عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 06-10-2007, 01:15 PM   #1
القوس
كاتب مغوار
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2002
المشاركات: 2,839
إفتراضي السهل الممتنع في شعر الأبوذية - منقول

السهل الممتنع في شعر الأبوذية


نضير الخزرجي*


يستسهل الكثير من الشعراء النظم باللغة الدارجة، بوصفها لغة المحادثة والتعامل اليومي في كل مرافق الحياة، وقليل منهم ينظم بالعربي القريض مع انه عمود الشعر العربي، والنادر من هذا القليل من ينظم باللغتين القريض والدارج، فيحلق بهذين الجناحين عاليا في سماء الأدب العربي.


ولا يختلف الشعر الدارج عن القريض كثيرا من حيث الأوزان والبحور والقافية، وإنما جاءت مرونة النظم فيه من الاستعمالات اليومية لمفرداته، على خلاف المفردات العربية الفصيحة التي يحتاج البعض في معرفتها الرجوع الى معاجم اللغة وأهل الاختصاص ولذلك قل شعراء القريض وكثر شعراء الدارج، ساعدت بعض المؤسسات الحكومية والأدبية على انتشار الشعر الشعبي في حين يفترض في مثل هذه المؤسسات تشجيع الناشئة العودة الى جذور اللغة العربية وإشاعة الأدب العربي الرصين الذي يحفظ للأمة تراثها اللغوي والأدبي، ويجعل من اللغة العربية في مصاف اللغات العالمية الحية القابلة للانتشار والتعامل اليومي بها.


وبالطبع لا يعني الحديث عن السهولة في الشعر الشعبي، ان كلماته ومفرداته قابلة للفهم السريع، بل ان عدد غير قليل من المفردات العربية يسهل إرجاعها الى جذرها ومعرفة المعنى المراد في النص الفصيح نثرا أو نظما، في حين انه يصعب إرجاع مفردات شعبية الى جذر عربي وحتى لو تم إرجاعه قد يصعب معرفة المعنى الظاهر والمراد في النص الشعبي نثرا أو نظما، ولعل شعر الأبوذية من أنواع الشعر الشعبي الذي ينطبق عليه وصف "السهل الممتنع"، إذ ينبغي أن تتوفر في ناظم شعر الأبوذية القدرة على تطويع الكلمات بما يحقق الجناس في الأشطر الثلاثة من اشطر الأبوذية الأربعة، بحيث تتحد الكلمات الثلاث من حيث الرسم وتختلف من حيث المعنى، ولذلك يقع البعض في الخطأ، فمنهم من يختل عنده الجناس فيتحد الشكل والمعنى في لفظين وينفرد الثالث بمعنى مستقل، ومنهم من يتحد عنده الجناس لفظا ومعنى، وربما اعتبره البعض جانبا من التجديد في شعر الأبوذية، ولكنه سيخرج حينئذ عن اصل التعريف وان كانت التفعيلات واحدة، لان عنوان الأبوذية قائم على عمود الجناس، ومثال ذلك قول الشاعرة المعاصرة ثريا بنت عطية الجمري:


أَوفيتِ آوْ طِحِتْ هَآلْيومْ وَعْدَكْ


وَآدّيتِ وزِدِتْ وَآنْجَزِتْ وَعْدَكْ


نايِمْ بِآلشَّريعَه آو وَيْن وَعْدَكْ


مَعَ سِكْنَه يَبو نَفْسِ الأبِيَّه


فالشاعرة تتحدث عن لسان السيدة زينب بن علي (ع) تستنهض أخاها العباس في نصرة أخيه الإمام الحسين (ع) وتشير الى الوعد الذي قطعه على نفسه بنصرة أخيه وسقاية النساء والأطفال، وقد أدى الوعد سلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.


كما ان القول بان شعر الأبوذية من السهل الممتنع، لا ينحصر في الناظم فقط، بل في الأذن التي تتلقى الجناس، فهي بحاجة الى معرفة باللهجات الدارجة وبخاصة لهجة سكان الفرات الأوسط في العراق وجنوب إيران في خوزستان وعدد من مناطق الخليج، حيث يكثر فيها نظم الأبوذية، ولذلك يصعب على المتلقي الوقوف على كامل المعنى من شعر الأبوذية إذا لم يستطع التمييز بين معاني الجناس، وإذا لم يكن يمتلك مخزونا من المفردات الدارجة، أو لم يحتك بالبيئة الشعبية، لان الجناس في شعر الأبوذية أشبه بلعبة الكلمات المتقاطعة.


واقعة الطف مثالاً


ويكثر النظم على منوال الأبوذية كما هو الظاهر في احد معاني الأبوذية (صاحب الأذى والألم والوجع) في التعبير عن زفرات النفس وآهاتها، ولما كانت الملحمة الحسينية في عاشوراء كربلاء في العام 61 هجرية فيها من الآهات والآلام ما فاق صبر رائدها صبر أيوب، فان النظم في وقائع معركة الطف وتفجعاتها كثير، والناظمين كثٍّر، وهذا ما تابعه المحقق الدكتور محمد صادق الكرباسي في الجزء الأول والثاني من سلسلة ديوان الأبوذية في إطار موسوعة دائرة المعارف الحسينية التي تفوق أعدادها الستمائة مجلد، وفي الجزء الثالث من "ديوان الأبوذية" الصادر عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 444 صفحة من القطع الوزيري، يلاحق الكرباسي مقطوعات الأبوذية التي نظمها أصحابها في النهضة الحسينية، ابتداءاً من قافية الزاي حتى الكاف الفارسية، وقد جاءت أكثر خطوطها في رسم معالم صورة معركة استشهاد الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وصحبه ظهيرة العاشر من المحرم، ويقدم تصوراته في كل مقطوعة من حيث شرح ألفاظ الجناس وتقييم المقطع أو تقويمه ونقده من حيث القوة والضعف، وإظهار النص الأدبي من نظم أو نثر تبارى فيه شاعر الأبوذية أو اعتمده في نظمه أو تأثر فيه أو نظم على شاكلته، وهو ما يشبه بعملية قراءة أفكار الشاعر واستكناه ضميره الأدبي، ولذلك يقدم الكتاب معلومات غير قليلة تعين القارئ على تفهم الأبوذية وسهولة معرفة جذور الكلمات.


مساجلة شعرية


وما يلاحظ على شعر الأبوذية اشتهار المساجلات بين الشعراء والناظمين، بل ان المساجلة بحد ذاتها فن لا يقدر عليه كل شاعر، لأنها تعتمد البداهة والسرعة والفطنة والخزين الشعري الذي يساعد الشعراء على النظم الآني أو استرجاع النظم السابق، والشاعر القدير هو الذي يصرف المساجلة الشعرية الى النقطة التي يريد توجيه الأنظار إليها باعتبارها قطب الرحى، كما فعل عميد الشعر الشعبي، الشاعر المعاصر جابر بن جليل الكاظمي عندما أجاب على أبوذية مهداة من صديقه الأديب الدكتور عباس بن علي الترجمان بأبوذية جعل فيها كربلاء محورها حيث ألهبت معركة الطف كل قلب وكبد حتى صارت صفحة الخد أحر من الجمر تستمد حرارتها من صعيد كربلاء التي توسدها خد الإمام الحسين (ع) وصارت الرمال له دثاراً، يقول الشاعر الكاظمي:


أمِسْ بِآلطَّيفْ يا عَبّاسْ شِفْتَكْ


آوْ گِتْلَكْ جَرْحي ذاكِ آلطّابْ شِفْتَكْ


أخاَفْ لو بِسِتْني آتذوبْ شِفْتَكْ


آحْتِوَتْ وَجْناتي نارِ آلْغاضِرِيَّة


وهو يجيب على أبوذية الترجمان:


أريد اوصل اللندن بستكانه


واشرب وصل خمرك بستكانه


لو تحصل يجابر بستكانه


بوسه اترد شبابي اردود اليه


والجناس في "بستكانه" فالأولى من الاستقرار والثانية فارسية وتعنى إناء الشاي، والثالثة فارسية تعبير عن وحدة الحال، فالشاعر الترجمان يتمنى الوصول الى لندن حيث مقر إقامة الشاعر الجابري ويتناول الشاي معه حتى يستعيد ذكريات الشباب. أما الجناس فيقع في "شفتك" فالأولى بمعنى رأيتك، والثانية مركبة من "أشوف + أفتك" أي فتك وبطش، والثالثة أراد الشفّة.


شذرات من الأبوذية


ومع ان الغموض يلف جناس الأبوذية وهو في الوقت نفسه يعبر عن قوة في شاعرية الشاعر وإبداعه، فان الكثير من شعراء الأبوذية يحاولون رفع العجمة عن الجناس وتعريبه، خلال استحضار مفردات من نص أدبي نثري أو نظمي أو نص قرآني أو حديثي أو تراثي، بما يقرب المعنى للمتلقي، وهو في الوقت نفسه يكشف حجم ثقافة الشاعر وتمكنه من أدوات الأدب ومفاصله.


ولعل المباراة الشعرية واحدة من معالم استحضار مفردات النص، بحيث يحفز لدى المتلقي مستمعا أو قارئا استحضار كامل للمعاني التي يعبر عنها الشاعر في الأبوذية، بخاصة إذا كان المتلقي على دراية بالنص الأول، فتقوم الأبوذية باستنهاض ذاكرته للامساك بما تبقى من خيوط الذاكرة في النص الأول والتي أخفتها عقد الزمان.


وفي هذا الجزء من الديوان الكثير من الأبوذيات التي بارى فيها الشاعر شاعرا أو نصا، أو انه ألمح الى نصوص وأشار إليها وترك لفراسة المتلقي وجدانها والركون إليها، وقد عمد المحقق الكرباسي الى إرجاع مفردات كل أبوذية الى منابعها الأصلية واضعا نفسه كوسيط بين الشاعر والمتلقي لمعرفة الخلفية الأدبية والثقافية التي انطلق منها شاعر الأبوذية في نظمه، والنص الذي بارى فيه الشاعر في أبوذيته، ومن ذلك قول أمير شعراء الأبوذية حسين بن علي الكربلائي (ت 1328 هـ)، وهو يباري بيت الشاعر الشيخ محسن بن محمد أبو الحب الكبير (ت 1305 هـ):


إن كان دين محمد لم يستقم ** إلا بقتلي يا سيوف خذيني


فينشد:


أريد اَبْچي آوْ أهِلِّ آلدَّمِعْ يا سيفْ


آبْجُبِّ آهويتْ يِشْبَه لَعِدْ يا سيفْ


لَوَنْ بِيَّه آستِقامِ آلدِّينْ يا سيفْ


إخِذْني آوْ خَلْ يِتِمّ آلْشَّمِلْ بِيَّه


والجناس في "يا سيف" حيث الاولى محرفة يؤسف من التأسف، والثانية محرفة من النبي يوسف بن يعقوب، والثالث من ياء النداء وسلاح السيف.

يتبع-

* إعلامي وباحث عراقي


الرأي الآخر للدراسات – لندن
__________________
مأساتي معاك تزيد

واتم بعيد .. وتتم بعيد
وأتم مثل الحزن ..

أنطر سحابة عيد
أجي ملهوف ..
عطش تحت المطر ملهوف
وقتي يطوف .. لوني ضايع ومخطوف
القوس غير متصل   الرد مع إقتباس