عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 27-10-2007, 07:25 PM   #9
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(5)

ارتمى الرجال تحت ظلة صنعت من أكياس خيش قديمة، يرقبون عمل الساحبة(التراكتور) التي كانت تقوم بسحق قش القمح الذي تم تسطيحه بشكل دائرة سميكة واسعة بعض الشيء ليتمكن مَن يقود الساحبة من الالتفاف بها بدورة كاملة وبسرعة، وكانت مربوطة بالساحبة ألواح خشبية بطول أكثر من ثلاثة أذرع و عرض أكثر من ذراعين .. ثبت في أسفل تلك الألواح التي ربطت بقطع خشبية عرضية، قطع من حجارة بركانية سوداء كالتي يستخدمها الفقراء عند الاستحمام لإزالة الجلد الميت المتصلب الذي تراكم على أطراف الأقدام .. وكانت تقنية تثبيت الأحجار في أسفل الألواح تتم بإحداث حفر مربعة الشكل في الخشب وبعمق لا يزيد عن سماكة أصبع الخنصر (لفتاة متمدنة)، وكان قبل عملية تثبيت الحجارة بليلة، تُقلَب الألواح وتملأ العيون المربعة المحفورة بالماء، وكان عدد تلك الحفر يصل الى حوالي المائتين، وبعد أن يلين خشب السنديان بفعل الماء، يتم وضع الحجارة في الفوهات وإجبارها على أن تثبت في مكانها بواسطة مطرقة، وفي الغالب بواسطة حجر من حجارة الوديان الملساء..

كان الرجال يثرثرون بأحاديث متنوعة، وغير مترابطة، ولم يكن يستمع أحدهم للآخر، كانت أحاديثهم أشبه بطنين النحل أو زمجرة حيوانات برية، ليس بالضرورة أن يكون لكلماتهم معاني، وكانوا يتكلمون جماعيا كمطربي الأغاني الثورية .. لم يكن الرجال لينبطحوا بهذه الطريقة ويثرثرون في مواضيع لا طائل منها، هذا ما قاله (مخلف) وقد تيقن أن ثرثرة النساء اللواتي كن يتجمعن حول عملية تنقية القمح أو غسله، أو التحضير لعمل (الكبة)، كانت بحكم طبيعة الجلسة التي تقرب بين الوجوه والعيون والأذان، كما أن الجهد المبذول في أعمال النساء لم يهد (حيلهن) حتى يكفن عن الثرثرة، وهاهم الرجال قد توفر لديهم جزء من فيض الطاقة، فبماذا سيوظفونه؟

وصلت سيارة شحن من نوع (فولفو) ركب لها صندوق عربي وصبغت بصبغة عربية، ولو أن سويديا رآها لما اعترف بأن منشأها سويديا، فأخشاب الصندوق مورس فيها فن (الأرابسك) كما أن الألوان الخضراء والحمراء و الزرقاء أعطت خلفية مبتكرة للمشهد ..

كان من طبيعة الناس الذين يشتركون في مساحة البيدر أن يحضروا الأطعمة التي تصلهم من بيوتهم، الى مكان واحد ليتشاركوا فيه، وكان (مخلف) الذي كان صامتا يرقب كل ما يجري، يتعجب من أشكال الأواني والمواد التي صنعت منها، و شكل الأرغفة التي تغيرت، ولم تبدو أي ملاحظة من وجهه الصارم، إلا عُشر ابتسامة عندما وجد إناءا به مستحضر علم أن اسمه (ملوخية)، تذكر حينها أين رأى مثل هذا القوام ومتى!

لم يقتنع مخلف أن طعم الرغيف بقي على ما هو، فلم يتردد يوما في تكرار(مقولة) أن البركة قد (طارت) منذ أن دخلت الساحبات على البلد، وقد يكون إحساسه ليس معنويا مائة بالمائة، بل أن هناك شيئا حدث فعلا على الطعم، الذي كان القمح يكتسبه باحتكاك عرق العاملين من بشر وحيوانات، حتى أن إنتاج الرغيف كان يتم بوقود عضوي مائة بالمائة، وليس بوقود مشكوك بعضويته حسب بعض النظريات ، فكان الرغيف يُحترم وكأنه كائن حي ويُحلف به كالدين والشرف، ويتم تذكير من يخون العهد بخيانته للرغيف!

كان الرجال يتهامسون بعد أن نزل من كان يقود الساحبة لتناول الطعام معهم، فأطفأ محركها، فكان على الرجال أن يخفضوا من نبرات أصواتهم، فلم يعد هناك ما يستوجب التكلم بصوت مرتفع، وقد يكون سبب تهامسهم، خشيتهم من أن مخلف يسمع ما يقولون.. كانوا يتساءلون، لماذا كل هذا التعب، فقد سمع أحدهم أن هناك من يحصد بواسطة مكائن تستخرج القمح أثناء سيرها دون نقل قشه للبيدر وما يترتب عليه من سحق للقش وتذرية وغربلة وغيرها من العمليات المقيتة!

صفر أحدهم اندهاشا من هذا المخترع الذي يتحدثون عنه، قائلا : هل معقول ما تتحدثون عنه؟ توسلوا إليه أن يخفض صوته حتى لا يسمعه مخلف، ولكن مخلف كان قد سمع ما قالوه .. فقال لهم: إذن ستقولون ولماذا نستخرج التبن؟ أليس للحيوانات؟ وماذا تبقى للحيوانات وقد استعضنا عنها بتلك الآلات ؟ فلنتخلص من الحيوانات ونعش نظيفين؟ ستختفي الحيوانات وستختفي مخازن التبن وستختفي الطوابين (أفران الخبز في البيوت) وستختفي مخازن الوقود، وستزول روائح الحيوانات و فضلاتها .. وسيزول القمل والبراغيث و سيفقد أولادكم القدرة على التعرف على أسماء الحشرات والأدوات والمواد .. وستتباهون بدلال نسائكم ونعومة بشرة كل أنثى .. وسيطيب لكم المأكل والمشرب، وستبيعون أرضكم لتبعثون بأبنائكم لدراسة (البطالة) .. وتفقدون القدرة على تتبع أسماء الأمراض فهذا سرطان وهذا إيدز وهذا بهجت وهذا كذا .. ستتعبون .. ستتعبون وأنتم تمثلون دور المرتاحين ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس