5
عندما تنمو في نفوسنا بذورُ الحب والعطف والخير، نُعفِي أنفسَنا من أعباء ومشقات كثيرة.. إننا لن نكون في حاجة إلى أن نتملَّق الآخرين؛ لأننا سنكون يومئذٍ صادقين مخلصين إذ نزجي إليهم الثناء، إننا سنكشف في نفوسهم عن كنوز من الخير، وسنجد لهم مزايا طيبة نثني عليها حين نثني ونحن صادقون؛ ولن يعدم إنسان ناحية خيرة أو مزية حسنة تؤهله لكلمة طيبة.. ولكننا لا نطلع عليها ولا نراها إلا حين تنمو في نفوسنا بذرة الحب!!
كذلك لن نكون في حاجة لأن نحمِّل أنفسنا مؤونة التضايق منهم، ولا حتى مؤونة الصبر على أخطائهم وحماقاتهم؛ لأننا سنعطف على مواضع الضعف والنقص، ولن نفتش عليها؛ لنراها يوم تنمو في نفوسنا بذرة العطف! وبطبيعة الحال لن نجشِّم أنفسنا عناء الحقد عليهم، أو عبء الحذر منهم، فإنما نحقد على الآخرين؛ لأن بذرة الخير لم تنمُ في نفوسنا نموًّا كافيًا، ونتخوف منهم لأن عنصر الثقة في الخير ينقصنا!!
كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة، حين نمنح الآخرين عطفَنا وحبَّنا وثقتَنا، يوم تنمو في نفوسنا بذرةُ الحب والعطف والخير!..
6
حين نعتزل الناس لأننا نحسُّ بأننا أطهر منهم روحًا، أو أطيب منهم قلبًا، أو أرحبُ منهم نفسًا أو أزكى منهم عقلاً.. لا نكون قد صنعنا شيئًا كبيرًا، لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة!.
إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس مشبَّعين بروح السماحة والعطف، على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا، بقدر ما نستطيع!!
إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العُليا ومُثُلنا السامية، أو أن نتملَّق هؤلاء الناس ونُثني على رذائلهم أو أن نُشعِرَهم بأننا أعلى منهم أفقًا.. إن التوفيق بين هذه المتناقضات، وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد: هو العظمة الحقيقية!.
7
عندما نصل إلى مستوى معيَّن من القدرة نحسُّ أنه لا يعيبُنا أن نطلب مساعدة الآخرين لنا، حتى أولئك الذين هم أقلُّ منا مقدرةً! ولا يغض من قيمتنا أن تكون معونةُ الآخرين لنا قد ساعدتْنا على الوصول إلى ما نحن فيه..
إننا نحاول أن نصنع كل شيء بأنفسنا، ونستنكف أن نطلب عونَ الآخرين لنا، أو أن نضمَّ جهدَهم إلى جهودنا.. كما نستشعر الغضاضة في أن يعرف الناس أنه كان لذلك العونُ أثرًا في صعودنا إلى القمة.. إننا نصنع هذا كله حين لا تكون ثقتُنا بأنفسنا كبيرة، أي عندما نكون بالفعل ضعفاء في ناحيةٍ من النواحي.. أما حين نكون أقوياء حقًّا فلن نستشعر من هذا كله شيئًا.. إن الطفل هو الذي يحاول أن يبعد يدك التي تسنده وهو يتكفَّأ في المسير!.
عندما نصل إلى مستوى معين من القدرة، سنستقبل عون الآخرين لنا بروح الشكر والفرح.. الشكر لما يقدَّم لنا من عون.. والفرح بأن هناك مَن يؤمِن بما نؤمِن به نحن.. فيشاركنا الجهد والتبعة.. إن الفرح بالتجاوب الشعوري هو الفرح المقدس الطليق!..
8
إننا نحن إن "نحتكر" أفكارنا وعقائدنا، ونغضب حين ينتحلُها الآخرون لأنفسهم، ونجتهد في توكيد نسبتها إلينا، وعدوان الآخرين عليها! إننا إنما نصنع هذا كله، حين لا يكون إيماننا بهذه الأفكار والعقائد كبيرًا، حين لا تكون منبثقةً من أعماقنا، كما لو كانت بغير إرادة منا، حين لا تكون هي ذاتها أحب إلينا من ذواتنا!
إن الفرح الصافي هو الثمرة الطبيعية لأن نرى أفكارنا وعقائدنا ملكًا للآخرين، ونحن بعد أحياء، إن مجرد تصورنا لها أنها ستصبح- ولو بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض- زادًا للآخرين وريًّا، ليكفي لأن تفيض قلوبُنا بالرضى والسعادة والاطمئنان!.
"التجَّار" وحدهم هم الذين يحرصون على "العلاقات التجارية" لبضائعهم كي لا يستغلها الآخرون، ويسلبوهم حقهم من الربح، أما المفكرون وأصحاب العقائد فكل سعادتهم في أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم، ويؤمنوا بها إلى حدِّ أن ينسبوها لأنفسهم لا إلى أصحابها الأولين!.
إنهم لا يعتقدون أنهم "أصحاب" هذه الأفكار والعقائد، وإنما هم مجرد "وسطاء" في نقلها وترجمتها.. إنهم يحسون أن النبع الذي يستمدون منه ليس من خَلْقِهم، ولا من صنع أيديهم، وكل فرحهم المقدس، إنما هو ثمرة اطمئنانهم إلى أنهم على اتصال بهذا النبع الأصيل!..
9
الفرق بعيد.. جدًّا بعيد.. بين أن نفهَمَ الحقائق، وأن ندركَ الحقائق، إن الأولى: العلم.. والثانية هي: المعرفة!..
في الأولى: نحن نتعامل مع ألفاظٍ ومعانٍ مجردةٍ.. أو مع تجارب ونتائج جزئية..
وفي الثانية: نحن نتعامل مع استجابات حية، ومدركات كلية..
في الأولى: ترد إلينا المعلومات من خارج ذواتنا، ثم تبقى في عقولنا متحيزة متميزة..
وفي الثانية: تنبثق الحقائق من أعماقنا، يجري فيها الدم الذي يجري في عروقنا وأوشاجنا، ويتسق إشعاعها مع نبضنا الذاتي!..
في الأولى: توجد "الخانات" والعناوين: خانة العلم، وتحتها عنواناته، وهي شتى.. خانة الدين وتحتها عنوانات فصوله وأبوابه.. وخانة الفن وتحتها عنوانات منهاجه واتجاهاته!...
وفي الثانية: توجد الطاقة الواحدة، المتصلة بالطاقة الكونية الكبرى.. يوجد الجدول السارب، الواصل إلى النبع الأصيل!..
10
نحن في حاجة ملحَّة إلى المتخصصين في كل فرع من فروع المعارف الإنسانية، أولئك الذين يتخذون من معاملهم ومكاتبهم صوامع وأديرة!.. ويهبون حياتهم للفرع الذي تخصصوا فيه، لا بشعور التضحية فحسب، بل بشعور اللذة كذلك!.. شعور العابد الذي يهب روحه لإلهه وهو فرحان!..
ولكننا مع هذا يجب أن ندرك أن هؤلاء ليسوا هم الذين يوجهون إلى الحياة، أو يختارون للبشرية الطريق.
إن الروَّاد كانوا دائمًا- وسيكونون- هم أصحاب الطاقات الروحية الفائقة، هؤلاء هم الذين يحملون الشعلة المقدَّسة التي تنصهر في حرارتها كلُّ ذراتِ المعارف، وتنكشف في ضوئها طريق الرحلة، مزودة بكل هذه الجزئيات، قوية بهذا الزاد، وهي تغذي السير نحو الهدف السامي البعيد!..
هؤلاء الروَّاد همُ الذين يدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة، المتعددة المظاهر في: العلم والفن، العقيدة، والعمل، فلا يحقرون واحدًا منها ولا يرفعونه فوق مستواه!..
الصغار وحدهم هم الذين يعتقدون أن هناك تعارضًا بين هذه القوى المتنوعة المظاهر؛ فيحاربون العلم باسم الدين، أو الدين باسم العلم..
ويحتقرون الفن باسم العمل، أو الحيوية الدافعة باسم العقيدة المتصوفة!.. ذلك أنهم يدركون كل قوة من هذه القوى منعزلةً عن مجموعة من القوى الأخرى الصادرة كلها من النبع الواحد، من تلك القوة الكبرى المسيطرة على هذا الوجود!.. ولكن الرواد الكبار يدركون تلك الوحدة؛ لأنهم متصلون بذلك النبع الأصيل، ومنه يستمدون!..
إنهم قليلون.. قليلون في تاريخ البشرية.. بل نادرون! ولكن منهم الكفاية.. فالقوة المشرفة على هذا الكون هي التي تصوغهم، وتبعث بهم في الوقت المقدر المطلوب!.
|