![]() |
رجال حول الرسول
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته خير البشر بعد الرسل و الأنبياء صلوات الله عليهم و سلامه هم الصحابة رضوان الله عليهم نشروا الدين، و فتحوا الأمصار و مهدوا لنا طريق الهداية بفضل الله و منته يقول عز و جل في محكم تنزيله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود و هم أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها حالا اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإقامة دينه. وقال ابن مسعود رضي الله عنه : حبهم سنة والدعاء لهم قربة والإقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة هم الذين و إن أنفقنا أحدا ذهبا، فلن نبلغ ما بلغوه و لا نصيفه رضوان الله عليهم جميعا أكيد أننا جميعا نعرف الصحابة و خاصة كبارهم من المبشرين بالجنة و الفاتحين الأمصار و لكن هناك من الصحابة من، مع الأسف لم ينصفه التاريخ، أو على الأقل سأقول لم ننصفه نحن، فلم نقرأ في سيرته و لم نتمعن في فضله، و لم نعرف إلا إسمه سأقوم إن شاء الله خلال الشطر الثاني من رمضان بإدراج سلسلة فيها بعض الصحابة و نبذة من سيرتهم العطرة و أبدأ على بركة الله مع أسيد بن حضير رضي الله عنه |
ورث المكارم كابرا عن كابر.. فأبوه حضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحدا من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء.. وفيه يقول الشاعر: لو أن المنايا حدن عن ذي مهابة لهبن حضيرا يوم غلّق واقما يطوف به، حتى اذا الليل جنّه تبوأ منه مقعدا متناغما وورث أسيد عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان قبل أن يسلم، واحدا من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ.. فلما اصطفاه الاسلام، وهدي الى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه. وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه، وأخذ واحدا من انصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين الى الاسلام العظيم.. ** ولقد كان اسلامه يوم أسلم سريعا، وحاسما وشريفا.. فعندما أرسل الرسول عليه السلام مصعب بن عمير الى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه السلام عل الاسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم الى دين الله. يومئذ، جلس أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومهما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو اى دين جديد لا يعرفونه.. وقال سعد لأسيد:" انطلق الى هذا الرجل فازجره".. وحمل أسيد حربته، وأغذ السير الى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا الى الاسلام. وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها الى الله، مصعب بن عمير.. وفجأهم أسيد بغضبه وثورته.. وقال له مصعب: " هل لك في أن تجلس فتسمع.. فان رضيت أمرنا قبلته، وان كرهته، كففنا عنك ما تكره"..؟؟ ** كان أسيد رجلا.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله.. فلما رأى مصعبا يحتكم به الى المنطق والعقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب: لقد أنصفت: هات ما عندك.. وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته. ويقول الذين حضروا هذا المجلس: " والله لقد عرفنا في وجه أسيد الاسلام قبل أن يتكلم..عرفناه في اشراقه وتسهّله"..!! ** لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهورا: " ما أحسن هذا الكلام وأجمله..كيف تصنعون اذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين".؟ قال له مصعب: " تطهر بدنك، وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي".. ان شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية مستقيمة وناصعة، وهي اذ تعرف طريقها ، لا تتردد لحظة أمام ارادتها الحازمة.. ومن ثمّ، قام أسيد في غير ارجاء ولا ابطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلنا اسلامه، مودّعا أيام وثنيّته، وجاهليته..!! كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل اليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير واخراجه.. وعاد الى سعد.. وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله: " أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به".!! أجل.. لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي.. وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!! ** وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلا.. انه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماما في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره.. ويعلم أنه ليس بينه وبين الاسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول اليهم مصعب بن عمير.. لكنه لو قال لسعد: اني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة.. اذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه الى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى.. فكيف السبيل لهذا..؟ كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفا على أسعد بن زرارة.. وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد بن معاذ.. هنالك قال أسيد لسعد:" لقد حدّثت أن بين الحارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك".. وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعا الى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين.. ولما اقترب من المجلس لم يجد ضوضاء ولا لغطا، وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم.. هنالك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي الى هذا المجلس، والقاء السمع لما يقوله سفير الاسلام مصعب بن عمير. ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للاسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين..!! ** كان أسيد يحمل في قلبه ايمانا وثيقا ومضيئا.. وكان ايمانه بفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلا للثقة دوما.. وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة: " لقد أحللتمومهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم..أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا الى غير دياركم.. أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل".. سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقا عليه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، وقابله أسيد فقال له النبي عليه السلام: أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟ قال أسيد: وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟ قال الرسول: عبدالله بن أبيّ!! قال أسيد: وماذا قال..؟؟ قال الرسول: زعم انه ان رجع الى المدينة لخرجنّ الأعز منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها ان شاء الله.. هو والله الذليل، وأنت العزيز.. ثم قال أسيد: " يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه على المدينة ملكا، فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكا".. بهذا التفكير الهادئ اعميق المتزن الواضح، كان أسيد دائما يعالج القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة.. وفي يوم السقيفة، اثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، كان موقف أسيد، وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالا في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاهه.. وقف أسيد فقال مخاطبا فريق الأنصار من قومه:" تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين.. فخليفته اذن ينبغي أن يكون من المهاجرين.. ولقد كنا أنصار رسول الله.. وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته".. وكانت كلماته، بردا، وسلاما.. ** ولقد عاش أسيد بن حضير رضي الله عنه عابدا، قانتا، باذلا روحه وماله في سبيل الخير، جاعلا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار نصب عينيه: " اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض".. ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق حبّه، كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر، وفي أفئدة الصحابة جميعا. وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن احدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها.. ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه.. وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة، مات أسيد.. وأبى أمير المؤمنين عمر الا أن يحمل نعشه فوق كتفه.. وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم.. وعادوا الى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه: " نعم الرجل.. أسيد بن حضير".. |
جابر بن عبدالله الأنصاري مضى الركب يحث الخطى من يثرب إلى مكة تحدوه الأشواق و يدفعه الحنين... فلقد كان على موعد مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه , و كان كل من في الركب يتلهف شوقا إلى تلك اللحظة التي يسعد فيها بلقاء النبي عليه الصلاة والسلام.. ووضع يده في يده ليبايعه على السمع والطاعة... و يعاهده على التأييد والنصر... و كان في الركب شيخ من وحوه القوم أردف ورائه غلامه الصغير الوحيد , و خلف في يثرب تسع بنات , إذ لم يكن له صبي غيره... ولقد كان الشيخ حريصا أشد الحرص على أن يشهد غلامه الصغير البيعه... و ألا يفوته ذلك اليوم من أيام الله... أما ذلك الشيخ فهو ((عبدالله بن عمرو الخزرجي الأنصاري))... و أما غلامه فهو ((جابر بن عبدالله الأنصاري))... أشرق الإيمان في فؤاد جابر بن عبدالله وهو صغير غض فأضاء كل جانب من جوانبه... و مس الإسلام قلبه الصغير كما تمس قطرات الندى أكمام الزهر فَتُفَتِّحُهَا , و تُفْعِمُهَا بالشذى و العطر... و توثقت صِلاته بالرسول صلوات الله و سلامه عليه منذ نعومة أظفاره... و لما وفد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم على المدينة مهاجراً ؛ تتلمذ الصبي المؤمن على يدي نبي الهدى والرحمة , فكان من أنجب من أخرجتهم المدرسة المحمدية للناس حفظاً لكتاب الله... وفِقْهاً في دين الله... ورواية لحديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وحسبك أن تعلم أن مسند جابر بن عبدالله يضم بين دفتيه ألفاً و خمسمائة و أربعين حديثاً... حفظها التلميذ النجيب , ورواها للمسلمين عن نبيهم الأعظم صلى الله عليه وسلم. و أن البخاريّ و مسلماً أثبتا في صحيحيهما ما ينوف على مائتين من أحاديثه تلك... وأنه ظلّض نصدر إشعاع و هداية للمسلمين دهراً طويلاً ؛ فلقد مد الله في حياته حتى أوشك أن يبلغ من العمر قرناً من الزمان. لم يشهد جابر بن عبدالله ((بدرا)) ولا ((أُحداً)) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم... لأنه كان صغيراً من جهةٍ... ولأن أباه كان يأمره بالبقاء مع إخوته التسع من جهة أخرى , ذلك لأنه لم يكن لهن أحدٌ سواه يقوم على أمرهن. حَدَّث جابرٌ, قال: لما كانت تلك الليلة التي سبقت (( أُحدا)) دعاني أبي و قال: إني لا أراني إلا مقتولاً مع أول من يقتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , و إني والله ما أدع أحداً أعزَّ علي منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. و إن علي دينا , فأقض ديني... وارحم أخواتك... واستوص بهن خيراً. فلما أصبحنا كان أبي أول قتيلٍ قتل في ((أحد)). فلما دفنته أتيت النبي عليه الصلاة والسلام , فقلت : يا رسول الله إن أبي ترك ديناً عليه... وليس عندي ما أفيه به إلا ما يخرجه ثمر نخيله , ولو عمدت إلى وفاء دينه من ذلك لما أديته في سنين... ولا مال لأخواتي أنفق عليهن منه غير هذا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم , و مضى معي إلى بيدر (المكان اللذي يُكوم و يجمع فيه التمر) تمرنا و قال لي : ( أدع غُرماء أبيك ), فدعوتهم. فما زال يكيل لهم منه حتى أدى الله عن أبي دينه كله من تمر تلك السنة. ثم نظرت إلى البيدر فوجدته كما هو... كأنه لم تنقص منه تمرة واحدةٌ... و منذ توفي والد جابر لم تفته غزوة واحده مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه. ولقد كانت له في كل غزوة حادثة تروى و تحفظ. فلنترك له الكلام ليروي لنا إحدى حوادثه مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه . قال جابر : كنا يوم ((الخندق)) نحفر , فعرضت لنا صخرة شديدة عجزنا عن تحطيمها , فجئنا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقلنا : يا نبي الله لقد وقفت في سبيلنا صخرة صلدة , ولم تفعل معاولنا فيها شيئاً. فقال عليه الصلاة والسلام: ( دعوها فإني نازل إليها ). ثم قام , و كان بطنه معصوبا بحجر من شدة الجوع ؛ ذلك لأننا كنا أمضينا أياناً ثلاثة لم نذق خلالها طعاماً , فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام المعول , وضرب الصخرة فغدت كثيباً مهيلاً. عند ذلك إزداد أساي على ما أصاب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من الجوع , فاتجهت إليه وقلت : أتأذن لي يا رسول الله بالمضي إلى بيتي ؟. فقال : (امض) . فلما بلغت البيت قلت لامرأتي : لقد رأيت برسول الله من مرارة الجوع ما لا يصبر عليه أحد من البشر , فهل عندكِ من شيءٍ ؟. قالت : عندي قليل من الشعير , وشاة صغيرة , فقمت إلى الشاة فذبحتها و قطعتها , و جعلتها في القدر , و أخذت الشعير فطحنته و دفعته إلى امرأتي , فعجنته فلما وجدت أن اللحم كاد ينضج... وأن العجين قد لان , و أوشك أن يختمر . مضيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , و قلت له : قليل من الطعام صنعناه لك يا نبي الله ؛ فقم أنت ورجل أو رجلان معك . فقال : ( كم هو ) ؟ . فوصفته له... فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بمقدار الطعام قال : ( يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع لكم طعاماً فهلموا إليه ) ... ثم التفت إلي وقال : ( امض إلى زوجتك وقل لها : لا تُنْزِلِي قِدرك , ولا تخبزي عجينك حتى أجيء ) . فمضيت إلى البيت ؛ وقد ركبني من الهم والحياء ما لا يعلمه إلا الله. وجعلت أقول : أيجيئنا أهل الخندق على صاع من شعير ... و شاةٍ صغيرة ؟! . ثم دخلت على امرأتي و قلت : ويحكِ , لقد افتضحت... فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتينا بأهل الخندق أجمعين. فقالت : هل سألك : كم طعامك؟ . قلت : نعم. فقالت : سَرِّ عن نفسك , فالله ورسوله أعلم , فكشفت عني غمًّا شديداً بمقالتها تلك. وماهو إلا قليل حتى أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم... ومعه الأنصار والمهاجرون , فقال لهم : ( ادخلوا , ولا تزدحموا ). ثم قال لامرأتي : ( هاتِ خابزة فلتخبز معك ... واغرفي من قدرك ... ولا تنزليها عن الموقد ) ثم طفق يكسر الخبز , ويجعل عليه اللحم , و يقربه إلى أصحابه ... و هم يأكلون . حتى شبعوا جميعا . ثم أردف جابر قائلاً : أقسم بالله إنهم انفضوا عن الطعام و إن قدرنا لتفورُ ممتلئة كما هي ... وإن عجيننا ليخبز كما هو ... ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأتي : ( كلي ... واهدي ) ... فأكلت , وجعلت تهدي طوال ذلك اليوم كله . هذا ولقد ظلَّ جابر بن عبدالله الأنصاري مصدر إشعاع وهداية للمسلمين دهراً طويلاً , حيث مد الله في أجله حتى أوشك أن يبلغ من العمر قرنا من الزمان . ولقد خرج ذات سنة إلى بلاد الروم غازياً قي سبيل الله . وكان الجيش بقيادة مالك بن عبدالله الخثعمي . وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على أحوالهم , ويشد من أزرهم , و يولي كبارهم ما يستحقونه من عناية و رعاية . فم بجابر بن عبدالله , فوجده ماشياً ... ومعه بغل له يمسك بزمامه , ويقوده . فقال له : ما بك يا أبا عبد الله ؟ ... لم لا تركب ؟ّ , وقد يسر الله لك ظهراً يحملك عليه . فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار ) . فتركه مالك و مضى حتى غدا في مقدمة الجيش . ثم التفت إليه وناداه بأعلى صوته , وقال : يا أبا عبد الله , مالك لا تركب بغلك , وهو في حوزتك ؟! . فعرع جابر قصده , و أجابه بصوت عال وقال : لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار ). فتواثب الناس عن دوابهم ... و كل منهم يريد أن يفوز بهذا الأجر . فما رُئِيَ جيش أكثر مشاةً من ذلك الجيش . هنيئاً لجابر بن عبدالله الأنصاري : فقد بايع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو طفيل لم يبلغ الحلم ... وتتلمذ على يديه منذ نعومة أظفاره ... وروى حديثه فتناقلته عنه الرواة ... و جاهد مع رسول الله على الصلاة والسلام وهو شاب موفور الشباب ... وغبَّر قدميه في سبيل الله وهو شيخ طاعن في السن. |
سالم مولى أبي حذيفة بل نعم حامل القرآن رضي الله عنه وأرضاه أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما، فقال: " خذوا القرآن من أربعة: عبدالله بن مسعود.. وسالم مولى أبي حذيفة.. وأبيّ بن كعب.. ومعاذ بن جبل.." ولقد التقينا من قبل بابن مسعود، وأبيّ، ومعاذ.. فمن هذا الصحابي الرابع الذي جعله الرسول حجّة في تعليم القرآن ومرجعا..؟؟ انه سالم، مولى أبي حذيفة.. كان عبدا رقيقا، رفع الاسلام من شأنه حتى جعل منه ابنا لواحد من كبار المسلمين كان قبل اسلامه شريفا من أشراف قريش، وزعيما من زعمائها.. ولما أبطل الاسلام عادة التبني، صار أخا ورفيقا، ومولى للذي كان يتبناه وهو الصحابي الجليل: أبو حذيفة بن عتبة.. وبفضل من الله ونعمة على سالم بلغ بين المسلمين شأوا رفيعا وعاليا، أهّلته له فضائل روحه، وسلوكه وتقواه.. وعرف الصحابي الجليل بهذه التسمية: سالم مولى أبي حذيفة. ذلك أنه كان رقيقا وأعتق.. وآمن بالله ايمانا مبكرا.. وأخذ مكانه بين السابقين الأولين.. وكان حذيفة بن عتبة، قد باكر هو الآخر وسارع الى الاسلام تاركا أباه عتبة بن ربيعة يجتر مغايظه وهموهه التي عكّرت صفو حياته، بسبب اسلام ابنه الذي كان وجيها في قومه، وكان أبوه يعدّه للزعامة في قريش.. وتبنى أبو حذيفة سالما بعد عتقه، وصار يدعى بسالم بن أبي حذيفة.. وراح الاثنان يعبدان ربهما في اخبات، وخشوع.. ويصبران أعظم الصبر على أذى قريش وكيدها.. وذات يوم نزلت آية القرآن التي تبطل عادة التبني.. وعاد كل متبني ليحمل اسم أبيه الحقيقي الذي ولده وأنجبه.. فـ زيد بن حارثة مثلا، الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه، وعرف بين المسلمين بزيد بن محمد، عاد يحمل اسم أبيه حارثة فصار زيد بن جارثة ولكنّ سالما لم يكن يعرف له أب، فوالى أبا حذيفة، وصار يدعى سالم مولى أبي حذيفة.. ولعل الاسلام حين أبطل عادة التبني، انما أراد أن يقول للمسلمين لا تلتمسوا رحما، ولا قربى، ولا صلة توكدون بها اخاءكم، أكبر ولا أقوى من الاسلام نفسه.. والعقيدة التي يجعلكم بها اخوانا..!! ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا جيدا.. فلم يكن شيء أحب الى أحدهم بعد الله ورسوله، من اخوانهم في الله وفي الاسلام.. ولقد رأينا كيف استقبل الأنصار اخوانهم المهاجرين، فشاطروهم أموالهم، ومساكنهم، وكل ما يملكون..!! وهذا هو الذي رأينا يحدث بين أبي حذيفة الشريف في قريش، مع سالم الذي كان عبدا رقيقا، لا يعرف أبوه.. لقد ظلا الى آخر لحظة من حياتهما أكثر من اخوين شقيقين حتى عند الموت ماتا معا.. الروح مع الروح.. والجسد الى جوار الجسد..!! تلك عظمة الاسلام الفريدة.. بل تلك واحدة من عظائمه ومزاياه..!! ** لقد آمن سالم ايمان الصادقين.. وسلك طريقه الى الله سلوك الأبرار المتقين.. فلم يعد لحسبه، ولا لموضعه من المجتمع أي اعتبار.. لقد ارتفع بتقواه واخلاصه الى أعلى مراتب المجتمع الجديد الذي جاء الاسلام يقيمه وينهضه على أساس جديد عادل عظيم... أساس تلخصه الآية الجليلة: " ان أكرمكم عند الله أتقاكم"..!! والحديث الشريف: " ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى".. و" ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل الا بالتقوى".. ** في هذا المجتمع الجديد الراشد، وجد أبو حذيفة شرفا لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبدا.. بل ووجد شرفا لأسرته، أن يزوج سالما ابنه أخيه فاطمة بنت الوليد بنت عتبة..!! وفي هذا المجتمع الجديد، والرشيد، الذي هدّم الطبقية الظالمة، وأبطل التمايز الكاذب، وجد سالم بسبب صدقه، وايمانه، وبلائه، وجد نفسه في الصف الأول دائما..!! أجل.. لقد كان امام للمهاجرين من مكة الى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء.. وكان حجة في كتاب الله، حتى أمر النبي المسلمين أن يتعلموا منه..!! وكان معه من الخير والتفوق ما جعل الرسول عليه السلام يقول له: " الحمد لله، الذي جعل في أمتي مثلك"..!! وحتى كان اخوانه المؤمنين يسمونه: " سالم من الصالحين"..!! ان قصة سالم كقصة بلال وكقصة عشرات العبيد، والفقراء الذين نفض عنهم عوادي الرق والضعف، وجعلهم في مجتمع الهدى والرشاد أئمة، وزعماء وقادة.. كان سالم ملتقى لكل فضائل الاسلام الرشيد.. كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله.. وكان ايمانه العميق الصادق ينسقها أجمل تنسيق. وكان من أبرز مزاياه الجهر بما يراه حقا.. انه لا يعرف الصمت تجاه كلمة يرى من واجبه أن يقولها.. ولا يخون الحياة بالسكوت عن خطأ يؤدها.. ** بعد أن فتحت مكة للمسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا الى ما حول مكة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنه عليه السلام، انما يبعث بهم دعاة لا مقاتلين.. وكان على رأس احدى هذه السرايا خالد بن الوليد.. وحين بلغ خالد وجهته، حدث ما جعله يستعمل السيوف، ويرق الدماء.. هذه الواقعة التي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأها، اعتذر الى ربه طويلا، وهو يقول: " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد"..!! والتي ظل أمير المؤمنين عمر يذكرها له ويأخذها عليه، ويقول: " ان في سيف خالد رهقا".. وكان يصحب خالد في هذه السرية سالم مولى أبي حذيفة مع غيره من الأصحاب.. ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية، وراح يعدّد له الأخطاء التي ارتكبت.. وخالد البطل القائد، والبطل العظيم في الجاهلية، والاسلام، ينصت مرة ويدافع عن نفسه مرة ثانية ويشتد في القول مرة ثالثة وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيّب أو مداراة.. لم يكن سالم آنئذ ينظر الى خالد كشريف من أشراف مكة.. بينما هو من كان بالأمس القريب رقيقا. لا.. فقد سوّى الاسلام بينهما..!! ولم يكن ينظر اليه كقائد تقدّس أخطاؤه.. بل كشريك في المسؤولية والواجب.. ولم يكن يصدر في معارضته خالدا عن غرض، أو سهوه، بل هي النصيحة التي قدّس الاسلام حقها، والتي طالما سمع نبيه عليه الصلاة والسلام يجعلها قوام الدين كله حين يقول: " الدين النصيحة.. الدين النصيحة.. الدين النصيحة". ** ولقد سأل الرسول عليه السلام، عندما بلغه صنيع خالد بن الوليد.. سأل عليه السلام قائلا: " هل أنكر عليه أحد"..؟؟ ما أجله سؤالا، وما أروعه..؟؟!! وسكن غضبه عليه السلام حين قالوا له: " نعم.. راجعه سالم وعارضه".. وعاش سالم مع رسوله والمؤمنين.. لا يتخلف عن غزوة ولا يقعد عن عبادة.. وكان اخاؤه مع أبي حذيفة يزداد مع الأيام تفانيا وتماسكا.. ** وانتقل الرسول الى الرفيق الأعلى.. وواجهت خلافة أبي كبر رضي الله عنه مؤامرات المرتدّين.. وجاء يوم اليمامة.. وكانت حربا رهبة، لم يبتل الاسلام بمثلها.. وخرج المسلمون للقتال.. وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة.. وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم.. وأحسّ كل مؤمن أن المعركة معركته، والمسؤولية مسؤوليته.. وجمعهم خالد بن الوليد من جديد.. وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة.. وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة.. وقذفا نفسيهما في الخضمّ الرّهيب..!! كان أبو حذيفة ينادي: " يا أهل القرآن.. زينوا القرآن بأعمالكم". وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب. وكان سالم يصيح: " بئس حامل القرآن أنا.. لو هوجم المسلمون من قبلي"..!! حاشاك يا سالم.. بل نعم حامل القرآن أنت..!! وكان سيفه صوّال جوّال في أعناق المرتدين، الذين هبوا ليعيدوا جاهلية قريش.. ويطفؤا نور الاسلام.. وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب... ولما رأى يمناه تبتر، التقط الراية بيسراه وراح يلوّح بها الى أعلى وهو يصيح تاليا الآية الكريمة: ( وكأيّ من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)... ألا أعظم به من شعار.. ذلك الذي اختاره يوم الموت شعارا له..!! ** وأحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل.. ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل نسلمة الكذاب واندحار جيش مسيلمة وانتصار المسلمين.. وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالما في النزع الأخير.. وسألهم: ما فعل أبو حذيفة..؟؟ قالوا: استشهد.. قال: فأضجعوني الى جواره.. قالوا: انه الى جوارك يا سالم.. لقد استشهد في نفس المكان..!! وابتسم ابتسامته الأخيرة.. ولم يعد يتكلم..!! لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان..!! معا أسلما.. ومعا عاشا.. ومعا استشهدا.. يا لروعة الحظوظ، وجمال المقادير..!! وذهب الى الله، المؤمن الكبير الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يموت: " لو كان سالم حيّا، لوليته الأمر من بعدي"..!! |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.