الموضوع: هوايــــــات
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 14-11-2007, 01:41 PM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

السفر والهجرة

لبيت تخفق الأرياح فيه ... .. أحب إلي من قصر منيف
هكذا عبرت البدوية التي رفضت أن تقيد حركتها، حتى لو كانت في قصر منيف، ولم تكن المفاضلة بين القصر وبيت الشعر من حيث فخامة البناء ووجود الخدم وبين خيوط من شعر الماعز نسجت بشكل لتحجب بعض ضوء الشمس. فالتفضيل بهذه الحالة كان لا بد أن يكون لصالح القصر، بل كان بيت الشعر رمزا للحركة والتنقل من مكان لآخر تختلف تربته وما يحيط به من جيران طبيعيين وغير طبيعيين ..

يبدو أن تلك الخاصية الملتصقة في روحية شعوب هذه المنطقة، هي المسئولة عن كثير من المظاهر الحضارية بمختلف أشكالها، السياسية والاجتماعية والثقافية. فلا يمكن التعرف على حدود دولة قامت في هذه البقعة على وجه الدقة فانكماشها واتساعها المستمرين لهما علاقة بهجرة أبنائها وحركتهم والتفافهم حول مركز الدولة أو رفضهم لها .. واستمر الصراع على الحدود حتى بين الأشقاء حتى هذا اليوم ..

لكن ما هو السر وراء رغبة الناس في تغيير أمكنتهم وانتقالهم من مكان لمكان؟ هناك من يعزو ذلك لندرة المياه الصالحة للشرب. وهناك من يعزو ذلك لمجاورة الصحراء وقربها الحثيث من أي حاضرة من حواضر هذه المنطقة، ومجاورتها تعني التأثر الكبير بطبيعة المكان وسرابيته ولا نهايته، فتصطبغ سلوكية الأبناء بصبغة المكان، حتى أحلامهم وسعة أفقهم وهواجسهم تتأثر بالمكان ..

تبدأ نواة الرغبة للهجرة والتنقل، منذ الصغر، فالخروج من البيت هو انتقال الى جو أرحب وهو محاولة هجرة وسفر، والتجول في شوارع البلدة و الاقتراب من مدارس البنات هو رغبة دفينة في التعرف على ما هو جديد. وهذا ليس له علاقة بوفرة الماء و الغذاء، وهو الذي يدفع بعض أبناء الموسرين للتنقل في عواصم العالم والإقامة فيها، ليس طلبا للرزق بل للتخلص مما يشعرون أنه يذكرهم بمكان بعينه ..

ويشاركهم في ذلك أبناء الفقراء، الذين يبررون هجرتهم بطلب الرزق، ولكنهم غير صادقين، حيث أن ما يقومون به من أعمال في بلدان المهجر، ممكن القيام به في بلدانهم، فعندما يحل من ينظف المطابخ والفنادق من جنوب شرق آسيا في بلادنا، فإنه حل محل من ذهب لينظف المطابخ والفنادق في أوروبا ..

وتفسير ذلك يأتي من ثنائية دقيقة تتعلق بتوكيد الذات وإنكارها، فلو اقتربت من راعي يرعى الأغنام قرب حقل أو بستان، وكان قد أخرج أغنامه منه للتو، وسألته عن اسمه واسم عشيرته لن يجيبك حتى لو أشهرت بوجهه السلاح، وعدم الإجابة هنا تتعلق بتحميله وزر اقترابه من الحقل، فيضع التخفي هنا كخط دفاع أول للتهرب من تبعية مساءلته، لكن ـ وفي مكان آخر ـ لو ذكر اسم وزير أو قائد جيش يرتبط باسم هذا الراعي في العشيرة، فإنه يقرب المسافة بين صلته بقربه بطريقة الاختزال السريع، حتى يتهيأ لمن ذكره أن أهمية ذلك الوزير آتية من كونه قريبا لهذا الراعي ..

فالانتساب لعلية القوم، رغبة دفينة عند الكثيرين من الناس، والتنصل من التقرب من سفلة القوم هو كذلك رغبة الكثيرين من الناس .. وكما أن علية القوم يكتسبون شرفهم مما يقومون به من أعمال أو مراكز سياسية أو علمية أو اجتماعية، فإن أعمالا سيئة أو هي بنظر من يقوم بها أنها كذلك، ستجعله ينكر هويته وحتى القطر الذي ينتمي إليه .. وهذا ما يجعل الناس الذين يتعاطون الخمر لا يرتادون خمارات قريبة من مدنهم.. وقد يترفعون عن الغناء والرقص في أفراح أقاربهم، لكنهم قد يرقصون مع غانيات في أوروبا، ولكنهم لن يجيبوا عن جنسيتهم فيما لو سألتهم تلك الغانيات عن أقطارهم التي ينتمون إليها، فإن كان أدائهم سيئا مع تلك الغانيات، فإن كان أحدهم من قطر معين فسيجيب أنه من قطر آخر غير الذي ينتمي إليه.

إنها ميكانيكية معقدة، وتحدث في الهجرة والتنقل الداخلي في نفس البلد، فيكون ابن مدينة أو ريف قد تعرض لمسألة شرف في أسرته ولم يحلها ضمن التقاليد السائدة في منطقته، فإنه سيختار مدينة أو بقعة بعيدة عن بلدته الأصلية ويحذف واحدا أو اثنين من عناصر اسمه الرباعي حتى يتخفى من أعين الناس.

ومن يأخذ عائلته بسيارته، ويبتعد في السهول أو الجبال ليشوي لحما أو يحمل معه طبخته التي أعددتها زوجته في البيت ليأكلونها في تلك البقعة، تنبع هي الأخرى من (هوى) التغيير و التنقل .. فلم يتغير طعم اللحم من البيت الى الجبل، ولكن الشعور بتغيره هو ما حدث ..

كان يتم في روسيا قبل انهيار الاتحاد السوفييتي تخصيص غرفتين للأعزب في سكنه، فإن تزوج أعطي شقة من ثلاث غرف، وان جاءهم طفل تم نقله الى شقة من أربعة غرف، كانت هجرة مستمرة من مكان لمكان، وقد يكون هذا سببا من أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي!

أترانا لهوايتنا التنقل والهجرة، والتي لم تقتصر على المكان بل على العمل والفكر، حيث يغير أحدنا عمله في حياته عشرات المرات، ويغير حزبه وفكره وولائه، وبيته ومدينته وملبسه و عاداته، أترانا لم نهتد الى طريق التطور؟
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس