الموضوع: سنة الابتلاء
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 17-11-2007, 08:12 PM   #2
RWIDA
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
المشاركات: 226
إفتراضي

نافذة الابتلاء

إن مشكلة الإنسان أنه ينظر إلى الناس والكون من حوله من نافذة ابتلائه فقط، فإن كان مريضًا لم ير من الناس إلا الصحة، وإن كان فقيرًا لم ير إلا الغنى، وإن كان دميمًا لم ير إلا الحسن، إن فقد ولده نظر إلى من لم يفقد ولده، إن تيتم نظر إلى آباء الاخرين، إن ترملت المرأة نظرت إلى غير الأرامل..
وهكذا، فيستشعر المبتلى أنه وحده الذي يواجه الابتلاء في هذا الكون، ولا يشعر بنعم الله عليه فيزدريها، وفي الحديث: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله" {مسلم 2963}.
فيؤدي به هذا إلى عدم اتهام نفسه الظالمة الجاهلة التي هي منشأ كل شر يصيبه قال تعالى: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك {النساء:79}، ولقد ذكر الله تعالى عقوبات الأمم السابقة من آدم إلى آخر وقت، وفي كل ذلك يبين أنهم ظلموا أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون، وأول من اعترف بذلك أبواهم: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين {الأعراف:23}.
فالعارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة من الله عليه، ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا هو معنى حديث سيد الاستغفار، موضع الشاهد: أبوء لك بنعمتك علي (مشاهدة المنة) وأبوء بذنبي (مطالعة عيب النفس)، فمشاهدة المنة تورث الحب الكامل لله تعالى، ومطالعة عيب النفس تورث الذل التام لله، ومدار العبادة على هاتين القاعدتين: حب كامل، وذل تام.

الصحابة والابتلاء:

علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحو في الصباح الباكر فيبحث هو وفاطمة عن شيء من طعام فلا يجدانه، فيرتدي فروًا على جسمه من شدة البرد ويخرج، ويتلمَّس ويذهب في أطراف المدينة، ويتذكر يهوديًا عنده مزرعة، فيقتحم عليٌّ عليه باب المزرعة الضيق الصغير ويدخل، ويقول اليهودي: يا أعرابيُّ، تعال وأخرج كل غَرْبٍ بتمرة (والغرب هَو الدلو الكبير)، أي يخرجه من البئر معاونة للجمل، فيشتغل على رضي الله عنه معه برهة من الزمن حتى تَرِمَ يداه ويكلَّ جسمه، فيعطيه بعدد الغروب تمرات ويذهب بها ويمر برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعطيه منها، ويبقى هو وفاطمة يأكلان من هذا التمر القليل طيلة النهار.
عتبة بن غزوان رضي الله عنه، يستغرب وهو يخطب الناس الجمعة، كيف يكون في حالة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع سيد البشر يأكل معه ورق الشجر مجاهدًا في سبيل الله، في أرضى ساعات عمره وأحلى أيامه، ثم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أميرًا على إقليم؟ إن الحياة التي تقبل بعد وفاة الرسول حياة رخيصة حقًا.
وكذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يصيبه الذهول وهو يتولى إمرة الكوفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما لهذه الحياة وما لقصورها ودورها تقبل بعد إدبار الرسول صلى الله عليه وسلم "وللآخرة خيرٌ لك من الأولى".
فابتُلي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوعي الابتلاء (السراء والضراء)، فما غرتهم النعم وما أسخطتهم النقم، وما تنكبوا الصراط المستقيم حتى لقوا رب العالمين ، رضي الله عنهم أجمعين.

نموذج فريد:

"أبو قلابة صاحب ابن عباس" كان من أعلم الناس بالقضاء وأشدهم منه فرارًا، وأشدهم منه فرقًا، قال أيوب السختياني عنه: ما أدركت بهذا المصر أعلم بالقضاء من أبي قلابة، ابتلاه الله بالضراء، فصبر واحتسب وتجمل، يروي حكايته ابن حبان (في الثقات) بسنده عن الأوزاعي، عن عبد الله بن محمد، قال: خرجت إلى ساحل البحر مرابطًا وكان رباطنا يومئذ عريش مصر. قال: فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا بِبُطَيْحة، وفي البُطيْحة خيمة، فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه وثقل سمعه وبصره، وماله من جارحة تنفعه إلا لسانه، وهو يقول: "اللم أوزعني أن أحمدك حمدًا، أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا".
قال الأوزاعي: قال عبد الله: قلت: والله لآتينَّ هذا الرجل، ولأسألنَّه أنَّى له هذا الكلام، فهمٌ أم علمٌ أم إلهامٌ أُلهمه؟ فأتيتُ الرجل فسلمت عليه، فقلت: سمعتك وأنت تقول: "اللهم..... تفضيلا" فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها، وأي فضيلة تفضل بها عليك تشكره عليها؟
قال: وما ترى ما صنع ربي؟ والله لو أرسل السماء على نارًا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فأغرقتني، وأمر الأرض فبلعتني، ما ازددت لربي إلا شكرًا، لما أنعم علي من لساني هذا، ولكن يا عبد الله إذ أتيتني، لي إليك حاجة، قد تراني على أي حالة أنا، أنا لست أقدر لنفسي على ضُرٍّ ولا نفع، ولقد كان معي بنيٌّ لي يتعاهدني في وقت صلاتي، فيوضيني، وإذا جعت أطعمني، وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فتحسَّسه لي رحمك الله.
فقلت: واللهِ ما مشى خَلْقٌ في حاجة خلقٍ، كان أعظم عند الله أجرًا ممن يمشي في حاجةِ مثلك. فمضيت في طلب الغلام، فما مضيتُ غير بعيد، حتى صرت بين كثبان من الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه، فاسترجعت وقلت: أنى لي وجه رقيق آتي به الرجل؟ فبينما أنا مقبل نحوه، إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أتيته سلمت عليه، فرد علي السلام، فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى. قال: ما فعلت في حاجتي؟ فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟ قال: بل أيوب النبي. قلت: هل علمت ما صنع به ربه؟ أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى. قلت: فكيف وجده؟ قال: وجده صابرًا شاكرًا حامدًا. قلت: لم يرضَ منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه؟ قال: نعم. قلت: فكيف وجده ربُّه؟ قال: وجده صابرًا شاكرًا حامدًا. قلت: فلم يرض منه بذلك حتى صيَّره عَرَضًا لمار الطريق، هل علمتَ؟ قال: نعم. قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: صابرًا شاكرًا حامدًا، أوجز رحمك الله. قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كُثبان الرمل، وقد افترسه سبع فأكل لحمه، فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر. فقال المبتلى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقًا يعصيه، فيعذبه بالنار. ثم استرجع، وشهق شهقة فمات، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عظمت مصيبتي، رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع، وإن قعدتُ، لم أقدر على خير ولا نفع. فسجَّيته بشملةٍ كانت عليَّ، وقعدت عند رأسه باكيًا، فبينما أنا قاعد إذ تهجم علي أربعة رجال، فقالوا: يا عبد الله، ما حالك؟ وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته، فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه، فعسى أن نعرفه. فكشفت عن وجهة، فانكبَّ القوم عليه، يقبلون عينيه مرة، ويديه أخرى، ويقول: بأبي عينٌ طالما غُضّت عن محارم الله، وبأبي جسم طالما كان ساجدًا والناس نيام. فقلتُ: من هذا يرحمكم الله؟ فقالوا: هذا أبو قلابة الجرمي، صاحب ابن عباس، لقد كان شديد الحب لله وللنبي صلى الله عليه وسلم .
فغسَّلناه وكفنَّاه بأثواب كانت معنا، وصلينا عليه ودفنَّاه. فانصرف القوم وانصرفتُ إلى رباط، فلما أن جَنَّ عليَّ الليل، وضعت رأسي، فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة، وعليه حُلَّتانِ من حُلَلِ الجنة، وهو يتلو الوحي: "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"، فقلتُ: ألست بصاحبي؟ قال: بلى. قلت: أنى لك هذا؟ قال: "إن للهِ درجاتٍ لا تُنَال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، مع خشية الله عز وجل في السرِّ والعلانية".

فقه الابتلاء

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ" {صحيح الجامع}.
إلا أن الإنسان يحذر من جلب المحن أو الحرص عليها، فلا يتمنى البلاء بحال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا..." {البخاري}.
فلا ينبغي للمرء أن يذل نفسه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم .
"لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرَّض من البلاء لما لا يطيق" {السلسلة الصحيحة}.
لكن إذا وقع البلاء فنحن مأمورون بالصبر اقتداءً بالأنبياء، قال تعالى:
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم {الأحقاف:35}.
قال عمر رضي الله عنه: بالصبر أدركنا حسن العيش.
ولأهل السنة عند المصائب ثلاثة فنون:
1 الصبر 2 الدعاء 3 انتظار الفرج
سقيناهمو كأسا سقونا بمثلها
ولكننا كنا على الموت أصبرا
وفي الحديث: "من يتصبر يصبره الله..." {مسند أحمد}.
بل قد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأينا مبتلى أن نقول:
الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلقه تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء {الترمذي}.
وأخيرًا: فلنعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت ابتلاء العباد في الدنيا، فإخفاء موعد الموت وساعته: ابتلاء، ليكون الإنسان دائم الحذر، فربما يستدعيه خالقه في أي لحظة لسؤاله عن الأمانة.
وعدم علم الغيب: ابتلاء، وعدم رؤية الجن: ابتلاء، وعدم رؤية الملائكة: ابتلاء، والله لا يُرى إلا في الآخرة تحقيقا للابتلاء.
فلو رأينا الجنة والنار، فلم إذن الرسل؟ ولم الشرائع، ولم الابتلاء، ولماذا إذن يكون المؤمنون بالغيب هم المفلحين.
والله أعلم.
RWIDA غير متصل   الرد مع إقتباس