عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 12-12-2007, 12:44 AM   #11
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(7)

كانت نظراته كدوامة في نهر عميق تلف بسرعة وتعود الى مركزها لتغوص فيه، كان يتساءل هل تحزن الأرض كما أحزن، أم أنها جماد لا يبالي بما يصيبه، كان يهمس بأذن الأرض كشهيد أو مشروع شهيد، فليس كل الشهداء يُتفق على أنهم كذلك، فمنهم من يُخطِئه الآخرون ومنهم من يُكفِره ومنهم من لا يُخلد ذكره،
وإن أرادوا أن يخلدوا ذكره، كانوا ينصبون له صرحا لمجهول ..

كان محكوما عليه بالإعدام ـ مع وقف التنفيذ ـ ولكنه لم يتذكر شيئا يطلبه كآخر طلب عندما خيروه .. فكل ما يحبه زال. عاود محاولته للتمعن في الأرض عسى أن يسمع لها اعترافا قبل أن تضمه الى عمقها ..

إنها تحزن، هكذا بدا له أنها قالت، كيف لا تحزن وقد أزيل وجهها أو شوه أو تم تزيينه على رأي البعض؟ وهل إذا تغيرت وجوهنا سنبقى نحتفظ بهويتنا؟ فأجسامنا لها وجوه وعشائرنا لها وجوه وأقطارنا لها وجوه، وهناك وجوه مشرقة تأخذ إشراقها من سعة دائرة إشعاعها، وهناك وجوه لا يذكرها أحد لو غابت العمر كله .. ووجه كريم كوجه حاتم الطائي خُلِد حتى لو مات، ولن يستطيع أحد أن يتذكر ابنا لحاتم، حتى لو حاول تقليد والده ..

ووجه الأرض كريم، وكرمه آت من حسن علاقته بالسماء والشمس، ومن علاقته بهما، يبذل عطاءه، فإن كشط شبر من وجه الأرض، لا ينمو فيها عود أخضر، وإن نما فسيكون رفيعا وخبيثا وبلا طعم وبلا ثمر ..

فالأرض تحزن، لكنها لا تتخلى عن أبناءها وستعترف بهم، حتى لو كانوا ثمارا لاغتصابها، لكنها لا تتشرف بهم، فهم أولاد حرام .. ليست وجوههم كوجهها زال الطين من الوجوه وأضيفت مسحات قيرية و بلاستيكية ومعدنية، لكن كل ذلك من بطنها، وهو خلط لم تشأه ..

عاوده الصمت، لكنه لم ينبس ببنت شفة. نادته الأرض، وقد استجاب لها، فسمعت أصوات الناس: مات مخلف .. الله يرحمه .. ارتاح .. كان يحمل السلم بالعرض .. احملوه .. أغسلوه .. كفنوه .. أدفنوه ..

اعترض واحد على الحفر، لا تحفروا هنا فالبلدية لا توافق على الدفن في هذه الأرض، ستنشئ حديقة للأطفال .. تعالى اللغط .. بل ادفنوه هنا، قريبا من فلان وفلانة .. كفوا عن الهراء وهل سيقومون للتسامر في المقابر .. حملوه لأرض كانت مسجلة باسمه فحفروا له قبرا وضيقوا سعة اللحد وأدخلوه فيه ووضعوا على اللحد حجارة مسطحة، وأبَنَه شيخٌ يقل عمره قليلا عن عمر مخلف، ودعا الله أن يغفر له، وكان في دعاءه وصلة استوقفت الحفيد حيث قال الشيخ اللهم جافي الأرض عن جنبيه! ألم يكن هؤلاء الدافنون هم من جعلوها ضيقة، أم أنه طقس يتناسب مع استغفار المذنب الذي يطلب الغفران من ربه لذنب اقترفه لتوه! صارت مقبرة جديدة اسمها (مقبرة مخلف) .

ضمته الأرض بقوة بين (جنبيها) وكأن صدق الضم لا يكون إلا بقوته، وهكذا يفعل العشاق أو حراس المرمى عندما يتلقفون كرة القدم!

أمطرت السماء بغزارة، فسالت مياه الأمطار حتى وصلت أطراف قبر (مخلف) كانت تحمل معها بعض الأواني العتيقة المثقبة، وطيور دجاج ميتة رماها أصحاب مزرعة دجاج في أعلى (التلة ) التي تعلو مقبرة مخلف ..

جاء الحيوان الأسطوري، الذي كان أهل العتيقة يتكلمون عنه في بعض المواسم التي ينتشر بها داء الكلب، ويقتل بعض المواطنين، كانوا يسمونه (سلعوة) ويلصقون به أوصافا غريبة، أنه يستطيع أن يحفر بالأرض ويأكل الموتى المدفونين حديثا، وأنه يستطيع أن (يمط) جسمه الضئيل ليصبح أطول من رجل عادي .. وكانوا ينسبون عنه أنه يقفز ثلاثة أمتار، فيمسك برقبة من يسير ليلا، فيمتص دمه، ويسبب له مرض (السعار) .. لم يره أحد، لكن لم يمتنع أحد عن التصديق بوجوده ..

حاولت السلعوة أن تحدث ثقبا في القبر لتنال من مخلف، لكن الأرض والريح صفعتها على مؤخرتها بصفيحة معدنية قديمة، فولت هاربة، واكتفت بأخذ دجاجة ميتة في طريقها، ولم تعاود المحاولة..

واظب خالد على زيارة قبر جده.. وكان لا يتكلم معه بل يصغي لترجمة الأرض لما يقول الجد في قبره .. كان خالد حزينا، لكن قويا وذا شكيمة عالية، كان يدرك أن أمامه الكثير حتى يلحم ما انقطع بما هو آت، وكان يعلم أن ربط الأشياء بغيرها يحتاج شروطا ذات طبيعة تقنية خاصة، فربط ما هو أوسع بما هو أضيق يحتاج ل (نقاصة) كما في الأنابيب، ووصل طرفي النهر يحتاج لجسر لا يجيد بناؤه إلا من يفهم طبيعة قاع النهر وكيفية التحايل على تنفيذ البناء.. وربط أنبوب لنقل الدم يحتاج فحوصات مسبقة كنوع الدم وزمرته ومدى تقبل الجسم للدم الجديد ..

كان قبر جد خالد، يشكل له نقطة انطلاق، ولكنه خشي أن يكون معقلا ومربطا لانطلاقه في بعض الأحيان .. فكان يترحم عليه، ويهاجم من يمس طرفه بسوء أثناء حديث الناس عنه، لكن ذلك لم يمنعه أن يحاول إيصال رسالته بتسارع متزايد الى غير أبناء جيل جده ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس