حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   مكتبـة الخيمة العربيـة (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=70)
-   -   عن بناء القصيدة العربية الحديثة-علي عشري زايد (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=85347)

المشرقي الإسلامي 01-06-2011 12:59 AM

(96)
يا ويله من لم يصادف غير شمسها" ولنذكر أيضًا- في مواجهة كساد الليمون،وإهماله دون أن يعبأ أحد بأمره "مسكين لا أحد يشمك يا ليمون"(89)-تصويره لضياعه هو الخاص في شوارع المدينة في قصيدة أخرى :(90)
بلا نقود ، جائع حتى العياء
بلا رفيق
كأنني طفل رمته خاطئة
فلم يعره العابرون في الطريق
حتى الرثاء
وفي قصيدة أخرى كيرة في الديوان .بل إننا لا نكاد نجد ملمحًا أسقطه الشاعر على الليمون في هذه القصيدة دون أن يكون قد أسقط مثله على نفسه في الديوان مما يمثل قرائن قوية تقودنا إلى الدلالة الرمزية الليمون في القصيدة ، وأن الشاعر رأى في هذا الليمون ذاته ورأى في كساده وإهماله ضياعه هو الخاص وهو أنه في هذه المدينة ، ورأى في الحالة التي كان عليها الليمون وهو على أشجاره في ظلال القرية ما كان يعيش فيه هو من ظل وريف من تعاطف الناس ، ونداوة عواطفهم ، ومن ثم حاول أن يوظف هذا الرمز للإيحاء بكل هذه المشاعر والأحاسيس ، دون أن يتخلى الليمون في القصيدة عن دلالته المادية الواقعية.( 91 )
______________________
(89) قصيدة : إلى اللقاء /ص119
( 90 ) قصيدة :"الطريق إلى السيدة" ص 105
( 91 )انظر تحليلاً جيدًا لهذه القصيدة في كتاب "الرمز والرمزية في الشعر المعاصر " للدكتور محمد فتوح أحمد ص327-330

المشرقي الإسلامي 03-06-2011 07:38 AM

(97)
وعلى هذا الأساس تظل للقصيدة هذه الدلالة المزدوجة ، ومن ثم فقد يقرأ القصيدة فلا يدرك منها سوى مستواها المادي الواقعي ، على حين يقرؤها قارئ آخر فينفذ من هذه الدلالة الواقعية إلى ما تشف عنه من إيحاءات رمزية.
وهكذا يتلاعب الشاعر بالدلالة المزدوجة للرمز ، سواء بتجريده قليلاً أو كثيرًا من مدلوله الواقعي المادي ، أو بالإيحاء بالمدلول الرمزي من خلال المدلول الواقعي ذاته ، من أجل الوصول إلى الإيحاء بما يريد أن يوظف الرمز للإيحاء به من أبعاد تجربته .
-3الرمز الكلي والرمز الجزئي:
قد يبني الشاعر قصيدته على رمز واحد كلي يستقطب كل الأبعاد النفسية في رؤيته الشعرية ، كما رأينا في كل النماذج السابقة ، فالطفل في قصيدة نازك وقصيدتي عبد الصبور ، والليمون في قصيدة حجازي رموز كلية لأن،ها تمثل أطرًا عامة تستوعب الرؤية الشعرية في كل قصيدة من القصائد ، وتتحكر في إطارها كل الأدوات الشعرية الأخرى في القصيدة .
وأحيانًا يكون الرمز رمزًا جزئيًا يوحي ببعد واحد من أبعاد الرؤية الشعرية المتعددة ، ويتآزر مع بقية الأدوات الأخرى في القصيدة ، وقد يكون الرمز الجزئي عنصرًا من عناصر رمز كلي عام ، فحين تقول الشاعرة نازك الملائكة في قصيدتها "يوتوبيا الضائعة" ( 92 )
_______________
(92 ) ديوان نازك الملائكة .دار العودة ، بيروت 1971 .المجلد الثاني.ص35 و"يوتوبيا " في الأساس كلمة لاتينية معناها ليس في أي مكان ، وهي أيضًا مدينة خيالية تخليها الكاتب الإنجليزي توماس مور 1516 يعيش فيها شعب سعيد تحكمه حكومة مثالية ، وإن كانت الشاعرة تشير في ديوانها إلى أنها استخدمت كلمة "يوتوبيا"للدلالة على ميدنة شعرية خيالية لا وجودج لها إلا في أحلامها ، وأنه لا علاق ةلهذه المدينة بيوتوبيا توماس مور ،وعلى أية حال
فإن كلمة يوتوبيا ترمز عادة للأحلام الخيالية السعيد ةغير القابلة للتحقيق .

المشرقي الإسلامي 03-06-2011 07:41 AM


(98)

وفي حلم آخر كنت أسير على شائط من حصى ورمال
غريب غريب بلون الأثير يحف به أفق كالخيار
تناهي بأقدامي المتعبات إلى صخرة رسخت كالمحال
تسلقها أمل مضمحل فقد تتزحلق حتى الظلال
وقفت على قدميها أنوح على حلم بائس لن يُنال
وساءت :ماذا ترى خلفها ؟فقال لي الرمل :يوتوبيا
نجد الشاعرة تستخدم لاصخرة رمزًا جزئيًا في إطار الرمز الكلي العام في القصيدة وهو يوتوبينا المدينة الفاضلة السعيدة التي لن تتحقق في ها العامل والتي ترمز بها الشاعرة إلى كل أحلام الإنسان المثالية ، وكل آماله الخيالية في الحياة السعيدة التي لن تتحقق على ظهر هذه الأرض ، والصخرة هنا ترمز إلى تلك العقبات الكئود التي تحول بين الإنسان وبين الوصول إلى أحلامه المثالية السعيدة ، وقد تفننت الشاعرة في تصوير صعوبة اجتياز هذه الصخرة وتسلقها ، فهي من الرسومخ بحيث بدت للشاعرة كالمحال ، ومن الملاسة بحيث إن الظلال بذاتها تتزحلق عليها ، ومن الضخامة بحيث إن الشاعرة تقف "على قدميها"ضئيلة يائسة باكية تتساؤؤل عما وراء هذه الصخرة العملاقة ليأتيها الجواب قاسيًا أليمًا :إنه اليوتوبيا ،الأمل الذي لن تصل إليه الشاعر ةأبدًا ، وهكذا تؤدي الصخرة هنا دور الرمز الجزئي ،باعتبارها عنصرًا من عناصر الرمز الكلي الذي يمثل الإطار العام للقصيدة كلها وهو "يوتوبيا"المدينة الفاضلة المثالية.
4- بين الرمز والصورة :
الرمز والصورة كلتاهما وسيلتان من الوسائل الإيحائية التي يستخدمها الشاعر في القصيدة الحديثة ، والفروق بينهما تتلخص فيث أن الصورة أقل تجريدًا من الرمز ، فعلى الرغم من أنها تنطلق مثله من الواقع الحسي لتتجاوزه وتوحي من خلاله بالواقع النفسي ، فإنها تظل أكثر منه ارتباطًا بهذا الواقع الحسي الذي بدأت منه .

المشرقي الإسلامي 03-06-2011 07:44 AM

( 99 )
على حين يصبح الرمز كيانًا مستقلاً بذاته ، منفصلاً عن الواقع الحسي الذي بدأ منه منذا اللحظة التي نعتبره فيها رمزًا ، حتى وإن شف عن معناه الرمزي من خلال معناه الواقعي ذاته .
يضاف إلى هذا أن الرمز أكثر تعقيدًا وتركيبًا من الصورة بحيثب يمكن أن نعتبر الصورة عنصرًا من عناصر بناء الرمز( 92 ) ؛ففي قصيدة نازك الملائكة السابقة –مثلاً – نجد أن الرمز يتألف من مجموعة من الصور الجزئية ،التي تكتسب –في إطار هذ االرمز – طاقات إيحائية خاصة ، فذلك الجو الأثيري الغريب الحلمي الذي أضفته الشاعرة على المقطع الذي اقتبسناه ، وذلك الأفق الخيالي الذي يحف به ، ورسوخ الصخرة كالمحال ، وتزحلق الظلال عليها ،ووقوف الشاعرة على قدميها تنوح ..كل هذه الصور يتألف من مجموعها الرمز ، وتكتسب في إطاره قيمتها الإيحائية ، وإن كان ما توحي به أقل تجريدًا وأكثر قابلية للتحديد مما يوبحي به الرمز .
على أن من الصور الشعرية ما يبلغ درجة من التركيب والتجريد تكاد تزول معها الحدود بينه وبين الرمز ، ومن ثم فإن بعض الدارسين لهذه القضية لا يفرقون كثيرًا بين الصورة والرمز (93 ). وعلى أي حال فإن المعيار الأساسي لا عتبار التشكيل من التجريد أو المادية من ناحية ، ومن التركيب أو البساطة من ناحية أخرى ، ومن محدودية الإيحاء أو لا محدوديته من ناحية أخيرة .
يضاف إلى هذا أن الرمز يكون من الكلية والشمول بحيث يستيطع استيعاب رؤية الشاعر بكل أبعادها ، أو على الأقل استبعاب بعد متكامل من أبعادها بكل ما يتبلور حوله من مشاعر وأفكار جزئية ، بينما تظل وظيفة الصورة-مهما بلغ حظها من التجريد- وظيفة جزئية ، محدودة بحدود التعبير عن الشعور أو المفرد ، أو الفكرة الجزئية.
_________________________
(93)د. محمد أبو الفتوح أحمد :الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر .ص142،143
( 94) السابق .ص 144،145

المشرقي الإسلامي 03-06-2011 07:45 AM

(100)
الرمز التراثي:
إذا كان الشاعر يستمد عناصر رموزه الشعرية أساسًا من الواقع كما رأينا في النماذج الماضية ، فإنه في أحيان كثيرة يستمد عناصر هذه الرموز من التراث –بمصادره المتعددة- باعتبار هذا التراث منجم طاقات إيحائية لا ينفد له عطاء ؛فعناصر هذ االتراث ومعطياته لها من القدرة على الإيحاء بمشاعروأحاسيس لا تنفد ، وعلى التأثير في نفوص الجماهير ووجداناتهم ما ليس لأية معطيات أخرى يستغلها الشاعر ، حيث تعيش هذه المعطيات التراثية في وحدانات الناس وأعماقهم تحف بها هالة من القداسة والإكبار لأنها تمثل الجذور الأساسية لتكوينهم الفكري والوجداني والنفسي ، ومن ثم فإن الشاعر حين يتوسل إلى إيصال الأبعاد النفسية والشعورية لرؤيته الشعرية عبر جسور من معطيات هذ االتراث ، فإنه يتوسل إلى ذلك بأكثر الوسائل فعالية وقدرة عل ىالتأثير والنفاذ .
هذا بالإضافة إلى أن استخدام الرموز التراثية يضفي على العمل الشعري عراقة وأصالة ،ويمثل نوعًا من امتداد الماضي في الحاضر ،وتغلغل الحاضر بجذوره في تربة الماضي الخصية المعطاء ، كما أنه يمنح الرؤية الشعرية نوعًامن الشمول والكلية ، حيث يجعلها تتخطى حدود الزمان والمكان ، ويتعانق في إطارها الماضي مع الحاضر .
نتيجة لهاذ شاعت الرموز التراثية في القصيدة العربية الحديثة ، حيث عكف شعراؤنا على موروثهم ،يستمدون من مصادره المختلفة – من موروث ديني وموروث صوفي ، وموروث تاريخي ، وموروث أدبي ، وموروث أسطوري أو فولكلوري – عناصر ومعطيات مختلفة ، من أحداث وشخصيات وإشارات ، يبنون منها رموزهم ، ويوكون من خلالها بأكثر أبعاد رؤيتهم الشعرية معاصرة وذاتية .
وكما يجرد الشاعر الرمز الواقعي من بعض ادلالته الواقعية ليستطيع أن يحمله بعض أبعاد تجربته ، فإنه يسلك نفس المسلك مع الموروث التراث ، حيث يجرده من بعض دلالته التراثية ليحمله الأبعاد المعاصر لرؤيته الشعرية .

المشرقي الإسلامي 03-06-2011 07:46 AM

( 101 )
وكما يتولد المعنى الرمزي –في الرموز المستمدة من الواقع- من التفاعل بين المدلول الواقعي للرمز والمدلول الرمزي له ، فإن المعى الرمزي في الرمز التراث يتولد أيضًا من التفاعل بين المدلول التراثي للرمز والمدلول المعاصر له.
وقد يستخدم الشاعر المعطى التراثي رمزًا جزئيًا يعبر عن بعد من أبعاد رؤيته الشعرية ، كما قد يستخدمه رمزًا كليًا يستوعب رؤيته الشعرية في القصيدة بكل أبعادها ، وتتعانق في إطاره كل الأدوات الشعرية الأخرى التي يستخدمها الشاعر في القصيدة يستخدمها الشاعر في القصيدة . ومن نماذج هذه الرموز التراثية الكلية قصيدة عذاب الحلاج للشاعر عبد الوهاب البياتي التي استخدم فيها البياتي رمزًا تراثيًا كليًا استمده من التراث الصوفي ، وهو الحسين بن منصور الحلاج الصوفي والمصلح الذي حكم عليه بالموت ونفذ فيه الحكم في بغدادعام 309 في عهد الخليفة المقتدر والتي من أجلهاأبيح دم الحلاج وكانت التهم الموجهة إليه تهمًا دينية تتعلق بعقيدته ، على حين كان الدافع الحقيقي إلى محاكمته وقتله من وجهة نظر بعض الدارسين والمبدعن دافعًا سياسيًا يتمثل في دعوة الجلاج الإصلاحية ، ومحاربته لفساد السلطة العباسية ، وسعيه إلى إصلاح هذا الفساد ، فلم يكن منهج الحلاج الصوفي يقوم –كما هو الشأن في تصوف عصره – على مجرد اعتزال الناس ، والنجاة بالنفس عن طريق مجادهدتها بالعبادات الرياضية والروحية ،وإنما كان يقوم من وجهة نظر هؤلاء الدارسين على أسا آخر إصلاحي غايته محاربة الففساد المستشري والدعوة إلى إصلاح سياسة الدولة الإدارية والمالية (95)ولكن هذا المنهج التصوفي كان غريبًا على متصوفة عصره.
___________
(95) :عبد الوهاب البياتي : ديوان "سفر الفقر والثورة".دار العودة. بيروت 1971ص7

المشرقي الإسلامي 03-06-2011 08:00 AM

(102)

وقام في سبيل دعوته الإصلاحية بأكثر من رحلة خارج العراق كلها ، واستطاع أن يجمع حوله وحول دعوته الفقراء وبعض أولي الشأن في الدولة ، واستطاع أنصاره بالفعل أن يبدؤا ثورة إصلاحية ضد الفساد المالي الدولة، وإرهاق الطبقات الفقيرة بالالتزامات المالية الباهظة ( 96) في الأمر الذي ألب عليه العناصر الفاسدة السلطة من وزراء وقواد ، فسجن أكثر من مرة ، وقدم إلى المحاكمة أكثر من مرة كان آخرها تلك المحاكمة التي استمرت من عام 308 إلى 309 وحكم عليه فيها بالموت ، وقد نجح خصومه في السلطة في حبك هذه المحاكمة سواء من ناحية التهم التي تراوحت ما بين فساد عقيدته واتصاله بأعداء الدولة العباسية من العلويين
والقرامطة ، أو من ناحية اختيار القاضي وهو أبو عمر الحمادي القاضي المالكي الذي عُرِف بخضوعه للسلطة وتملقه لرجالها ، وصدوره في أحكامه عن رغبة في إرضائهم ، أو من ناحية حشد عدد كبير من الشهود المحترفين يشهدون على الحلاج ويعلنون تحملهم لتبعة دمه
، وكان طبيعيًا أن تنتهي مثل هذه المحاكمة بإباحة دم الحلاج وتصديق الخليفة -تحت ضغط خصوم الحلاج في السلطة الذين أعدوا لهذه المحاكمة-على موت الحلاج . ( 97 )

وقد تفنن هؤلاء الخصوم في إنزال أبشع ألوان التنكيل بالحلاج أثناء تنفيذ الحكم الذي تم أمام جمع غفير من الناس حيث جيء به فصُلِب حيًا ، ثم ضرب ألف سوط وهو مضروب ، ثم قطع السياف يديه ، وصفوف الجماهير تموج بالغضب وتُرِك َ مصلوبًا هكذا إلى اليوم الثاني حيث قطعوا قدميه ومزقوا جسمه بالسياط ، وفي اليوم الثالث قطع رأسه ، وأحرق جثمانه وذرى رماده في الدجلة من فوق رأس مئذنة .( 98 ) ولقد كان للمستشرق الفرنسي لويس
ماسينيون تأثير كبير على الدارسين والأدباء الذين تبنوا وجهة النظر هذه.
على أن هناك وجهة نظر أخرى ترد محاكمة الحلاج وصلبه إلى أسباب تتصل بفساد في عقيدته انعكس على شعره وسلوكه وهو ما أنكره عليه بعض كبار متصوفة عصره .
استعار البياتي هذه الشخصية -التي أطلنا قليلاً في عرض أبز ملامح حياتها للتعرف على طبيعة ما استعاره الشاعر من سماتها التي استمدها من أصحاب وجهة النظر الأولى التي ترد مأساة الحلاج إلى أسباب سياسية- ليجعلها رمزًا أساسيًا في قصيدته الطويلة التي اشتملت على ستة مقاطع حملت العناوين الآتية :
1- المريد 2- رحلة حول الكلمات
3-فسيفساء 4-المحاكمة
5-الصلب 6- رماد في الريح

وواضح أن عناوين المقاطع ذاتها مستمدة من حياة الحلاج وملامح شخصيته وقد استعار البياتي ما استعاره من ملامح شخصية الحلاج ليوحي من خلالها بتجربته هو الخاصة-وتجربة الشاعر المعاصر ذي الرسالة عمومًا -في التصدي للفساد ، وفي التعبير عن آلام الفقراء وآمالهم ، وتحمل أقسى أنواع العنت والاضطهاد في سبيل هذ الرسالة
والإحساس بأن الموت في سبيل هذه الرسالة الخالدة حياة .

__________________
(96):انظر طه عبد الباقي سرور :الحسين بن منصور الحلاج شهيد التصوف الإسلامي.المكتبة العلمية.القاهرة 1961ص58.و:لوليس ماسينيون :لامنحى الشخصي لحياة الحلاج شهيد الصوفية في الإسلام.ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه شخصيات" قلقة في الإسلام"مكتبة النهضة المصرية 1946ص70،71
(97): انظر الحسين بن منصور الحلاد .ص60 ،والمنحنى الشخصي لحياة الحلاج ص66
(98 ) انظر تفصيلات المحاكمة في :الحسين بن منصور الحلاج ص145وما بعدها والمنحنى الشخصي لحياة الحلاج ص 75 وما بعدها .

المشرقي الإسلامي 03-06-2011 08:06 AM

(103 )
وإذا كانت هذه وظيفة كل مصلح وكل ثائر فإننا لا يهمنا في هذا المجال إلا التعرف على الوسيلة التي استطاع بها البياتي أن يحول مثل هذه المهمة إلى شعر ، وأن يجعل سلاحه في ثورته الكلمة الشعرية .
وكان طبيعيًا أن يكون أول ما يستعيره الشاعر من ملاح شخصية الحلاج ليوحي عن طريق بأعباد رؤيه الخاصة هو ثورة الحلاج على الفساد المستشري :
ما أوحش اليل إذا ما انطفأ المصباح
وأكلت خبز الجائعين الكادحين زُمر الذئاب
وصائدو الذباب
وخربت حديقة الصباح
السحب السوداء والأمطار والرياح
فهذا الملمح حلاجي واضح ، وكان من الطبيعي ألا ينقل الشاعر الملمح التراثي كما هو ، بل لابد أن يمزجه برؤيته الخاصة ، ويخلطه بعناصرها ، ومن خلال التفاعل بين العنصر التراثي والأبعاد المعاصرة لرؤية الشاعر تنمو العملية الرمزية في القصيدة ،فربما لم تكن الرؤية الاجتماعية لدى الحلاج في وضوح رؤية البياني الاجتماعية وتبلورها ،ولكن حين تمتزج
الرؤيتان فإن كلاً منهما تكتسب من الأخرى بعض ملامحها ، وتكسبها بالتالي بعض ملامحها.
وثمة ملمح آخر ارتبط بهذ الملمح الشعري في حياة الحلاج واستمده البياتي لالتقائه مع بعد من أبرز أبعاد رؤيته الشعرية وهو الارتباط بالفقراء :
الفقراء منحوني هذه الأسمال
وهذه الأقوال

المشرقي الإسلامي 03-06-2011 08:09 AM

(104)
وقد لا تحمل "الأسمال " هذا المدلول الصوفي التراثي ،وإنما توحي بما ينتهي إليه الشاعر الذي يتبنى قضايا الفقراء من فقر ومسغبة ، ولكنه على أية حال ملمح حلاجي أصيل استطاع الشاعر أن يستغلة في الإيحاء ببعد من أبعاد رؤيته ،وبخاصة حين يقترن بـ"الأقوال" التي كانت منحة الفقراء إلى الحلاج وإلى الشاعر معًا ، والتي كانت سلاح كل منهما في معركته .
ومن أبرز الملامح الحلاجية التي استعارها البياتي والتي لونت القصيدة كلها ملمح العذاب والتضحة ، لقد ضحى الحلاج في سبيل رسالته بحياته ، وتحمل أقسى ألوان العذاب وأشدها هو لا ولم ينكص ، واقد استعار البياتي الكثير من مشاهد المحاكمة والتعذيب ليوحي من خلالها بموقف قوى التخلف من أصحاب الرسالات الإصلاحية في كل عصر :
واندفع القضاة والشهود والسياف
فأحرقوا لساني
ونهبوا بستاني
وبصقوا في البئر يا محيري
ومسكري
وطردوا الأضياف
وفي المقطع الأخير "رماد في الرياح" -الذي استمده الشاعر من المشه الأخير في مأساة في الحلاج حين أحرق جثمانه وذرى الريح- يصور الشاعر هذه الآلام التي يعانيها باعتباره صاحب رسالة والتي تستمد كل ملامحها من مشهد مأساة الحلاج

المشرقي الإسلامي 03-06-2011 08:15 AM

(105 )
وقد عبر البياتي عن هذه الفكرة تعبيرًاشعريًا بارعًا ، ينطلق من موروث الحلاج وتجربته
الخاصة إلى أفق الإيحاء بإحساس كل صاحب رسالة أن تضحيته لن تذهب سدى ، وأن حياته التي يقدمها في سبيل فكرته ودعوته ستثمر حيوات جديدة لا متناهية ، تكون امتدادًا لهذه الحياة وستظل بذرة حية لا تموت أبدًا :
أوصال جسمي أصبحت سماد
في غابة الرماد
ستكبر الغابة يا صديقي
وعاشقي
ستكبر الأشجار
سنلتقي بعد غدٍ في هيكل الأنوار
فالزيت في المصباح لن يجف ، والموعد لن يفوت
والجرح لن يبرأ ، والبذرة لن تموت
وليس معنى استعارة البياتي لهذه الملامح من شخصية الحلاج أن دوره اقتصر على إسقاط على أبعاد رؤيته هذه الملامح عن طريق الإشارة ، وإنما قام بنوع من المزج بين أبعاد تجربة الحلاج وأبعاد رؤيته هو المعاصرة الخاصة مما أتاح لعناصر التجربتين أن يندمجا وأن يتفاعلا ويتحاورا
بشكل نام ٍ خلاق ، ومن ثم فإننا نجد في أجزاء من القصيدة ملامح شخصية الحلاج تغيب تمامًا لتحل ملامح رؤية البياتي مكانها -كصورة من صور التفاعل والحوار بين طرفي الرمز ولا نعدم أن نجد العكس في مقاطع أخرى حيث تبرز ملامح شخصية الحلاج وتتوارى ملامح رؤية البياتي
المعاصرة وراءهما تمامًا حتى لا نكاد نحسها ، بالإضافة إلى المواضع التي
يتعانق فيها الطرفان تمامًا ويفني أحدهما في الآخر بحيث نحس أن هذا الملمح أو ذاك ملمح حلاجي بمقدار ما هو ملمح بياتي ، وأن انتماءه إلى أحد الطرفين ليس بأولى من انتمائه إلى الآخر .
وعلى هذا النحو يمضي الشعر الحديث يستعير من مصادر تراثه المختلفة رموزًا وعناصر يثري بها تجربته الشعرية ويستغلها في بناء رموزه للإيحاء بما لا تستطيع اللغة العادية أن توحي به من مشاعره وأفكاره ورؤاه .
وينبغي التنويه في النهاية إلى أن الرمز التراثي يعاني من نفس المخاطر التي يعاني منها الرمز المستمدة من الواقع هذه المخاطر المتمثلة في التقليد والابتذال من ناحية ، والغموض من ناحية أخرى ،يضاف إلى هذا فيما- يتصل بالرمز التراثي من إسراف بعض الشعراء في استخدام هذه الرموز التراثية ،واستعارة بعض الشعراء لرموزهم
التراثية من تراثات أخرى غري تراثهم القومي ،ليس لها في وجدان جماهيرهم ما لمعطيات تراثهم من إيحاءات وتأثير .



Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.