف عن النص ليصبح كل ما في الجزيرة مجهولاً ، حتى يكون المخاطب الذي هو القارئ والمبدع معًا آخر صورة في المشهد ،وكأن هذه الجزيرة المجهولة قد خرجت منك أيها القارئ فصرت لا تملكها وصارت في المقدمة بينما اختفيت أنت نفسك ، هل ترى يمكن القول بأن ذلك لأن الفكرة-الجزيرة هي التي يراها القراء ولكنهم لا يرون القارئ ؟ أقصد هل لأن اهتمام القراء ينصب ّ على الفكرة لا صاحبها ،هل بسبب ذلك أتت كلمة منك في نهاية العنوان ؟ أم أن ذلك تخليدًا للمبدع الذي يكون اسمه كاسم المخرج للفيلم آخر ما يظهر في الشاشة ؟
في الواقع لا أستطيع أن أؤكد بأن هناك ما تعمده المبدع من خلال هذا التركيب ، وقد تسعفني أو لا تسعفني القراءات من أجل التدليل على ذلك ، إلا أن الواقع الذي لابد من التسليم به هو أن الـ(خلطة) بكل مكوناتها هي التي أوصلتني إلى هذا التصور ،بمعنى آخر : لو أننا قلنا منك ، أو فيك جزيرة مجهولة ،هل كان الموقف في فهم النص سيتغير ؟ من المؤكد نعم وإن كان هذا سيعطي المجهول قيمة أكثر تشويقًا لأنها في نهاية العبارة تتوازى مع المجهولات التي تكون في أبعد النقاط .
إذًا ، فلنحاول الاقتناع -ولو بالرشوة المتأتية من هذا الاستنتاج- بأنها مقصودة ، وربما هي صيد وقع في شبكة الصياد ولما يبصره!
ها هنا يكون من الجيد أخذ راحة للمعاودة مرة أخرى من أجل الوصول إلى هذه الجزيرة والفوز ولو برملة من رمالها الذهبية التي تبرق حتى في الليل الداجي !

المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:48 AM

في جزيرةٍ مجهولةٍ منك .. تراودك أحلام البقاء .. وصرخات الحنين .. حيث تهودج في رأسك أفكار الرحيل .. ؟
اللاشيء .. نوبةٌ تصطدم دائماً بها .. والغريب في ذلك أن العاطفة تشتد .. فتلغي عاصفة الأفكار .. حينها يكون اللاشيء إجابة الطبيعة الخلابة على هذه الجزيرة .
السمة الملحوظة في هذه الجزئية سيطرة فكرة ما وهي التسارع في نبض الأحداث ، فالأحرف تكاد لا تكتمل بسبب سرعة توالي الأفكار على الذهن ومحاولة المبدع أن يمسكها واحدة تلو الأخرى لذلك تبقى النقاط (..) معبرة عن هذا التسارع بالشكل الذي تشعر فيه بالمتحدث يعدو عدوًا لاهثًا خلف أفكاره ولا يتم كلماته ، ولكل عبارة أمامك تقديرها ولكنها حذفت وتقديرها يستنتجه المتابع ،فعلى سبيل المثال يمكن القول في جزيرة منك نائية عن الوجود ، تراودك أحلام البقاء التي تتسربل الوجود ..وصرخات الحنين المكتومة ...

وهذا الأسلوب في الكتابة جيد ويشعر القارئ أن المبدع من خلاله يسرع في عمليات الولوج إلى البوابات المتراصة أمامه فقد دخل الجزرية بالفعل ووجد فيها أحلام البقاء ثم صرخات الأنين ثم هودجة الأفكار في الرأس ..
هنا كان تعبيرا أحلام البقاء وصرخات الأنين مع فعل المرادوة عبّرا بشكل كبير عن حالة الصراع التي تكتنف الإنسان في مثل هذه اللحظة أيمضي أم يحجم ؟ ويكون الرحيل هو القاسم المشترك الذي يعصف بكل من صرخات الحنين وأحلام البقاء ،أحلام البقاء في حالة الاسترخاء وعدم إرهاق الذهن بالكتابة وصرخات الحنين تلك الكلمة التي أشعر بها تعبر عني في كثير من الأحيان عندما يتعالى المبدع أو يحاول أن يترك الفكرة وينعم بهدوء زائف لا يتحقق .وأفكار الرحيل تأتي تعبيرًا عن هذه الحالة التي يبدأ الحسم فيها لصالح صرخات الأنين ، ليصبح البقاء حلمًا آفلاً .

اللاشيء .. نوبةٌ تصطدم دائماً بها .. والغريب في ذلك أن العاطفة تشتد .. فتلغي عاصفة الأفكار .. حينها يكون اللاشيء إجابة الطبيعة الخلابة على هذه الجزيرة .


بعد الدخول إلى الجزيرة يبدو أن مبدعنا العزيز قد آلى على نفسه أن يدخل إلى أعماق الجزيرة وليس إلى مستوى الظاهر عندما يكون اللاشيء هو النوبة التي تصصدم بها ، وفعلاً عندما يفكر المرء في كتابة فكرة ما أو خاطرة أو عمل ما فكثيرًا ما يجد نفسه في حالة تهيؤ واستعداد ثم إذا راح يكتب وبدأ القلم يطاوع العقل ، وجد اللاشيء صخرة مؤلمة ،ويظل الإعجاب الذي يكتنف الفرد بفكرته مسيطرًا عليه حتى ينسى الأفكار ، فقط هو يجد طلاسم أفكار وأشباح صور ليكون اللاشيء جابة طبيعية على هذه الجزيرة ، إنها لحظة تومض ولعلها تعبر عن الميلاد الأول للفكرة ، حتى يلتقطها القلم ثم يُعمِل فيها الإنسان ما يُعمِله من تغييرات حتى يجد المادة خامًا قابلة للتشكيل في الإطار النهائي المكتوب .
ثمة كلمة أعجبتني لكني أراها خارج نطاق البيئة التشبيهية ، وهي كلمة تهودج ،فالهودج يكون فوق الجمل والجمل لا يعيش إلا في الصحراء ، ولكن أعجبني في هذه الكلمة تعبيرها الشديد عن استحكام الحالة حتى تكون الهودجَ الذي لا يُرى من داخله ، كذلك الفكرة تأتي فلا يكاد يرى الإنسان ما حوله ولا يكاد يرى-حتى نفسه- من تواصل أعمال هذه العاصفة .




فما أجمل الفكرة حين تكون مجهولة .. وما أعظم الطبيعة حين تكون مساحة شاسعة تمتد على مسافاتها تحية المعنى .. تبشر بمولد الرفض القادم على أنفاسك المتناقضة .. فتصبح التحية للقاء .. للقاء ما جمعته مخيلتك في تسعة أشياء ..
*.. حواسك الخمس .. وحاسة المكان السكون .. وصراخ الحبر .. وقدوم النص .. وأوراقك الخلابة ..*
فيكون مولد النص .. إما غريباً أو شريداً .. ويا لها الأفكار حين تراودك فإما أن تعانقها أو تتركك لعناق غيرها .


***
هنا يُحسب للمبدع -بطبيعة الحال- أن يفصح عن جانب من جوانب العمل وهو يدخل إلى بوابة المباشرة حتى لا يرتطم بالإغراق المفضي إلى الغموض التام ، فها هو المبدع يعطيك العمل جاهزًا بيني يديك ولكنه سيغير في محتوياته حتى تكون على علم بما يقصد وإلى أين يسير ، ها هو المبدع قد أظهر الموضوع (ما أجمل أن تكون الفكرة مجهولة) والحديث بطبيعة الحال عن الفكرة وما تعمله في النفس من تغيرات تشعر معها أن دولة تقوم وأخرى تزول !
جميل للغاية هذا الوصف" فما أجمل الفكرة ...لعناق غيرها " وإن كان من الممكن أن يؤخذ على الأسطر هذه أنها لم تستكمل وصف الحالة التي بدأ الحديث عنها في البداية بمعنى أنه انتقل من حالة تكون الفكرة إلى انبلاجها مرة واحدة واستقطع مشهدًا في المنتصف وهو الفكرة لما تكون مجهولة قبل وصولها إلى الشكل النهائي الواضح لها . لكن في رأيي أن المبدع له أن يختار من تراتب الأحداث ما يعبر عن الجزء الذي يختاره .تحية المعنى هو الوجه الآخر لمجهولية الفكرة ، هذا المعنى الذي تكون النفس فيه هذه الطبيعة أو الجزيرة المتسعة ليظل المعنى فيها واقفًا في مكانه حتى تأتي إليه الفكرة لترفعه فوق رأسها . كان تعبير تحية المعنى رائعًا بكل المقاييس ،وبالأسلوب التقليدي يمكن القول بأن المعنى يظل كامنًا واقفًا في مكانه وهذه الأفكار تدور حتى تصل إليه وكأنه تحوم من حوله وتلقي إليه بالتحايا رجاء أن يستجيب لها .
إننا بإزاء حالة جميلة تتغير فيها المعالم كلية ، ليكون المعنى ذلك (الملك) الذي ينتظر تحية الوفود له ، وهذه الوفود هي الأفكار ،تحاول الوصول إليه ، من الطبيعي -لأنه- ملك أن تمتد هذه الأفكار باتساع هذه المساحة الشاسعة من أجل الوصول إليه .
ومرة أخرى تبرز فكرة الصرخات صرخات الحنين تلك التي عبر المبدع عنها بأنها تبشر بالرفض القادم ، والحنين هو في أول الأمر تمرد على البقاء ثم هو في النهاية هذا الشكل النهائي للحالة وهو الرفض القادم ، رفض للبقاء في حالة استرخاء وكسل لذيذين وله الحق في هذا الرفض لأنه -ببساطة-لقاء تُساعي الأطرف أو الأضلاع ، وجميل أن يشاغب المبدع الواقع ويجادله ويصنع له عوالم من ذاته تتمثل في حاسة السكون ذلك السكون الذي هو في واقع الأمر الأرضية التي يُبنى عليها اللقاء فهو سكون ظاهري ولكنه توتر حركي في أعلى مستويات غليانه داخل الذهن . وصراخ الحبر وقدوم النص ، إن هذه الحاسة هي التي مهدت لهذه اللبنة الأولى والتي يبني عليها المبدع بعد ذلك زوارقه لتصيد النفائس ، وإن كنت أرى أن دخول كلمة الأفكار للمرة الثانية في هذا المقطع قد أدت به إلى مباشرة زائدة كان أولى بالمبدع أن يتركها للقارئ وقد دلت القرائن عليها بشكل واضح .

المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:49 AM

فهل ستعانق منفاك أم سيتركك لغيره .. ومن يستطيع نقض الروح في مرحلة رغبة .. نشوة .. شهوة .. والنار لا تتوقف في أعماق قلبك .. وأنت تحاول جاهداً .. أن تشعل النار على شاطئ المجهول .. والمجهول لا يوجد فيه عود ثقاب .. لحظتها .. لحظتك في إشعال النار .. هي الاختراع
جميل ها هنا كم هو جميل معانقة المنفى ، إن المنفى دلالة على البُعد والاستوحاش ولكن المبدع يراه ها هنا منتجعًا يبتعد به عن مألوف الحياة ومشاكلها التي لا تنتهي ، ويبدو ها هنا المنفى وهو صفاء الذهن -حسبما أرى-كأنه إنسان تعانقه أو يتركك لغيره ، الجميل في تعبير يتركك لغيره هو هذا الإيحاء باستثنائية اللحظة بحيث يكون المنفى في لحظة لا تتكرر يراودك عن نفسه ويأتي إليك على طبق من ذهب وأنت أيها المبدع صاحب القرار الأخير الذي تتحمل مسؤليته عندما يفوتك هذا المنفى لأنه ليس منفى في الواقع وإنما هو منتزه في شكل منفى ،فهو ينفي عنك الكآبة والسآمة ومشاعر الرتابة التقليدية ، وتتسارع الإيقاعات بعد ذلك من خلال النقاط ..رغبة ..نشوة ..شهوة..وهذا التناسق بين أوزان الكلمات الثلاث الماضية يعطي الانطباع بانتظام وتيرة العدو اللاهث وتقطع الأنفاس حتى تأتي كلمة النار وهي محصلة الرغبة والنشوة والشهوة ، وبدون الوقوف على المعنى الجامد للرمز ، تأتي النار ها هنا رمزًا للتشوق اللانهائي للكتابةوالبوح بما في النفس ، ويفاجئنا المبدع بهذا التناسق بين مكونات البيئة في أدق تفاصيلها الثقاب والنار إذ تكون الثقاب هي هذه الأفكار التي تشعل وهج الإبداع والأجمل من ذلك لحظتها .. لحظتك في إشعال النار ، يميز هذا التعبير َ الرائع إذ تكون الحالة من التباين كأننا بإزاء كرة المضرب إذ تكون الكرة في ملعبك وتكرار كلمة لحظتك أتى معبرًا عن حالة من العطاء المفاجئ إذ تكون اللحظة التي هي لحظة النار قد صارت كلها في عقر دارك ، إن هذا التعبير يوضح مدى جمال التلاعب بالدلالات ،وكأن الإنسان يعيش عمره كله في لحظات غير لحظاته بينما لحظة الكتابة التي أتت على حين موعد صارت هي لحظته !
وجميل هذا التكامل في البيئة التشبيهية عندما يكون إشعال النار على شاطئ المجهول والمجهول بدون ثقاب ، إن هذه المعاني لا تترجم حرفيًا ، ولكن دلالاتها المستبطنة أوضح من أن يتعرض لها الفرد العادي فالمبدع هو الذي يصنع النار الفكرة من اللاشيء ، وفي لحظة تكون الذاكرة فيها كالشاطئ المجهول إذ به يصنع هذه النار أو الفكرة من أضغاث أفكار تتداخل فيها اليقظة بالمنام وهذا هو الاخترا ع إذ يصنع المبدع من كل شيء يبدو هامدًا حطبًا يوقد به نار الفكرة التي يتدفأ على قبسها القارئ نعم إنها لحظتك أنت أيها المبدع ، فأنت تؤلف بين مزيج المتناقضات واللاموجودات وتصنع فكرة حاضرة يسير الناس على هديها ما شاء الله لهم أن يسيروا
!
وإن كنت ستستخدم عود ثقاب حملته معك في رحلتك إلى المجهول فأنت محتال .. منتحل .. مختل عقلياً .. لا ترقى للبقاء .. حتى وإن كانت جزيرتك المجهولة ..
*.. لحظة الكتابة الخاصة بك هي إشعال النار على الطريقة البدائية ..*
فهل ستقوى على العيش متحجراً تكتشف جزيرتك المجهولة .. تشق طريق الوصول إلى أرقى مراحل لها تأملات المد والجزر على شاطئ الواقع
المهم أن لا تبتعد .. وتقدم .. ولتبقى دائماً في طريقك الخاص .

ما أجمل هذه الحكم التي تأتي كنصائح من معلم خبير بالتجارب يلقي بتعاليمه إلى جيل المريدين الجالسين أمامه في يوم عز عليهم فيه الناصح ، فإذا به يأخذ بأيديهم ويلقنهم هذه الحكم لكنه ليس تلقين المدارس وإنما تلقين الواعي الذي يصنع من الحفظ فهمًا ومن الفهم إبداعًا !

وإن كنت ستستخدم عود ثقاب حملته معك في رحلتك إلى المجهول فأنت محتال .. منتحل .. مختل عقلياً .. لا ترقى للبقاء .. حتى وإن كانت جزيرتك المجهولة ..
ها نحن نرى المبدع يوجه الحكمة في شكل غير تقريري ولكنه مباشر نسبيًا حتى لا تستغلق على الفرد العادي ولكنها في الوقت ذاته تنسحب على تأويلات متعدد ويطرق باب الفضيلة محذرًا القارئ من انتحال الشخصية أو سرقة الأفكار وما أعظم هذا التعبير الذي تبدو فيه قيمة الدلالة عندما تمزج بالتصور الذهني للفرد ! ما أضحك حال من استخدم عود ثقاب لرحلة مجهولة ؟! إن المبدع يعتمد على المنطق لينفد به إلى فكرة تتجاوز شكله الجامد إلى أشكال عدة ، فكما لا يُعقل أن يأتي الفرد بعود ثقاب من جزيرة إلى أخرى كذلك لا يُكتب للإنسان شهرة ما دام يعيش بثقاب غيره أي بأفكارهم التي تصبح في خضم الأفكارالمحيطة به مجرد عود ثقاب لا يغني ولايسمن من دفء.
إن الفكرة نفسها عود الثقاب مركبة ، لأنها تجمع الاستحالتين استحالة بقاء هذا العود معك من جزيرة إلى جزيرة دون انطفاء واستحالة تأثيره في الجزيرة التي وصل إليها (بافتراض أنها لم تطفأ) الفكرة التي تسرقها إما أن تضيع ويستولي عليها الآخرون أو تثبت غباء طريقة التفكير التي ينتهجها الفرد ، حتى وإن كانت جزيرتك المجهولة ... وهنا جميل للغاية أن يقوم المبدع بتشويق القارئ وترك التأويلات منفتحة لكل تأويل روافده وقرائنه ، فلعل التأويل : حتى وإن كانت جزيرتك ملأى بالثقاب أو حتى وإن كانت جزيرتك المجهولة -على العكس -تبحث عن شبر من عود الثقاب ....
بفاجئنا الكاتب مرة أخرى بهذه العبارة :

*.. لحظة الكتابة الخاصة بك هي إشعال النار على الطريقة البدائية ..*
وكأنه على طريقة الأفلام الوثائقية (والأصح أن نقول الوثقية) بعد الانتهاء من إسداء بعض النصائح يسترجع صوتًا هو صوت النفس أو صوت نصائح الآخرين الذين يقولون له هذه العبارة : لحظة الكتابة الخاصة بك ....
وهنا نجد المبدع يتكئ على معنى قد أكده من قبل وكأنما خشي أن يتفلت منه الخيط الذي ظل ينسج منه النول وهو استقلال الشخصية وتبدو العبارة فلسفية مختصرة كثيفة ،فاللحظة اللتي يكتب فيه االمبدع هي لحظة لإشعال النار ولكن بطريقة تبدو بغير معنى البدائية من المنظور الحضاري وإنما ينزاح معنى البدائية إلى معان أخرى كالبكِر أو الصفاء ؛فهذه اللحظة هي إشعال للنار على الطريقة الأولى التي لم تشبها شائبة.
حقًا إن الإنسان لحظة الكتابة هو يشعل نارًا من خلال أدوات بسيطة أفكار متناثرة كالحطب ويبدأ في تغذيتها واحدة بالأخرى ويضم بعضها إلى بعض لتكوّن له هذه المزيج الذي ينتهي بها إلى الحطب .إن الإصرار على استخدام مصطلحات الحياة البدائية والبِكر في النص يعطي مؤشرًا جيدًا على قدرة المبدع على الانسلال من الزمن لمراقبة هذه الحركات والسكنات الهادئة للنفس والتي تخرج من تواليها وتتابعها هذه المادة الجميلة المسماة بالإبداع .
قبل استئنافي الحديث أحب القول بأنني أستحضر إعلانًا لقناة الجزيرة عن أخبارها :لأن الوقت لا ينتظر ، وكان الإعلان يحاول عمل موازاة بين لحظة خروج الخبز الساخن وانطلاق الأخبار من هذه القناة في إشارة إلى شدة تشويق القارئ إلى هذه الأخبار الطازجة المباشرة .. بهذه الصيغة شعرت أن ثمة تقاربًا في بعض المصطلحات في كلا العملين خاصة عندما يتسارع الإيقاع وتتوالى النقاط ... أشعر بأن صورة الإعلان الماضي تستحضرني بشكل جيد وهذا عنصر إيجابي يؤكد ما يراه بعض علماء الأدب الحديث وهو أن الاستعانة ببعض المصادر الصوتية والمرئية يُعد واحدًا من مظاهر حداثة العمل ومواكبة روح العصر .


فهل ستقوى على العيش متحجراً تكتشف جزيرتك المجهولة .. تشق طريق الوصول إلى أرقى مراحل لها تأملات المد والجزر على شاطئ الواقع
المهم أن لا تبتعد .. وتقدم .. ولتبقى دائماً في طريقك الخاص .


جميل ها هنا الشغب الذي يقوم به المبدع تجاه المعاني الثابتة ، فالتحجرحالة من الجمود كيف يمكن معها اكتشاف الجزيرة المجهولة (النفس) ؟ يخيل لي أن مبدعنا العزيز يوازي بين استحالة السير من جزيرة إلى أخرى بعود ثقاب وبين اكتشاف جزيرة مجهولة بتحجر ، لهذا تأتي كلمة متحجرًا ساخرة تستثير القارئ أو المخاطَب من أجل تغيير كيفية تفكيره واكتشافه مصادر الطاقة التي تغذي عمله الأدبي الإبداعي .

المشرقي الإسلامي 07-01-2011 11:53 AM

ويعاودك اليقين في جزيرةٍ حملتك إليها أمواج الوقت .. الفراغ .. فإن لم تكن بها رائداً .. لا تحسب نفسك رائداً قد يكون هناك غيرك .. في مكانٍ ما من نفس الجزيرة .. إن مر بها قبلك أخشى أن تمر بها وتصبح مقلداً..
وربما لصاً .. ولكن إن كان يلهمك فلا بأس حتى تشق طريقك .. تلميذاً ..
قد يرى بعض القراء أن المبدع العزيز استطرد في الفكرة وعاود الإلحاح عليها دون أن يضيف عليها شيئًا ولكن في رأيي المتواضع أنه في كل مرة يزيد عما كتبه من قبل شيئًا قليلاً ليشعر القارئ بأهمية التدبر لما يأتي به من شيء جديد يضيف معانيَ ذات أهمية كبرى ، فها هو يكررتقريبًا ما قاله من قبل ولكنه يزيد شيئًا بسيطًا كمًا كبيرًا كيفًا وهو ولكن إن كان يلهمك فلا بأس حتى تشق طريقك .. تلميذًا
إن المبدع العزيز ليس ممن يستهويه السير في أفلاك الآخرين فيأمر وينهى ويعطي أحكامًا مطلقة وإنما يؤمن بأهمية التدرج في الانتقال من فكرة إلى فكرة وأهمية ألا يشعل المبدع نارًا على طريقة يظنها حداثية فتحرق يديه ! رائع أن يضع المبدع نصب عينيه أهمية التأني والتروّي والتدقيق والتمحيص ، فشتان بين المقلد تقليدًا أعمى وبين المتهور الذي يحسب نفسه آتيًا بجديد وبين المتعقل الذي يتخذ من التقليد المستبصر جسرًا يعبر به إلى الاستقلال في العمل والشخصية والهوية الأدبية أو الإبداعية لهذا خفت تسارع الإيقاع عن ذي قبل ليأتي الصوت هادئًا رصينًا يعاود حالة الطمأنينة قبل الانطلاق الجامح نحو الإبداع . ما أجمل هذاا لتعبير فإن لم تكن بها رائدًا لا تحسب نفسك رائدًا ..... إن الشخصية الإبداعية من الضروري أن تكون واعية بأن هناك غيرها ممن يسبقونها إلى نفس الفكرة لكن الشهوة العنيفة في التفرد تجعل الفرد يحسب نفسه أوحد من جاء بهذه الفكرة ، إنها عبارة تحمل في طياتها معاني عدة مثل الاطلاع على موروثات الآخرين ، والتوسع في قراءة نتاج الآخرين الذي قد يكون سابقًا لما جئت به وأنت تظن نفسك متفردًا
إنها نصيحة لا تساق في الأطر التقليدية الآمرة والناهية ولا تأتي في أطر رمزية مغلقة كثيفة ضبابية وإنما تأتي في حالة مراوحة بين الوضعين وبينهما يتربع المبدع بناءً يبني في منزله مصدات تحمي من قيظ الصيف وبرد الشتاء في وقت واحد ! وهنا يكون جميلاً أن نجد المبدع يطرح فكرة عادية للغاية وقد تكون ذات طابع علمي أخلاقي لكن طريقة طرحها أخرجتها عن هذا الإطار إلى إطار أعمق وأبعد شأوًا من ذلك بكثير واقع فلسفي أدبي يجمع بين شتى تيارات وفنون الأدب معًا .

إياك أن تتوه في مخيلتك فلن يأتي إلا الشخص الخاطئ لإنقاذك .. بعاصفة كنت تحلم بها .. ومهما تهت ستوقظك أمطار الضمير داخلك .. حينها لن يكون للحيرة مكان .. إن كانت رؤيتك أوسع .. ستكون لك رغبة أخرى بالعودة
إلى هناك

بنفس الطريقة التي توضح مدى بروز الصورة في ذهن المبدع يبدأ بالتحذير : إياك ان تتوه في مخيلتك ، ولكن العبارة المفاجئة هي لن يأتي إلا الشخصي الخاطئ لإنقاذك ، وهنا من الضروري الانتباه إلى دلالات الألفاظ فالخاطئ هو الشخص الذي يتعمد الخطأ أما المخطئ فهو من لم يتعمد الخطأ ؛ لذلك يقول الله تعالى على لسان إخوة يوسف عليه السلام في هذه السورة :"قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين"..
الجميل هو انعدام دلالة الإنقاذ ، فالشخص الخاطيء لن ينقذك بل سيغرقتك إن تهت في مخيلتك ، ومن جماليات هذا التعبير الرائع إشعاره القارئ بحالة اللاحتمال ، من خلال التعريف لكل من الشخص ـ الخاطئ ،ليكون الشخص الخاطئ هو توصيفًا للعمل الذي لا يكتب له النجاح بسبب هذا التيه في المخيلة لكن التعبير مهما تهت ستوقظك أمطار الضمير أراه كذلك منفصلاً عن العمل بشكل أو آخر ، لأنه نفي لما سبق أن ذكرته (لن يأتي إلا الشخص الخاطئ لإنقاذك) ، فمن أين لي أن أقول لفرد إياك أن تتوه ثم بعدها أقول له ومهما تهت ستوقظك أمطار الضمير ؟
إن كانت رؤيتك أوسع ..ستكون لك رغبة أخرى بالعودة إلى هناك
عبارة جميلة لعلها تذكرنا بما قاله النفري :"إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" وعل عبارة أخينا إسماعيل تكرس معنى اللذة التي كان يحلم بها المبدع وليست العاصفة

ولعل هذه العبارة تأكيد على العبارة السابقة :..
"ويعاودك اليقين في جزيرةٍ حملتك إليها أمواج الوقت"
من هنا نشعر أن اللحظة الإبداعية هي مرحلة تتوسط الرغبة والوقت وهذه رؤية جيدة ومعنى ما أقوله هو أن لحظة الكتابة ليست لحظة من سائر أوقات الإنسان ولا هي لحظة تولدها الرغبة وإنما هي نتاج التمايد بين هذين النوعين
*.. العاصفة لحظة الكتابة .. انفصام شخصية ..*
بنفس التقنية الفيلمية والتي تشبه في بعض صياغاتها العبارات التلغرافية والمذكرات الشخصية يعود المبدع إلى استخدام ذات الطريقة المكثفة الجامعة لكل ما كُتِبَ من قبل ،هنا يوضح المبدع معنى العاصفة التي ذكرها في الأسطر السابقة (عاصفة كنت تحلم بها ) لتكون هي لحظة الكتابة وقوة هذا التعبير في اختصاره للصراع الذي ينتاب النفس في الكتابة أيحجم أم يقدم وكأن كل ما كان من قبل هو نتيجة هذا الصراع الذي بسببه يكتب المبدع هذه النصائح الغالية .

فمنذ ألاف العابرين إلى الحرف .. العواصف إبداع تكتنزه الذات الفردية .. أما تكلفك في الرغبة فهي صاعقة توجهها لنفسك
كان تعبير العابرين إلى الحرف موحيًا وبشدة ، ومحدثًا أثرًا جيدًا يُشعِر القارئ بمدى عمق الصورة الذهنية التي تتخذ من الفنون التشكيلية أداة لها ،فصورة للحرف كأنه خريطة يعبر الناس عليها صورة رائعة للغاية خاصة وأن إعطاء المعنوي شكل المادي يعمق من قوةتأثير هذه التعبيرات ويجعلها منفتحة على آفاق تنأى عن الجانب المعجمي المغلق. وجميل هذا التعبير "تكلفك الرغبة صاعقة توجهها لنفسك" رغم سهولة اللفظ إذ أن النفس مجبولة على التلقائية أما تكلف الرغبة فهو صاعقة وهي من معجم الدلالات النارية ، فشتان بين نار يتدفأ الناس عليها وبين نار تحرق الأخضر واليابس والأروع أنها داخل جزيرة فيكون اشتعال النار في وسط الماء مشوهًا لجمال الطبيعة وإهانة للأخضر الذي يرتوي من الماء والماء عن عونه عاجز .
***
لحظة أخرى بعد منتصف الليل وتبدأ العواصف .. إصابة .. خوف .. تشرد .. توحد .. لحظة ينقطع فيها كل شيء تعود لتراجع من البداية .. ثم تبدأ في فقدان ذاكرتك .. بتصنع النسيان .. وحده التشويش الملقى على عاتق الإجابة .. سؤاله التفرد في الضجيج .. فمن سيهتم لأمرك إن لم تتقن الإجابة .. لسؤال النص المراود لمخيلتك !
*.. السؤال هو مغادرة الواقع عندما ينتابك خلل وتحتاج لإصلاحه خارج إطار المنطق .. والإجابة هي العودة إلى الواقع وقد فلسفت المنطق برؤيتك الخاصة ..*
"التشويش الملقى على عتق الإجابة" تعبير به قدر من الاستخدام المجازي المناسب للموقف إذ يكون التشويش والإجابة مشخصين كإنسان له شيء من سمات الإنسان ، ويكون الرجوع إلى حالة السرعة اللاهثة في التعبير عن الأفكار التي يحاول المبدع حاضرًا مرة أخرى وتبدو لحظات الإبداع والتعبير عنها محمومة وذلك في جملة وحدة التشويش .... وتقدير الجملة هو ما تشعر به أو شيء يناسب السياق وتبدو هذه العبارة الفلسفية الرائعة كتلخيص آخر لما في الأسطر السابقة :
*.. "السؤال هو مغادرة الواقع عندما ينتابك خلل وتحتاج لإصلاحه خارج إطار المنطق .. والإجابة هي العودة إلى الواقع وقد فلسفت المنطق برؤيتك الخاصة" ..*
هذه العلاقة التناقضية بين السؤال والإجابة تلخيص لهذا الوضع وكان فيها قدر كبير من التوفيق في التعبير عن هذه الحالة ،فالسؤال والإجابة هما رجوع إلى نقطة الأصل ليكون ما بين السؤال والإجابة هو الإبداع ،ويتربع الإبداع حينئذ بين هذين الدائمين كالليل والنهار وإن كانت تقريرية نوعًا ما بشكل قد يمل منه القارئ الذي اعتاد حرَفية الاستخدام المجازي للغة من جانب المبدع إسماعيل القبلاني .
فهل نعتب على جمال الروح وهي تحلق بنا بعيداً ؟
سؤال أتى في موقعه وكأن المبدع يطالب القارئ من التحرر من الملاحقة اللاهثة وراء الجمال ، فهو لا يأتي عندما يقع الشخص في كل المحظورات التي حذر منها المبدع كما أن هذا التعبير أعطى انطباعًا للقارئ مفاده أن الأصل إذا كان على شاكلة معينة فالفرع تابع له ولا يتجزأ شيء عن شيء في إشارة إلى وحدة الحالةالإنسانية والمفاهيم التي على الإنسان الوعي بها .فكما أن اللحظة التي هي أم الجمال لحظة نادرة فليس من المنطق أن يتوقع المرء أن يكون الجمال حالة منفصلة عنها . إن الفنون هي التي تهذب النفس أو الروح (مجازًا ) فإذا كانت الفنون والإبداع وليدة اللحظات وجمال الروح وليد الإبداع والفنون فإن جمال الروح بطبيعة الحال هو وليد اللحظات التي هي بطبيعتها نادرة لذا على المبدع أن يكون واقعيًا في نظره إلى هذه الحالة ، ولا يحزن بسبب شحها عليه ،فإنها لا تأتي إلا لمن يستحقها .
ما بين دفتي الأيام وأشرعة الفكر على أمواج الأحداث المتلاطمة في بحر المخيلة .. حينها تكون لحظة الكتابة لذيذة جداً لدرجة الإبحار .. الإتقان .. الترسخ .. أو تسبب أعراضًا جانبية .. أعلاها .. السقوط .. ؟
وما أجمل الإبحار حين يكون القبطان .. مجهولاً .. !
***
نهاية شاعرية تعكس حالة الهدوء التي يختم بها المبدع العمل الذي أبدعه والتي استخدم فيها المجاز استخدامًا قد يبدو عاديًا لكنه يحدث تناسقًا في بيئة التشبيه ويشعِر القارئ بهذا القدر من الافتنان في استخدام اللغة ، إذ تدخل كلمة مفاجئة اسمها الأعراض الجانبية وهذا الاستخدام لأعرض جانبية متميز في انزياحه عن المعنى الأصلي وفي الاستفادة من المصطلحات الحياتية وتشكيلها في إطار العمل الأدبي ، وأخيرًا تكون المفارقة في أن يكون السقوط من الأعراض الجانبية تكون روعة التلاعب باللغة عندما تأتي المرادفات في غير حقولها الدلالية ولا معانيها العادية لتحدث دهشة مردها إلى اتساق المعاني رغم اختلاف دلالاتها المعجمية والبيئية والسقوط ها هنا هو حالة الانتكاس والركود ، ثم يكون القبطان مجهولاً هو الكاتب الذي يعجز المرء عن التنبؤ بما سيكتبه وهنا يكون الاندفاع وراء فضول النفس لما سيكون حالة مثرية للشوق ويكون المجهول مادة تنهي العمل بحالة الشوق المحموم والتوهج الدائري الذي يفضي بعضه إلى بعض حتى يكون لسان حال القارئ بعد القراءة : وما أجمل الإبداع عندما يكون سره مجهولاً !قد يؤخذ على هذه العبارة الأخيرة مأخذ وهو أن العمل الأدبي لا يقاس جماله بجمال كاتبه ومدارس النقد المعاصرة تزيح المبدع تمامًا وتنظر إلى عمله ،لكن عند التعامل مع النص بحالة غير تنظيرية فإننا ننظر إلى متعة من حيث هي واقع يمر به أي إنسان بشكل ذاتي وليس من حيث هي واقع يُرصد من منظور النقد الموضوعي ، لأن المبدع يطرح عملاً وليس أطروحة فكرية أو نقدية .وفقك الله وإلى الأمام دائمًا

فتى الأندلس 08-01-2011 09:19 PM

نعم استاذى الفاضل كم اسر القلم الكثير من القلوب وأودعهم فى سجون حبه وقليل هم من عفا عنهم ومنحهم صك التميز والإبداع

أما بالنسبة لى : يبدو أنى سأكتفى بالمشاهدة من بعيد فلربما لم يستسغ القلم كلماتى الخجولة وأضرب حتى عن مجرد النظر فى مسألتى

ليتركني معلق هكذا بين الحيرة وقلة الحيلة

---

الأعمال فى الموضوع ما شاء الله معبره عن حالة المعاناة المستمره فى حوار القلم وتعليقاتكم استاذى أضفت عليها تلكم اللمسة الجميلة التى زادتها بهاءا ومنحتنا تأشيرة المرور إلى أسرارها

إقتباس:

أعدك أن تركض وراء أحاسيسي حتى تصاب بالتلعثم والحيرة
وأعدك أن تحاصرك أشواقي حتى يجف زادك ومدادك

فانتظرني
وعلى باب الخواطر، ترقبني


هذا هو ما يقوله القلم لي :New6:




Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.