حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   مكتبـة الخيمة العربيـة (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=70)
-   -   عن بناء القصيدة العربية الحديثة-علي عشري زايد (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=85347)

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:51 AM

(5)
ولا شك أن القصيدة التي تتطلب من مبدعها بذل مثل هذا الجهد المضني لا يمكن أن تمنح ذاتها لقارئها بيسر وسهولة ، بل إنها تتطلب منه من الجهد والمعاناة الصادقة في سبيل استيعابها وتذوقها ما يعادل الجهد الذي يبذله الشاعر في سبيل إبداعها ،فهي لا تقدم لقارئها تلك المتعة السطحية السهلة التي تسعى إليه دون أن يسعى إليها ، وإنما تقدم له نوعًا من المتعة العميقة التي تتجاوز الحواس الخارجية وما تحققه من متعة سطحية عابرة ، لتنفذ إلى صميم القارئ وتهز وجدانه من الداخل تلك النشوة الروحية الرائعة ،التي تهر أعماق الشاعر حين يعاني رؤياه الشعرية. ولم يعد الشاعر الحديث يهدف إلى إمتاع القارئ وإطرابه عن طريق تلخيص نتائج مغامراته له ، ووضعها بين يديه في أوزان مطربة تهدهد حواسه وتدغدغها ،وإنما أصبح هدفه الأول أن يهز قارئه ويقلقه ،وأن يدعوه إلى رؤية الوجود من زاوية أخرى غير تلك التي ألف أن يراه منها باستمرار ، وأ ن يقوده إلى مشاركته لذة الارتياد والكشف والمغامرة هذه اللة التي تتضاعف وتعمق بمقدار ما فيها من جهد ومعاناة وإذا كان قول بول فاليري السابق" إن ما يتم بسهولة يتم بدونن"ا ينطبق أساسًا على عمل الشاعر ، فإنه ينطبق بنفس القدر على عمل القارئ .
ولكي يستطيع القارئ أن يواكب الشاعر في مغامراته تلك فإنه مطالب بأن يكون على وعي بطبيعة الرؤية الشعرية الحديثة من جهة ، وبطبيعة الأدوات الفنية التلي يجسد بها الشاعر هذه الرؤرية من جهة أخرى ، وبمقدار ما يتحقق للقارئ من هذا الوعي تزداد متعته بالقصيدة ، بل إنه بمقدار ما يبلذ القارئ في سبيل استيعاب القصيدة من جهد واعٍ ومخلص يزداد عطاؤها ويتضاعف ،لأن القصيدة الحديثة نوع من الإبداع المشترك بين الشاعر والقارئ ، فهي لا تحمل معنى محددًا وحيدًا ، والقارئ الجاد هو الذي يكسبها معناها ، أو على حد قول بول فاليري "إن أشعار تحمل المعنى الذي يضفيه القارئ عليها ،

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:56 AM

(6)


أما ما أعطيه أنا لها من معننى فلا ينطبق على غيري ولا يمكن أن يحتج به على أحد"(5) ولا شك أنه بمقدار وعي القارئ وإخلاصه يعمق معنى القصيدة ويتضاعف عطاؤها الفني .


ولكن الشاعر كثيرًا ما يصاب بلون من الإحباط وخيبة الأمل ،حين يجد قارئه عاجزًا عن متابعته في مغامرته عبر المجهول ،قانعًا بانتظاره حتى يعود هو إليه بثمار تلك المغامرة جاهزة دانية ، والشاعر يعرف أن أشهى تلك الثمار هو المغامرة ذاتها، وأن القارئ سيظل أبدًا عاجزًا عن الاستمتاع بكل مخاطرها ، وبكل معاناتها.


وقد عبر واحد من شعرائنا المعاصرين عن هذا الشعور بالإحباط وخيبة الأمل الذي يعانيه الشعراء إزاء خمول قرائهم وعزوفهم عن مشاركتهم مغامرتهم الشعرية ، وذلك الشاعر هو صلاح عبد الصوبر في قصيدته الطويلة "رحلة إلى الليل" حيث يقول في المقطع الرابع من مقاطع تلك القصيدة المعنون بـ"السندباد":(6)


في آخر المساء يمتلي الوساد بالورق


كوجه فأر ميت طلاسم الخطوط


وينضح الجبين بالعرق


ويلتوي الدخان أخطبوط


في آخر المساء عاد السندباد


ليرسي السفين


وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم


ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم


السندباد : "لا تحك لصديق عن مخاطر الطريق"


"إنه قلت للصاحي : انتشيت ، قال :كيف "؟


"السندباد كالإعصار إن يهدأ يمت"


الندامى :


هذا محال سندباد أن نجوب في البلاد


إنا هنا نضاجع المساء


ونغرس الكروم


ونعصر النبيذ للشتاء


ونقرأ الكتاب في الصباح والمساء


وعندما تعود .. نعدو نحو مجلس الندم


تحكي لنا حكاية الضياع في بحر العدم


والسندباد في تراثنا الشعري هو رمز المغامر الجواب ، فهو أحد أبطال قصص "ألف ليلة وليلة" ، وقد قام بسبع رحلات مليئة بالمغامرات العجيبة صادف خلالها الكثير من العجائب والمخاطر ،وكان عقب كل رحلة يعود ليوزع على أصدقائه وندمائه ما جب معه في رحتله من كنوز ، ليعود بعد ذلك إلى رحلة جديدة ومغامرة جديدة ، ومن ثم فقد أصبح السندباد في شعرنا المعاصر رمزًا للمغامرة والارتياد .والسندباد في قصيدة "صلاح عبد الصبور " ليس سوى الشاعر ذاته ، الذي يعاني تجربة الإبداع بينب أكداس الورق التي تملأ الوساد ، وبين طلاسم الخطوط المتشابهة المختلطة والدخان المتلوي حوله كأخطبوطوالعرق الناضح على جبينه من المعاناة والجهد ، وكلها صور وتجسيدات فنية لذلك المجهود الذي يبذله الشاعر في سبيل اقتناص العبارة الشعرية.


__________________


(5):

Ibid. p. 44 Note marginale N.3
6 :صلاح عبد الصبور : الناس في بلادي .دار الآداب .بيروت1975،ص40،41

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:59 AM

(7)
أما الندمان فليسوا سوى هؤلاء القراء الكسالى ،العزوفين عن المغامرة القانعين بلمذاتهم الحسيةالخاصة السطحية،وانتظار السندباد الشاعر حتى يعود إليهم بثمار ماغامرته الشعرية المضنية ، ولكن السندباد يدرك أ،هم لن يستطيعوا أبدًا أن يستمتعواى بلذة هذه الثمار التي لم يشاركوا في اقتطافها ، ولن يشرعوا بهذه النشوة العميقة التي يشعر بها بما لم يعانونهاى بأنفسهم معه :"إن قلت للصاحي :انتشيت ، قال: كيف؟". ولكن مع وضوح هذا اليقين لدى الشاعر السندباد فإنه لا يستطيع أن يكشف عن المغامرة والإبداع،فالإبداع هو تحقيق وجوده ، والسندباد إن كف عن المغامرة مات "السندباد كالإعصار.. إن يهدأ يمت ".
وإذا كانت شكوى الشاعر من عجز قائه عن متابعته هي أ؛د وجهي العملة فإن الوجه الآخر لها هو شكوى القراء أنهسم من سعوبة القصيدة الحديثة وغموضها ، إلى الحد الذي تكاد تصبح فيه بعض بعض الأحيان عالمًا منغلقًا على الشاعر وحده . وقد يكون لقارئ القصيدة العربية الحديثة بعض العذر ،خصوصًا ذلك القارئ الذي تعود أن تقدم له القصيدة عالمًا مألوفًا له ، قد سبق له التعرف على كائناته عشرات المرات حتى باتت مألوفة لديه لا تثير دهشته ؛فمثل هذا القارئ غالبًا ما يصادف في القصيدة الحديثة عالمًا غريبًا لم يسبق له أن تعرف على كائنائته ،وحتى ما سبق له التعرف عليه من هذه الكائنات تبدو له مرتبطة بعضها إلى بعض بعلاقات جديدة غريبة ، لم يسبق له أن عرفها أو ألفها ، بحبث يبدو هذا العالم الشعري الخاص بالشاعر مباينًا إلى حد كبير للعالم الواقعي الذي ألفه القارئ بما فيه من كائنات وأشياء ، ومن روابط وصلات محسوسة ومنطقية بين هذه الكائنات والأشياء أصبح من الصعب على القرائ أن يتجاوزها.
ولا شك أن هذا العالم الغريب غير المألوف للقارئ من ناحية ، والأدوات الفنية الغريبة التي يستخدمها الشاعر في بناء قصيدته من ناحية أخرى يمثلان أبرز مكونات هذا الحاجز الذي يحول بين القارئ العربي والقصيدة الحديثة .
***

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 06:59 PM

(8)
ثانيًا : السمات العامة للقصيدة الحديثة
تتميز القصيدة الحديثة بمجموعة من السمات والخصائص العامة ،التي اكتسب بعضها من طبيعة الرؤية الشعرية الحديثة ،وبعضها الآخر من طبيعة التكنيكات المستخدمة في بنائها وطريقة توظيف الشاعر لها ، ولعل من المفيد في تحديد مفهوم "القصيدة الحديثة " أن نتعرف على هذه السمات قبل أن نعرض بالتفصيل للأدوات والوسائل الفنية التي يستخدمها الشاعر في بناء هذه القصيدة.
ومن أبرز هذه السمات :
التفرد والخصوصية:
تهفو القصيدة العربية إلى أن تكون كيانًا فنيًا متفردًا ،لا يرتبط إلى سوواه من تراثنا الشعري القديم المعاصر بغير تلك التقاليد الشعرية الفنية العامة ،التي تميز القصيدة باعتبارها جنسًا أدبيًا عن سواها من الأجناس الأدبية الأخرى ، ومن ثم فإن القصيدة الحديثة لا يمكن تصنيفها تحت أي غرض من الأغراض الشعرية العامة التي انحصر فيها تراثنا الشعري القديم من مدح وفخر وهجاء ورثاء ووصف وغزل (7).. لأن هذه القصيدة لا تريد أن تحصر نفسها في مجموعة من الأغراض المتناهية ، التي تمثل قيدًا صارمًا على قدرات الشاعر الإبداعية ، ورغبته في الانطلاق إلى آفاق التفرد والارتياد والابتكار.
____________________

(7) تنبغي الإشارة هنا إلى أن نقادنا العرب القدامى يتحملون قسطًا كبيرًا من مسؤولية انحصار القصيدة العربية القديمة في هذه المجموتعة المحدودة من الأغراض ، ومن افتقارها في مجملها إلى سمة التفردوالابتكار ؛فقد فرضوا على على الشاعر العربي القديم لونًا صارمًا من الاتباعية ، بحيث لا يخرج عن الأغراض والموضوعات العامة التي تناولها الشعراء السابقون من ناحية ولا يحيد عن المناهج والأساليب الشعرية التن النتهدجوها من ناحية أخرى ، فنحن نجد ناقدًا كقدامة بن جعفر لا يكتفي بتتحديد الأغراض العامة التي يدور في فلكها الشعراء بل يتجاوز ذلك إلى تحديد المعاني الجزئية التي يدور حولنا كل غرض من هذه الأغرض ؛ فيحدد لغرض المدح مثلاً اربع صفات إذا مدح بها الشاعر كان مصيبًا ، وإن تجاوزها كان مخطئًا ، وهذه الصفات هي الأربع هي العقل والشجاعة والعدل والعفة ، وتحت هذه الصفات العامة تتدرج مجموعة من الصفات الفرعية.ولا يكتفي قدامة بهذا كله بل يحدد للشعراء الطوائف التي تمدح بكل صفة من هذه الصفات (انظر :قدامة بن جعفر : نقد الشعر شرح وضبط الأستاذ محمد عيسى منون .المطبعة المليجية .القاهرة 1934.ص 39 وما بعدها ) بل لقد بلغ الإسراف في هذا الاتجاه حدًا كعل ناقدًا واسع الأفق بالقياس إلى عصره كابن قتيبة يذهب إلى أن "ليس لمتأخر الشعراء أن يخرج على مذهب المتقدمين ..فيقف على منزل عامر ، وبيكى عند مشيد البنيان ؛لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير ، أو يرد على المياه العذبة الجواري ؛لأن المتقدمين ورودوا على الأواجن الطوامي ، أو يطقع إلى الممدوح منابت النرجس والورد والآس ؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرار "


(ابن قتيبة الشعر والشعراء .ضبط وتعليق السيد محمد بدر الدين النعساني .مكتبة الخانجى . مصر .1322ه،ص 7) .ولا يتوقع بالطبع في ظل مثل هذه التقاليد الاتباعية الصارة أن تكون سمة "التفرد والخصوصية" من السمات التي تتصف بها القصيدة العربية القديمة ، وإن كان شعراؤنا القدامى- لحسن الحظ- لم يلتزموا كثيرًا بهذه التقاليد الصارمة.

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 07:03 PM

(9)
إن الشاعر الحديث يهدف إلى أن تكون قصيدته إبداعًا بكرًا ، ورؤية شديد ةالتفرد والخصوصية للوجود ، ومن ثم فهو شديد الحرص على أن ينظر إلى الوجود من زاوية لم يسبق لأحد قبله أن نظر إليها منها ، وأن يعالج هذه الرؤية الخاصة بطريفة فنية متفردة ، تفتح أعيننا على جوانب وأبعاد خفية لم نكن لندركها لو لم يفتح الشاعر أعيننا عليها ، وتجعلنا نحس أن هذا العالم الغريب الذي تقدمه لنا القصيدة هو من إبداع الشاعر وابتكاره ، حتى ولو كانت مفرداته مستمدة من الوجود الواقعي ،لأن الشاعر يعيد صياغة هذه المفردات على نحو خاص يجعل هذا الكيان الجديد المؤلف من هذه المفدرات كيانًا خاصًا منتميًا إلى الشاعر أكثر من انتمائه إلى عالم الواقع الذي استمد منه الشاعر مفدرات هذا الكيان الجديد وعناصره.

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 07:06 PM

(10)

وبمقدار خصوصية هذا الكيان الجديد وانتمائه إلى الشاعر ترتفع القيمة الفنية للقصيدة ، وبمقدار ابتعاد القصيدة عن أن تكون صورة حرفية للواقع تقترب من مفهوم الحداثة.

فحين نقرأ قصيدة النهر العاشق (8)للشاعرة العراقية نازك الملائكة نحس أن هذا النهر من إبداع الشاعرة ، وأنه نهر خاص بها ، على الرغم من أن القصيدة تدور حول حادثة واقعية هي حادثة الفيضان الذي أغرق بغداد عام 1954 ، ولكن الشاعرة تناولت الحادثة من زاوية خاصة متفردة ،لم يعد النهار من خلالها مجرد نهر عات مدمر يغرق طوفانه المدينة ، وإ‘نما أصبح عاشقًا حانيًا ومحمومًا في الوقت ذاته ، يحتضن المدينة بحبه العارم المدمر . تقول نازك :


أين نمضي ؟ إنه يعدو إلينا


راكضًا عبر حقول القمح ، لا يلوي خطاه


باسطًا في لمعة الفجر ذراعيه إلينا


طافرًا كالريح ..نشوان ..يداه


سوف تلقانا ، وتطوي رعبنا أنى مشينا


***


إنه يعدو .. ويعدو


وهو يجتاز بلا صوت قرانا


ماؤه البني يجتاح ، ولا يلويه سد


إنه يتبعنا لهفان أن يطوي صبانا


في ذراعيه ، ويسقينا الحنانا


***


لم يزل يتبعنا ..متبسمًا بسمة حب


قدمان الرطبتان


تركت آثارها الحمراء في كل مكان


إنه قد عاث في ش رق وغرب


في حنان


أين نعدو ؟ وهو قد لف يديه


حول أكتاف المدينة


إنه يعمل في بطء وحزم وسكينة


ساكبًا من شفتيته

قٌبَلاً طينية ..غطت مراعينا الحزينة.. ..
_______________

(8)ناازك الملائكة :شجرة القمر .دار العلم للملايين .بيروت .ومكتبة النهضة .بغداد 1968 ص135

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 07:08 PM

(11)
النهر في هذه القصيدة ليس هو ذلك النهر الذي أغرق بغداد وإنما هو ذلك العاشق الملهوف الواله ،الذي يركض محمومًا نحو محبوبته عبر حقول القمح ، لا يلوي خطاه ، وطوفانه الذي يحاصر المدينة ليس طوفانًا وإنما هو أذرع حانية تلتلف حول أكتاف المدينة وفي حنان مدمر ، والمياه التي تغطي الحقول لم تعد مياها ،وإنما هي قبل طينية تغطي المراعي الحزينة .
ومن هنا أصبحت القصيدة كيانًا فنيًا متفردًا ينتمي إلى عالم نازك الملائكة الشعري ، وإلى رؤيتها الشعرية المتفردة أكثر من انتمائه إلى حادثة الفيضان الذي أغرق بغداد.
وإذا ما نظرنا إلى طبيعة تلك الرؤية التي أكسبت القصيدة هذا اللون من التفرد والخصوصية فسوف نجدها رؤية خاصة لا تقف عند العادي والمبتذل ، فهي لا ترى في الفيضان مجرد كارثة مدمرة تخرب المدينة ، وإنما هي نوع من الوله الغريب ،والحب القاسي المحموم الذي يمتزج فيه الحنان بالقسوة ، والدمار بالعطاء المخصب ، ومن خلال تفاعل هذه المشاعر المتناقضة ينمو بناء القصيدة ويتطور ، وتنشأ علاقات جديدة بين عناصر هذا البناء التي لا يبدو بينها في الواقع أي صلات ، وتصبح هذه العلاقات- على غرابتها- مشروعة وطبيعية في ضوء هذه الرؤية الجديدة ، وفي إطار هذا البناء الجديد ، فلا نستغرب أن يكون للنهر يدان يحتضن بهما المدينة ، ولا أن تكون مياهه قبلاص تغطي المراعي الحزينة ، ولا أن تكون له قدمان رطبتان تتركان آثارهما في كل مكان ، ولا أن يتبع ضحاياه في لهفة يمتزج فيها الحنان بالتدمير،بل لا نستغرب أن يستحيل هذا الدمار –في رؤية الشاعرة – إلى نوع من العشق الواله .فكل هذه العناصر التي بينها في الاقع من التباعد –بل التنافر- ما يجعل من المستحيل على غير الرؤية الشعرية النافذة أن تكشف – أو تبدع-بينها أي نوع من العلاقات ،قد استطاعت الشاعرة أن تمزج بينها وتبدع بينها علاقات ليست أقل مشروعية ولا أقل عمقًا من العلاقات الحسية التي تربط بين الأشياء في الواقع المحسوس.من هنا تكتسب القصيدة الحديثة تفردها ولا تكون مجرد تكرار لما سبق قوله مئات المرات بطريقة أخرى.

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 07:09 PM

(12)
التركيب :
نتيجة لطبيعة الرؤية الشعرية في القصيدة الحديثة من ناحية ، ولتنوع الأدوات التي يستخدمها الشاعر في تجسيد هذه الرؤية ، وطريقة استخدامه لها من ناحية ثانية ، ولميل القصيدة الحديثة إلى أن تكون كيانًا متفردًا خاصًا من ناحية أخيرة أصبح بناء هذه القصيدة على قدر من التركيب والتعقيد يقتضي من قارئها نوعًا من الثقافة الأدبية والفنية الواسعة،التي لا تقف عند حدود الإلمام بالتقاليد الشعرية الموروثة ، ولا احتى بالتقاليد الأدبية التعامة التي تحكم الأجناس الشعرية والنثرية على السواء من مسرحية ورواية وقصة قصيرة إلى جانب القصيدة ، وإنما لا بد أن تسم هذ ه الثقافة لتشمل نوعًا من الإلمام بالفنون الأخرى غير الأدب ، لأن القصيدة ا لحديثة لم تعد تكتفي بالاتكاء على التقاليد الشعرية الموروثة ، وإنما انطلقت إلى الفنون الأخرى تستعير من أدواتها وتكنيكاتها الفنية ما يساعد على تجسيد الرؤية الشعرية الحديثة بما فيها من تركيب وتعقيد ، ولم تقف القصيدة الحديثة عند حدود الفنون الأدبية الأخرى تستعير منها وإنما تجاوزت ذلك إلى الاستعارة من الفنون غير الأدبية كالسينما والتصوير والموسيقى ،وغيرها من الفنون بحيث أصبح بناؤها الفني على قدر من التركيب والتعقيد يعادل ما في رؤية الشاعر الحديث من تركيب وتعقيد

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 07:10 PM

(13)
فلجوء الشاعر الحديث إذًا لمثل هذا البناء المعقد ،واستخدجامه لمثل هذه الأدوات والتكنيكات الغريبة ليس نوعًا من الحذلقة الفنية ، وإنما هو استجابة لضرورة التعبير عن الرؤية الشعرية الحديثة التي لم تعد خيطًا شعوريًا بسيطًا وواضحًا ، وإنماأصبحت نسيجًا شعوريًا متشابك الخيوط ، سداه ولُحمته مزيج غريب من المشاعر والأحاسيس والرؤى المتشابكة المعقدة ، ومثل هذه الرؤية الخاصة تحتاج إلى بناء فني في مثل تشابكها وتعقيدها ليستطيع تجسيد أبعادها المختلفة.
صحيح أن بعض النماذج الحديثة تسرف في التركيب والتعقيد دون أن يكون ثمة داع لذلك ، ودون أن يكون وراء هذا التعقيد المسرف رؤية شعرية على قدر من العمق والرحابة يستدعي مثل هذا التعقيد ، ومن ثم فإن الجهد المبذول من القارئ في سبيل استيعاب هذه النماذج يكون جهدًا شائعًا سدى ، ومثل هذا التعقيد يكون ناشئًا عن ضعف التأليف والتركيب وليس عن التركيب في ذاته، وغالبًا ما تكون الرؤية الشعرية في مثل هذه القصائد على قدر من التشوش والتفكك والضحالة ، ويكون مثل هذا التعقيد ستارًا يستر به الشاعر ضحالة رؤياه وخواءها ، فهو لا يعكس أكثر من نزعة مراهقة إلى استعراض المهارات التكنيكية واللعب بها بدل الإخلاص الصادق في معاناة الرؤيا الشعرية ومحاولة تحقيق التلاحم والتكامل والامتزاج بين عناصرها وتجسيدها في أكثر الأشكال الفنية ملاءمة لها.
وصنيع مثل هؤلاء الشعراء أشبه ما يكون بصنع شعراء البديع الذين ولعوا بإثقال شعرهم بالحلى والزخارف البديعية في تراثنا القديم ، حتى تحول شعرهم إلى نماذج للعب بالكلمات ، أو استعراض المهارات اللغوية ، دون أن يكون وراء ذلك كله رصيد حتقيقي من المعاناة يريدون إيصاله إلى القارئ من خلال هذه الأشكال الفارغة من المحتوى الفني الحقيقي.

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 07:11 PM

(14)
وتنبغي الإشارة في النهاية إلى أن درجة التركيب في القصيدة الحدديثة تتفاوت بتفاوت خط الرية الشعرية التي تجسدها القصيدة من التركيب والتعقيد ، فعلى حين نجد بعض القصائد على قدر من بساطة التركيب –إذا صح هذا التعبير-لا يصعب معه على القارئ إدراك طبيعة العناصر التي يتألف من ها هذا التركيب ، ونهوعية الععلاقات والروابط التي تؤلف بين هذه العناصر ، نجد بعضها الآخر يبلغ درجة من التركيبو التعقيد تحتاج إلى جهد حقيقي من القارئ ليدرك طبيعة هذا التركيب ونوعية العلاقات بين عناصره ، وعلى أية حال فإن طبيع ةالرربية والشعرية هي التي تحدد طبيعة الإطار الفني الملائم ، وحظه من التركيب والتعقيد.
الوحدة :
على الرغم من أن القصيدة الحديثة تتركب –سواء على مستوى نسيجها النفسي والشعوري ، أو على مستوى بنائها الفني –من مجموعة من العناصر والمكونات المتنوعة ، والمتنافرة في بعض الأحيان ، فإن ثمة وحدة عمليقة تؤلف بين هذه العناصر ، وتنصهر فيها هذه المكونات المتناثرة المتنافرة لتصبح كيانًا واحدًا متلاحمًا متجانسًا ، لا تفكك فيه ولا تنافر .وهذه الوحدة تنسحب على العناصر الشعورية والنفسية والفكرية التي يتألف منها نسيج القصيدة الشعوري بمدقار ما تنسحب على الأادوات والتكتنيكات الفنية التي يتأللف منها بناؤها الفني ، فكل هذه الأشياءي في القصيدة الحديثة تمتزج وتتلاحم وتتكامل في كيان واحد متماسك.
ولقد كانت وحدة القصيدة من أول ما اهتم به رواد التجديد عندنا من سمات الحداثة في القصيدة العربية ، وقد تجلى هذا الاهتمام في كتابات مطران والعقاد وشكري في مقدمات دواوينهم وفي كتبهم النقدية كما تجلى في أعمالهم الشعرية(9) ، وقد اعتبر هؤلاء الرواد وحدة القصيدة مقياسًا من أهم المقاييس التي يقومون بهاب شعر معاصريهم ليبينوا مدى محظه من الحداثة ، وكثيرًا ما كان حجماسهم لهذه الوحدة يدفعهم إلى نوع من التشدد والصرامة في تطبيقها على شعر معاصريهم ، بحيث إذا وجدوا قصيدة من القصائد يمكن تقديم بعض أبياتها على بعض اعتبروا هذا إخلالاطص بالوحدة في القصيدة يستحق اللوم والمؤاخذة . ولقد كان من أبرز هذه المآخذ التي أخذها العقاد في "الديوان" على شوقي في قصائده أن بعض قصائده يمكن إعادة ترتيبها بتقديم بعض أبياتها على بعض ، وقد حاول إعادة ترتيب أبيات هذه القصيدة التي كتبهاشوقي في رثاء مصطفى كامل ، حيث عرضها أولا ًكما كتبها "شوقي"ثم عرضها مرة ثانية بعد أن غير في ترتيبها ، بحيث جاءت على ترتيب آخر يبتعد جد الابتعاد عن الترتيب الأول ليقرأها القارئ المرتاب ، ويلمس الفروق بين ما يصلح أن يسمى قصيدة من الشعر ، وبين أبيات مشتتة، لا روح فيها ، ولا سياق ، ولا شعور ينتظمها ويؤلف بينها(10).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
(9)انظر محمد غنيمي هلال:النقد الأدبي الحديث ،ص409وما بعدها والمراجع المبينة به.
(10)عباس محمود العقاد بالاشتراك مع إبراهيم عبد القادر المازني :الديوان.اتلطبعة الثالثة.(جزآن متصلان).دار الشعب –القاهرة (بدون تاريخ)ص122 .


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.