حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   الخيمة الاسلامية (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=8)
-   -   مناسبة حسب التقويم الهجري (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=82158)

ابن حوران 03-02-2010 01:59 PM

المغول.. من الهمجية إلى الإسلام

(في ذكرى محاولتهم الاستيلاء على الشام: 18 من صفر 712هـ)


عرف العالم المغول في طورهم الأول شعبًا همجيًا؛ أباد الناس، وهدم الحضارة، وأفسد في الأرض، وألقى الرعب والفزع في الأفئدة والقلوب، وعانى العالم الإسلامي من جراء عاصفة هذا الطور خرابًا وتدميرًا، ثم لم تلبث هذه العاصفة أن هدأت وسكنت، وجاء الوقت الذي تأثر فيه المغول الهمج بحضارة المسلمين؛ فاعتنقوا دينهم، وشرعوا في إصلاح ما أفسده آباؤهم، وأقبلوا يسهمون في الحضارة الإسلامية.

السلطان محمود غازان

بتولي السلطان محمود غازان عرش الدولة الإيلخانية سنة (694هـ= 1295م) بدأ عصر جديد في تاريخ المغول؛ حيث كان أول مرسوم يصدره ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وبإسلامه أسلم أكثر من مائة ألف شخص في فترة قصيرة، وانقطعت الروابط التي كانت تربطه ببلاط الخاقان الأعظم للمغول في الصين.

وأدى اعتناق محمود غازان الإسلام عن إيمان وإخلاص إلى قيامه بعدد من الإصلاحات، تناولت شئون الإدارة والمال والاقتصاد والقضاء والعمران والتشييد في بلاده، وأفسحت لاسمه مكانًا بارزًا في أبطال التاريخ وكبار المصلحين وصناع الحضارة.

واشتهر غازان بحبه للثقافة والمعرفة، وشغفه بالتاريخ، وإتقانه للفارسية، وعنايته بالفنون والصناعات اليدوية، واشتغل في فترة من حياته بالكيمياء، وكان له معمل في قصره يقضي فيه أوقاتًا طويلة بين كتبه وتجاربه، ومن أعماله التي تدل على حبه للعمارة والبناء قيامه بتجميل عاصمة مملكته "تبريز" بأبنية فخمة تشمل مسجدًا عظيمًا، ومدرسة كبيرة، ودارا للكتب، ودارًا لحفظ الدفاتر والقوانين التي استنها، ومرصدا فلكيًا، وبستانًا، ومستشفى وخانقاة للمتصوفة.


http://t1.gstatic.com/images?q=tbn:h...oli-tabriz.jpg
تبريز

وتوفي غازان، وهو لا يزال في ريعان الشباب سنة (703هـ = 1303م)، وعمره لم يتجاوز الثالثة والثلاثين.

السلطان محمد أولجايتو

اعتلى أولجايتو العرش الإيلخاني خلفًا لأخيه السلطان محمود غازان، وذلك في (15 من ذي الحجة 703هـ = 21 من يوليو 1304)، ولم يكن عمره قد تجاوز الرابعة والعشرين، وتسلم قيادة الدولة وهي في أوج بهائها وعظمتها؛ فإصلاحات غازان قد أصابت كل أنحاء الدولة، ودفعت بها خطوات واسعة نحو الحضارة والمدنية والإنسانية.

وبعد ثلاثة أيام من الحكم أصدر (أولجايتو) مرسومًا بإقامة شعائر الإسلام، واحترام القوانين الشرعية التي أصدرها أخوه محمود غازان، وإلزام المغول كافة باعتناق الإسلام، وأبقى "رشيد الدين فضل الله الهمداني" في منصب الوزارة كما كان في عهد أخيه، وكان عالمًا كبيرًا ومؤرخًا عظيمًا، صاحب الكتاب المعروف (جامع التواريخ)، وهو يعد أهم كتاب تناول تاريخ المغول في هذه الفترة.

سار أولجايتو على نهج أخيه غازان خان في حسن معاملة رعاياه، وإقامة العدل بينهم، ونصرة المظلومين منهم، ومنع تعدي المغول على الناس، واستمر في تشييد المؤسسات الاجتماعية التي تنهض بالناس من بناء المدارس والمستشفيات والحمامات والملاجئ، وأعاد بناء مرصد مراغة الذي بناه هولاكو. وأما عن سياسته الخارجية، فقد نجح في فتح إقليم جيلان وبسط سيطرته عليه، ولم يكن المغول قد تمكنوا من السيطرة عليه من قبل، وحافظ على علاقات ودية مع دول أوروبا المسيحية.

أولجايتو ودولة المماليك

تأثرت العلاقات بين الدولتين نتيجة لاعتناق الإيلخان المذهب الشيعي، وهو يُعد أول حاكم مغولي يعتنق المذهب الشيعي، وأمر به الجند وألزمه أهل مملكته، وذلك في سنة (709هـ= 1301م) بعد أن كان سنيًا يلتزم المذهب الحنفي ثم الشافعي.

وحاول أولجايتو أن يوثق عرى الصداقة بين دولته والمماليك، وتودد إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون سلطان دولة المماليك، ثم لم تلبث أن ساءت العلاقة بين الدولتين؛ فقام أولجايتو بتجهيز حملة على بلاد الشام في (18 من صفر 712 هـ = 26 من يوليو 1312م) مستعينًا باثنين من كبار قادة السلطان الناصر، كانا قد فرا إليه، وزيَّنَا له الاستيلاء على بلاد الشام التي كانت خاضعة لسلطة دولة المماليك، غير أن تلك الحملة التي خرج على رأسها السلطان أولجايتو اصطدمت بأول قلعة مملوكية على الحدود الشامية، وهي قلعة الرحبة الواقعة على نهر الفرات، وفشل في اقتحامها وإخضاعها؛ فقرر العودة إلى بلاده في (26 من رمضان سنة 712هـ = 1 من فبراير 1313)، ولم يحاول بعد ذلك أن يغزو الشام، وأقلع تمامًا عن هذه الفكرة.

بناء سلطانية

كان من أماني السلطان غازان أن يبني مدينة بموضع بستان سلطانية الواقعة شمال شرقي العراق في البلاد الواقعة بين نهري زبخان وأبهر، وشرع في تنفيذ ذلك لولا أن وافاه الأجل المحتوم، فحال بينه وبين إتمام المدينة.

وكان المغول يطلقون على موضع سلطانية الحالي اسم (قنغورألانك)، وكانت مرعى لأغنامهم ينزلون به في طريقهم من العراق إلى أذربيجان، وجاء السلطان محمود غازان واتخذ من هذا المكان أساسًا لمدينته.

ثم بدأ أولجايتو في استكمال ما بدأه أخوه؛ فأتم بناء المدينة في عشر سنوات، وأطلق عليها اسم سلطانية واتخذها عاصمة لدولته، واستغرق بناؤها الفترة ما بين سنتي (704هـ=1304م وسنة 714هـ = 1314م)، وتحول الموضع الذي كان مرعى خاليًا من العمران إلى مدينة عظيمة تضم العمائر الفخمة، والمدارس الكبيرة، والمساجد الرائعة، والحمامات والأسواق، وامتلأت بالناس من كل الطبقات.

وأنشأ أولجايتو حولها حصنًا مربع الشكل، بلغ طوله نحو ثلاثين ألف قدم، ويسمح عرض جداره بأن يتحرك عليه أربعة فرسان جنبًا إلى جنب، وجعل في منتصف السور قلعة كبيرة تشبه المدينة في ضخامتها، وبنى فيه ضريحًا لنفسه بالغ الارتفاع تعلوه ثماني مآذن ليدفن فيه، ويُعد هذا الضريح من أهم نماذج العمارة في العصر المغولي.

نهاية أولجايتو

يعد السلطان أولجايتو من ملوك المغول الإيلخانيين الذين نهضوا بإيران نهضة عظيمة؛ نظرًا لملكاتهم الممتازة في الحكم والإدارة وعنايتهم بالعلم والثقافة، وحبهم للبناء والتعمير، وعزز من ذلك النجاح حسن إدارة الوزير العالم "رشيد الدين فضل الله الهمداني".

وفي (28 من رمضان 716هـ= 16 من ديسمبر 1316م) تُوفي أولجايتو، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، ودفن في ضريحه الذي بناه لنفسه، بعد أن ترك ذكرى طيبة في تاريخ إيران، عبر عنها المؤرخ الكبير ابن الفوطي بقوله: "لم يَلِ من ملوكهم –أي المغول- أعدل منه ولا أكرم، ولا أجمع لصفات الخير وأسباب الصلاح".

ابن حوران 05-02-2010 09:11 AM

عندما دفعت أمريكا "الجزية"!!

(في ذكرى توقيع هذه المعاهدة: 21 من صفر 1210 هـ)


وقع جورج واشنطون أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية معاهدة صلح مع بكلر حسن والي الجزائر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، بمقتضاها تدفع إلى الجزائر على الفور 642 ألف دولار ذهبي، و1200 ليرة عثمانية، وذلك مقابل أن تطلق الجزائر سراح الأسرى الأمريكيين الموجودين لديها، وألا تتعرض لأي سفينة أمريكية تبحر في البحر المتوسط أو في المحيط الأطلسي.. فما ملابسات هذا الحادث؟ وما سر قوة البحرية الجزائرية؟ وهل كان الحادث امتدادا لمفهوم الجهاد أم تعداه لغير ذلك؟

http://t0.gstatic.com/images?q=tbn:o...Washington.jpg
جورج واشنطن


مجاهدون لا قراصنة

تعرضت سواحل الشمال الأفريقي في تونس والجزائر والمغرب لغزو مسلح من قبل أسبانيا والبرتغال بعد أن سقطت دولة الإسلام في الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وهو الأمر الذي جعل أهالي الجزائر يستغيثون بالدولة العثمانية الفتية، ويطلبون عونها، فاستجابت لندائهم وضمت الجزائر لسلطانها وحمايتها، وبعثت بقوة من سلاح المدفعية، وألفين من الجنود الإنكشارية، وأذن السلطان سليم الأول لمن يشاء من رعاياه المسلمين بالسفر إلى الجزائر، والانخراط في صفوف المجاهدين تحت قيادة خير الدين بارباروسا الذي نجح في إنشاء هيكل دولة قوية، بفضل المساعدات التي تلقاها من الدولة العثمانية، واستطاع أن يوجه ضربات قوية للسواحل الأسبانية، وأن يجعل من الجزائر قاعدة بحرية.

http://t3.gstatic.com/images?q=tbn:g...ddin_Pasha.jpg
خير الدين باربروسا

وظلت الجزائر بعد وفاة خير الدين باربروسا سنة (953هـ= 1546م) القاعدة الأولى لقوات الجهاد البحري الإسلامي في المغرب العربي، والقاعدة الأمامية لقوات الدولة العثمانية في الحوض الغربي للبحر المتوسط، ومنطلق جهادها ضد القوى الاستعمارية المسيحية في ذلك الوقت. وكان الأسطول الإسلامي قد وصل إلى درجة عالية من القوة والتنظيم جعلته مرهوب الجانب مخشي البأس، واشتهر من قادة هذا الأسطول عدد من قادة البحرية تمكنوا من "إرهاب" الدول الاستعمارية، وتحرير المناطق الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال في الساحل الشمالي الأفريقي، من أمثال: درجوت، وسنان، وصالح ريس.

وكانت السفن الإسلامية تباشر عمليات الجهاد ضد السفن المسيحية التي دأبت على التعرض للسفن الإسلامية في حوض البحر المتوسط ومصادرة حمولاتها وأسر ركابها، وكانت مراكب المسلمين التي يطلق عليها "مراكب الجهاد" تخرج من موانيها للدفاع عن السفن الإسلامية، ولم تخرج للقرصنة كما يزعم المؤرخون الغربيون، وإنما كانت تقوم بالدفاع عن الإسلام والعروبة ضد الخطر الأوربي الذي كان يتزايد يوما بعد يوم يريد التهام الشمال الأفريقي المسلم، وكانت كل من أسبانيا والبرتغال تريد الاستيلاء على المغرب العربي، وتحويل سكانه من الإسلام إلى المسيحية وطمس عروبته.

الجزائر دولة بحرية

http://t1.gstatic.com/images?q=tbn:N...ue_sur_mer.jpghttp://t0.gstatic.com/images?q=tbn:9...7b3l2212o1.jpg
وقد قامت البحرية الجزائرية بدورها على خير وجه، فهاجمت السواحل الشرقية لأسبانيا دون أن تجد من يقاومها، وكانت تعود في كل مرة بالأسرى والغنائم، كما هاجمت سواحل سردينيا وصقلية ونابولي، وهددت الصلات البحرية بين ممتلكات الإمبراطورية الأسبانية وممتلكاتها في إيطاليا، وكان رجال البحرية الجزائرية يهاجمون سفن الأعداء، ويأسرون بحارتها، ويستولون على السلع والبضائع التي تحملها.

وفشل الأوربيون في إيقاف عمل المجاهدين، وعجزت سفنهم الضخمة عن متابعة سفن المجاهدين الخفيفة وشل حركتها. وقد ساعد على نجاح المجاهدين مهارتهم العالية، وشجاعتهم الفائقة، وانضباطهم الدقيق، والتزامهم بتنفيذ المهام الموكلة إليهم.

وصار لرجال البحر الجزائريين مكانة مرموقة في مدينة الجزائر التي كان يعمها الفرح عند عودتهم، فكان التجار يشترون الرقيق والسلع التي يعودون بها، وكان نصيب البحارة من الغنائم كثيرا وهو ما أغرى الكثير بدخول البحرية والانتظام ضمن صفوفها، حتى إن عددا كبيرا من الأسرى المسيحيين كانوا يعلنون إسلامهم وينخرطون في سلك البحرية، وكان يطلق على هؤلاء اسم "العلوج".

من الجهاد.. للتجارة

ومع مرور الوقت اعتمدت الجزائر على أعمال هؤلاء وما يقومون به من مهاجمة السفن الأوربية والاستيلاء على بضائعها، وبعد أن كانت أعمال البحرية الجزائرية تتسم بطابع جهادي صارت تتسم بطابع تجاري، وبعد أن كانت تهدف إلى الحد من تغلغل الأوربيين في المغرب العربي وتحطيم شوكة أساطيلهم لتبقى عاجزة عن غزو البلاد، صارت تلك الأعمال حرفة لطلب الرزق.

وقد عادت هذه الأعمال بالغنى الوافر على البلاد نتيجة للغنائم التي يحصلون عليها، بالإضافة إلى الرسوم التي كانت تفرضها الحكومة الجزائرية على معظم الدول الأوربية نظير عدم تعرضها لهجمات هؤلاء البحارة، فقد كانت بريطانيا تدفع سنويا 600 جنية للخزانة الجزائرية، وتقدم الدانمارك مهمات حربية وآلات قيمتها 4 آلاف ريال شنكو كل عام مصحوبة بالهدايا النفيسة.

أما هولندا فكانت تدفع 600 جنيه، ومملكة صقلية 4 آلاف ريال، ومملكة سردينيا 6 آلاف جنيه، والولايات المتحدة الأمريكية تقدم آلات ومهمات حربية قيمتها 4 آلاف ريال و10 آلاف ريال أخرى نقدا مصحوبة بهدايا قيمة، وتبعث فرنسا بهدايا ثمينة عند تغيير قناصلها، وتقدم البرتغال هدايا من أحسن الأصناف، وتورد السويد والنرويج كل سنة آلات وذخائر بحرية بمبالغ كبيرة، وتدفع مدينتا هانوفر وبرن بألمانيا 600 جنيه إنجليزي، وتقدم أسبانيا أنفس الهدايا سنويا.



وأدى وجود عدد كبير من أسرى الفرنجة، وخاصة ممن كانوا ينتمون منهم للأسر الغنية إلى قيام تجارة مربحة، فقد كان هؤلاء الأسرى يباعون ويشترون في أسواق محددة، وكان من يملكونهم يفاوضونهم في فدائهم أو يفاوضون من ينوبون عن أسرهم في ذلك، وفي بعض الأحيان كانوا يفاوضون الجمعيات الدينية التي كانت تتولى القيام بتقديم الفدية بالإنابة عن أهليهم مثل جمعية الثالوثيين واللازاريين، والمرتزقة.

أمريكا تدفع الجزية

وفي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بدأت السفن الأمريكية بعد أن استقلت أمريكا استقلالها عن إنجلترا سنة (1190هـ= 1776م) ترفع أعلامها لأول مرة سنة (1197هـ=1783م)، وتجوب البحار والمحيطات. وقد تعرض البحارة الجزائريون لسفن الولايات المتحدة، فاستولوا على إحدى سفنها في مياه قادش، وذلك في (رمضان 1199هـ= يوليو 1785م)، ثم ما لبثوا أن استولوا على إحدى عشرة سفينة أخرى تخص الولايات المتحدة الأمريكية وساقوها إلى السواحل الجزائرية.

ولما كانت الولايات المتحدة عاجزة عن استرداد سفنها بالقوة العسكرية، وكانت تحتاج إلى سنوات طويلة لبناء أسطول بحري يستطيع أن يواجه الأسطول العثماني اضطرت إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع الجزائر في (21 من صفر 1210هـ= 5 من سبتمبر 1795م)، وقد تضمنت هذه المعاهدة 22 مادة مكتوبة باللغة التركية، وهذه الوثيقة هي المعاهدة الوحيدة التي كتبت بلغة غير الإنجليزية ووقعت عليها الولايات المتحدة الأمريكية خلال تاريخها الذي يتجاوز قرنين من الزمان، وفي الوقت نفسه هي المعاهدة الوحيدة التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية، وبمقتضاها استردت الولايات المتحدة أسراها، وضمنت عدم تعرض البحارة الجزائريين لسفنها.

وعلى الرغم من ذلك فإن السفن العثمانية التابعة لإيالة (ولاية) طرابلس بدأت في التعرض للسفن الأمريكية التي تدخل البحر المتوسط، وترتب على ذلك أن أرسلت الولايات المتحدة أسطولا حربيا إلى ميناء طرابلس في (1218هـ=1803م)، وأخذ يتبادل نيران المدفعية مع السفن الطرابلسية.

وأثناء القتال جنحت سفينة الحرب الأمريكية "فيلادلفيا" إلى المياه الضحلة، لعدم درايتها بهذه المنطقة وضخامة حجمها حيث كانت تعد أكبر سفينة في ذلك التاريخ، ونجح البحارة المسلمون في أسر أفراد طاقمها المكون من 300 بحار. وطلب والي ليبيا قرة مانلي يوسف باشا من الولايات المتحدة غرامات مالية تقدر بثلاثة ملايين دولار ذهبا، وضريبة سنوية قدرها 20 ألف دولار سنويا، وطالب في نفس الوقت محمد حمودة باشا والي تونس الولايات المتحدة بعشرة آلاف دولار سنويا.

وظلت الولايات المتحدة تدفع هذه الضريبة حماية لسفنها حتى سنة (1227هـ= 1812م)، حيث سدد القنصل الأمريكي في الجزائر 62 ألف دولار ذهبا، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي تسدد فيها الضريبة السنوية

ابن حوران 06-02-2010 07:38 AM

صحوة الخلافة العباسية

(في ذكرى وفاة الموفق: 22 من صفر 278 هـ)

أتي حين من الدهر على دولة الخلافة العباسية كانت فيه خاضعة تماما لنفوذ الأتراك الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور، ويدبرون الدولة بقوتهم ونفوذهم، ويستبدون بالأمر دون الخلفاء العباسيين الذين أصبحوا في أيديهم كالدمى يحركونهم كما يشاءون. وكان الخليفة المأمون (198-218هـ= 813-833م) أول من استعان بالأتراك واستخدمهم في دولته، ولكنهم كانوا تحت سيطرته وسلطانه لا تأثير لهم ولا يملكون نفوذا يذكر، ثم أكثر الخليفة المعتصم (218-227=833-842م) من الاستعانة بهم، وصاروا عنصرا أساسيا في جيشه.. ثم بدأ نفوذهم يتزايد في عهد الخليفة الواثق، وازداد حدة في عهد الخليفة المتوكل، وأطلق المؤرخون على الفترة التي علا فيه نفوذ الأتراك وسيطروا تماما على مقاليد الأمور "عصر نفوذ الأتراك"، وهو يمتد إلى ما يزيد عن قرن من الزمان (232-334هـ=847-945م) تعاقب خلاله 13 خليفة عباسي.

خلافة المعتمد على الله

تولى المعتمد على الله أحمد بن المتوكل بعد خلع الخليفة "المهتدي بالله" محمد بن الواثق سنة (256هـ =870م) وكان الخليفة المهتدي بالله رجلا تقيا شجاعا حازما محبا للعدل متقيدا بسيرة عمر بن عبد العزيز في العدالة والحكم، حاول أن يعيد للخلافة العباسية هيبتها ومكانتها، ويوقف طغيان الأتراك واستبدادهم؛ فحاول إحداث الفرقة في صفوفهم وضرب بعضهم ببعض لإضعافهم وبث الخلاف بينهم، ولكنهم انتبهوا لمحاولته الذكية وأسرعوا في التخلص منه.

غير أن ثبات هذا الخليفة كان له أثر طيب؛ حيث ظهرت دعوة جادة إلى إعادة سلطان الخليفة العباسي إلى ما كان عليه، وشاءت الأقدار أن يكون ذلك على يد الخليفة المعتمد الذي حاول أن يمسك بزمام الأمور، وساعده على ذلك أنه استعان بأخيه "الموفق" الذي ولاه قيادة الجيش. وكان الموفق يتمتع بشخصية قوية ومقدرة عسكرية ممتازة وهمة عالية وعزيمة لا تلين؛ فسيطر على زمام الأمور السياسية والإدارية، وأصبح الخليفة لا سلطان له أمام نفوذ أخيه.

ويصف أحد المؤرخين هذا الوضع بقوله: "وكانت دولة المعتمد دولة عجيبة الوضع، وكان هو وأخوه الموفق طلحة كالشركيين في الخلافة: للمعتمد الخطبة والسكة والتسمي بأمير المؤمنين، ولأخيه طلحة الأمر والنهي وقيادة العسكر ومحاربة الأعداء ومرابطة الثغور وترتيب الوزراء والأمراء".

ثورة الزنج

في هذه الفترة الحرجة التي كانت تمر بها الخلافة العباسية قامت ثورة كبرى عرفت باسم ثورة الزنج، هددت كيان الدولة العباسية أكثر مما هددها الأتراك، وهؤلاء الزنج كانوا جماعات من العبيد السود المجلوبين من أفريقيا الشرقية للعمل في استصلاح الأراضي الواقعة بين مدينتي البصرة وواسط، وكان عددهم كبيرا يُعدّ بالألوف ويعملون في جماعات، ويحيون حياة سيئة ولا يتقاضون أجورا يومية ولا يتجاوز قوتهم اليومي قليلا من الطحين والتمر والسَّويق.

استغل "علي بن محمد" هذه الأوضاع وكان رجلا طموحا مغامرا فنجح في استمالة الزنج إليه، مستغلا أوضاعهم السيئة فمنّاهم بالتحرر من العبودية وتمكينهم من الوصول إلى السلطة، ثم اشتط في دعوته فادعى صفات النبوة، وأعلن أنه مرسل من الله لإنقاذ العبيد البائسين، وانتحل نسبًا إلى آل البيت.

نجح صاحب الزنج في فترة قصيرة (255-261هـ = 869-875م) من أن يسيطر على البصرة وما حولها، بعد نجاحه في هزيمة جيش الدولة، ثم امتد نفوذه ليشمل الأهواز وعبادان وواسط، وكانت سياسته تجنح إلى العنف والإرهاب وإراقة الدماء؛ فدمر المدن التي احتلها وأباد كثيرا من أهلها وعاث فيها فسادا، والذي فعله بالبصرة خير دليل على ذلك؛ حيث ذكر المؤرخون أن الزنج قتلوا أكثر من 300 ألف إنسان بالبصرة وحدها، وأسروا عددا كبيرا من النساء والأطفال.

الموفق والقضاء على ثورة الزنج

بعد تولي المعتمد على الله منصب الخلافة عهد إلى أخيه الموفق بمهمة القضاء على هذه الفتنة قبل أن يستفحل خطرها؛ فخرج من بغداد إلى واسط في شهر (صفر 267 هـ= 881م) وهزم فريقا كبيرا من الزنج، وتوالت انتصاراته حتى أجلاهم عن الأهواز، وحاصر مدينتهم "المختارة"، وبنى مدينة بإزائها تسمى الموفقية نسبه إليه، وجعلها معسكرا دائمًا له ولجيشه. وفي الوقت نفسه ضرب حصارا اقتصاديا على المختارة؛ لمنع وصول المؤن إليها حتى نجح في اقتحام المدينة والاستيلاء عليها.

وبعد القضاء على الحركة الثائرة أصدر الموفق بيانا أعلن فيه انتهاء الاضطرابات والفوضى بعد حرب دامت أكثر من 14 سنة (255–270هـ)، ودعا سكان هذه المناطق للرجوع إلى مدنهم وقراهم.. وهكذا نجحت الخلافة العباسية –وهي تمر بمرحلة عصيبة في تاريخها- من القضاء على حركة عنيفة؛ مما يدل على ما تضمه الدولة من إمكانات كامنة في مؤسسة الحكم يُمكن أن تُستغل إذا وجدت الخليفة المناسب.

محاولة نقل الخلافة للقاهرة

يئس الخليفة العباسي المعتمد من تسلط أخيه الموفق وفرض سيطرته عليه؛ فصار كالمحجور عليه، ولم يكن له حول ولا قوة فبعث برسالة إلى أحمد بن طولون واليه على مصر ينبئه بأنه خارج إليه فِرارًا من سيطرة أخيه، واستجابةً لرسالة كان ابن طولون قد كتبها إليه في سنة (268 هـ = 882م) يعده فيها بالحماية والنصرة.

وانتهز الخليفة فرصة انشغال أخيه الموفق بإخماد ثورة الزنج فخرج من مدينة سامراء عاصمة الخلافة آنذاك متظاهرا بالصيد، واتجه صوب الرقة للحاق بابن طولون الذي كان في دمشق؛ فلما علم الموفق بأمر هذه المحاولة أمر عامله على الموصل برد الخليفة إلى سامراء في شعبان (269هـ = فبراير 883م) وبذلك فشلت فكرة نقل الخلافة إلى القاهرة بفضل يقظة الموفق.

ملامح حضارية

على الرغم من المشكلات الضخمة التي ألمّت بالدولة العباسية في عصرها الثاني فإن هذه الفترة تُعدّ من أخصب فترات التاريخ الإسلامي في عطائها الحضاري وثرائها الفكري، ويكفي أن نعلم أن هذه الفترة شهدت تألق عمدة المحدثين وسيد الحفاظ الإمام "البخاري" المتوفى سنة (256هـ = 870 م) صاحب الجامع الصحيح، أصح كتب السنة، والتاريخ الصغير، والتاريخ الكبير.. بالإضافة إلى مجموعة أخرى من أعلام المحدثين من أمثال: الإمام مسلم النيسابوري المتوفى سنة (261هـ= 875م) صاحب كتاب الجامع الصحيح، أصح كتب السنة بعد صحيح البخاري. والإمام ابن ماجه المتوفى سنة (273هـ = 886م) وأبو داود المتوفى سنة (275هـ = 888م) والترمذي المتوفى سنة (279 هـ = 892م).

وشهد هذا العصر تألق عدد كبير من النابهين في اللغة والأدب والشعر، من هؤلاء: محمد بن يزيد المبرّد المتوفى سنة (285هـ = 898م) وصاحب كتاب الكامل، وكان إمام النحاة في عصره، ولمع أيضا ابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة (276هـ=889م) وقد ترك لنا هذا العالم الكبير عددا من الموسوعات ذات الشأن مثل: عيون الأخبار، والشعر والشعراء، وأدب الكاتب الذي تحدث فيه عما يحتاج إليه الأديب من فنون الثقافة والمعرفة ليمارس الكتابة.

ولمع في مجال الشعر كوكبة من أعظم شعراء العربية مثل: البحتري المتوفى سنة (284هـ=897م) صاحب الديباجة الشعرية الرائعة والموسيقى العذبة الراقية، وابن الرومي المتوفى (283هـ=896م) الذي اشتهر بقدرته على توليد المعاني وابتكار الصور والأخيلة.

ونشطت حركة التأليف التاريخي، وتألق عدد من كبار المؤرخين كابن قتيبه الذي أشرنا إليه.. وهو عالم موسوعي يضرب في كل فن من المعرفة بسهم وافر، واليعقوبي المتوفى سنة (278هـ =891م) صاحب كتاب تاريخ اليعقوبي، والبلدان الذي يعدّ من أقدم ملفات التراث الجغرافي العربي، والبلاذري المتوفى سنة (279هـ = 892م) وهو من أبرز مؤرخي هذه الفترة وله كتابان عظيمان هما: فتوح البلدان، ويعد من أوثق الكتب التي تحدثت عن تاريخ الفتوح الإسلامية، وأنساب الأشراف وهو موسوعة كبيرة تتناول التاريخ الإسلامي من خلال الإنسان، كما حظيت العلوم الطبية والرياضية والفلكية والطبيعية بنصيب وافر من العناية والدراسة.

وفاة الموفق

نجح الموفق في كل ما قام به من أعمال أن يعيد للدولة العباسية سلطانها وللخلافة هيبتها، وأن يكبح بحكمته وحزمه جماح الأتراك، وأن يعيد تنظيم الجيش ويقرّ الأمن والاستقرار؛ لذا لم يكن غريبا أن يطلق المؤرخون على هذه اليقظة "صحوة الخلافة".. وتوفي الموفق في (22 من صفر 278 هـ = 5 من يونيو 891م

ابن حوران 07-02-2010 10:56 AM

ابن سينا.. المعلّم الثالث

(في ذكرى وفاته: 23 من صفر 370هـ)


عاش ابن سينا في أواخر القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس من الهجرة، وقد نشأ في أوزبكستان، حيث ولد في "خرميش" إحدى قرى "بخارى" في شهر صفر (370 هـ= أغسطس 908م).

http://t3.gstatic.com/images?q=tbn:4...91327_1_34.jpghttp://www.google.de/images?q=tbn:Z-...d7A6ZGxCB60ZQ=http://www.google.de/images?q=tbn:OC...w_V4gQE4OMN5M=

وحرص أبو عبد الله بن سينا على تنشئته تنشئة علمية ودينية منذ صغره، فحفظ القرآن ودرس شيئا من علوم عصره، حتى إذا بلغ العشرين من عمره توفي والده، فرحل أبو علي الحسين بن سينا إلى جرجان، وأقام بها مدة، وألف كتابه "القانون في الطب"، ولكنه ما لبث أن رحل إلى "همذان" فحقق شهرة كبيرة، وصار وزيرا للأمير "شمس الدين البويهي"، إلا أنه لم يطل به المقام بها؛ إذ رحل إلى "أصفهان" وحظي برعاية أميرها "علاء الدولة"، وظل بها حتى خرج من الأمير علاء الدولة في إحدى حملاته إلى همذان؛ حيث وافته المنية بها في (رمضان 428 هـ= يونيو 1037م).

في محراب العلم والإيمان

وكان ابن سينا عالما وفيلسوفا وطبيبا وشاعرا، ولُقِّب بالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام، وكان سابقا لعصره في مجالات فكرية عديدة، ولم يصرفه اشتغاله بالعلم عن المشاركة في الحياة العامة في عصره؛ فقد تعايش مع مشكلات مجتمعه، وتفاعل مع ما يموج به من اتجاهات فكرية، وشارك في صنع نهضته العلمية والحضارية.

وكان لذلك كله أبلغ الأثر في إضفاء المسحة العقلية على آرائه ونظرياته، وقد انعكس ذلك أيضا على أفكاره وآثاره ومؤلفاته، فلم يكن ابن سينا يتقيد بكل ما وصل إليه ممن سبقوه من نظريات، وإنما كان ينظر إليها ناقدا ومحللا، ويعرضها على مرآة عقله وتفكيره، فما وافق تفكيره وقبله عقله أخذه وزاد عليه ما توصل إليه واكتسبه بأبحاثه وخبراته ومشاهداته، وكان يقول: إن الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومين عن الخطأ والزلل.

ولذلك فقد حارب التنجيم وبعض الأفكار السائدة في عصره في بعض نواحي الكيمياء، وخالف معاصريه ومن تقدموا عليه، الذين قالوا بإمكان تحويل بعض الفلزات الخسيسة إلى الذهب والفضة، فنفى إمكان حدوث ذلك التحويل في جوهر الفلزات، وإنما هو تغيير ظاهري في شكل الفلز وصورته، وفسّر ذلك بأن لكل عنصر منها تركيبه الخاص الذي لا يمكن تغييره بطرق التحويل المعروفة.

وقد أثارت شهرة ابن سينا ومكانته العلمية حسد بعض معاصريه وغيرتهم عليه، ووجدوا في نزعته العقلية وآرائه الجديدة في الطب والعلوم والفلسفة مدخلا للطعن عليه واتهامه بالإلحاد والزندقة، ولكنه كان يرد عليهم بقوله: "إيماني بالله لا يتزعزع؛ فلو كنت كافرا فليس ثمة مسلم حقيقي واحد على ظهر الأرض".

ريادة فلكية

كان لابن سينا ريادات في العديد من العلوم والفنون؛ ففي مجال علم الفلك استطاع ابن سينا أن يرصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة في يوم (10 جمادى الآخرة 423 هـ = 24 من مايو 1032م)، وهو ما أقره الفلكي الإنجليزي "جير مياروكس" في القرن السابع عشر.

واشتغل ابن سينا بالرصد، وتعمق في علم الهيئة، ووضع في خلل الرصد آلات لم يُسبق إليها، وله في ذلك عدد من المؤلفات القيمة، مثل:

- كتاب الأرصاد الكلية.

- رسالة الآلة الرصدية.

- كتاب الأجرام السماوية.

- كتاب في كيفية الرصد ومطابقته للعلم الطبيعي.

- مقالة في هيئة الأرض من السماء وكونها في الوسط.

- كتاب إبطال أحكام النجوم.

عالم جيولوجيا

وله أيضا قيمة في علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) خاصة في المعادن وتكوين الحجارة والجبال، فيرى أنها تكونت من طين لزج خصب على طول الزمان، وتحجر في مدد لا تضبط، فيشبه أن هذه المعمورة كانت في سالف الأيام مغمورة في البحار، وكثيرا ما يوجد في الأحجار إذا كسرت أجزاء من الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها.

كما ذكر الزلازل وفسرها بأنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض؛ بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك ثم يحرك ما فوقه، والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض، وهو إما جسم بخاري دخاني قوى الاندفاع أو جسم مائي سيّال أو جسم هوائي أو جسم ناري.

ويتحدث عن السحب وكيفية تكونها؛ فيذكر أنها تولد من الأبخرة الرطبة إذا تصعّدت الحرارة فوافقت الطبقة الباردة من الهواء، فجوهر السحاب بخاري متكاثف طاف الهواء، فالبخار مادة السحب والمطر والثلج والطل والجليد والصقيع والبرد وعليه تتراءى الهالة وقوس قزح.

عالم نبات

وكان لابن سينا اهتمام خاص بعلم النبات، وله دراسات علمية جادة في مجال النباتات الطبية، وقد أجرى المقارنات العلمية الرصينة بين جذور النباتات وأوراقها وأزهارها، ووصفها وصفا علميا دقيقا ودرس أجناسها، وتعرض للتربة وأنواعها والعناصر المؤثرة في نمو النبات، كما تحدث عن ظاهرة المساهمة في الأشجار والنخيل، وذلك بأن تحمل الشجرة حملا ثقيلا في سنة وحملا خفيفا في سنة أخرى أو تحمل سنة ولا تحمل أخرى.

وأشار إلى اختلاف الطعام والرائحة في النبات، وقد سبق كارل متز الذي قال بأهمية التشخيص بوساطة العصارة، وذلك في سنة 1353 هـ = 1934م.

ابن سينا والأقرباذين

وكان لابن سينا معرفة جيدة بالأدوية وفعاليتها، وقد صنف الأدوية في ست مجموعات، وكانت الأدوية المفردة والمركبة (الأقرباذين) التي ذكرها في مصنفاته وبخاصة كتاب القانون لها أثر عظيم وقيمة علمية كبيرة بين علماء الطب والصيدلة، وبلغ عدد الأدوية التي وصفها في كتابه نحو 760 عقَّارًا رتبها ألفبائيا.

ومن المدهش حقا أنه كان يمارس ما يعرف بالطب التجريبي ويطبقه على مرضاه، فقد كان يجرب أي دواء جديد يتعرف عليه على الحيوان أولا، ثم يعطيه للإنسان بعد أن تثبت له صلاحيته ودقته على الشفاء.

كما تحدث عن تلوث البيئة وأثره على صحة الإنسان فقال: "فما دام الهواء ملائما ونقيا وليس به أخلاط من المواد الأخرى بما يتعارض مع مزاج التنفس، فإن الصحة تأتي". وذكر أثر ملوثات البيئة في ظهور أمراض حساسية الجهاز التنفسي.

الطبيب الإنسان

بالرغم من الشهرة العريضة التي حققها ابن سينا كطبيب والمكانة العلمية العظيمة التي وصل إليها حتى استحق أن يلقب عن جدارة بأمير الأطباء، فإنه لم يسعَ يوما إلى جمع المال أو طلب الشهرة؛ فقد كان يعالج مرضاه بالمجان، بل إنه كثيرا ما كان يقدم لهم الدواء الذي يعده بنفسه.

كان ابن سينا يستشعر نبل رسالته في تخفيف الألم عن مرضاه؛ فصرف جهده وهمته إلى خدمة الإنسانية ومحاربة الجهل والمرض.

واستطاع ابن سينا أن يقدم للإنسانية أعظم الخدمات بما توصل إليه من اكتشافات، وما يسره الله له من فتوحات طبيبة جليلة؛ فكان أول من كشف عن العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن، فهو أول من كشف عن طفيل "الإنكلستوما" وسماها الدودة المستديرة، وهو بذلك قد سبق الإيطالي "دوبيني" بنحو 900 سنة، وهو أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفا بذلك ما استقر عليه أساطين الطب اليوناني القديم.

كما كشف لأول مرة عن طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدا لا تُرى بالعين المجردة، وهي التي تسبب بعض الأمراض، وهو ما أكده "فان ليوتهوك" في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخرون من بعده، بعد اختراع المجهر.

وكان ابن سينا سابقا لعصره في كثير من ملاحظاته الطبية الدقيقة، فقد درس الاضطرابات العصبية والعوامل النفسية والعقلية كالخوف والحزن والقلق والفرح وغيرها، وأشار إلى أن لها تأثيرا كبيرا في أعضاء الجسم ووظائفها، كما استطاع معرفة بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان يلجأ في بعض الأحيان إلى الأساليب النفسية في معاجلة مرضاه.

ابن حوران 07-02-2010 10:57 AM

ابن سينا وعلم الجراحة

وقد اتبع ابن سينا في فحص مرضاه وتشخيص المرض وتحديد العلاج الطريقة الحديثة المتبعة الآن، وذلك عن طريق جس النبض والقرع بإصبعه فوق جسم المريض، وهي الطريقة المتبعة حاليا في تشخيص الأمراض الباطنية، والتي نسبت إلى "ليوبولد أينبرجر" في القرن الثامن عشر، وكذلك من خلال الاستدلال بالبول والبراز.

ويظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة، فقد ذكر عدة طرق لإيقاف النزيف، سواء بالربط أو إدخال الفتائل أو بالكي بالنار أو بدواء كاو، أو بضغط اللحم فوق العرق.

وتحدث عن كيفية التعامل مع السهام واستخراجها من الجروح، ويُحذر المعالجين من إصابة الشرايين أو الأعصاب عند إخراج السهام من الجروح، وينبه إلى ضرورة أن يكون المعالج على معرفة تامة بالتشريح.

كما يعتبر ابن سينا أول من اكتشف ووصف عضلات العين الداخلية، وهو أول من قال بأن مركز البصر ليس في الجسم البلوري كما كان يعتقد من قبل، وإنما هو في العصب البصري.

وكان ابن سينا جراحا بارعا، فقد قام بعمليات جراحية ودقيقة للغاية مثل استئصال الأورام السرطانية في مراحلها الأولى وشق الحنجرة والقصبة الهوائية، واستئصال الخراج من الغشاء البلوري بالرئة، وعالج البواسير بطريقة الربط، ووصف بدقة حالات النواسير البولية كما توصل إلى طريقة مبتكرة لعلاج الناسور الشرجي لا تزال تستخدم حتى الآن، وتعرض لحصاة الكلى وشرح كيفية استخراجها والمحاذير التي يجب مراعاتها، كما ذكر حالات استعمال القسطرة، وكذلك الحالات التي يحذر استعمالها فيها.

الأمراض التناسلية

كما كان له باع كبير في مجال الأمراض التناسلية، فوصف بدقة بعض أمراض النساء، مثل: الانسداد المهبلي والأسقاط، والأورام الليفية.

وتحدث عن الأمراض التي يمكن أن تصيب النفساء، مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسببه من أورام وحميات حادة، وأشار إلى أن تعفن الرحم قد ينشأ من عسر الولادة أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفا من قبل، وتعرض أيضا للذكورة والأنوثة في الجنين وعزاها إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أكده مؤخرا العلم الحديث.
كتاب عربي علّم العالم

وقد حظي كتابه القانون في الطب شهرة واسعة في أوربا، حتى قال عنه السيد "وليم أوسلر": إنه كان الإنجيل الطبي لأطول فترة من الزمن.

وترجمه إلى اللاتينية "جيرارد أوف كريمونا"، وطبع نحو 15 مرة في أوربا ما بين عامي (878هـ= 1473م، و906 هـ = 1500م) ثم أعيد طبعه نحو عشرين مرة في القرن السادس عشر.

وظل هذا الكتاب المرجع الأساسي للطب في أوربا طوال القرنين الخامس والسادس عشر، حتى بلغت طبعاته في أوربا وحدها أكثر من 40 طبعة.

واستمر يُدرَّس في جامعات إيطاليا وفرنسا وبلجيكا حتى أواسط القرن السابع عشر، ظل خلالها هو المرجع العلمي الأول بها.

قانون ابن سينا للحركة والسكون

أما في مجال الفيزياء فقد كان ابن سينا من أوائل العلماء المسلمين الذين مهدوا لعلم الديناميكا الحديثة بدراستهم في الحركة وموضع الميل القسري والميل المعاون، وإليه يرجع الفضل في وضع القانون الأول للحركة، والذي يقول بأن الجسم يبقى في حالة سكون أو حركة منتظمة في خط مستقيم ما لم تجبره قوى خارجية على تغيير هذه الحالة، فقد سبق ابن سينا إلى ملاحظة حركة الأجسام، واستنباط ذلك القانون الذي عبّر عنه بقوله: "إنك لتعلم أن الجسم إذا خُلي وطباعه ولم يعرض له من خارج تأثير غريب لم يكن له بد من موضع معين وشكل معين، فإذن له في طباعه مبدأ استيجاب ذلك".

وهو بذلك سبق إسحاق نيوتن بأكثر من ستة قرون وجاليليو بأكثر من 5 قرون وليوناردو دافنشي بأكثر من 4 قرون؛ مما يستحق معه أن ينسب إليه ذلك القانون الذي كان له فضل السبق إليه: "قانون ابن سينا للحركة والسكون".

كما ابتكر ابن سينا آلة تشبه الونير Vernier، وهي آلة تستعمل لقياس الأطوال بدقة متناهية.

واستطاع بدقة ملاحظة أن يفرق بين سرعتي الضوء والصوت، وهو ما توصل إليه إسحاق نيوتن بعد أكثر من 600 سنة، وكانت له نظرياته في (ميكانيكية الحركة)، التي توصل إليها "جان بيردان" في القرن الرابع عشر، و(سرعة الحركة) التي بنى عليها "ألبرت أينشتين" نظريته الشهيرة في النسبية.

ابن سينا في عيون الغرب

حظي ابن سينا بتقدير واحترام العلماء والباحثين على مر العصور حتى قال عنه "جورج ساتون": "إن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة ربما لا نجد من يساويه في ذكائه أو نشاطه الإنتاجي".. "إن فكر ابن سينا يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى".

ويقول دي بور: "كان تأثير ابن سينا في الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى عظيم الشأن، واعتبر في المقام كأرسطو".

ويقول "أوبرفيل": "إن ابن سينا اشتهر في العصور الوسطى، وتردد اسمه على كل شفة ولسان، ولقد كانت قيمته قيمة مفكر ملأ عصره.. وكان من كبار عظماء الإنسانية على الإطلاق".

ويصفه "هولميارد" بقوله: "إن علماء أوربا يصفون "أبا علي" بأنه أرسطو طاليس العرب، ولا ريب في أنه عالم فاق غيره في علم الطب وعلم طبقات الأرض، وكان من عادته إذا استعصت عليه مسألة علمية أن يذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، ثم يعود إلى المسألة بعد الصلاة بادئا من جديد؛ فيوفق في حلها".

ولا تزال صورة ابن سينا تزين كبرى قاعات كلية الطب بجامعة "باريس" حتى الآن؛ تقديرا لعلمه واعترافا بفضله وسبْقه.


ملاحظة معلوماتية:

أوزبكستان دولة آسيوية من دول الاتحاد السوفييتي السابق، مساحتها تعادل مساحة العراق 447 ألف كم2 وسكانها يصل 28 مليون نسمة، ومن مدنها ومناطقها التي ترد أسمائها في الكتب التاريخية (بلخ: التي منها ابن سينا) وترمذ: التي منها الترمذي، وبُخارى التي منها البخاري، ونواوي التي منها النووي وخوارزم التي منها الخوارزمي، وسمرقند وطاشقند وغيرها. ومن العلماء الذين من أصل أوزبكستاني: النسائي والبيروني.

ابن حوران 08-02-2010 07:53 AM

الصاحب بن عباد.. الوزير العالم

(في ذكرى وفاته: 24 من صفر 385 هـ)


http://t2.gstatic.com/images?q=tbn:0...ages/pic45.jpg

الدولة البويهية (باللون الأزرق)


بلغت الدولة البويهية التي حكمت منطقة فارس والعراق في القرنين الرابع والخامس الهجريين مبلغا عظيما من الجاه والسلطان، وخضع لنفوذها خلفاء الدولة العباسية في الفترة التي امتدت بين سنتي (334 - 447هـ = 945 – 1055م) وأطلق على هذه الفترة عصر نفوذ البويهيين؛ حيث أصبح الخليفة العباسي مجردا من كل سلطان، ليس له من رسوم الخلافة سوى الدعاء على المنابر وكتابة اسمه على السّكة، وتعيين القضاة وخطباء المساجد.

وزراء بني بويه

وكان "بنو بويه" يحبّون العلم والأدب، ويستعينون بالعلماء والكتاب والشعراء في المناصب الكبرى بدولتهم كالوزارة التي تولاها نفر من سدنة العلم وأعلام الأدب والكتابة كأبي الفضل بن العميد الذي وَلِي الوزارة لركن الدولة البويهي سنة (328هـ = 939م) وظل في منصبه 30 عاما، وكان يُضرب به المثل في البلاغة والفصاحة حتى لقب بالجاحظ الثاني، وقيلت فيه العبارة السائرة: "بُدئت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد". والمقصود بعبد الحميد هنا هو "عبد الحميد بن يحيى" كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.

وبعد وفاة أبي الفضل ابن العميد خلفه ابنه أبو الفتح في الوزارة، وكان كاتبا بليغا وسياسيا ماهرا، ويضاف إليهما الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي.

وكان هؤلاء الوزراء من أصحاب الكفايات النادرة، التي تجمع إلى جانب الفطنة والذكاء والبلاغة والفصاحة مقدرةً فذة على إدارة شئون الدولة، وتسيير أمورها، وضبط أحوالها المالية، وقيادة جيوشها في المعارك، فكان الوزير منهم يجمع في منصبه اختصاصات وزارات عدة كالخارجية والداخلية والمالية والحربية، وهو أمر لم تشهده الوزارة من قبل.

الصاحب بن عباد

ولد إسماعيل بن عباد في "اصطخر" في (16 من ذي القعدة 326 هـ = 14 من أكتوبر 938م)، وكان أبوه كاتبًا ماهرًا، ولي الوزارة لركن الدولة البويهي، وقبل أن يكون وزيرا كان من أهل العلم والفضل، سمع من علماء بغداد وأصفهان والري، وروى عنه جماعة من العلماء، وعني بتربية ابنه، وتعهده بالتعليم والتثقيف؛ حتى يكون كاتبا مثله، يتصل ببلاط الملوك، ويخلفه في الوزارة.

اتصل إسماعيل بن عباد بأبي الفضل بن العميد الوزير المعروف، وتتلمذ على يديه، وتدرب على طريقته في الكتابة والقيام بأعمال الوزارة، وكان دائم الصحبة له حتى لُقِّب بالصاحب، كما تتلمذ على يد العالم الكبير أبي الحسين أحمد بن فارس، المتوفى سنة (375هـ = 985م)، وتوثقت بينهما أسباب الصلة والمودة، حتى إن ابن فارس لمّا ألّف كتابه في فقه اللغة أطلق عليه لقب تلميذه، فسماه الصاحبي، وأهداه إليه بعدما أصبح وزيرًا معروفًا.

منصب الوزارة

التحق الصاحب بن عباد بمؤيد الدولة ابن ركن الدولة البويهي أمير الري وأصفهان، وعمل له كاتبا، وظل مقدما عنده، ثم ولي له منصب الوزارة في سنة (366هـ = 976م)، وظل في الوزارة حتى وفاة مؤيد الدولة سنة (373هـ = 983م)، ثم أقره أخوه "فخر الدولة" على وزارته، وقد نجح الصاحب في إدارة شئون الدولة وتدبير أمورها على خير وجه، وجمع إلى جانب ما يتمتع به من ثقافة موفورة وعمل غزير وقدرة عالية على كتابة الرسائل الديوانية –كفاية حربية وموهبة عسكرية؛ فكان قائدا شجاعا حتى إنه فتح في خلال وزارته خمسين قلعة حصينة، وكان إداريا عظيما؛ فظلت الأنظمة الإدارية التي استحدثها تطبق في عهد من خلفه الوزراء.

وقد أَعْلَت هذه الملكات الخاصة من شأن الوزير النابه؛ فوثق به الأميران: مؤيد الدولة وأخوه فخر الدولة، وأطلقا يده في إدارة شئون البلاد التابعة لهما، وفرضت كفايته وخبرته احترام كبار رجال الدولة له، حتى قيل إن قواد بني بويه وحكامهم كانوا يقفون ببابه، ومن يُؤْذَن له في الدخول عليه يظن أنه قد بلغ الآمال وأقبلت عليه الدنيا.

وبلغ من علوّ مكانته وتأثيره في سياسة الدولة أن الأمير عضد الدولة أعظم أمراء دولة بني بويه كان يقول لجلسائه: إنه لا يحسد أحدا من الملوك إلا أخاه مؤيد الدولة؛ لتولي الصاحب بن عباد الوزارة له، وكان الأمير عضد الدولة – الذي كان يحكم العراق وما حولها – يخرج بنفسه لاستقبال الصاحب إذا قدم إليه؛ فقد خرج في سنة (370هـ = 980م) على رأس كبار رجال دولته إلى خارج مدينة بغداد لاستقبال الصاحب بن عباد وإكرامه.

ثقافة متنوعة

لم يكن الصاحب كاتبا موهوبا ووزيرا قديرا فحسب، وإنما جمع إلى ذلك مشاركة في علوم كثيرة؛ فله معرفة ورواية في الحديث النبوي؛ إذ سمع الحديث من أعلامه في العراق والري وأصبهان، وترجم له الحافظ الكبير أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "ذكر أخبار أصبهان"، باعتباره محدثا لا رجل دولة، وذكر في أخباره أنه كان يناظر ويدرس ويملي الحديث.

ووصف الصاحب بأنه كان من أفقه علماء الشيعة، وعقد له في وقت من الأوقات مجلس للإملاء وإلقاء الدرس، فاحتفل الناس لحضوره واحتشد لسماعه وجوه الأمراء وكبار العلماء، وكان ممن يكتب عنه القاضي عبد الجبار الهمذاني وأمثاله من كبار الفقهاء والمحدثين، وإلى جانب ذلك كان إماما في اللغة، متمكنا من علومها وأدواتها، يَشهد له بذلك المعجم الكبير الذي ألفه، والمعروف باسم المحيط، وقد رتب مواده اللغوية وفق ترتيب مخارج الحروف، مثلما فعل الخليل بن أحمد في معجمه العين؛ أول المعاجم العربية، وقد نشر هذا العمل الكبير في العراق.

رسائل الصاحب.. وثائق مهمة

غير أن الذي رفع مكانة الصاحب بن عباد وأفسح له مكانا متميزا بين أصحاب القلم والبيان في تاريخ الأدب العربي هو رسائله الإخوانية والديوانية، وهي رسائل بليغة العبارة وصافية الديباجة، متأنقة في اختيار اللفظ. ومن كلامه الذي يجري مجرى الأمثال: "من كَفَر النعمة استوجب النقمة"، و"مَن يهزُّه يسير الإشارة لم ينفعه كثير العبارة"، و"العلم بالتذكر والجهل بالتناكر".

ورسائل الصاحب المنشورة معظمها ديوانية، وتُعدّ وثائق بالغة القيمة والأهمية عن الدولة البويهية، عرض فيها لحروبهم وإدارتهم لشئون الدولة، ومعاهداتهم، وعهودهم لولاتهم وقادتهم وقُضاتهم.

ومن نماذج ما كتبه الصاحب من عهود: كتابه إلى قاضي القضاة "عبد الجبار بن أحمد"، وهو من كبار رجال القرن الرابع الهجري حين عيّنه في ولاية القضاء في جرجان وطبرستان، وتضمنت هذه الرسالة الفريدة التوجيهات التي تتصل بمصالح الرعية، وتكفل العدل لها، وتحقق المساواة بين أفرادها.

فبعد أن استعرض أصول التشريع ومصادر الأحكام التي هي كتاب أو سنة – ذكّر القاضي بضرورة الالتزام بالشورى، وحذّره من الاستبداد وإطاعة الهوى، ونبّهه إلى أهمية تهذيب نفسه، والعدل بين الخصوم، والعناية باختيار الأعوان، وفحص الشهود، والاستيثاق من عدالتهم، ورعاية اليتامى وأموالهم.. وإليك مقتطفات من تلك الرسالة: "... وأمره أن يهذب نفسه قبل أن يهذب عمله، ويؤدب عاداته قبل أن يؤدب من قبله، ويروض أخلاقه على الحلم؛ لئلا يقضي في حالة غيظ أو حنق أو ضجر أو ملال… وأمره بأن يعدل بين الخصوم في مجالس قضائه، ويعمهم بحسن استماعه وإصغائه… لئلا يطمع قوي في انظلام الضعيف، أو يجزع مشروف من اهتضام شريف، فالحق أكبر من كل ذي محل وثروة، والدين أعظم من كل ذي منزلة وحظوة.

.. وأمره أن يتخير كفاته وخلفاءه وكُتَّابة وأمناءه؛ فمن نصح وعفّ وصلح وكفّ أمّره، ومن صَدَف عن التورع والظلف (الزهد)، وانحرف إلى الجشع والنطف (الفساد) قدَّم عزله، فالمرء مسئول عن بطانته، كما هو مسئول عن أمانته…".

والرسالة طويلة، تعرَّض فيها لما يتصل بعمل القاضي من واجبات وأمور يجب الالتزام بها.

وللصاحب شعر جيد في المديح والوصف والغزل والإخوانيات، وقد جمع أشعاره "محمد آل ياسين"، ونشرها في النَّجف بالعراق، وله أيضا إسهامات في النقد الأدبي، وترك رسالة بعنوان "الكشف عن مساوئ المتنبي"، وهي لا تخلو من نظرات نقدية صائبة، وإن شابها تحامُل على الشاعر الكبير.

وتُوفي الصاحب بن عباد ليلة الجمعة في (24 من صفر 385هـ = 30 من مارس 955م) بالري، وأُغلقت المدينة لموته، وحضر الأمير "فخر الدولة البويهي" وكبار رجال دولته جنازته، ثم جلس لاستقبال المعزين فيه عدة أيام.

ابن حوران 09-02-2010 10:59 AM

سيف الدولة.. لمحات تاريخية وثقافية

(في ذكرى وفاة سيف الدولة: 25 من صفر 356هـ)


http://t2.gstatic.com/images?q=tbn:4...anein.info.jpg

خريطة دولة بني حمدان باللون الأصفر

ترجع الجذور الأولى للحمدانيين إلى تغلب بن وائل بن قاسط رأس قبيلة تَغْلِب الشهيرة، والذي ينتهي نسبه إلى ربيعة بن نزار.

وكانت تغلب من أعظم قبائل ربيعة شأنا في بلاد العرب قبل الإسلام لعهدها القديم، فلما أشرق نور الإسلام على الجزيرة العربية، وسارعت قبائل العرب إلى الدخول في الإسلام، كانت قبيلة تغلب من القبائل التي ناصبت الإسلام والمسلمين العداء، بل إنها ناصرت سجاح حينما ادعت النبوة، وساندتها وأتباعها في حربهم المسلمين، وحتى عندما انتهى أمرها وتبددت دعوتها بعدما تصدى أبو بكر الصديق للمرتدين، وقضى على أدعياء النبوة، فإن تغلب لم تستطع أن تُخفي عداءها للمسلمين، فوقفت في صف الروم في حربها ضد المسلمين سنة 12هـ = 637م.

بنو تغلب عبر التاريخ

ومع اتساع الدولة الإسلامية وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية وما حولها، لم يتغير موقف بني تغلب كثيرا؛ فلم يدخل منها في الإسلام إلا قليل، وبقي معظمهم على نصرانيتهم، ومع ذلك فإن الخليفة الثاني الفاروق "عمر بن الخطاب" لم يفرض عليهم الجزية التي كانت تؤخذ من أهل الكتاب، وإنما اكتفى بأن أخذ منهم الصدقة التي كانت تؤخذ من المسلمين، ولكنه ضاعفها عليهم.

وفي عصر الدولة الأموية حظي أبناء تغلب من الشعراء بمكانة عظيمة، فظهر الأخطل والقطافي -وهما شاعران نصرانيان-، وكان لهما حظ وفير من المجد والشهرة في بلاد الأمويين.

فلما جاءت الدولة العباسية، كان لبني تغلب مكانة مرموقة في كنف الأسرة العباسية، وتمكنوا من إنشاء دولتهم المستقلة التي كان لها دورها الكبير في حركة التاريخ، وساهمت بشكل فعال في إرساء نهضة حضارية وفكرية عظيمة.

ظهور وتغلغل

ولكن البداية الحقيقية لظهور الحمدانيين على مسرح الأحداث ترجع إلى مؤسس هذه الأسرة "حمدان بن حمدون التغلبي" صاحب قلعة "ماردين" القريبة من "الموصل"، وذلك عندما خاض حمدون على رأس جنوده عدة معارك قوية ضد الروم، إلا أن بداية علاقتهم الفعلية بالعباسيين لم تتحدد إلا بعد عام (272هـ=885م)، عندما تحالف مع "هارون الشاري" الخارجي، واستطاعا غزو الموصل والاستيلاء عليها، وقد أدى ذلك إلى ثورة الخليفة العباسي المعتضد وغضبه عليه، فقبض عليه وحبسه.
http://t3.gstatic.com/images?q=tbn:m...r/32b_asar.jpg

حصن الحمدانيين

ومع استفحال أمر "الشاري" ظلّ الخليفة يفكر في وسيلة للقضاء عليه، ووجدها "الحسين بن حمدان" فرصة لإظهار قدراته واكتساب ثقة الخليفة وإطلاق سراح أبيه من الحبس، واستطاع الحسين هزيمة الشاري بعد معركة قوية، وأسره وقدّمه إلى الخليفة يرسف في أغلاله؛ فسر الخليفة بذلك، وأطلق سراح أبيه، وبدأ مرحلة جديدة من التعاون مع بني حمدان؛ فاستعان بهم في محاربة القرامطة والتصدي لخطرهم، كما وجههم إلى العديد من الفتوحات في فارس ومصر والمغرب.

وهكذا استطاع الحمدانيون الوصول إلى أخطر المراكز، وتقلدوا أعلى المناصب، وشاركوا مشاركة فعلية في الحياة السياسية في بغداد لفترة غير قصيرة، واستطاعت الأسرة الحمدانية أن توثق صلاتها بالعباسيين، وأخذ نفوذهم يزداد، وتوغلوا في جميع مرافق الدولة، بالرغم من الدسائس والمؤامرات المستمرة التي ظلت تحاك ضدهم من بعض العناصر غير العربية في بلاط العباسيين، وبرز عدد كبير من أبناء هذه الأسرة كان في مقدمتهم الأمير "سيف الدولة الحمداني".

سيف الدولة.. الأمير الفارس

وُلد الأمير "سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدون التغلبي" في (303هـ = 915م) في مدينة "ميافارقين" -أشهر مدن ديار بكر- على إثر تولي أبيه إمارة الموصل.

وقد عُني أبوه بتعليمه وتنشئته على الفروسية منذ نعومة أظفاره، وأظهر سيف الدولة استعدادا كبيرا ومهارة فائقة في القنص والرمي وركوب الخيل منذ صغره.

ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى صار فارسا لا يُشَقّ له غبار، وخاض العديد من المعارك الطاحنة ضد أعداء الدولة والمتمردين عليها؛ سواء في الداخل أو في الخارج.

واستطاع الأمير الشاب أن يحقق انتصارا عظيما على البريدين الذين اقتحموا بغداد عام (330هـ = 942م) ودفعوا الخليفة العباسي "المتقي لله" إلى الخروج منها، واللجوء إلى الموصل للاستنجاد بالحمدانيين، فلما حقّق الأمير الشاب "علي بن أبي الهيجاء" النصر على البريدين بعد أن تعقبهم إلى المدائن، أنعم عليه الخليفة بلقب "سيف الدولة"، وأمر أن تُضرب باسمه الدنانير والدراهم.

الانتصار على البيزنطيين

وبدأ نجم سيف الدولة يعلو ويسطع منذ ذلك الحين؛ فحقق المزيد من الانتصارات على الروم والبيزنطيين، واستطاع أن يصدّ هجماتهم، كما تمكن من المحافظة على حدود الدولة الإسلامية ضد غاراتهم، واستطاع أن يتوغل داخل حدود الدولة البيزنطية.

وقد عُني سيف الدولة بتسليح جيشه في مواجهة استعدادات الجيش البيزنطي العسكرية القوية وتنظيمه الجيد، وتنوع تسليحه، فاتجه إلى توفير المال اللازم لتجهيز الجيش وتسليح الجنود، واهتم بتدريب رجاله وتربية جنوده تربية عسكرية صارمة.

واتخذ سيف الدولة مدينة "حلب" مركزا ليبدأ منها مرحلة جديدة من حياته؛ حيث أعلن إمارته على مناطق حلب والجزيرة الفراتية وإقليم الثغور والعواصم، وبدأ يدخل في مرحلة جديدة من الصراع مع الروم البيزنطيين والحروب الطاحنة معهم، واستطاع خلالها أن يحقق عدة انتصارات عليهم، ووجه إليهم العديد من الضربات المتلاحقة الموجعة، وألحق بهم سلسلة من الهزائم المتتالية.

الصراع مع الإخشيديين

وقد أثارت انتصارات سيف الدولة على الروم البيزنطيين حفيظة والإخشيديين الذين وجدوا عليه تلك البطولات والأمجاد، وخشوا من تعاظم نفوذه وقوة شوكته؛ فتحركوا لقتاله، ولكنهم ما لبثوا أن آثروا الصلح معه بعد أن لمسوا قوته وبأسه.

وبدأ الروم البيزنطيون يعيدون ترتيب صفوفهم وتنظيم قوتهم، وراحوا يهاجمون الثغور العربية في سنة (336هـ = 947م)، ولكن الأمير سيف الدولة الحمداني تصدّى لهم وتعقبهم، وجدد البيزنطيون هجماتهم مرة أخرى بعد عام، فتعقبهم سيف الدولة، وقتل منهم عددا كبيرا.

ولكن هجمات الروم البيزنطيين لم تتوقف؛ مما دفع سيف الدولة إلى تجهيز حملة كبيرة قوامها ثلاثون ألف فارس، وانضم إليهم جيش طرطوس في أربعة آلاف مقاتل، واستطاع اقتحام حدود الدولة البيزنطية، والتوغل داخل أراضيها، وفتح عددا من حصونها، وألحق بالبيزنطيين هزيمة منكرة، وأسر عددا من قادتهم؛ مما دفع البيزنطيين إلى طلب الهدنة منه، بعد أن ضاقوا ذرعا بالحروب الطاحنة التي كبدتهم العديد من الخسائر وأصابتهم بالوهن.

نهضة شاملة

وبالرغم من الطابع العسكري والحربي لدولة الحمدانيين بصفة عامة، وإمارة سيف الدولة على نحو خاص، فإن ذلك لم يصرف الأمير "سيف الدولة" عن الاهتمام بالجوانب الحضارية والعمرانية.

فقد شيّد سيف الدولة قصره الشهير بـ"قصر الحلبة" على سفح جبل الجوشن، وتميز بروعة بنائه وفخامته وجمال نقوشه وزخارفه، وكان آية من آيات الفن المعماري البديع، كما شيّد العديد من المساجد، واهتم ببناء الحصون المنيعة والقلاع القوية.

وشهدت الحياة الاقتصادية ازدهارا ملحوظا في العديد من المجالات؛ فمن ناحية الزراعة كثرت المزروعات، وتنوعت المحاصيل من الحبوب والفاكهة والثمار والأزهار، فظهر البُرّ والشعير والذرة والأرز والبسلة وغيرها. كما ظهرت أنواع عديدة من الفاكهة كالتين والعنب والرمان والبرقوق والمشمش والخوخ والتوت والتفاح والجوز والبندق والحمضيات. ومن الرياحين والأزهار والورد والآس والنرجس والبنفسج والياسمين. كما جادت زراعة الأقطان والزيتون والنخيل. وظهرت صناعات عديدة على تلك المزروعات، مثل: الزيتون، والزبيب، كما ظهرت صناعات أخرى كالحديد والرخام والصابون والكبريت والزجاج والسيوف والميناء.

ونشطت التجارة، وظهر العديد من المراكز التجارية المهمة في حلب والموصل والرقة وحران وغيرها.

وشهدت الحياة الفكرية والثقافية نهضة كبيرة ونشاطا ملحوظا في ظل الحمدانيين؛ فظهر الكثير من العلماء والأطباء والفقهاء والفلاسفة والأدباء والشعراء.

وكان سيف الدولة يهتم كثيرا بالجوانب العلمية والحضارية في دولته، وظهر في عصره عدد من الأطباء المشهورين، مثل "عيسى الرَّقي" المعروف بالتفليسي، و"أبو الحسين بن كشكرايا"، كما ظهر "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي" الذي كان أعظم أطباء الإسلام وأكثرهم شهرة وإنتاجا.

ومن أبرز الفلكيين والرياضيين الذين ظهروا في عصر الحمدانيين في بلاد الشام "أبو القاسم الرَّقي"، و"المجتبى الإنطاكي" و"ديونيسيوس" و"قيس الماروني"، كما عُني الحمدانيون بالعلوم العقلية كالفلسفة والمنطق، فلَمع نجمع عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين في بلاط الحمدانيين، مثل: "الفارابي"، و"ابن سينا".

أما في مجال العلوم العربية؛ فقد ظهر عدد من علماء اللغة المعروفين، مثل "ابن خالويه"، و"أبو الفتح بن جني"، و"أبو على الحسين بن أحمد الفارسي"، و"عبد الواحد بن علي الحلبي" المعروف بأبي الطيب اللغوي.

كما لمع عدد من الشعراء المعروفين، مثل "المتنبي"، و"أبو فراس الحمداني"، و"الخالديان: أبو بكر، وأبو عثمان"، و"السرى الرفاء" و"الصنوبري"، و"الوأواء الدمشقي"، و"السلامي" و"النامي".

وظهر كذلك عدد كبير من الأدباء المشهورين، وفي طليعتهم "أبو الفرج الأصفهاني" صاحب كتاب "الأغاني" الذي أهداه إلى سيف الدولة؛ فكافأه بألف دينار، و"ابن نباتة"، وظهر أيضا بعض الجغرافيين، مثل: "ابن حوقل الموصلي" صاحب كتاب "المسالك والممالك"…

ولم يلبث سيف الدولة أن عاجله المرض، ثم تُوفي في (25 من صفر 356هـ = 10 من فبراير 966م)، وقيل في رمضان، وهو في الثالثة والخمسين من عمره.

وقد ظلت آثار تلك النهضة الثقافية والحضارية ذات أثر كبير في الفكر العربي والثقافة الإسلامية على مدى قرون عديدة وأجيال متعاقبة.

ابن حوران 11-02-2010 07:26 AM

صلاح الدين.. أخلاق الفارس الإسلامي

(في ذكرى وفاته: 27 من صفر 589هـ)



http://t2.gstatic.com/images?q=tbn:J....com/pict2.jpg

شاءت الأقدار أن يتولى صلاح الدين الأيوبي الوزارة للخليفة العاضد الفاطمي، سنة (564هـ = 1168م)، خلفا لعمه "أسد الدين شيركوه" الذي لم ينعم بالوزارة سوى أشهر قليلة، وبتوليه هذا المنصب تغيرت حركة التاريخ في القرن السادس الهجري، فسقطت دولة كانت في النزع الأخير، وتعاني سكرات الموت، وقامت دولة حملت راية الجهاد ضد الإمارات الصليبية في الشام، واستردت بيت المقدس من بين مخالبهم، بعد أن ظل أسيرا نحو قرن من الزمان.

صلاح الدين وزيرًا

شهدت السنوات الأخيرة من عمر الدولة الفاطمية في مصر صراعا محموما بين "شاور" و"ضرغام" على منصب الوزارة، ولم ينجح واحد منهما في حسم الصراع لمصلحته، والانفراد بالمنصب الكبير، فاستعان كل منهما بقوة خارجية تعينه على تحقيق هدفه؛ فاستعان ضرغام بالصليبيين، واستعان الآخر بنور الدين محمود سلطان حلب، فلبَّى الفريقان الدعوة، وبدأ سباق بينهما لاستغلال هذا الصراع كلٌّ لصالحه، والاستيلاء على مصر ذات الأهمية البالغة لهما في بسط نفوذهما وسلطانهما في تلك المنطقة.

وانتهى الصراع بالقضاء على الوزيرين المتنافسين سنة (564هـ = 1168م)، وتولى "أسد الدين شيركوه" قائد حملة نور الدين منصب الوزارة للخليفة العاضد الفاطمي، ثم لم يلبث أن تُوفي شيركوه فخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين الذي كان في الثانية والثلاثين من عمره.

وزير سنِّي في دولة شيعية

كانت المفارقة أن يتولى صلاح الدين السُّني المذهب الوزارة لدولة شيعية، وأن يدين في الوقت نفسه بالولاء لنور الدين الزنكي سلطان حلب التابع لدولة الخلافة العباسية، وتحولت مهمته من منع مصر من السقوط في أيدي الصليبيين إلى السعي في ردها إلى أحضان الخلافة العباسية.

ولم يكن لصلاح الدين من سابق الأعمال أو خبرة السنين ما يُسَهِّل عليه القيام بهذه المهمة الصعبة، لكنه نجح في أدائها على نحو يثير الإعجاب، والتقدير، واستعان في تحقيقها بوسائل جديدة تدل على فرط الذكاء وعمق البصيرة، وحسن التصرف، وقوة الإدراك والوعي بحركة التاريخ، وتفضيل التغيير السلمي الواعي على غيره من وسائل التغيير، وتهيئة الأجواء له حتى لا تصطدم به أي عوائق.

ولكي ينجح صلاح الدين في تحقيق هدفه كان عليه أن يقوي المذهب السني في مصر؛ حتى يتمكن من إسقاط الدولة الفاطمية، وإلغاء المذهب الإسماعيلي الشيعي، واستغرقت هذه المهمة ثلاث سنوات، لجأ في أثنائها إلى العمل المتأني والخطوات المحسوبة، فعزل القضاة الشيعيين، وأحل محلهم قضاة من أهل السنة، وأنشأ عددا من المدارس لتدريس الفقه السني.

حتى إذا وجد أن الفرصة المناسبة قد لاحت، وأن الأجواء مستعدة للإعلان عن التغيير، أقدم على خطوة شجاعة، فأعلن في الجمعة الأولى من شهر المحرم (567هـ = سبتمبر1171) قطْع الخطبة للخليفة الفاطمي الذي كان مريضًا وملازمًا للفراش، وجعلها للخليفة العباسي، فكان ذلك إيذانا بانتهاء الدولة الفاطمية، وبداية عصر جديد.

بناء الوحدة الإسلامية

قضى صلاح الدين السنوات الأولى بعد سقوط الدولة الفاطمية في تثبيت الدولة الجديدة، وبسط نفوذها وهيبتها على كل أرجائها، خاصة أن للدولة الفاطمية أنصارًا وأعوانًا ساءهم سقوطها، وأحزنهم إضعاف مذهبها الإسماعيلي، فناهضوا صلاح الدين، ودبروا المؤامرات للقضاء على الدولة الوليدة قبل أن يشتد عودها، وكان أشد تلك الحركات مؤامرة "عمارة اليمني" للقضاء على صلاح الدين، وفتنة في أسوان اشتعلت لإعادة الحكم الفاطمي، لكن تلك الحركات باءت بالفشل، وتمكَّن صلاح الدين من القضاء عليها تماما.

وبعد وفاة "نور الدين محمود" سنة (569هـ = 1174م) تهيأت الفرصة لصلاح الدين الذي يحكم مصر نيابة عنه، أن يتطلع إلى ضم بلاد الشام إلى حكمه؛ لتقوية الصف الإسلامي، وتوحيد الجهود استعدادا للوقوف أمام الصليبيين، وتحرير الأراضي المغتصبة من أيديهم، فانتهز فرصة استنجاد أحد أمراء دمشق به، فسار إلى دمشق، وتمكن من السيطرة عليها دون قتال سنة (570هـ = 1174م)، ثم على حمص وحماة وبعلبك، ثم أعلن عن استقلاله عن بيت نور الدين محمود وتبعيته للخلافة العباسية التي منحته لقب سلطان، وأصبح حاكما على مصر، ثم عاود حملته على الشام سنة (578هـ = 1182م)، ونجح في ضم حلب وبعض المدن الشامية، وأصبح شمال الشام كله تحت سيطرته، وتعهَّد حاكم الموصل بإرسال مساعدات حربية إذا طلب منه ذلك.

واستغرق هذا العمل الشاق من أجل توحيد الجبهة الإسلامية أكثر من عشر سنوات، وهي الفترة من سنة (570هـ = 1174م) إلى سنة (582هـ = 1186م)، وهي فترة لم يتفرغ فيها تماما لحرب الصليبيين.

من نصر إلى نصر

اطمأن الناصر صلاح الدين إلى جبهته الداخلية، ووثق تماما في قوتها وتماسكها، فانتقل إلى الخطوة الأخرى، وانصرف بكل قوته وطاقته إلى قتال الصليبيين، وخاض معهم سلسلة من المعارك كُلِّلت بالنصر، ثم توج انتصاراته الرائعة عليهم في معركة "حطين" سنة (583هـ = 1187م)، وكانت معركة هائلة أُسر فيها ملك بيت المقدس وأرناط حاكم حصن الكرك، وغيرهما من كبار قادة الصليبيين.

وترتب على هذا النصر العظيم، أن تهاوت المدن والقلاع الصليبية، وتساقطت في يد صلاح الدين؛ فاستسلمت قلعة طبرية، وسقطت عكا، وقيسارية، ونابلس، وأرسوف، ويافا وبيروت وغيرها، وأصبح الطريق ممهدا لأن يُفتح بيت المقدس، فحاصر المدينة المقدسة، حتى استسلمت وطلبت الصلح، ودخل صلاح الدين المدينة السليبة في (27 من رجب 583هـ = 2 من أكتوبر 1187م)، وكان يوما مشهودا في التاريخ الإسلامي.

ارتجت أوروبا لاسترداد المسلمين لمدينتهم المقدسة، وتعالت صيحات قادتهم للأخذ بالثأر والانتقام من المسلمين، فأرسلت حملة من أقوى حملاتهم الصليبية وأكثرها عددا وعتادا، وقد تألفت من ثلاثة جيوش ألمانية وفرنسية وإنجليزية، نجح جيشان منها في الوصول إلى موقع الأحداث، في حين غرق ملك ألمانيا في أثناء عبوره نهرًا بآسيا الصغرى، وتمزق شمل جيشه.

استطاع الجيش الفرنسي بقيادة "فيليب أغسطس" من أخذ مدينة عكا من المسلمين، واستولى نظيره الإنجليزي بقيادة "ريتشارد قلب الأسد" من الاستيلاء على ساحل فلسطين من "صور" إلى "حيفا"؛ تمهيدا لاستعادة بيت المقدس، لكنه فشل في ذلك، واضطر إلى طلب الصلح، فعُقد صلح بين الطرفين، عُرف بصلح الرملة في (22 من شعبان 588هـ = 2 من سبتمبر 1192م)، ولحق ريتشارد بملك فرنسا عائدا إلى بلاده.

ابن حوران 11-02-2010 07:26 AM

إنجازات حضارية

يظن الكثير من الناس أن صلاح الدين شغلته أعمال الجهاد عن الانصراف إلى شئون الدولة الأخرى الحضارية، ولعل صورة الفارس المحارب صلاح الدين قد طغت على الجوانب الأخرى من شخصيته، فأخفت بعضا من ملامحها المشرقة وقسماتها المضيئة.



وأول عمل يلقانا من أعمال صلاح الدين هو دعمه للمذهب السني



http://t3.gstatic.com/images?q=tbn:T...age2/17_15.jpg

الدولة الأيوبية باللون الأخضر


بإنشائه مدرستين لتدريس فقه أهل السنة، هما المدرسة الناصرية لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي، وسُميت بذلك؛ لأنها كانت توزع على أساتذتها ومعيديها وتلاميذها قمحًا، كانت تغله أرض موقوفة عليها، وفي الوقت نفسه قصر تولي مناصب القضاء على أصحاب المذهب الشافعي، فكان ذلك سببا في انتشار المذهب في مصر وما يتبعها من أقاليم.

وبرز في عصر صلاح الدين عدد من الشخصيات العلمية والفكرية، مثل "القاضي الفاضل" المتوفَّى سنة (596هـ = 1200م) رئيس ديوان الإنشاء وصاحب القلم البديع في الكتابة، وكان صلاح الدين يستشيره في أدق أمور الحرب والسياسة، و"العماد الأصفهاني" المتوفَّى سنة (597هـ = 1201م)، وصاحب المؤلفات المعروفة في الأدب والتاريخ، ونجح مع القاضي الفاضل في ازدهار ديوان الإنشاء في مصر، وهذا الديوان يشبه في وظيفته وزارة الخارجية.

وعُني صلاح الدين ببناء الأسوار والاستحكامات والقلاع، ومن أشهر هذه الآثار "قلعة الجبل"؛ لتكون مقرًّا لحكومته، ومعقلا لجيشه، وحصنا منيعا يمكِّنه من الدفاع عن القاهرة، غير أن صلاح الدين لم يتمكن من إتمام تشييدها في عهده، وظلت القلعة مقرا لدواوين الحكم في مصر حتى وقت قريب، وأحاط صلاح الدين الفسطاط والعسكر وأطلال القلاع والقاهرة، أحاطها جميعا بسور طوله 15كم، وعرضه ثلاثة أمتار، وتتخلله الأبراج، ولا تزال بقاياه قائمة حتى اليوم في جهات متفرقة.


http://t0.gstatic.com/images?q=tbn:j...234704tza6.jpg

قلعة صلاح الدين

واستقرت النظم الإدارية؛ فكان السلطان يرأس الحكومة المركزية في العاصمة، يليه نائب السلطان؛ وهو المنصب الذي استحدثه صلاح الدين لينوب عنه في أثناء غيابه يليه الوزير، وكان يقوم بتنفيذ سياسات الدولة، ويلي ذلك الدواوين، مثل: "ديوان النظر" الذي يشرف على الشئون المالية، و"ديوان الإنشاء" ويختص بالمراسلات والأعمال الكتابية، و"ديوان الجيش" ويختص بالإشراف على شئون الجيش، و"ديوان الأسطول" الذي عُني به صلاح الدين عناية فائقة لمواجهة الصليبيين الذين كانوا يستخدمون البحر في هجومهم على البلاد الإسلامية، وأفرد له ميزانية خاصة، وعهد به إلى أخيه العادل، وقد اشترك الأسطول في عدة معارك بحرية في سواحل مصر والشام، منها صدِّه لحملة أرناط على مكة والمدينة.

وعُني صلاح الدين بالمؤسسات الاجتماعية التي تعين الناس وتخفف عنهم بعض عناء الحياة؛ فألغى الضرائب التي كانت تفرض على الحجاج الذين يمرون بمصر، وتعهد بالإنفاق على الفقراء والغرباء الذين يلجئون إلى المساجد، وجعل من مسجد "أحمد بن طولون" مأوى للغرباء من المغاربة.

http://t3.gstatic.com/images?q=tbn:B...12105.imgcache
منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى

واشتهر صلاح الدين بسماحته وجنوحه إلى السلم؛ حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، فقد عامل الصليبيين بعد استسلام المدينة المقدسة معاملة طيبة، وأبدى تسامحا ظاهرا في تحصيل الفداء من أهلها، وكان دخول المسلمين بيت المقدس دون إراقة دماء وارتكاب آثام صفحة مشرقة ناصعة، تُناقض تماما ما ارتكبه الفرنج الصليبيون عند استيلائهم على المدينة سنة (492هـ = 1099م) من الفتك بأهلها المسلمين العُزَّل وقتل الألوف منهم.

وفي أثناء مفاوضات صلح الرملة التي جرت بين المسلمين والصليبيين مرض السلطان صلاح الدين، ولزم فراشه، ثم لقي ربَّه في (27 من صفر 589هـ = 4 من مارس 1193م)، وكان يوم وفاته يوما لم يُصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين.

ولما تُوفِّي لم يخلف مالا ولا عقارا، ولم يوجد في خزائنه شيء من الذهب والفضة سوى دينار واحد، وسبعة وأربعين درهما، فكان ذلك دليلا واضحا على زهده وعفة نفسه وطهارة يده.

ابن حوران 13-02-2010 01:03 PM

أنفذوا بعث أسامة

(في ذكرى تولية الرسول صلى الله عليه وسلم له: 29 من صفر 11 هـ)




كان أول أمر أصدره الخليفة "أبو بكر الصديق" بعد أن تمت له البيعة بالخلافة أن قال: "لِيُتَمَّ بعث أسامة".. وكان قرارًا صعبًا صدر في ظروف أشد صعوبة وحرجًا؛ فالعرب قد ارتدّت عن الإسلام، واضطربت شبه الجزيرة العربية، واستفحل خطر مدَّعيي النبوة: "مُسيلمة الكذّاب" في اليمامة، و"طلحة بن خويلد الأسدي" في منطقة بذاخة، شرقي المدينة المنورة، و"سَجاح" التي ادعت النبوة في قومها، بني تميم.

القائد الصغير السن

وأسامة بن زيد هو قائد الجيش الذي أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتجهيزه وإعداده، وإمداده بكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار؛ لتأمين شبه الجزيرة من الروم ذوي البأس والقوة، وكان أسامة حدثًا لم يتجاوز العشرين من عمره عندما عقد له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لواء القيادة في (آخر يوم من صفر سنة 11 هـ = 28 من مايو 632 هـ).

وقد سبق هذا البعث عدة حملات عسكرية لتأمين الحدود الإسلامية من مداهمة الروم لها، بعدما بزغ الدِّين الجديد، وصارت له دولة قوية، يخشى الروم من تزايد نفوذها وامتداد سلطانها، وكانت غزوة "مؤتة" التي استشهد فيها "زيد بن حارثة" قائدها ووالد أسامة، واحدةً من تلك الحملات، تبعتها غزوة "تبوك" في (غرة رجب من العام التاسع للهجرة)، وقد خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) على رأس جيش ضخم، بلغ تعداده ثلاثين ألفًا، بعدما جاءته الأنباء بأن الروم يُعدّون العدة للهجوم عليه، فلما بلغ "تبوك" تبين أن ليس للروم جموع بها، فأقام هناك ثلاثة أسابيع؛ رتب خلالها أوضاع المنطقة، وفرض سلطانه وهيبته عليها، وكانت هذه الحملة نذيرًا جعل الروم يتراجعون إلى ما وراء حدودهم دون قتال.

جدارة أسامة بالإمارة

لم تختلف مهمة أسامة كثيرًا عن الحملات السابقة؛ فقد أمره (صلى الله عليه وسلم) أن يوطئ الخيل تخوم "البلقاء" و"الداروم" من أرض فلسطين، وأن يفاجئ العدو قبل أن يستعد لخوض المعركة، فتحلّ به الهزيمة، وتلحق به الخسائر؛ فتجَهّز الناس، وانضموا إليه.

وقد تحدث بعض الصحابة في شأن تولية أسامة قيادة جيش يضم كبار المهاجرين والأنصار من أمثال عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وقتادة بن النعمان؛ فقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين والأنصار؟ وبلغت هذه المقالة النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في مرضه الأخير، وجيش أسامة مقيم بالجَرْف خارج المدينة يتأهب للمسير، فغضب النبي (صلى الله عليه وسلم) وأمر نساءه أن يُرقن عليه الماء حتى تهدأ الحُمّى، ثم خرج إلى المسجد، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ فوالله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبل، وأيم الله إن كان للإمارة لَخَلِيقٌ، وإن ابنه من بعده لخليقٌ بالإمارة".

وكان أسامة حقًّا خليق بالإمارة؛ حيث كان شجاعًا مقدامًا منذ نشأته، فانضم إلى جيش المسلمين وهو في طريقه إلى "أُحد"، لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) ردّه لصغر سنه، ثم أبلى أحسن البلاء في "حُنَيْن"، وثبت فيها ثبات الأبطال.

إصرار أبي بكر على إرسال جيش أسامة

لم يتحرك جيش أسامة القابع في "الجرف" خارج المدينة حتى وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) واشتعلت فتنة المرتدين، وأحدقت الأخطار بالمدينة، ورأى أسامة أن يؤجل خروج الجيش حتى تسكن الفتنة، وتهدأ الأوضاع وتعود إلى حالتها من الأمن والاستقرار، وأفضى بهذا الرأي للخليفة أبي بكر الصديق، وعزر من هذا الرأي أن كثيرًا من الصحابة كانوا يؤيدونه؛ نظرًا لضرورة بقاء الجيش في المدينة، لحمايتها من المرتدين الذين يحيطون بها من كل جانب.

غير أن الصدّيق حين سمع هذا الرأي ثارت ثائرته، وقال: "والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفتني لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته".

ثم قال لعمر بن الخطاب حين نقل إليه رسالة الأنصار بأن يولّي عليهم رجلاً أقدم سنًا من أسامة: "ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب، استعمله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتأمرني أن أنزعه".

تحرُّك جيش أسامة

أذعن الجميع لأمر الخليفة الذي أصرّ على إنفاذ جيش أسامة، وخرج إلى المعسكر ليودع أسامة ماشيًا على قدميه في (1 من ربيع الآخر 11 هـ = 27 من يونيو 632م)، وأمسك بخطام البغلة التي يركبها أسامة، فأحس أسامة بالحرج، وهو يرى الشيخ الوقور صاحب رسول الله وخليفته على المسلمين يفعل هذا، فقال: "يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتركَبَنَّ أو لأنزلنَّ". فقال أبو بكر: "والله لا تنزل، ووالله لا أركب.. وما عليّ أن أغبّر قدمي ساعة في سبيل الله"، ثم أوصاه بوصية جامعة توضح في جلاء آداب الحرب في الإسلام قال فيها:"… لا تخونوا، ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له…".

جيش أسامة يحقق هدفه


http://t0.gstatic.com/images?q=tbn:H...mb/1_14907.jpghttp://t3.gstatic.com/images?q=tbn:s...793i5ddk85.jpg


سار جيش أسامة حتى بلغ البلقاء؛ حيث تقع مؤتة، بعد عشرين يومًا من تحرُّكه من المدينة، وهناك نزل بعسكره، وأغار على "آبل"، وبث خيوله في قبائل "قضاعة"، وقضى على كل من وقف في وجهه من أعداء الله وأعداء رسوله، وأجبر المرتدين من قضاعة على الهرب إلى أماكن بعيدة عن طريق الشام؛ لأنهم لو بقوا في مواطنهم لازداد الخطر على المدينة؛ لأن المرتدين من قبائل عبس وذبيان - وكانت منازلهم إلى الشمال من المدينة - قد زحفوا على المدينة، بعدما ابتعد أسامة بجيشه، وكانت قضاعة من ورائهما تمثّل خطرًا داهمًا، إذا هي آزرت عبسًا وذبيان في زحفهما على المدينة.

وكان هرقل بحمص حين جاءته أنباء جيش أسامة، وما فعله بالقبائل العربية الموالية له في أطراف دولته على التخوم بينه وبين شبه الجزيرة العربية، فدعا بطانته، وقال لهم: "هذا الذي حذرتكم، فأبيتم أن تقبلوه مني، قد صارت العرب تأتي من مسيرة شهر فتُغِير عليكم، ثم تخرج من ساعتها ولم يصبها شيء". ثم أشار على أخيه بأن يبعث بحامية ترابط بالبلقاء، فلما تَزَل هناك حتى قدمت جيوش الفتح الإسلامية في الشام؛ فأَجْلَتها عن موضعها، وفتحت مدن الشام.

عودة الجيش الظافر

عاد أسامة بجيشه، وما إن بلغ مشارف المدينة حتى خرج لاستقباله أبو بكر الصديق ومعه جماعة من كبار المهاجرين والأنصار، وكلهم فرح وبِشر، ودخل أسامة المدينة، وقصد من فوره إلى المسجد النبوي الشريف؛ حيث صلى لله شكرًا على ما أنعم به عليه من نصر وما حققه من نتائج، حيث ألقت الفزع والهلع في قلوب القبائل العربية التي مرّت عليها في شمال شبه الجزيرة العربية، وقالوا: "لو لم يكن للقوم قوة لما أرسلوا جيوشهم تُغِير على بُعد عنهم القبائل القوية"؛ ولذا كانت حركة الردة في تلك المناطق أضعف منها في أي مكان آخر.


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.