حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   دواوين الشعر (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=33)
-   -   نصوص أدبية وشعرية مترجمة عن كلّ اللغات . (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=73098)

السيد عبد الرازق 02-08-2008 02:46 PM

نصوص أدبية وشعرية مترجمة عن كلّ اللغات .
 
كاتب الموضوع: الدكتور بهجت عباس - 07-10-2007


آهِ يا قُـبطانُ! يا قُـبطاني!



( من أوراق عشب )



والت ويتمان ( 1819-1892 )



ترجمة بهجت عباس







أوه يا قُـبطانُ ! يا قُـبطاني ! لقد انتهتْ رحلتنـا الرّهيبة ،



فقد اجتازتْ سفينتـنا كلَّ عقبـةٍ ، وأُحرزَ الهدفُ الذي ابتغيناه ،



المينـاءُ قريبٌ ، إنني أسمع الأجراسَ ، الناسَ أجمعَ يهلّلون ،



بينما أعيـُنٌ تَـتَـبَّـعُ الرافـدةَ الثّـابتةَ ، تتقدّم السَّفينـة



متجهِّـمةً جريئـةً :



ولكنْ، آه يا قلبُ ، يا قلبُ ، يا قلبُ !



آه القَطـراتُ الحُـمـرُ النّازفـة ،



حيث القبطانُ يضطجع على سطح السَّـفينـة ،



ساقطـاً بارداً وميِّـتاً .







آه يا قـبطانُ ! يا قـبطاني ! انهضْ واسمعِ الأجراسَ



انهضْ- لك تُـنَكَّـسُ الرّايةُ- لك يرتعش صوتُ البوق ،



لك باقاتُ الأزهارِ والأكاليلُ الموشّحة ولك تَجَـمهُـرُ



السّواحل ،



إيّـاكَ ينـادون، الحشدُ المُتـرنِّحُ ، أوجهُهم المُتَحمِّسة



تدورُ ؛



هنـا ، يا قبطانُ ! أيّها الأب الغالي !



هذا الذراع تحت رأسك !



إنّه بعضُ حُلمٍ ، ذاك الذي على ظهر السّفينـة ،



سقطتَ بارداً وميِّـتاً .







قبطاني لا يُجيبُ ، شفتـاه باهـتتـانِ وساكـنتـانِ ،



أبي لا يُحِـسّ ُ بذراعي ، لا نبضَ فيه ولا حَـولَ ،



رست السَّفينـةُ سالمةً ومُجلجِـلةً ، أُغلقتْ رحلتُهـا وأُكمِلتْ ،



من رحلة رهيبـة أتت السَّفينـةُ المنتصرة مُحرزةً الهدفَ ؛



هلّلـي يا شواطئُ ، دقّـي يا أجـراسُ !



ولكنّي بخطىً كئيـبةٍ



أسير على ظهر السَّفينة حيثُ قُـبطاني يضطجع ،



ساقطاً بارداً وميِّتاً.















O Captain! My Captain!




O CAPTAIN! my Captain! our fearful trip is done,
The ship has weather'd every rack, the prize we sought is won,
The port is near, the bells I hear, the people all exulting,
While follow eyes the steady keel, the vessel grim and daring;
But O heart! heart! heart!
O the bleeding drops of red!
Where on the deck my Captain lies,
Fallen cold and dead.

O Captain! my Captain! rise up and hear the bells;
Rise up--for you the flag is flung--for you the bugle trills,
For you bouquets and ribbon'd wreaths--for you the shores crowding,
For you they call, the swaying mass, their eager faces turning;
Here, Captain! dear father!
This arm beneath your head!
It is some dream that on the deck
You've fallen cold and dead.

My Captain does not answer, his lips are pale and still,
My father does not feel my arm, he has no pulse nor will;
The ship is anchor'd safe and sound, its voyage closed and done,
From fearful trip the victor ship comes in with object won;
Exult, O shores! and ring, O bells!
But I, with mournful tread,
Walk the deck my Captain lies,
Fallen cold and dead.

السيد عبد الرازق 02-08-2008 02:50 PM


كاتب الموضوع: زيد الشهيد - 05-09-2006


قصة قصيرة



الحـربــــاء (THE CHAMELEON )



تأليـف : إنطـون جيكوف ( 1)



ترجمــة : زيـد الشهيـد



بمعطفه الجديد ؛ وبشيء ما يتأبطه يلجُ العريف " أخميلوف " باحةَ السوق يتبعه شرطيٌّ ذو شعر أحمر ، حاملاً ما صادراه من فاكهة .. الصمت يشيع في الأرجاء ، وليست ثمّة حركة جلّية .. أبوابُ المحلات ونوافذها مواربةٌ علىَ سعتها مثل أفواه جائعة تحدّق بأسى لدنيا الله .



علىَ نحوٍ مباغت تٌمزّق أستار الصمت صرخةُ : " هكذا تريد أن تعضّني أيها الكلب الملعون. هذا زمان ما عاد للكلاب حرّية عضّ الآخرين ..آه ‍ ‍!.. آه أوقفوه !.



يندلع نباحٌ متواصل .. تتوجّه أنظار " أخميلوف " ناحيةَ الصوت .. هناك كلبٌ برجلٍ عرجاء يفرٌّ هارباً من ناحية " مخزن أخشاب بنجوجن " ملاحَقاً مِن قبل رجلٍ ذي قميص أبيض يحاول الامساك به فيتعثّر ساقطاً .. غير أنّه يفلح في القبض عليه من قائمتيه الخلفيّتين .. يعوي الكلبُ ومعه تستمرُ صيحاتُ الرجل .



وجوهُ بعيونٍ ناعسةٍ تطلُّ من نوافذ المحلات ؛ تُطالع حشداً بشرياً إلتئم سريعاً كأنّه انبثقَ من ثنايا الارض .



- " اتعتقد أنّ من الضروري توجيه اللوم والتوبيخ لتجمّع ٍغير مسموح به كهذا ؟".. يحاور أخمينوف شرطيَّهُ .



يستديرُ يساراً ويخطو باتجاه الحشد جوار الباب الرئيس لمخزن الأخشاب ، يشاهد الرجلَ ذا القميص الأبيض يرفع يداً عارضاً على العيون المُبحلِقة إصبعاً مُدمّىَ فيما وجهه يشي بتعابيرِ رجلٍ شبه مخمور : " إنتظر ! .. ساجعلك تدفع الكثير مقابل هذا ، أيها الشيطان " .



وسرعان ما يتعرّف أخميلوف على الرجل : إنّه " كريوكين " ؛ مثلما يشاهد الكلب خالقَ الجلبةِ يرتجفُ وسط الحشد وقائمتاه الاماميتان ممدودتان ..كلبٌ أبيض تُبقّع ظهرَه بقعةٌ صفراء ، عيناه تمتلئان بتعابير الخشية والقلق .



- " ما الخَطب ؟ ! " .. يروح أخميلوف يتساءل ، صانعاً طريقاً له وسط الحشد " . لماذا تقف هنا ؟ وما الذي جرىَ لإ صبعك ؟ ومن كان يصرخ ؟ "



- أنا .. لم أمَسَ أحداً .. ينطقُ " كريوكين " ثم يواصل " " كنت أتجول في غابة ديمتري ديمتر يفتش ، هناك عندما هاجمني هذا الكلب المتوحش وعضّ اصبعي .. ليس لديَّ ياسيدي غير هاتين اليدين أعمل بهما ، وعضّةُ هذا الكلب ستوقفني عن العمل لفترةٍ لا تقل عن سبعة أيام ، لهذا على صاحبه أن يدفع لي تعويضاً ؛ إ لا يوجد في القانون ما ينبغي تحمله من تبِعات مخاطر الحيوانات ، لانّه لوتُرِك لكلِّ حيوان حريةَ العضّ والفتك بالآخرين فلن يبقَ أحدٌ علىَ قيدِ الحياة في هـذا العالم . "



بصرامةٍ ظاهرة يرتفعُ حاجبا العريف أخميلوف ويهبطان :



- مَن هو صاحب هذا الكلب ؟ .. لن أسمح لمثلَ هكذا خروقات أن تحدث وتستمر. إنَّ علىَ الجميع أن لا يتركوا كلابَهم طلقيةً كما تشاء ، لقد ولّىَ الزمن الذي يُترك فيه مَنْ لا يُطيع القوانين سأعاقب مالكَ هذا الكلب ، وسأعُلِّمه من أنا . يستدير إلى الشرطي المرافق :






- يا يلديرين ، تحرَّ عمّن يكون صاحب هذا الكلب .. هذا الكلب يجب أن يُقتل .. إفعل ذلك سريعاً ، فقد يكون مسعوراً .. علىَ أي حال لمن هذا الكلب ؟



- يبدو أنّه كلبٌ الجنرال ييجالوف .. ينطُقُ أحدٌ من الحشد .



- للجنرال ييجالوف ؟ ها !.. يالديرين ، إخلع معطفي ! .. ما هذا الحر الشديد ! من المحتمل أن تمطر هذا اليوم .. يوجد ثمة شيء لا أفهمه كيف عضّك هذا الكلب ؟ " يتوجه العريف أخميلوف إلى " كريوكين " متساءلاً . " وكيف طال أصبعك ،إنّه كلبٌ صغير بينما أنتَ رجلٌ كبير ؟ .. ربّما فعلت ذلك بنفسك وأدّعيت جرحك من فعل هذا الكلب المسكين سعياً للحصول علىَ مال .. أعرفكم أيها الشياطين !!



- " أطفأ السيجارة في وجه الكلب لكن الكلب ليس غبياً فعضّه ، ياسيدي . " يتفوه الشرطي يلديرين .



- تكَذٌب ! .. ما شاهد مثل هذا ، ياسيدي ما شاهد مطلقاً .. ولكنْ دعْ الحاكم يقررّ ، القانون يؤكد بسواسية الجميع في هذا العهد ؛ ولي أخٌ يعمل في قسم الشرطة فإنْ لم ..



- توقف !



- " كلاّ ! هذا ليس كلب الجنرال "يقول الشرطي يلديرين مُظهراً إهتماماً ، " لا يملك الجنرال كلباً كهذا ، هذا كلبٌ لا يمُت إلى كلابه بشيء ".



- أمتأكد من ذلك ؟ " يسأل العريف أخميلوف .



- نعم ، كلّ التأكيد .



- وأنا متأكد أيضا .. كلابٌ الجنرال غالية الثمن ، أما هذا الكلب فليس له شعر مقبول ولا شكل يُعتَد به لماذا يقتني الناس كلاباً قميئة .. لو كان في بطرسبورج أو موسكو مثل هذه الكلاب هل تخمن ما يحدث ؟ لن يجهدوا أنفسهم في البحث في فقرات القانون للتخلّص منها ، بل يصنعون لها نهاية سريعة .. " ياكريوكين " لا شكّ أنك تعاني من ألم الجرح لذلك سوف لا أترك الأمرَ يجري عادياً ، سألقّن مالكي هذه الكلاب درساً .. ولكن يبتسم أخميلوف مفكِّراً ! أعتقد أنني شاهدتُ هذا الكلب في باحة الجنرال .



- "طبعاً ؛ إنه كلب الجنرال " يأتي صوت من عمق الحشد .



- يالديرين ؛ ساعدني .. ألبسني معطفي وخذ الكلب إلى الجنرال تأكد إن كان له أم لا. قل وجدته في الطريق فأتيت به ؛ قدم لهم رجاءً ؛ إرجوهم أن لا يتركوا الكلب في الشارع ، لأنه كلب ثمين وقد يرتكب أحدهم حماقة فيطفىء سيجارة في خطمه فيتسبب في إيذائه ، الكلب مخلوق رقيق .. وانت أيها الغبي .. أخفضْ يدك فلا ضرورة لعرض إصبعك السخيف ، إنها حماقتك .



- ها هو طباخ الجنرال ، دعونا نستفهم منه .. مرحباً بروخور تعال هنا للحظة ، إنظر هل هذا كلبكم ؟ !



- هذا ! .. لم نقتن مثل هذه الكلاب في حياتنا أبداً .



- هذا كلب لا يستحق السؤال عنه .. يتمتم أخميلوف .. متشردٌّ وينبغي قتله .



- كلا .. ليس لنا مطلقاً ، بل هو عائد لأخ الجنرال الذي وصل إلى المدينة توّاً .سيدي لا يفضِّل هذه الأنواع ، إنما أخوه من يرغبها .



- هكذا إذاً أخوه فلا ديمير إيفانوفيتش وصل إلى هنا " يتساءل أخميلوف بمحّياً مُشرق وأبتسامة تغمر وجهه : " حسناً ، حسناً ، لم أكن أعرف ذلك . " إذاً هو في زيارة لمدينتنا ‍‍!



- نعم ، ياسيدي في زيارة ،



- حسناً ، حسناً وهذا هو كلبه ، أنا مسرور جداً خذه ! يالهُ من كلب صغير وبارع ، سريعاً أمسك باصبع هذا الرجل ها .. ها .. ها ، لماذا ترتجف أيها الكلب الصغير .. لم تفعل شيئاً يستحق الخوف ؛ وهذا الرجل وغدٌ وشرير..



ينادي " بروخور " على الكــلب ويذهب به بينما يوجه أخميلوف تهديداتــــه إلى " كريوكين " .يحكم شدّ معطفه علىَ جسده ثم يتخذ طريقه إلى داخل السوق يتبعه الشرطي يلدرين حاملاً الفاكهة المصادرة ..



.................................................. ...........................................



( 1 ) يقارن الكاتب الروسي جيكوف ( 1860 – 1904 ) بالكاتب الفرنسي دي موباسان ، وكلاهما من رواد القصة القصيرة ، تميزت قصص جيكوف بعرضها لبؤس الحياة الاجتماعية في روسيا .. ( ولكن ما يؤخذ علىً نصوصه أنها كانت تعرض السلبيات في المجتمع فقط ولم تصنع حلولاً افتراضية لها ، وقد جسد في هذا النص القصصي لحظة مقتطعة من حياة رجل ، عارضاً شخصية متقلبة كما الحرباء ) .

السيد عبد الرازق 02-08-2008 02:53 PM

كاتب الموضوع: رافع الصفار - 18-04-2006


حادث اصطدام



قصة:غراهام غرين



ترجمة: رافع الصفار



1



صباح يوم الثلاثاء، أستدعي جيروم إلى غرفة المدير خلال فترة الإستراحة بين الحصتين الثانية والثالثة. ولم يكن خائفا من المشاكل، لأنه كان (حارسا) وهو اللقب الذي ارتأى صاحب المدرسة ومديرها أن يطلقاه على الأولاد المميزين والموثوق بهم في المرحلة الأساسية، بعدها يتم ترقيتهم إلى لقب (راعي)، وأخيرا وقبل مغادرتهم المدرسة ذات الإمتيازات العالية، وعلى أمل أن تكون وجهتهم إلى (مارلبورو) أو إلى (فريق الركبي)، يحصلون على لقب (صليبي). وكان السيد (ووردزورث)، مدير المدرسة، جالسا خلف مكتبه وقد بدت عليه علائم التوجس والإرتباك. وعندما دخل جيروم الغرفة تكون لديه انطباع بأنه ربما يكون سبب هذا الخوف.



بادر المدير إلى القول:



- إجلس يا جيروم. هل الأمور جيدة في مادة المثلثات؟



- نعم..أستاذ.



- استلمت إتصالا تلفونيا من عمتك، وأخشى أن هنالك أخبارا سيئة.



- نعم...أستاذ ؟



- والدك تعرض لحادث.



- أوه.



نظر المدير إلى جيروم باندهاش. أضاف قائلا:



- حادث خطير.



- نعم...أستاذ ؟



كان جيروم يحب أباه إلى درجة العبادة. وكما يعيد الإنسان خلق الرب، فإن جيروم أعاد خلق أبيه..من مجرد مؤلف أرمل غير مستقر الى.. مغامر غامض يجوب أصقاع الأرض..نيس، بيروت، مايوركا..وحتى جزر الكناري. والآن يبدو أن والده قد تعرض لوابل من رصاص رشاش أوتوماتيكي.



كان السيد ووردزورث يلعب بالمسطرة فوق المكتب. كان تائها لا يدري كيف يواصل حديثه. قال:



- انت تعرف بأن أباك كان في نابولي.



- نعم..أستاذ.



- عمتك إستلمت إتصالا من المستشفى اليوم.



- أوه.



قال المدير وهو في حالة يأس تام:



- كان حادث طريق.



- نعم استاذ ؟



كان جيروم على يقين من أنهم لن يطلقوا على الحادث إسما آخر. وبطبيعة الحال فإن الشرطة هي التي بدأت بإطلاق النار، أما بالنسبة لأبيه فإن التضحية بحياة الإنسان هي الملاذ الأخير.



- أخشى أن يكون أبوك في حالة خطيرة جدا.



- أوه.



- في الحقيقة يا جيروم أن أباك توفي بالأمس...ومن دون أن يتألم كثيرا.



- هل كانت الإطلاقات موجهة إلى قلبه؟



- عفوا، ماذا قلت؟



- هل كانت الإطلاقات موجهة إلى قلبه؟



- لم يطلق أحد عليه النار ياجيروم. لقد سقط عليه خنزير.



وتقلصت عضلات وجه المدير، كما لو أنه كان على وشك أن يضحك. أغلق عينيه وأعاد تشكيل ملامح وجهه بشيء من التجهم وقال بسرعة:



- كان والدك ماشيا في أحد شوارع نابولي عندما سقط عليه خنزير. حادث مريع حقا...على ما يبدو أن الناس في الأحياء الفقيرة من مدينة نابولي يحتفظون بالخنازير في شرفات البناية. وكان هذا الخنزير في الدور الخامس، ولعل زيادة وزنه أدت إلى تهدم الشرفة، فسقط الخنزير على أبيك.



عندها نهض السيد وردزورث من مكتبه وتوجه إلى النافذة معطيا ظهره لجيروم.



قال جيروم متسائلا:



- وماذا حدث للخنزير؟







2



لم يكن ذلك تبلدا في الأحاسيس من جانب جيروم حسب التفسير الذي ذهب إليه السيد وردزورث عندما نقل لزملائه الطريقة التي تلقى بها الفتى خبر وفاة والده. كان جيروم يحاول رسم المشهد الغريب للوصول إلى التفاصيل الصحيحة. كما أنه لم يكن من النوع الذي يمكن أن ينهار سريعا، بل على العكس من ذلك كان فتى شديد التأمل، ولم يحدث له طوال فترة وجوده في المدرسة الإعداية أن وجد نفسه في موقف يكشف له حقيقة الوضع العبثي والمضحك لوفاة والده، بل ظلت واعتبرها هو جزءا من أسرار الحياة. لكن في فترة لاحقة، خلال الفصل الأول له في المدرسة الثانوية العامة، عندما حكى القصة لأحد أصدقائه المقربين، بدأ يدرك طبيعة التأثير الذي يمكن أن تتركه لدى الآخرين. بعد تلك المواجهة صار يُعرف من قبل الجميع وبشكل لاعقلاني وغير عادل بإسم (خنزير).



ولسوء حظه لم تكن عمته تملك شيئا من حس النكتة. كان هنالك صورة لأبيه مكبرة وموضوعة على جهاز البيانو، رجل ضخم حزين الملامح يرتدي بدلة سوداء ذات حجم غير مناسب، في مدينة كابري، يحمل بيده مظلة (كي تحميه من ضربة الشمس)، وصخور (الفاراغليون) تشكل خلفية الصورة. في سن السادسة عشرة، كان جيروم يدرك تماما بأن الصورة لمؤلف كتب (شروق الشمس والظلال) و (متسكعون في الباليرك) أكثر مما هي لعميل في المخابرات. رغم ذلك كان يحب ذكرى أبيه، فهو ما يزال يحتفظ بألبوم يضم صور الكارتات التي استلمها من أبيه خلال رحلاته المتعددة (بعد أن عمل على نقل الطوابع منها إلى ألبوم آخر)، وكان يتألم كثيرا عندما يسمع عمته تروي وفاة والده للغرباء.



وغالبا ما تبدأ قصتها قائلة:



- حادث إصطدام مريع.



عندها تتشكل ملامح التعاطف والفضول على وجه الغريب أو الغريبة، وهي دون شك ملامح زائفة، لكن ما كان يرعب جيروم كثيرا رؤيته للفضول الحقيقي وهو يطل من عيني المستمع أو المستمعة بعد أن تتكشف جوانب الحدث المثير في القصة.



وتقول العمة:



- لا أدري كيف يمكن لأمور كهذه أن تحدث في بلد متمدن. وأعتقد أن إيطاليا كما يفترض الجميع هي بلد متمدن. نعم المرء يتوقع كل شيء وهو خارج بلده، وأخي رحالة كبير. كان على الدوام يحمل فلتر الماء معه بدلا من شراء قناني المياه المعدنية لتوفير مبلغ لابأس به من المال. وكان دائما ما يقول بأن الفلتر يوفر له على الأقل نفقات مشروبه. ولعل في هذا ما يدلل بأنه كان رجلا حريصا وحذرا، فهل تتوقع بالله عليك وبينما هو يقطع شارع دوتور مانويل بانوتشي في طريقه إلى متحف الهايدروكرافيك أن يسقط عليه من السماء خنزير.



لم يكن والد جيروم كاتبا متميزا، ولكن غالبا ما يحدث بعد موت الكاتب أن يبادر أحد المهتمين بالكتابة إلى الملحق الأدبي لجريدة التايمز يعلن عن نيته بكتابة السيرة الذاتية للأديب المتوفى ويسأل عمن يستطيع أن يزوده برسائل ووثائق تخص الكاتب، أو اية قصة أو حكاية يمكن أن يبعثها الأصدقاء والأقارب. وبطبيعة الحال فإن معظم السير الذاتية لا تظهر أبدا مما يدفع المرء إلى التساؤل فيما إذا كان الأمر برمته لايتعدى أحد أشكال الإبتزاز الخفي، أو أن الكاتب المزعوم للسيرة قد وجد في ذلك سبيلا لإنهاء دراسته في كنساس أو نوتنغهام.



وجيروم، على كل حال، بإعتباره محاسبا مرخصا لم يكن يفقه شيئا من عالم الأدب والأدباء. وكان في الحقيقة يبالغ كثيرا في حجم الخطر الذي يتهدده بسبب الحادثة الغريبة التي أدت إلى موت أبيه. لهذا بدأ يلجأ في الفترة الأخيرة إلى التدرب على أفضل طريقة في سرد القصة من أجل التقليل من العنصر الفكاهي فيها إلى الحدود الدنيا الممكنة. وبالطبع من غير الممكن أن يرفض في تقديم المعلومات، ففي مثل هذه الحالة ومن دون شك سيلجأ كاتب السيرة إلى عمته التي سوف تسرد له كل التفاصيل دون أدنى تردد.



وقد توصل إلى طريقتين. الأولى تسرد التفاصيل بطريقة متأنية وهادئة من شأنها أن تجعل الحادثة الرئيسية (موت والده) شيئا ثانويا، إذ أن خطر الانفجار بالضحك يكمن دوما في عنصر المفاجأة، ولهذا فهو في طريقته هذه يبدأ بالتحدث بصورة مملة ومضجرة قائلا:



- هل تعرف شيئا عن نابولي ومبانيها السكنية الشاهقة الارتفاع؟ قال لي أحدهم مرة بأن سكان نابولي يشعرون في نيويورك وكأنهم في مدينتهم، تماما كشعور أهل تورين وهم في لندن، لوجود النهر في كلا المدينتين كما تعرف.... عم كنت أتحدث؟ آآآ..نعم، نابولي.. بالطبع. ستصيبك الدهشة بالتأكيد عندما تعرف ماذا يضع الناس في الأحياء الأكثر فقرا في شرفات البنايات، لا..لا.. ليس الغسيل كما هو متوقع..بل أشياء مثل..بعض الحيوانات كالدجاج...أو حتى الخنازير. وطبعا هذه الخنازير لاتمارس أي نوع من الحركة في مكان ضيق كالشرفة مما يؤدي بالتأكيد إلى زيادة وزنها في وقت قياسي وبشكل غير طبيعي على الإطلاق.



يمكنه الآن أن يتخيل مستمعه وقد اتسعت عيناه وتألقت.



- هل لديك أدنى فكرة عن الوزن الذي يمكن أن يبلغه خنزير كهذا. أنا لا أعرف بالضبط، ولكن حدث أن شرفة في الدور الخامس قد انهارت تحت أحد هذه الخنازير، فاصطدمت بشرفة الدور الثالث قبل أن يسقط الخنزير إلى الشارع. كان والدي في طريقه إلى متحف الهايدروكرافيك عندما سقط هذا الخنزير عليه، فتوفي في الحال.



ربما كانت هذه محاولة فذة في وضع الموضوع الممتع ضمن إطار ممل.



الطريقة الثانية تتسم بالإيجاز الشديد:



- لم يكن موته طبيعيا بل قتله خنزير.



- وأين حدث هذا؟ في الهند؟



- لا في إيطاليا.



- غريب، لم أعرف أبدا بأن الايطاليين يهوون مطاردة الخنازير. هل كان أبوك مولعا بلعبة البولو؟



ومع مرور السنوات، ليس مبكرا جدا ولا متأخرا جدا، وبعد أن تعامل مع الموضوع، باعتباره محاسبا مرخصا، حسابيا وبالأرقام واستخرج النسبة والمعدل، قرر أن يتزوج من فتاة مليحة الوجه في الخامسة والعشرين من عمرها، أبوها يعمل طبيبا في (Pinner)، واسمها (سالي) وكاتبها المفضل هو (Hugh Walpole)، وتعشق الأطفال منذ أن حصلت وهي الخامسة من عمرها على دميتها الأولى التي تحرك عينيها وتذرف الدموع. وكانت العلاقة بينهما هادئة وخالية من الانفعالات العاطفية مما ساعد على بقائها واستمرارها لأنها ببساطة شديدة لم تكن تتعارض مع حساباته وأرقامه.



ظلت مسألة واحدة تقلقه كثيرا. حبه الكبير لأبيه، وتشبثه بهذا الحب وخوفه من أن تهتز صورة هذا الحب لو أن سالي لم تدرك تماما جوانب الموضوع وانفجرت بالضحك عند سماعها لقصة وفاة والده. وسيكون من المحتم أن تسمعها عندما يأخذها إلى العشاء مع عمته. وقد حاول في بضعة مناسبات أن يحكي لها القصة بنفسه، بما أنها كانت متلهفة لمعرفة كل شيء عنه.



- هل كنت صغيرا عندما توفي والدك؟



- فقط تسع سنوات.



- أمر محزن.



- كنت في المدرسة عندما نقلوا لي الخبر.



- وكيف كان وقعه عليك؟



- لا أتذكر.



- لم تخبرني أبدا كيف حدثت الوفاة.



- حادث طريق....وحدث الأمر بسرعة.



- وماذا عنك يا جيمي (صارت تدعوه بجيمي)، هل تقود بسرعة؟



ولم يتمكن من الانتقال إلى الطريقة الثانية التي تتحدث عن مطاردة الخنازير.



وكانا يخططان للزواج في مكتب للتسجيل وقضاء شهر العسل في (توركوَي)، وقد تجنب جيروم أخذ عروسه إلى عمته حتى الأسبوع الأخير من موعد العرس. وعندما حلت الليلة التي تلتقي فيها عروسه بعمته لم يكن على يقين فيما إذا كان قلقا وخائفا على ذكرى أبيه أم على حبه.



وجاءت اللحظة بأسرع مما كان يتوقع، عندما سألت سالي وهي تلتقط صورة الرجل صاحب المظلة:



- هل هذه صورة والد جيمي؟



- نعم يا عزيزتي، ولكن كيف عرفت ذلك؟



- له نفس عيني وحاجبي جيروم...أليس كذلك؟



- هل أعارك جيروم كتب أبيه؟



- لا لم يفعل.






السيد عبد الرازق 02-08-2008 02:54 PM

- حسنا، سأهديك مجموعة منها بمناسبة عرسك. أجمل كتبه كانت حول رحلاته. أما المفضل لدي فهو (زوايا وخبايا). كنت أتوقع له مستقبلا باهرا، لكن حادثة الاصطدام تلك قتلت كل شيء.



- أمر محزن....



تمنى جيروم في تلك اللحظة لو يغادر المكان قبل أن يرى الوجه الحبيب وهو يتقلص كي ينفجر في ضحكة مفاجئة.



- كثيرون من قرائه بعثوا برسائل إثر سقوط الخنزير عليه.



لم تكن عمته أبدا مباشرة بهذا الشكل من قبل. عندها وقعت المعجزة ولم تضحك سالي، بل تسمرت في موضعها مذعورة العينين تستمع لعمته وهي تواصل سرد القصة حتى النهاية.



- أمر مرعب حقا، ويدفعك إلى التأمل. هكذا فجأة يأتيك من السماء.



امتلأ قلب جيروم بالبهجة، فلقد أزاحت عنه رعبه وإلى الأبد. وفي سيارة الأجرة التي أقلتهما إلى البيت طوقها بذراعيه وقبلها بحب غامر لم يكشف عنه بمثل هذه القوة من قبل، وكانت ردة فعلها واضحة عندما تلألأت الدموع في عينيها الزرقاوين. سألها:



- بماذا تفكرين الآن يا عزيزتي؟



طوقت كفه بيديها وقالت متسائلة:







- وماذا حدث للخنزير المسكين؟



- من المؤكد أنهم تناولوه على العشاء.



قال ذلك وهو يقبل عروسه ثانية، وقد غمرته سعادة مفاجئة.



أبو ظبي 27 / 02 / 2006

السيد عبد الرازق 02-08-2008 02:55 PM

كاتب الموضوع: عمار كاظم محمد - 10-06-2008


تجربة غينسبرغ في قصائد الهايكو



ألن غينسبرغ



ترجمة:- عمار كاظم محمد







هو نوع من الشعر الياباني، يحاول شاعر الهايكو، من خلال ألفاظ بسيطة التعبير عن مشاعر جياشة أوأحاسيس عميقة. كان الـ"هايكو" سببا في ظهور "الصورية" وهي حركة شعرية أنجلو-أمريكية راجت في أوائل القرن العشرين (الـ20 م)، كما أثر في العديد من الأعمال الأدبية الغربية الأخرى. وهذه المجموعة من قصائد الهايكو للشاعر الامريكي الشهير ألن غينسبرغ



(1926 – 1997 ) والتي لم تنشر سابقا نقدمها هنا لتعطينا فكرة عن تجربته في كتابة هذا النوع من القصائد وعن حركة جيل " البيت " الذي كان الشاعر الراحل من رواده الاوائل .







أشرب شايي بلا سكر



وليس هناك من اختلاف



* * *



العصفور الدوري يذرق



من الاعلى الى الاسفل



آه ، دماغي والبيض



* * *



انظر من وراء كتفي



كل ما خلفي مغطى



بازهار الكرز



* * *



الهايكو شتاءً



أنا لا اعرف اسماء الازهار



فقد ماتت حديقتي



* * *



فعصت البعوضة



وغاب عني



السبب الذي دفعني لذلك



* * *



أقرا الهايكو



وانا حزين



وبي حنين الى ما ليس له اسم



* * *



الضفدع يطفو



في جرة الصيدلية



والمطر الصيفي على الارصفة الرمادية



* * *







على السقيفة



وفي البستي الداخلية



ضوء يومض في المطر



* * *



سنة أخرى



مرت على العالم



ولم يختلف شيء



* * *



أول شيء بحثت عنه



في حديقتي القديمة



كان شجرة الكرز



* * *



منضدتي القديمة



اول شيء بحثت عنه



في بيتي



* * *



مجلة طفولتي



أول شيء وجدته



على منضدتي القديمة



* * *



شبح امي



أول شيء وجدته



في غرفة الجلوس



* * *



لقد اقلعت عن الحلاقة



لكن العيون التي حدقت بي



مازالت في المرآة



* * *



المجنون يخرج من الافلام



كشارع في وقت الغداء



* * *



مدن الاطفال



في قبورهم



وهذه المدينة ايضا



* * *



اتكيء على جانبي



في الفراغ



وانفاسي في طرف انفي



* * *



في الطابق الخامس عشر



يمضغ الكلب عظمة



مثل صراخ سيارات الاجرة



* * *



القمر على السقف



الديدان في الحديقة



ساستأجر هذا البيت




السيد عبد الرازق 02-08-2008 02:57 PM

كاتب الموضوع: عمار كاظم محمد - 24-04-2008


من أشعار فروغ فرخزاد



( الجزء الاول )







ترجمة :- عمار كاظم محمد



أحسّ أني خسرت عمري كله ، كان عليَّ أن أعرف أقل بكثير من خبرة السبعة والعشرين عاما ً، لعلّ السبب يكمن في أن حياتي لم تكن مضيئة ، فالحب ، وزواجي المضحك في السادسة عشرة زلزلا أركان حياتي. على الدوام لم يكن لي مرشد ، لم يربّني أحد فكرياً وروحيا ً. كل ما لدي هو مني ، وكل ما لم أحصل عليه كان بمقدوري امتلاكه لولا انحرافي وعدم معرفتي لنفسي . عراقيل الحياة منعتني من الوصول لكنني أريد أن‏ أبدأ ..‏



تلك هي قصة الشاعرة الايرانية الراحلة فروغ فرخزاد التي ولدت في الخامس من كانون الثاني من عام 1935 من عائلةٍ كبيرةٍ وهي الثالثة بين سبعة أولاد. بعد تخرجها من مدرسة الأحداث العليا انتقلت إلى مدرسةٍ فنية لدراسة الرسم والخياطة ولم تنهِ المرحلة الثانوية.



كانت تبلغ السادسة عشرة عندما تزوجت من بارفيز شابور، أحد أقربائها البعيدين وهو حفيد خالة والدتها. وخلافاً لما هو الحال عند ابنتي الجيل السابق طاهرة قرة العين وبارفن اعتصامي بزواجهما التقليدي، تزوجت فروغ فرخزاد من رجلٍ وقعت بحبه. وبعد عام ولد طفلهما الأول والوحيد وهو صبي أسموه كاميار. صدرت مجموعة فرخزاد الشعرية الأولى تحت عنوان "الأسيرة" The Captive عام 1955 وتحتوي على أربعٍ وأربعين قصيدة تتحدث عن قصة امرأةٍ محبطةٍ وعن شعورها بالقيود في حياتها. وعنوان المجموعة بحد ذاته يشير إلى إحساسها بالتورط واليأس. شخصية "الأسيرة" الشعرية هي امرأة شابة مضطربة تقضي وقتاً مريراً تصوغ فيه هويةً لنفسها وتقع بحيرةٍ بين مطالب المرأة -الزوجة والأم التي، على ما يبدو، أنها تتناقض مع مطالب الشاعرة المستقلة



بعد ثلاث سنواتٍ من الزواج، قررت فرخزاد أن تترك زوجها رغم الصعوبات الاجتماعية والنفسية والمادية العديدة المترتبة على ذلك. وبكثيرٍ من الألم والحزن خسرت الحضانة الدائمة لطفلها الوحيد حتى إنها حُرِمَت من حقوق الزيارة. وفي أيلول من عام 1955 عانت من انهيارٍ عصبي وأُخِذَت إلى عيادةٍ نفسية حيث بقيت تتعالج لمدة شهر. وبعد عام من ذلك، أي في عام 1956 نُشِرَت مجموعتها الشعرية الثانية "ديفار" Divar أو The Wall وتعني "الجدار" وهي مهداةٌ إلى زوجها سابقاً.‏
"في ذكرى ماضينا المشترك آملةً أن تكون هذه الهدية التي لا قيمة لها رمزَ امتناني للطفه الذي لا حدود له".



‏ وبعد أقلّ من عام صدر كتابها الثالث "عصيان" Esian أو Rebellion وأثبت فعلاً أنها شاعرةٌ ذات مستقبلٍ واعد، لكن في الوقت نفسه رديئة السمعة بالنسبة لتقاليد مجتمعها. وفي قصائد هاتين المجموعتين البالغة اثنتين وأربعين قصيدة يلاحظ المرء شعوراً أقوى وأكبر باستقلالية الشاعرة فهي تنتقد مجتمعها بقسوة ولا سيما ظلمه للمرأة. إنّ شعوراً بالحنق والغضب يشكّل الدافع لكتابة الكثير من قصائد هذه الفترة. ‏
تمتلك فرخزاد شواهدَ كثيرةً على موهبتها وطاقتها؛ فما كادت تبلغ الرابعة والعشرين وقد أصدرت ثلاث مجموعاتً شعرية حتى نمّت اهتماماتٍ جديدة في التصوير السينمائي والتمثيل والإخراج. ففي عام 1962 أنجزت فيلماً وثائقياً عن مستعمرة مجذومين تحت عنوان "البيت أسود" (The House is Black) وقد لاقى الفيلم نجاحاً عالمياً وفاز بجوائز عدة. بينما تم نشر مجموعتها الشعرية الرابعة التي جاءت تحت عنوان ( ولادة أخرى ( another Birth في عام 1964. وبما أنّ الذاتي والخاص يشكلان خلفيةً دائمةً لشعر فرخزاد، فإنّ قصيدة (ميلاد آخر) تحتفي بميلاد أنثى تتمتع بحقوقها الجديدة كمقاتلة ناضلت من أجل كل خطوة في طريقها إلى الحرية؛ فهي تصبح أنموذجها الخاص وتخلق ذاتها بالصورة التي تريدها منها ميولها وطموحاتها الخاصة. ميلادها الجديد يمثل ميلاداً ذاتياً حقاً:‏



فارقت فرخزاد الحياة وهي في قمة إبداعها ولم تكن قد تجاوزت الثانية والثلاثين من عمرها إثر إصاباتٍ في الرأس في حادث سير في الرابع عشر من شباط عام 1967 فبينما كانت تحاول أن تتجنب عربةً قادمةً، اصطدمت بجدارٍ وانطرحت خارج سيارتها. ومن سخرية القدر هو أنّ هذه المرأة التي تجنبت الجدران وفرت منها طيلة عمرها قتلها في نهاية المطاف جدار.







القصــــــائـــــــــد






هدية



سأنطق من أعماق الليل



من أعماق الظلمة



ومن أعماق الليل سأنطق



إذا أردت أن تأتي إلى بيتي يا صديق



فاجلب لي مصباح ونافذة



استطيع أن انظر من خلالهما



إلى الزحام في الزقاق السعيد .



ستأخذنا الريح



في ليلتي الصغيرة , آه



الريح على موعد مع أوراق الأشجار



في ليلتي الصغيرة هناك الم الدمار



فلتصغي



هل تسمع عصف الظلمة ؟



أنا أعتبر هذه السعادة كشيء غريب



وأدمن يأسي



أصغي



هل تسمع عصف الظلمة ؟



شيء ما يمر في الليل



القمر مضطرب وأحمر



وفوق هذي السطوح



حيث قطع غيوم الخوف المتواصلة



مثل نائحين



يبدون كما لو أنهم بانتظار لحظة المطر



لحظة



ومن ثم لاشيء .



الليل يرتجف خلف هذه النافذة



ورياح الأرض تكاد أن تتوقف



خلف هذه النافذة



شيء ما مجهول يراقبنا أنت وأنا



أيها الأخضر من الرأس حد القدم



ضع يديك مثل ذكرى محترقة



في يدي العاشقتين



وامنح شفاهك أن تداعب



شفاهي العاشقة



مثل إحساس دافئ بالوجود



فالريح ستأخذنا



الريح ستأخذنا .







حافة الجدران



والآن , ثانية في سكون الليل



شقوق الجدران , حافة الجدران



مثل أشجار متشابكة



ربما تكون حراسا لحبي



والآن , ثانية شياطين المدينة تلغط



مثل مدارس مضطربة للمتصيدين



تتفادى حزني المتطرف



والآن , ثانية النوافذ تعيد اكتشاف نفسها



في متعة الاتصال بعطور منتشرة



والأشجار الهادئة في البساتين



تسقط لحائها وأغصانها



عند مداخلها الألف



وهي تتنسم ضوء القمر







* * *



والآن



تعال بقربي



واستمع



لنبض الحزن في حبي



الذي ينتشر



مثل قرع طبول افريقية



على طول قبيلة في أوصالي



أحس



اعرف



أي لحظة



هي لحظة الصلاة







والآن النجوم



عشاق



في ملاذ الليل



من النسيم العميق انبعثت



وفي ملاذ الليل



بجنون وقعت هكذا



بضفائري الغزيرة



في يديك



وأنا أقدم لك زهورا استوائية



من فلك هذا الشباب .







تعال معي



تعال إلى تلك النجمة معي



لأن القرون تمضي



من هذه الأرض متشبثة بمقاييس اللاجدوى



و لا احد هناك



يخاف من الضوء.







سأتنفس على جزر تطفو على المياه



وابحث عن نصيب في السماء الغالية



خالية من عنجهية الأفكار التافهة .







ارجع إلي



ارجع إلي



إلى مصدر كل الوجود



إلى المصدر المقدس للأصل الفريد



إلى لحظة خلقتها معك



ارجع إلي



فانا لا اكتمل الا منك .







والآن



على قمة صدري



تطير الحمامات



الآن



على سطح شفاهي قبلات الفراشات



تتعمد بأفكار الطيران



الآن



مذبح جسدي



مستعد لعبادة الحب



ارجع إلي



فليس لي طاقة للكلام



لأنني احبك



لأن عبارة " أنا احبك "



من عالم العبث



ومن القدم والإسهاب



ارجع إلي



فليس لي طاقة للكلام







في ملاذ الليل دعني اعشق القمر



دعني أمتلئ



بقطرات المطر الرقيقة



بالقلوب اليافعة



بالكتاب الذي لم يكتب



دعني أمتلئ



فربما يكون حبي مهدا



لولادة مسيح آخر .







الدمية الآلية



أكثر من هذا ، نعم



أكثر من هذا يستطيع المر أن يبقى صامتا



بنظرة ثابتة



مثل الأموات



يستطيع المرء أن يحدق لساعات طويلة



في الدخان المنبعث من سيكارة



في شكل الكوب



في الزهرة الذابلة على البساط



في الشعار الباهت على الجدار



يستطيع المرء أن يزيح الستائر



بأصابع متغضنة ويراقب



المطر يتساقط بغزارة في الزقاق



طفل يقف عند المدخل



ممسكا بطائراته الورقية الملونة



عربة هزيلة تغادر الساحة المهجورة



محدثة ضوضاء في اندفاعها







المرء يستطيع أن يقف بلا حراك



قرب الستائر – أعمى , أطرش







يستطيع المرء أن يصرخ



بصوت شكلي نوعا ما , ضئيل نوعا ما



" أنا أحب ........"



في الرجال أذرعهم المستبدة







يستطيع المرء أن يكون معافى ، أنثى جميلة



بجسم مثل جلد السماط



بنهدين كبيرين وصلبين



في الفراش مع سكير , مجنون , متشرد



يستطيع المرء أن يلوث براءة الحب .







يستطيع المرء أن يهين بمكر



كل الأسرار الغامضة



يستطيع المرء أن يستمر في حل الكلمات المتقاطعة



سعيدا باكتشاف الأجوبة السخيفة



نعم , أجوبة سخيفة من خمسة أو ستة حروف .







برأس منحن , يستطيع المرء



أن يجثو طوال حياته قبل برودة العذاب المغطى في القبر



يستطيع المرء أن يجد الله في قبر مجهول



يستطيع المرء أن يتاجر بإيمانه من اجل مال تافه



يستطيع المرء أن يتهرأ في زاوية مسجد



مثل حكواتي قديم لابتهالات حاج



يستطيع المرء أن يكون ثابتا كالصفر



سواء أضيف أو طرح أو ضرب



يستطيع المرء فيك – في عينيك حتى



في غضبهما



كحفرتين منطفئتين في وقت التعب



يستطيع المرء أن يجف في حوضه كالماء .







يستطيع المر ء بخجل أن يخفي جمال اللحظات التي قضيناها معا



في أعماق صدره



مثل لقطة فوتوغرافية قديمة ومضحكة



في الأيام الفارغة الشكل يستطيع المرء أن يظهر



صورة ألإعدام , الصلب أو الشهادة .



يستطيع المرء أن يغطي شق الجدار بغطاء



يستطيع المرء أن يتمادى في خيالاته بخداع أكثر من هذا .







يستطيع المرء أن يكون مثل دمية آلية



وينظر إلى العالم بعينين من زجاج



يستطيع المرء أن يعيش لسنوات في كذب وبهرجة



جسد ممتلئ بالتبن



في داخل قبعة في صندوق



لكل لمسة شيقة



بلا سبب دائما



يستطيع المرء أن يطلق صرخة



آه , سعيد جدا ,



هل أنا كذلك ؟







جمعــــــة



جمعة هادئة



جمعة مهجورة



جمعة حزينة كالأزقة القديمة



جمعة للأفكار المزعجة الكسولة



جمعة للتمطيات المتعرجة المؤذية



جمعة ليست للحدس



جمعة للخضوع



بيت خال



بيت موحش



بيت مغلق ضد طيش الشباب



بيت للظلام وفانتازيا الشمس



بيت للوحدة ، للتنبؤ والتردد



بيت للستائر ، الكتب ، الخزانات ، الصور



آه كيف أزهرت حياتي بصمت وسكون



مثل جدول يجري عميقا



في قلب صمت كهذا ، جمعة مهجورة



في قلب بيوت خالية من المتعة



آه كيف أزهرت حياتي بصمت وسكون .

السيد عبد الرازق 02-08-2008 02:59 PM


كاتب الموضوع: الدكتور بهجت عباس - 07-10-2007


خبز وخمر - المقطوعة التاسعة



للشاعر الألماني فريدريش هولدرلين ( 1770 -1843)



ترجمة بهجت عباس







نعم! يقولون بحق ، إنّه يوفّق بين النّهار والليل ،



يُسَيِّـرُ نجـومَ السَّماء عالياً وسافلاً إلى الأبد ،



جذلٌ دوماً كأوراق شجرة الصّنوبر دائمة الاخضرار ،



التي يُحبّـها ، والإكليلُ ، الذي اختاره ، من اللبلاب ،



لأنّـه يدوم و يجلب أثرَ الآلهة الهاربيـن



إلى الجاحديـن إلى أسفلَ تحت الظّلام.



وما تنبّـأتْ أغاني القدماء لأطفال الإلـه ،



انظرْ! نحن هـو، نحـنُ ؛ إنّـه فاكـهة هيسبيريـا*



مدهشٌ وبدقّـة تحقّـق تماماً كما للبشر.



اِعتقـدَ به مَـنْ اختبـرَه ! ولكنْ كثـيرٌ يحدث ،



لا شيءَ يفعل فعلَه ، لأنّـنا ظِلالٌ ، لا قلـوبَ لنـا ، إلى أنْ



يجعلـَنا أبونـا الأثـيرُ معروفين ويخصَّـنا كلَّـنا.



ولكنْ في غضون ذلك ، كذبالة مصباح ابن الذات الأعلى،



يأتي السّـوريّ إلى أسفلَ بين الظِّلال.



سعيداً يراه الحكماءُ ؛ تشعّ بسمة في الروح السّجينة ،



ولكنَّ عينَـها لا تزال تذوب من الضّياء .



تحلم برقّـة أكثـرَ وتنام بين أذرع أرض الجبابرة ،



حتّى ذلك الحاسد ُ، سَـربَـرَسْ ** ذاتُـه ، يشربُ وينـامُ .



= = = = = = = = = = = = = = =



* هيسبيريا Hesperia في الإنكليزية، Hesperien في الألمانية: هي واحدة من هيسبيرايدس Hesperidesفي الميثولوجيا الإغريقية وتعني حوريات الغابات أو الماء اللائي تـرعيْـن الحديقة المباركة في أقصى الغرب من الدنيا. وهناك مدن أمريكية سُمِّـيتْ بها .



** سَـربَـرَسْ Cerberus هو كلب هادس Hades إله العالم السفلي ، وهو بثلاثة رؤوس ، يحرس الباب التي تؤدّي إلى هادس ليتأكد من أنَّ أرواح الموتى تدخل ولا تخرج ، كما يمنع أيَّ حيٍّ أنْ يأتي إلى هادس.







Brot und Wein - 9



Friedrich Hölderlin (1770 - 1843)







Ja! sie sagen mit Recht, er söhne den Tag mit der Nacht aus,



Führe des Himmels Gestirn ewig hinunter, hinauf,



Allzeit froh, wie das Laub der immergrünenden Fichte,



Das er liebt, und der Kranz, den er von Epheu gewählt,



Weil er bleibt und selbst die Spur der entflohenen Götter



Götterlosen hinab unter das Finstere bringt.



Was der Alten gesang von Kindern Gottes geweissagt,



Siehe! wir sind es, wir; Frucht von Hesperien ists!



Wunderbar und Genau ists als an Menschen erfüllet,



Glaube, wer es geprüft! aber so vieles geschieht,



Keines wirket, denn wir sind herzlos, Schatten, bis unser



Vater Aether erkannt jeden und allen gehört.



Aber indessen kommt als Fakelschwinger des Höchsten



Sohn, der Syrier, unter die Schatten herab,



Seelige Weise sehns; ein Lächen aus der gefangenen



Seele leuchtet, dem Licht thauet ihr Auge noch auf.



Sanfter träumet und schläft in Armen der Erde der Titan,



Selbst der neidische, selbst Cerberus trinket und schläft.

السيد عبد الرازق 02-08-2008 03:01 PM


كاتب الموضوع: الدكتور بهجت عباس - 31-08-2006


لا شيء يمكن أن يُقدَّم تعزيةً للدكتور صالح زامل الذي فقد دنياه إلى الأبد بالمصاب الذي فاق كلَّ وصف، فَـقـدَ زوجة حبيبة مسكينة وأطفالاً أبرياء لم يذوقوا من الحياة غير نهايتها المريرة على أيدي عصابات متوحشة مجرمة لا ترتوي إلا بشرب الدّم.



فهل أستطيع أن أقدّم هذه الترجمة زفراتٍ حرّى إليه ؟



ب. ع.



أوقِـفْ كلَّ السّاعاتِ


هـ . و . أودن ( 1907 – 1973 )



ترجمة بهجت عباس





أوقفِ السَّـاعاتِ يا صاح ِ ودَعْ عنك المِـزاحا



واقطعِ الهاتفَ، وامنع ْ ذلك الكلبَ



بعـظم ٍ أنْ يهــزَّ الكونَ والدّ ُنيا



هَـريراً ونُـباحا



أخْــرِس ِ الأوتـارَ لا أسطـيعُ أنْ أسـمع َ



أنغـاماً سِـفاحـا



والجُـم ِ الطَّـبـلَ بصمت ٍ واجلب ِالتابوتَ



واد ْع ُ النـُوَّحَ الحَـيْـرى إلى الدار



ليَـخـفِـضْـنَ الجّنـاحا



وليكُـنْ فوق رؤوس الناس سـربُ الطـّائراتِ



بأزيـزٍ وعـويـلٍ وأحَـرِّ الـزَّفـراتِ



لتخـط َّ الكـلـمـاتِ



في أعالي السَّـمـَوات ِ



إنـَّه مَـيْـتٌ، فضَـع ْ يا صاحـبي شاراتِ حـُزن ِ



حول أعناق حَمام ٍ تـاهَ في روض ٍ أغَـنِّ



ودع ِ الشّـرطيَّ، شرطـيَّ المـرور ِ



يضعُ الأسودَ في كـفـّـيْـهِ قـُـفّـازاتِ قطـن ِ



فلقد كان شـمالي ، ولقد كان جـَـنوبي



كان لي شـرقــاً وغربــاً



كان أ ُسبـوعي الذي أعمل فيه للغـروب ِ



كان يوم َ الأحـد ِ



ذلك اليوم الذي أنعُـمُ في أفـيائـِه بالرّغـد ِ



كان ليلي ونهاري وحديثي وأغانـيَّ العِـِذابا



كانُ ظنـّي أنَّ ذاك الحُـبَّ حـبّ ٌ أبـدي



فاطـفِـئ الأنجُـمَ لا أرغَـبُـها إلاّ خـِلابـا



وارزم ِ البـدرَ وعَــرِّ الشَّمسَ من كلِّ سناهـا



فـلقـد كـانـتْ سـرابـا



واسكب ِالبحـرَ بعـيدا،ً واكـنُـس ِ الغـابات ِ عـنـّي



لا لشيء بعد هذا اليـوم ِ أنْ يأتـي بخـيـرٍ أو بحُسْـن ِ

السيد عبد الرازق 02-08-2008 03:02 PM

كاتب الموضوع: رافع الصفار - 09-04-2006


الحارس الليلي



قصة: أنطون تشيخوف



ترجمة: رافع الصفار



- مَن هناك؟



لم يأته رد. ولم يكن بمقدور الحارس ان يرى شيئا. رغم زئير الريح المتواصل وارتطامها بالشجر، كان يسمع وقع اقدام تتقدمه على امتداد الطريق. ليلة من ليالي آذار (مارس). السماء ملبدة بالغيوم، والضباب الكثيف يغلف كل شيء، وخيل للحارس بأن الأرض والسماء وهو نفسه مع أفكاره قد توحدوا جميعا في هيئة واحدة هائلة منيعة تتسربل بالسواد. كان يتلمس طريقه في تلك العتمة الكثيفة.



عاد الحارس يصيح مناديا:



- من هناك؟



وبدأ يتخيل بانه يسمع همسا وضحكة مكتومة.



- من هناك؟



- أنا...ايها الصديق.



جاءه صوت رجل عجوز.



- ولكن من تكون؟



- أنا....مسافر.



عندها صرخ الحارس بغضب، وهو يحاول أن يخفي رعبه بالصراخ.



- أي نوع من المسافرين أنت؟ ماذا تفعل بحق الشيطان في مثل هذه الساعة داخل المقبرة؟



- ماذا ؟! أتقول أنها مقبرة ؟!



- وماذا تكون؟ بالطبع أنها مقبرة. الا ترى ذلك؟



جاءه صوت الرجل العجوز متنهدا:



- يارب السموات! لكني لا أرى شيئا. لا استطيع حتى أن أرى يدي أمام وجهي.



- ولكن من تكون؟



- أنا حاج...يا صديقي



عندها انطلق الحارس يغمغم لنفسه بتذمر:



- الشياطين وطيور الليل...نوع جيد من الحجاج...وكذلك السكارى. يسكرون طوال النهار ويخرجون في الليل ليجوبوا الطرقات



ثم أضاف بعد لحظة صمت.



- يخيل لي اني سمعت أكثر من صوت، كأنكم إثنان أو ثلاثة.



- إنني لوحدي يا صديقي، لوحدي. آآآآآآ....كم نرتكب من ذنوب.....



وتعثر الحارس بالرجل فتوقف.



- كيف جئت إلى هذا المكان؟



- فقدت طريقي ايها الرجل الطيب. فأنا متجه إلى (متريفسكي ميل) ولكن يبدو أنني قد ضعت.



- نعم، هذا صحيح، فالطريق إلى (متريفسكي ميل) ليست من هنا. كان عليك أن تتجه إلى اليسار. تخرج من المدينة مباشرة لتسلك الطريق الخارجي. واضح انك توقفت في المدينة لتشرب بضعة كؤوس، ولهذا انت الآن تائه.



- نعم يا صديقي فعلت ذلك. لن أخفي ذنوبي، ولكن ماذا افعل الآن؟



- تستمر حتى نهاية الطريق، ثم تنعطف معه إلى اليمين وتسير حتى تصل البوابة وهي نهاية المقبرة، تفتحها وتخرج مصحوبا بالسلامة. وحاذر أن تسقط في الغدير. بعد المقبرة تسير بمحاذاة الحقول حتى تصل الطريق الرئيسي.



- أعطاك الرب الصحة والعافية يا صديقي، وحمتك السموات. كن رحيما معي أيها الرجل الطيب وسر معي حتى البوابة.



- لا ليس عندي الوقت لذلك، عليك أن تذهب لحالك.



- كن رحيما، وسوف أصلي من أجلك. فأنا لاأستطيع أن أرى شيئا. المرء لايستطيع أن يرى كفيه أمام وجهه بسبب الظلمة. دلني على الطريق يا سيدي.



- كما لو أنني لدي الوقت الكافي كي أكون دليلا لك. هذا غير ممكن يا سيد.



- بحق السيد المسيح، أتوسل إليك أن تدلني على الطريق، فأنا لا أرى شيئا. ثم إنني أخاف أن أسير وحيدا في المقبرة. إنه أمر مرعب ومخيف.



يتنهد الحارس أخيرا ويقول:



- يبدو أن لا خلاص منك. حسنا، هيا بنا.



وسارا سوية، الحارس والمسافر، متلاصقين وصامتين. وكانت الريح المشبعة بالرطوبة تضرب وجهيهما مباشرة، بينما خشخشة الأشجار الخفية تنثر قطرات الماء عليهما، وكانت الطريق مغطاة بالوحل تماما.



قال الحارس بعد فترة صمت دامت طويلا:



- نسيت أن أسالك. كيف دخلت المقبرة والبوابة مقفلة؟ هل تسلقت السور؟ إذا كنت حقا قد فعلت ذلك، فهذا آخر شيء اتوقعه من رجل كبير السن.



- لا أدري يا صديقي، لا أدري. انا نفسي لا اعرف كيف حصل هذا. إنه عقاب من الله...إذن أنت حارس هنا يا صديقي؟



- نعم.



- الوحيد على كل المقبرة؟



ضربتهما في تلك اللحظة لفحة ريح هوجاء فتوقفا في مكانهما، وانتظرا حتى تجاوزتهما. عادا ليواصلا سيرهما. أجاب الحارس:



- نحن ثلاثة. أحد الإثنين الباقيين مريض بالحمى، والآخر نائم، ويستلم واجبه من بعدي.



- آآآآ...فقط اردت أن أتأكد ياصديقي. يا لها من ريح. تعوي كأنها وحش. آوووووووه...



- ومن أين أنت قادم؟



- من مكان بعيد يا صديقي. أنا من فولوغدا. أتنقل من مكان مقدس إلى آخر وأصلي للناس. فليحفظني الله ويشملني برحمته.



توقف الحارس كي يشعل غليونه. إنحنى خلف ظهر المسافر واشعل بضعة عيدان كبريت. وهج العود الأول أضاء لوهلة على الجانب الأيمن من الطريق شاهدة قبر بيضاء بملاك وصليب أسود. العود الثاني توهج وانطفأ بسبب الريح. ظهر كأنه برق مندفع إلى اليسار فكشف عن جانب لشيء أشبه بسقيفة. عود الكبريت الثالث اضاء جانبي الطريق كاشفا عن شاهدة القبر، الصليب الأسود، وسقيفة لضريح طفل. غمغم الغريب وهو يتنهد بصوت مرتفع:



- النائمون الغائبون، النائمون الأعزة. كلهم سواء في نومهم، الأغنياء والفقراء، العاقلون والحمقى، الطيبون والأشرار. لا فرق بينهم على الإطلاق، وسيبقون نائمين جميعا حتى النفير الأخير. لتكن جنة الخلد مأواهم يسكنونها آمنين.



أجابه الحارس معلقا:



- الآن نحن نتحرك ونتحدث عنهم، ولكن سيأتي اليوم الذي نرقد فيه إلى جانبهم.







- دون شك سنموت جميعا. ليس هنالك من لا يموت. آآآآ...وافعالنا، وأفكارنا..شريرة، ماكرة ومخادعة...



- نعم ، لكنك ستموت يوما.



- دون شك يا صديقي.



يواصل الحارس تعليقه قائلا:



- الموت على حاج أسهل منه على أشخاص مثلنا.



- الحجاج أنواع، هنالك الحقيقيون الذين يخافون الله ويحرصون على عدم معصيته، وهنالك التائهون الضائعون في المقابر يوسوس لهم الشيطان بشتى المعاصي. يستطيع أحدهم الآن أن يفتح رأسك بفأس ويضع حدا لحياتك.



- لماذا تتحدث معي بهذا الشكل؟



- اوه..لا شيء، مجرد خيالات. أعتقد أننا وصلنا البوابة، هيا افتحها أيها الرجل الطيب.



تحسس الحارس طريقه نحو البوابة و..فتحها، ثم أمسك بالحاج من كم ردائه وقاده إلى الخارج قائلا:



- هذه هي نهاية المقبرة، والآن عليك أن تسير عبر الحقول المفتوحة حتى تصل الطريق الرئيسي. فقط حاذر من السقوط في الغدير القريب من هنا.



يتنهد الحاج بعد لحظة صمت ويقول:



- لا أظن أني سأذهب إلى (متريفسكي ميل). لا أرى سببا لذلك. سأبقى معك بعض الوقت يا سيدي.



- ولأي سبب تبقى معي؟



- أوه..أعتقد أن البقاء معك أفضل.



- إذن، فقد وجدتَ رفقة حسنة. أرى أنك مولع بالمزاح أيها الحاج.



قال الحاج وهو يكتم ضحكة غليظة:



- إذا أردت الحق، نعم، أنا كذلك. آآآآ...أيها الرجل الطيب، أراهن أنك ستظل تتذكرني لسنوات طويلة.



- ولماذا... سأظل أتذكرك؟



_ لقد أتيتك من حيث لا تدري....فهل أنا حاج؟ لا..أنا لست حاجا على الإطلاق.



- فماذا تكون إذن؟



- مجرد رجل ميت. لقد نهضت من تابوتي للتو. أتذكر صانع الأقفال غوبارييف الذي شنق نفسه في أسبوع الكرنفال؟ حسنا، أنا غورباييف.



- قل شيئا آخر.



لم يصدقه الحارس، لكن قشعريرة باردة سرت في جسده، واستولى عليه رعب ضاغط، فاندفع متعجلا يتحسس البوابة. لكن الغريب أمسك به من ذراعه وصاح به:



- هَه..هَه..هَه، أين أنت ذاهب؟ هل من اللياقة أن تتركني لوحدي.



عندها صرخ الحارس وهو يحاول ان يتحرر من قبضة الغريب:



- أتركني، أتركني...



- توقفْ. قلت لك توقفْ..، فلا تقاوم ايها الكلب القذر. إذا أردتَ أن تبقى بين الأحياء، فتوقفْ وامسك لسانك حتى أقول لك. لو كنتُ اريد قتلك، لكنتَ الآن ميتا منذ زمن. هيا..توقفْ أيها الخسيس...



ومن شدة رعبه، أغلق الحارس عينيه، متكئا على السور. وكانت ساقاه تهتزان بشدة تحته. كان يريد أن يصرخ مستنجدا، لكنه كان يعرف بأن صوته لن يصل أحدا من الأحياء. وكان الغريب واقفا إلى جانبه ممسكا بذراعه.



مرت ثلاث دقائق دون أن يتكلما. أخيرا خرق الغريب الصمت محدثا نفسه:



- أحدهم مصاب بالحمى، والآخر نائم، والثالث يرى حُجاجا على الطريق. هل تعرف بأن اللصوص أكثر شطارة منكم. توقفْ.. لاتتحرك..



ومرت عشر دقائق وهما في صمت تام. فجأة جلبت الريح صوت صفير. عندها قال الغريب تاركا ذراع الحارس:



- الآن يمكنك ان تذهب. هيا اذهب واشكر ربك لأنك ما تزال حيا.



أطلق الغريب صفيرا أيضا، وركض عبر البوابة، وسمعه الحارس وهو يقفز فوق الغدير.



كان ما يزال يرتعد من رعبه، عندما فتح البوابة وانطلق يركض وهو مغمض العينين، وفي داخله يراوده إحساس ينذر بالشر.



وعند انعطافته إلى الطريق الرئيسي، سمع وقع خطوات مسرعة، وصوتا يسأل:



- أهذا أنت يا تيموفي؟ أين ميتكا؟



وظل يركض حتى نهاية الطريق الرئيسي، عندها لاح له ضوء خافت في العتمة. وكان خوفه وإحساسه بوقوع الشر يتعاظم ويكبر وهو يدنو من الضوء. قال محدثا نفسه:



- يبدو أن الضوء قادم من الكنيسة. ولكن كيف حصل هذا؟ فليحمني الرب ويشملني برحمته.



وقف الحارس لبرهة أمام النافذة المحطمة، ينظر برعب إلى المذبح. كانت هنالك شمعة صغيرة، يبدو ان اللصوص نسوا أن يطفئوها، كان ضوءها يهتز مع الريح، فينشر بقعا داكنة حمراء فوق الأردية المتناثرة على الارض، والخزانة المقلوبة وآثار الأقدام المنتشرة عند المذبح.



مر بعض الوقت والحارس متسمر في موضعه، والريح تعوي.. ويختلط عواؤها بخشخشة وصليل الأجراس...



صوفيا 14 – 02 - 2006

السيد عبد الرازق 02-08-2008 03:04 PM


كاتب الموضوع: سعيد محمد الجندوبي - 24-02-2008


البحيرة







للشاعر الفرنسي لامارتين (1790-1869)



نقلها إلى العربيّة سعيد محمد الجندوبي







عندما كتب لامارتين "البحيرة"، كانت حبيبته جولي لا تزال على قيد الحياة، وإنّما أجبرها مرضها القاتل على ملازمة باريس. كان الشاعر إذًا وحيدا، في مكان لقائهما المفضّل، وكان مشهد "بحيرة البورجيه" يبعث في نفسه شعورا بالحنين، وكذلك صورا من ذكريات سعادته المهدّدة. وهذا ما حدى به للتعبير عن قلقه وخوفه أمام "هروب الزمن"، وكذلك عن رغبته الجامحة في تخليد حبّه، على الأقل بالذكرى. فالقصيدة إذًا مرتبطة بأحداث محدّدة. ومع هذا فلامارتين يتحدّث بلغة صادقة و موغلة في الإنسانيّة، بحيث غدت "البحيرة" قصيدة خالدة، تتناول مسألة قلق الإنسان أمام القدر، وكذلك شوقه لسعادة وحبّ سمتهما الدوام والخلود.







وتلك الأيّام، تلقي بنا دوما نحو سواحل جديدة،



وفي الليل الأزلي تأخذنا بدون رجعة،



فهل يمكننا يوما، على سطح محيط العصور



حطّ الرحال ولو ليوم؟







ألا يا بحيرة! ها هو العام قد ولّى،



وقرب الأمواج التي نعشق والتي كانت من جديد سَتَراها،



انظري! ها أنا اليوم جئت وحيدا، لأجلس على صخرة،



طالما رأيتِها جالسة فوقها!







كنتِ تعوين هكذا تحت هَذِي الصخور الغائرة؛



هكذا كنتِ تتحطّمين على أجنبها الممزّقة؛



هكذا كانت الريح تلقي بزبد موجاتك



على ساقيها المحبوبتان.







هل تذكرين ذات مساء؟ كان قاربنا يسير بصمت؛



ولم يكن يصلنا من بعيد، فوق الموج وتحت السماوات،



غير ضجّة المُجَدّفين، وهُم يقرعون بإيقاع،



أمواجك المنسجمة.







فجأة، لهجات تجهلها الأرض،



من الساحل المفتون، ضَربتْ بالأصداء



وأصغى الموج، ومن الصوت الذي أحبّه



تناثرت الكلمات:







"أيا دهر، رويدك! وأنتنّ، أيّتها الساعات المناسبات



قفن !



ولنهنأ بالملذّات السّرعَى



للأجمل من أيّامنا!







كُثْرٌ من هُم تعساء في هذي الأرض يستجدونك:



تدفّقْ، تدفّقْ، لهم؛



خذ مع أيّامهم مآسيهم التي باتت تنهشهم؛



وانسَ السعداء.







لكن، عبثا أسألك، من الزّمن المزيد



يفلت الوقت منّي، ويفرّ؛



أقول لهذه اللّيلة: "تمهّلي!"؛ فالفجر لا محالة



سيبدّد الظلام.







"فلنعشق إذًا! فلنعشق! ومن السّاعة الهاربة،



فلنعجّل، ولننعم!



ليس للإنسان مرفأ، ولا للزّمان ساحل؛



فالزمان يجري، ونحن نمرّ!"







ألا أيّها الدهر الحاسد، هل لساعات النشوة،



عندما يسقينا الحب السعادة بدون حساب،



أن تطير بعيدا عنّا، بسرعة



أيّام الشّقاء؟







ثمّ ماذا! هل لنا، على الأقلّ، تخليد أثرها؟



ماذا! انقضت إلى الأبد؟ ماذا! ضاعت كلّ تلك الساعات؟



هذا الدهر الّذي أوجدها، هذا الدّهر الّذي محاها،



أفَلن يعيدها لنا من جديد؟







أزل، عدم، ماض، لجج سحيقة،



ماذا تراكم تفعلون بالأيّام التي قد ابتلعتُم؟



تكلّموا! هل ستعيدون لنا تلك النّشَوَات العظيمة



الّتي قد خطفتم؟







أيا بحيرة! أيّتها الصّخور الصمّاء! أيّتها الكهوف! أيّتها الغابات الحالكات!



أنتنّ يا من يحافظ عليكنّ الزمان، أو من قد يعيد لكنّ الشباب،



احفظن من هذه اللّيلة، احفظي أيّتها الطبيعة الغنّاء،



على الأقلّ، الذكرى!







لِتكن في سكونكِ، لِتكن في عواصفكِ،



أيّتها البحيرة الجميلة! وفي منظر تلاّتك الضاحكات،



وفي صنوبركِ الدَّجِيّ، وفي صخرك المتوحّش،



وهُم في تدلٍّ فوق مياهكِ!







لِتكن في نسماتكِ المرتعشة وهيَ تمرُّ،



في أصداء ضفافكِ ... بضفافك المكرّرة،



في النّجم ذو الجبين الفضّي يضيءُ سطحك



بأنواره المسترخية!







ولتقلِ الريح وهي تئنّ، والقصب المتنهّد،



وعبق ريحك العطر، اللّطيف،



وكلّ ما نسمع، ونرى، ونستنشق،



ليقل كلّ شيء: " لقد أحبّا!"

السيد عبد الرازق 02-08-2008 03:05 PM


كاتب الموضوع: عمار كاظم محمد - 16-09-2007


بوريس باسترناك ( 1890 ـ 1960 )



الموقف الحقيقي للفنان الأصيل



ترجمة:- عمار كاظم محمد



بوريس ليوندوفيج باسترناك ، الابن الأكبر للرسام ليونيد باسترناك وعازفة البيانو روزا كوفمان ولد في موسكو عام 1890 حيث كان والده يعلم الرسم في مدرسة كانت في الأساس بيتا قضى فيه باسترناك طفولته .كان والداه يستقبلان ضيوفا من كتاب موسكو المعروفين ، مجموعة من الفنانين والأدباء ومن بينهم الشاعر غير المعروف بعد آنذاك راينر ماريا ريلكة عام 1899 والذي أصبحت كتاباته فيما بعد ذات تأثير كبير على باسترناك .



بالإضافة إلى والدية كان باسترناك يتلقى تعليما خاصا من أساتذته حتى دخوله الإعدادية عام 1901 حيث تلقى تعليما كلاسيكيا بينما كان يستطيع الرسم جيدا بتأثير والده .كان حبه الأول هو علم النبات والثاني حبه للموسيقى الذي ألهمه إياه الموسيقار سكريابين حيث كان صديقا للعائلة وحيث كرس باسترناك ست سنوات من حياته لدراسة الموسيقى .على الرغم من أن الجميع كانوا يتوقعون أن يصبح موسيقيا محترفا لكن باسترناك كان يتخوف دائما من نقص في مهارته التكنيكية .في عام 1909 ترك باسترناك الموسيقى نهائيا حيث دخل اختبار الكفاءة في جامعة موسكو واتجه حالا لدراسة الفلسفة لكنه تركها في النهاية عام 1912 ليلبي نداء موهبته الحقيقية (الشعر) ومع ذلك فان شعره ونثره كان يحمل علامة حماس شبابه للموسيقى والفلسفة في السنوات التي سبقت الثورة الروسية حينما كان وقت المواهب الكبيرة والغنى الفني في روسيا .



مع دخول القرن العشرين كانت روسيا تزخر بالحركات الفلسفية والدينية المتجددة والتي لعب فيها الشعراء الرمزيون الدور الرئيس . لقد كان عصر كاندنسكي وشاغال ، سكريابين وسترافنسكي وأعظم شاعر في ذلك العصر هو الكسندر بلوك .



لقد شاخ الرمزيون وكان هذا مقدمة لظهور جيل العظام آنا أخماتوفا ، فلاديمير ماياكوفسكي ، أوسيب ماندلستام وباسترناك .



لم يكن باسترناك قادرا على أداء الخدمة العسكرية لأنة سقط في طفولته من على ظهر جواد , تلك السقطة تركته برجل أقصر من الأخرى . فيما بين الأعوام 1914 – 1917 قضى ذلك الوقت موظفا في مختبر كيماوي في الجانب الشرقي البعيد من موسكو تلك الفترة كانت مثمرة بالنسبة له حيث كتب ديوانين في سنوات الحرب أحدهم فقد في حريق عام 1915 والثاني طبع عام 1917 بعنوان "فوق العوائق" في شباط من نفس العام .



بعد ثورة عام 1917 كتب باسترناك ديوانين هما " شقيقتي الحياة " و " موضوعات وتنويعات " على الرغم من أن الحالة أثناء الحرب لم تسمح للكتابين أن يطبعا لمدة خمس سنوات فقد طبع(شقيقتي الحياة) عام 1922. هذا الديوان قد وضع باسترناك حالا في مقدمة الكتابة في ذلك الوقت وفي العام الذي سبق ظهور الديوان كان قد عمل جاهداً كمترجم للعديد من المسرحيات لـ( فان كليست) (بن جونسون) وأشعار ل( لهانز شاش، غوته، هاريف) وكتاب ألمان آخرين.
بعد الثورة كان على الكتاب الروس أن يختاروا بين الهجرة أو التعايش مع الثورة البلشفية، لم يكن باسترناك متحمساً تجاه الثورة لكنه بقي مع آنا اخماتوفا واوسيب ماندلستام في روسيا يعيش مغمورا مع مجموعة من الشعراء الشيوعيين في موسكو لكن عائلة باسترناك غادروا إلى ألمانيا ولم يعودوا أبدا.
في عام 1923 استمر باسترناك بكتابة أشعار قصيرة لكنه كالكثير من معاصريه كان يشعر بالمأساة لان الجو المسالم الذي يستطيع الشاعر أن يكتب فيه بأمان وثقة تحول الى جو مشحون بالدمار والعداء وشيئاً فشيئاً بدأ باسترناك يحس بأن الشاعر ليس له مكان في المجتمع الجديد ويستطيع أن يعيش خارجا فقط فاتجه إلى المواضيع التاريخية كالثورة الروسية الأولى.
في أواخر العشرينات جاءت موجة جديدة من التعصب والرعب فقد توفي لينين عام 1924 وبدأ ستالين بالصعود بمظهر المنتصر تدريجيا في عام 1928 انتقل ترو تسكي إلى منفاه وبدأت تظهر عيوب ستالين واحداً بعد الآخر فلقد حصل انقلاب في كل الحقول ومن ضمنها عالم الأدب وفي عام 1932 أصبحت عقيدة الواقعية الاشتراكية معلنة وأصبح اتحاد الكتاب الروس الحامي الوحيد لهذه العقيدة.
لقد كان وقت الأزمات كما كان يعرفه باسترناك جيداً، الكثير من الكتاب والفنانين شعروا بإغراء الانتحار كان باسترناك يؤمن بان من المبدئي للشاعر ان يتغلب على هذا الشعور والخوف من المستقبل وان يستمر بالعمل حتى عندما يصبح الفن والوجود الروحي غير مأمون، تلك النظرية شرحها باسترناك في مجاز قصيدته( الولادة الثانية) على العكس من ماندلستام كان باسترناك قادرا على الأمل، في الثلاثينات كان هناك موقف سياسي واضح يرى في الأشعار والخطب كمظاهر خطرة للاستقلالية استمر باسترناك بدفاعه عن استقلالية الفنانين لقد تحدث بشكل واضح عن موقفه السياسي في مقدمته المقترحة للطبعة الثانية من( السلوك المأمون ) لكنها منعت من الظهور كانت السلطات راغبة في طبع أشعاره لكن ليس نثره فلقد كان باسترناك خائفاً من أن الحكم السوفيتي يجبره على أن يتحرك كما تريد الحكومة.
والتي قادته أن يأخذ بنظر الاعتبار حجم المخاطرة في النهاية وبعد مناقشتين في محفل عام وطبع مجموعة من الأشعار تدعى (الفنان) اعتبره رئيس اتحاد الأدباء كخائن في حديث لمجلس السوفيت لحد هذه النقطة كان على باسترناك أن يلعب دوراً فعالاً في الشؤون المحلية وحتى ذلك الوقت كان يعتبر شعبيا احد شعراء العصر البارزين.
لغاية عام 1958 نجا باسترناك من الاضطهاد الذي لحق بالكثيرين من الكتاب الروس, في عام 1934 استشير من قبل ستالين حول موهبة ماندلستام الشعرية والذي اعتقل لاحقاً. لقد فعل باسترناك أقصى ما يستطيع نفوذه في إنصاف الناس الذين اعتقلوا.
بعد ديوانه( الولادة الثانية) لم يكتب باسترناك شعرا لمدة عشر سنوات فقد عمل جاهداً كمترجم للشعراء الجورجيين بصورة خاصة. لقد نجح و كوفئ جيداً واستطاع أن يشتري له بيتاً في قرية الكتاب خارج موسكو وهو بيته الذي قضى فيه بقية حياته في عام 1936 وبعد أن ترجم مسرحية شكسبير( هاملت) استطاع أخيرا أن يكتب الشعر.
في حزيران عام 1941 تحرك جنود هتلر باتجاه روسيا، عمل باسترناك في هذه الفترة جاهداً حيث كتب شعرا حول موضوعة الحرب كما ترجم روميو وجولييت، انطوني وكليوباترا، عطيل وهنري الرابع.
بعد الحرب شعر باسترناك بالحاجة إلى كتابة عمل نثري كبير والذي سيحمل استمرارية أفكاره عن الحياة والجمال الذي يضيء الوجود اليومي، الفن والسيرة الذاتية، بوشكين ، تولستوي، والكتاب المقدس.
خلال الحرب استلم رسائل من خط الجبهة والتي بينت أن لصوته صدى قد سمع بعيدا إلى أناس غير معروفين وفي القراءات الشعرية في موسكو كان المستمعون يذكرونه إذا نسى بيتا واحداً وهو لم يكن يريد أن يفقد هذا الاتصال مع الأكثرية المتحمسة من القراء وكان يريد إخبارهم ماذا كان يبدو له. ونتيجة لذلك انقطع عن عمله الرسمي وركز على رواية (دكتور زيفاغو) كان يعرف جيداً بأن ذلك التركيز على الرواية سيمجد الحرية السابقة والاستقلالية والعودة إلى الديانة المسيحية والذي ألقى بتبعاته السيئة المستمرة عليه.
في عام 1946 بدأ برنامج أيديولوجي جديد والكثير من أصدقاء باسترناك اعتقلوا فلقد استمر الرعب وزاد خلال الفترة التي كان يعمل فيها على انجاز رواية( دكتور زيفاغو) ولكي يسند نفسه في ما بعد الحرب استمر بالترجمة وأنجز أربعة فصول من الرواية والتي كونت الجزء الأول. في عام 1950 أكمل الفصل الخامس والسادس وفي عام 1952 أكمل بقية الأجزاء وفي نفس السنة أصيب بنوبة قلبية كادت تؤدي به إلى الموت لقد تقبل الألم بشعور من السخاء والسعادة عارفا انه يفعل الشيء الصحيح بحياته وذلك هو ما وهبته عائلته لأجله.
في عام 1957 طبعت رواية( دكتور زيفاغو) باللغة الروسية في ايطاليا وفي أكتوبر من عام 1958 فاز بجائزة نوبل للأدب وكان ذلك مع الأخذ بنظر الاعتبار قيمة وأهمية (دكتور زيفاغو) حينها بدأت حالاً حملة دعائية حكومية ضده في الاتحاد السوفيتي حيث منعت كل مطبوعاته المترجمة وحرم من قوت عيشه. لقد كان فقيرا وغير متأكد من قدرته على إسناد استقلاليته مع ذلك فان هذا الإجهاد لم يعكر إيقاعه فقد كتب آخر أعماله( عندما يصفو الجو) وفي صيف عام 1959 بدأ بكتابة مسرحية( الجمال الأعمى) وفي عام 1960 كان يعاني من سرطان الرئة لقد كانت ظروفه تزداد سوءا وقد اجبر أن يكون طريح الفراش تاركا( الجمال الأعمى ) غير مكتملة لقد بقي على قيد الحياة لشهر ونصف دون أن يفقد الوعي محاولاً أن يعزي عائلته وأصدقاءه والأطباء والممرضات الذين اعتنوا به توفي باسترناك في الثلاثين من أيار عام 1960 وقد فعلت السلطات أقصى ما تستطيع لتسوقه إلى حتفه، الآلاف من الناس سافروا خارج موسكو لحضور جنازته في القرية الصغيرة التي عاش فيها.



روح



بوريس باسترناك



ترجمة :- عمار كاظم محمد



يا روحي الباكية ....



حزنك لكل الأصدقاء من حولي



لقد أصبحت سرداب دفن



لكل الذين مضوا بعيدا ...



مكرسة لذكراهم الشعر



لوميهم ، في الألم ، في الانكسار



ونوحي عليهم بحب .....



في هذا الزمن البخيل والأناني



بالوعي وبالتساؤل



أنت تقفين كبرج حمام



لتستلقي أرواحهم براحة



محصلة ألآمهم تحنيك إلى الأرض



أنت تشم التراب ، ذبول الموت



المشرحة ، رابية الدفن



يا روحي الفقيرة الكئيبة



لقد سمعت ورأيت امتلائك



تذكري كل هذا وامزجيه جيدا



واطرحيه خارجا كالمطحنة



استمري بالطحن والمزج



كل ماشهدته هنا هو سماد للمقبرة



كما كنت تفعلين طوال أربعين عاما .




السيد عبد الرازق 02-08-2008 03:10 PM


بغداد الحبيبة




كاتب الموضوع: زيد الشهيد - 29-08-2006


قصة مترجمة



زهرة الهيبسكس أو زهرة الخزامى Hibiscus



تأليف : ميشال أنتوني *



ترجمة : زيد الشهيد



_ هل أنتَ منفعلٌ ؟ بادرتني عمّتي بالسؤال ووجهها رغمَ ابتسامته يبدو أشدَّ سمرةٍ . كان الموقف أشدُّ تأثير عليها منّي .



_ نعم ! .. قلتٌ .



_ سأٌحضر لكِ كلَّ شيء . لن تحتاج لملابسَ كثيرة ؛ وبحلول عيد الفصح ستكون هناك .



لذتُ بالصمت . لم أكنْ راغباً في الكلام : ولم أكن مبالياً سواء وصلت إلى هناك أم لا . بقيتُ مستلقياً ومصوباً نظري نحو السقف ، أو متأملاً عمّتي أحياناً ، أو متطلِّعاً لِلابسات البياض وهنَّ يذرعنَ ردهات المستشفى .



_ لن يبقوكَ طويلاً ؛ أتعرف ذلك ؟ .. تكلّمت عمّتي



_ كلاّ . .. قلت .



_ ألا تريد الذهاب ؟



_ اذا كنتِ لا تريدينني أن .....



_ كلاّ ! يجب أن تذهب . قاطعتني : فالأفضل لكَ سيما وأشعةُ الشمس على أحسن ما تكون هناك .



_ حسنا .



_ تبدو اليوم أفضل من قبل .



رحتُ أٌسمِعُها ما أخبروني به فيما راحت تنصت باهتمام ؛ ثم تُردد : ذلك حسن !! وتسألني سعياً لمعرفة كل ما قالوه . وما أخبرتها عنه تركَ أثراً وانطباعاً شديدين في نفسها ... كان التهاب الرئة الذي لازمني قد ولّى بغضون ثلاثة أسابيع . ألقت عمّتي نظرةً على الساعة المرتكنة على الحائط . ولّما أدركت قرب انتهاء وقت الزيارة شرعت باخراج ما جلبته من حاجيات . وضعت حقيبة يدها على فراشي ، متابعةً تأثير كل حاجة تستلها : ثمرة البناناس ، حلوى ، عصير البرتقال ، عصير العنب . رتَّبتها على المنضدة المنتصِبة عند حافة السرير المجاور لرأسي . كنتُ قد أُطعِمتُ من الحلويات مرةً واحدة خلال اقامتي في المستشفى . أمّا ثمار البناناس فكانت تثير شهيتي بحض الأحيان . حاولت ابداء سروري لكنّي كنتُ من الضعف ما لم أستطع فعل ذلك .



_ أتحب عصير العنب ؟



- أجلبتِ منه شيئاً ؟



_ نعم ؛ علبة صغيرة .



في الواقع لم أكن أحب عصير العنب .... حدّقت بي وقالت : إنّه جيد ومناسب لك .



_ لا تتعبي نفسك ؛ ولا تجلبي أشياءَ كثيرة بعد الآن .



استمرّت تخرج حاجيات أخرى ، بسطتها بعيداً عنّي . وللحقِّ أقول أنها لم تكن تثير اهتمامي لأنّ أفكاري كانت تطوف بعيداً من هنا .



_ أتيتُكَ بشيءٍ تقرأهُ .



دسَّت كفّها في جوف الحقيبة مخرجةً كتاباً صغيراً مغلَّفاً بورقٍ أملس وصقيل ، رُسمت على غلافه صورة زهرةٍ في زهوِ تفتّحها ": " حكايات من الهنود الحمر " .. رددّت عمّتي .



سرّني ذلك وأنا أهمُّ بتعديل جلستي . أمسكتُ بالكتاب وأنا أبصر عمّتي تُبدي ابتهاجاً :



_ أتصدِّق أنْ ثمّة كتباً تحكي قصص عن الهنود في هذه البلاد ؟



_ كلاّ .



_ حسناً .. عندك الآن هذا ؛ تسلّى به ولكن لا تقرأ كثيراً .



انتهت الزيارة لحظة رنَّ من بعيد جرسٌ خافت الصوت فشرع الزائرون ينسلون خارجين فيما نهضت عمّتي من على سريري ، قائلةً :



_ سأكتب لهم محددِّة موعد ابحارِكَ إليهم . طبعاً ذلك يعتمد على رأي الدكتور .... توقفت قليلاً قبل أن تكمل : بأي زورقٍ تود السفر ؟



_ هيلدا براند .



انحنت ؛ مقرِّبةً وجهها من وجهي كما لوكانت تبغي تقبيلي :



_ ربّما سيكون هيلدا براند مرّةً أخرى .



ضغطت يدي قليلاً ثم غادرت :" سأراك غداً مساءً " ... توقّفت عند الباب . مالبثت أن غابت خلفه .



وكالعادة ما أن تركتني عمّتي حتى ابتدأت أفكِّر بحسنِ صنيعها رغم أن ذاكرتي لم تكن تسعفني كثيراً إذْ الجو المشبّع بالعقاقير وزرق الابر المتوالي يعكّر عليَّ صفوَ تفكيري . ومع هذا لا اقدِّر كم هي رائعة عمّتي معي ، وكم كنت المفضّل لديها في البيت . أتذكّر أنها طلبت حضوري إلى جانبها حالما رحَلَت إلى انكلترا . أمّا الآن وفي حالتي المرضية هذه ، ونزولاً عند نصيحة الطبيب ارتأت ارسالي إلى عائلتي مدّة شهرين بينما استمرَّت تزورني هنا يومياً حاملةً الحلوى والباناناس والبرتقال ... سحبتُ الكتاب متطلِّعاً فيه . أدركتُ سرَّ الزهرة المرسومة على غلافه فابتسمت . كان العنوان مثبتاً منحوتاً بكلمات سوداء كبيرة في المساحة العليا من الكتاب " زهرة الهيبسكس " وقصص أخرى . وفي حافته السفلى كان اسم المؤلف سي.سي . ماثيوس . تمعَّنتُ بالزهرة مليّاً فعرفتُ أنها لشجرة الهيبسكس ؛ الشجرة التي تنتشر على امتداد جزيرة " ترينيداد " وعرضها ؛ وفي مقاطعة " مايارو" تحديداً . لم تكن تثير أحد من قبل باستثناء مؤلِف هذا الكتاب كما أظن .



في الصفحة الأولى طالعتني كلمات اهداء إلى " ماريانا " ، ودونها عبارات لا تينية مقتبسة " ربّما ماريانا قد درست اللاتينية " قلت في سرّي . أناس كثيرون درسوا هذه اللغة ؛ وكان كرهي لها يفوق كرهي لعصير العنب الأسود . الصفحة التي قلبتها أطلعتني على الفهرست :



1- هيبسكس 2- طريق الشمس الساخنة 3- شجرة اللاتا 4- عُد إلى الجزر 5- أسفل النجوم المدارية 6- طعنة حب كارب











أغلقتُ الكتاب ورحتُ أحدِّق في زهرة الغلاف مجددَّاً . وجدتها تأتلق رائعةً كما لو أنَّ المؤلف صرف وقتاً من قصة : أسفل النجوم المدارية : ليرسمها تحت " شجرة البلاتا " ملوِّناً أوراقها بحمرة الدم الكثيف المأخوذ من " طعنة حب كارب " .



غب مرورها على أسرِّة المرضى تباعاً اقتربت الممرِّضة من سريري ممسكةً بالمحرار كعادتها . أنحيت الكتاب جانباً وأنا أعوم في غمار دهشة أثارتها عناوين القصص في مخيلتي . يداي ترتجفان قليلاً ما جعلتا الممرضة تبتسم وهي تدنو مني ، وتدفع المحرار إلى فمي في اللحظة التي ألقت بنظراتها على الكتاب .



_ هل تقرأ هذا ؟



_ نعم . أجبتُ باحراج سيما وهي الممرضة التي اعتادت استفزازي بعبارات مضحكة .



_ انظروا إلى هذا الولد الصغير . قالت بسخرية ، وأكملت : يقرأ قصص الحب .



_ كلا !



_ أنتَ قلتَ لي ذلك . نصوص تعجُّ بقصص الحب ... هتفت باسلوبٍ مخادع .



_ كلا... كلا ..!



كانت عيناها سوداوين وواسعتين تطلقان نظرة حاقدة ، وتبعثان وقاحة ظاهرة . سدرت تقلّب الصفحات . اندفعت في محاولة شرح الأمر لكنها لم تتح لي فرصةً لذلك واضعةً اصبعها على شفتيها طالبةً عدم فتح فمي خشية سقوط المحرار . ألقت لمحةً على ساعتها قبل أن تسحب المحرار ، محاولةً معرفة ردَّ فعلي .



مالت هامسةً في أذني :



_ هلاّ أعرتني إيّاه ؟



دسسّتُ رأسي أسفل الوسادة وانفجرت ضاحكاً من دون أن تراني .



وحالما عمَّ الردهةَ الهدوء وتركتني الممرضة لاتمام دورتها شرعتُ أطالع الكتاب . ولشد ما غمرتني الدهشة وأنا أقرأ قصة " هيبسكس " عندما وجدتُ أحداثها ومشاهدها تدور في قرية " ماريانا " ؛ قريتي أنا بالذات . القصة تحكي عن فتاة صغيرة يانعة اعتادت المجيء لملىء دلوها من عيون ماء صافية عبر أرض معشوشبة ، مطلقةً صوتها الرخيم بغناءٍ عذب لصديقاتها زهيرات الهيبسكس اللاتي يبادلنها الحب وهي تصف جمالهنّ الساحر . وكان غناؤها كافياً لجعل الزهور أكثر احمراراً ، أمّا بسبب خجلهنّ أو لفرط سرورهنَّ . وحالما تقترب الطيور الطنّانة ** الساعية لامتصاص الرحيق تُعلمها الزهور بما غنَّت الفتاة . عندها يطلبنَ من الطيور مقابل اهدائهنَّ الرحيق اظهار المودَّة لها ، في حين تقدّم الطيور وعداً للفتاة بجعل الزهور أشد احمراراً وأكثر نصاعة بفعل هفهفة أجنحتها على أن تستمر الفتاة بأغانيها المؤثِّرة الجميلة .



تركت القصةُ بعد قراءتها أثراً عميقاً في نفسي . عادت بي الذكرى للأرض الخضراء والطريق الممتد عبر أشجار الهيبسكس ، المنحدر صوب ينابيع المياه الصافية . إنَّ الطريق الذي كتب عنه المؤلف ماثيوس جعلني أقرَّ أنّه لا بدَّ وأن يكون قد عاش في قرية " مايارو " ، وأنّه يعرف تفاصيل المكان عن كثب . جهدتُ في محاولة تذكُّر شخصاً بهذا الاسم أو فتاة تدعى " ماريانا " . لا بدَّ وأن تكون هناك فتاة قد مرّت مراراً من أمام بيتنا ، حاملةً دلوها الصغير نازلةً باتجاه الينابيع . حاولت استذكار ولو واحدة من أغانيها ففشلت . لم أكن قادراً على تذكّر أية أغنية . ينبغي مقابلة ماثيوس والتحدث معه حول أزهار الهيبسكس الحمراء ؛ وأظنها ستزداد احمرارً لسماع حديثنا .



قرأتُ القصة أكثر من مرّة ، وبشعور سعيد وغامر واصلتُ مطالعة بقية القصص فأعجبتٌ باسلوبها الجميل ولغتها المثيرة رغم الغرابة التي تغلفها . فقصة " أسفل النجوم المدارية " تعكس شعوراً غير مألوف للأنوار المتلألئة في حلكة السماء وارتفاع أشجار النخيل المنشغلة أوراقه بالحفيف الهامس على امتداد الشاطي المزبد . وحين قرأتُ " عُد إلى الجزر " بدت لي كما لو أن جميع هذه الأشياء تدعوني للعودة ! " سأعود لا محال ! لم أعد قادراً على الامتناع عن العودة . وما أن تحضر عمّتي حتى أبوح لها برغبتي في الزيارة . " لكن بعد قراءة قصة " طعنة حب كارب " اعترتني حالة ارتباك وخجل . اكتشفتٌ أنّي أقرأ عن الحب فعلاً ولم تكن الممرضة كاذبة .



مررتُ عبر قصص المجموعة بيد أن " هيبسكس " ظلّت عالقة في مخيلتي ، وجعلتني أعود لقراءتها كلّما انتهيت منها ، وباتت " ماريانا " وسي. سي ماثيوس يحتلان حيّزاً كبيراً في رأسي حتى غدوت سعيداً لعودتي إلى الوطن عبر البحر مرّةً أخرى . تساءلتُ : هل عبرت ماريانا البحر مرّةً ؟ " .. ربّما . وربّما هو الذي دفع ماثيوس لكتابة " عٌد إلى الجزر " . شعَّ ضوءٌ مباغت في رأسي . غدوتُ متلهفاً لحضور عمّتي . لا بدَّ ستتذكّر شخصاً في قرية " مايارو " بإسم ماثيوس أو فتاة باسم ماريانا . غير أنَّ خيبة الأمل أصابتني عندما أخبرتني عمّتي أنها غير متأكدة من معرفة رجل يحمل اسم ماثيوس ؛ أمّا ماريانا فربما تكون موجودة حقّاً . إنَّ أربعة أعوام بعيدةً عن القرية كافية لأن تٌنسِيها الكثير من الأسماء . انشغلت بإعلامي أن أهلي متشوقون لعودتي ، وقد وعدوا بأن لا يجبروني على البقاء عندهم بل سيتركونني أعود إلى انكلترا . كانت عمّتي واثقة بهم إذ أبرزت أمام وجهي تذكرة العودة مثلما أخبرتني بتفاهمها مع الدكتور لاجراء ترتيبات خروجي من المستشفى .





السيد عبد الرازق 02-08-2008 03:11 PM

بشعور مفعم بالقوَّة أدركتٌ أنني مقبل على رحلة بحرية طويلة . كل أفكاري تطلعت للوصول إلى قريتي ؛ هناك ! سأسير على طول الطريق المحفوف بأشجار الهيبسكس. لم يأخذ منّي التفكير بأبي وأمي الكثير ؛ ولم أكن أحس بالحنين والوحشة لبعدهم عنّي أبداً لأنَّ عمّتي عوضّتني حنانهم وعنايتهم وزادت . لم يكن للشمس المشرقة تأثير على رغبتي بالعودة إلا عندما قرأت قصة " عد إلى الجزر " ، فهي كافية لتذكيري بالدفء وملامسة الاشعة لبشرتي واسترجاع نسيم الجزيرة المنعش الطري . وللحق أقول أنَّ فاعلية الدواء والمزايا الجميلة لقصة " هيبسكس " والقصص الأخرى هي ما جعلت صحتي تعود والعافية تدخل إلى جسدي .







في الجزر احتفلنا بعيد الفصح ..



وعيد الفصح هو نفسه وقت تفتّح زهور الهيبسكس وتألقها . كنتُ كلَّ اسبوع أكتب إلى عمّتي في لندن من دائرة البريد الذي أصله بعد اجتاز طريق مشجّر .. وأكتب :
" عمّتي العزيزة :



كم أود لو كنتِ معي هنا . لقد حدثت تغيرات عديدة في القرية . دكاكين جديدة أنشئت ، وبيوت حديثة شيّدت ؛ والقار ! حتى القار ما زال جديداً على أعمدة الكهرباء . المحطة القديمة عند التل هُدِّمت ، والحكومة عازمة على بناء مدرسة جديدة . بيدَ أنَّ التغيير لم يزحف على طريق اشجار الهيبسكس ، ولا حتى ينابيع المياه . الأرض المتاخمة للينابيع هي .. هي ! خضراء يانعة تجاورها برك ماء صافٍ وعذب . والمياه جعلت من ازهار الهيبسكس أشد احمراراً وبهاء .



ما أن شرعت الشمس باشراقتها النضِرة حتى أدركت زوال " ذات الرئة " ومضاعفاته . طفقتُ أتساءل في سرّي عمّا إذا كان سي. سي ماثيوس قد كتب حول هذا المرض . كم راودتني السعادة لعودتي إلى الجزر رغم الألم الذي يداهمني لعدم سماعي ومعرفتي بـ سي. سي ماثيوس . لا أحد من الذين سألتهم سمع عنه . وحين قلت بأنّه كاتب ولديه مؤلفات أطلقوا ضحكاتهم ، قائلين لا وجود لكاتب يقطن قرية " مايارو " . سألوني إن كنت في انكلترا حقّاً ,. أقسمتُ لهم مراراً ؛ ولمّا أيقنوا صدق قولي قالوا : من المحتمل أن يكون ماثيوس هذا في انكلترا ، لأنَّ الانكليز مولعون بتأليف الكتب .. كان جوابهم باعثاً على الألم ! فالانكليز ليسوا وحدهم الذين يؤلفون ... تساءلتُ : كيف يكون ماثيوس انكليزياً ويكتب بهذا الاحساس المميز عن الهيبسكس ؟! . هكذا ، ورغم بهجتي وارتياحي لدفء الشمس وغرابة الليالي فقد ولَّت السعادة هاربة منّي ، إذء لا أحد يعرف ماثيوس . بل أنَّ أٌناساً قليلون تذكروني أنا .



رحتُ أتمشّى منحدراً صوب ينابيع الماء . لم أر ثمة فتاة صغيرة تشدو بصوتها العذب لزهور الهيبسكس ؛ والطيور الطنّانة ألفيتها هناك جوار البرك اللامعة نائيةً عن الزهور . حين أدركت دائرة البريد أبتعتُ نموذج رسالة ، كتبت :



" عمّتي العزيزة :



أنا الآن في الاسبوع السادس وسعيد جداً لأنّي سأعودُ إليكِ . "



لم تبقَّ سوى أيام قليلة وأغادر الجزر . كان والديَّ في غاية الانفعال بسببي ؛ وحتّى أصدقائي قراتُ في عيونهم حزن عودتي إلى انكلترا . فكّرتُ كم كنت مسروراً لو أنّي رأيتُ ماثيوس أو التقيت " ماريانا " ؛ أو أني لم أعرف عنهما شيئاً على الاطلاق .



وهكذا .. وفي ليلةٍ تركتُ البيتَ يلفّني الحزن والأسى ، منحدراً رحتُ باتجاه درب الهيبسكس . التقيتُ رجلاً عجوزاً عائداً بأبقاره . توقفت فادليت بسؤالي إليه .



_ ماثيوس ؟ ... قال متأملاً لبعض الوقت . لاكَ الاسم بطرف لسانه .



_ كان معتاداً على الكتابة ... قلتُ بشيء من الأمل .



_ معتاداً على الكتابة ؟! ..إيه ... طفق العجوز يتمتم ، وطفقتُ أنا أتابع عينيه الراحلتين بعيدا ً .



أعرف شخصاً باسم ماثيوس . كان قارع ناقوس الكنيسة وحفّار قبور أيضاً .



_ كلا ؛ لا يمكن أن يكون هو . لقد كتبَ حول الـ....



كبّلني الحرج . أردتُ أن أقول أنه كان يكتب عن الحب ، فتوقّفتُ مترددِّاً .



_ ماذا ؟ ... تساءل الرجل ، وأكمل : حولَ ماذا كان يكتب ؟



لمحتُ شيئاً غريباً يترقرق في عينيه فيما كانت أصابعهُ ترتعش . لم أكن أبغي تضليله فقلت :



_ لقد كتب حول الحب ... وأخفضت بصري نحو العشب خجلاً .



_ وماذا عن الحب ؟



صمتُّ فلم أُجِب ...







_ ما اسمكَ ؟ ... سألني .



_ روي .



_ حسناً ، يا روي . الحب هو كل شيء . فالحياة حب ، والله حب .



كان المكان يلفّهٌ الهدوء تماماً إلى درجة كنتُ أسمع الأبقار تمضغ العشب والسلاسل تجلجل بفعل تحرّكها خطوة فخطوة .



_ لا يبدو أنَّ أحداً يعرف ماثيوس ... قلتٌ مخاطباً العجوز .



_ أظنَّ ........ وتوقف قليلاً . ثم قال : أظنَّ أنهم كانوا يدعونه بغير هذا الاسم .



_ ربّما لا يكون هو الرجل نفسه . لكنّي أعتقد بوجود فتاة .. نعم فتاة صغيرة .
_ ماريانا ؟ ... بادرني الرجل العجوز متسائلاٍ .



انتفضتُ كالمصعوق !



_ نعم ؛ كان هو الرجل المقصود ! هل تعرف ماريانا ؟



_اعتدتٌ أن ........ توقَّفَ فجأةً . بدا كأنه يروم تغيير أفكارِه ؛ غير أنّه أكمل : لا أعرف الكثير بالرغم من ذلك سوى أنها رحلت إلى انكلترا للدراسة .. افتقدها ثم سقط أسير الهواجس والأحزان . لقد تأسى كثيراً عليها . كتب لها راجياً العودة فلم تلبِّ رجاءه حتى هذا اليوم .



_ لماذا ؟! ... صرختٌ بقلبٍ يختلج . تفرَّستٌ في وجهه فقرأتُ بواعث يأس وألم تمور في عينيه .



قال كأنّه يكلّم نفسه : أنتَ لا تفهم الكثير .. أنت .. أنتَ لا زلتَ صغيراً لا تفقه ماذا يعني مرض ذات الرئة .



آآآآه .. لقد ذويت أنا أيضاَ . أحسستُ بالضعف فلم أقدر على الرد . الحقيقة أنّي ما زلتً صغيراً فعلاً ، لكن يعلم الله أنّي فهمتُ كلَّ ما قاله . إتَّضح لي الآن لماذا لم تعُد ماريانا ؛ ولماذا أجهش الرجلُ العجوز بالبكاء .. تذكَّرتٌ " عٌد إلى الجزر " . أدركتُ أنَّ مرضَهُ لم تقدر كثرةُ العقاقير القضاءَ عليه .



داهمتني لوامس اغماء وشعرت كما لو أنَّ الحمّى عادت إلى جسدي من جديد ... نظرتُ واهناً إلى الرجل العجوز فأبصرته يتطلَّع بعيداً .. قال :



_ أنا أبكي .. مثل هذا يحدث بعض الأحيان .



كانت كلماته تخرج بصعوبةٍ بالغة من بين شفتيه :



_ أنا لا أبكي ؛ ولكن الكلمات القليلة ليست كافية ولا تعطي الحقيقةَ كاملةً . ولو كان لديك شيءٌ منها وليس لديك غيرها فإنَّها الشقاء بعينه .





















(*) ولد ميشال انتوني في ترنيداد إحدى دول الكومنويلث القريبة من السواحل الفنزيلية . رحل في بداية شبابه إلى انكلترا . مارس أعمالاً عديدة منها عامل طباعة في وكالة رويترز ، وعامل في دائرة البريد العامة GPO . كما عمل في المركز الثقافي البريطاني بعد عودته إلى موطنه . استعين به في وضع المناهج التعليمية في بلاده . وقد عالفي أعماله عالم الطفولة وبيئة وعادات الهنود الحمر . قصته هذه التي نترجمها مأخوذة من مجموعته " كريكت في الطريق "



له ثلاث روايات منشورة :



1- عودة المسافات عام 1963



2- أيام السنة في فرناندو عام 1965



3- الأيام الخضراء عند النهر عام 1967



(**) الطيور الطنّانة طيور تصدر أجنحتها المهفهفة صوتاً كالطنين . وهب اذ تأتي لامتصاص رحيق الازهار بمناقيرها الطويلة المستدقة فإنها تزيل الغبار العالق بالوريقات فتجعل الزهور أكثر رونقاً وأشهى .

السيد عبد الرازق 02-08-2008 03:12 PM

كاتب الموضوع: الدكتور بهجت عباس - 02-04-2006


سونيتـه - عهد جديد



هـ . دبليو. أودن



ترجمة بهجت عباس



هكذا انقضى عـهدٌ، ومات منقـذهُ الأخيـر.



في مضجع، نشأوا خاملين وغيرَ سـعداءَ; كانوا في أمان:



الظِّل المفـاجئُ لعجلٍ عملاقٍ مَهـولٍ



سوف لا يهبِط خارجاً بعد هذا عَـبْرَ مراعيهم عند الغروب.






ناموا في طُـمَـأنينـةٍ: في بِـرَكٍ هنا وهناك ولا شكَّ



إنَّ تِنّـينـاً عقيـماً تباطأ في موت طبيـعيٍّ،



ولكنْ في سنةٍ اختفتْ رائحةُ الحيوان النتنـةُ من المرعى:



اختفـى نَقـرُ روحٍ شرّيـرةٍ في الجَّـبل بعيـداً.






النَّحّـاتـون والشُّعراءُ فقط كانوا أنصافَ حَزانى،



والحاشيةُ الوضيعـةُ من بيت السّاحـر



تَأفَّـفَـتْ وذهبت إلى مكان آخـرَ. القَوى المُتَخَفِّـيةُ كانت سعيدةً






أنْ تكون غيـرَ مرئيِّـةٍ وطلـيقةً: بلا ندمٍ



صرعت الأبنـاءَ الضالّـين في سَـيرهم،



واغتصبت البناتِ ، ودفعت الآباءَ إلى الجّـنـون.


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.