وفي غمرة الأفكار المتلاحقة أيقنتُ أن لا منجى إلا بالاتكال على الله عز وجل وترك الأوهام، والخروج من هول الصدمة إلى العمل الجادّ، والسعي الحثيث في بذل الأسباب للوصول إلى الشاطئ البعيد في أسرع وقت ممكن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والتبليغ للبحث عن الشيخ إن كتب الله له السلامة.. معتمداً على الله ثم على مهاراتي في السباحة الطويلة، وأدركت أن من حكمة الله تعالى أن أبتعد عن الشيخ لأباشر العمل في هذا الاتجاه..
ابتدأت بتحديد أقرب المسارات إلى الشاطئ ، فالبحر الداجي يمتد خلفي في مداه السحيق.. وهناك الشاطئ المضيء تلوح لي فيه من بعيد سراب من عقود متلألئة لأنوار الطريق الساحلي لشاطئ نصف القمر، وأرى أمامي مَعلماً ممتدا في رأسه إنارة لم أستطع تحديد معالمه.. نصبت وجهي لذلك المعلم الممتد ..
وابتدأت على بركة الله في السباحة الطويلة الشاقة.. لقد أرهق الطفل من ذلك الوضع المتعب.. وبدأ يعاني من القلق والخوف والوحشة .. فتارةً يغفو وتارةً يصحو فزعاً.. وتارةً يثير التساؤلات البريئة.. وكثيراً ما يبكي ويسأل عن أبيه.. وأنا أواصل السباحة الجادّة.. وأدعو الله عز وجلّ أن يمنّ علينا بالسلامة.. وأكرر دعاء يونس عليه السلام ودموعي تختلط بقطرات البحر الثائرة حولي: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين..
وفجأة يصرخ أنس ويصيح.. أسأله ما بك؟!
قال: سقطت حذائي.. أريدُ حذائي.. فقلت يا أنس نحن في مأساة وأدعو الله أن ينجينا مما نحن فيه من كرب، فقال: أريدُ حذائي!! قلت له: أما حذاؤك فقد سقط في البحر ولن نعثر عليه.. وسنشتري لك أفضل منه. فاستمر في البكاء.. فما كان منّي إلا أن خلعت الحذاء الآخر ورميته في البحر.. فسكت الطفل ولم أكلف نفسي معرفة ما إذا كان ذلك اقتناعاً أم خوفا !..
وأدركت أن وقت صلاة العشاء قد حان منذ فترة وكان لزاماً علي أن أصلي وكيف لي أن أتأخر عن أداء الصلاة التي لم يُسمح للمسلم أن يتركها حتى في أحلك الظروف.. بل ما أحوجني للصلة مع الله في هذه الحالة التي أشهد فيها مظاهر ضعفي إلى قوة الله.. وقلة حيلتي إلى حوله وطوله.. وضيق حالي إلى سعة فضله ومنّه.. وعجزي إلى قدرته.. وخوفي إلى أمنه.. وشتات أمري إلى حفظه ورعايته..
إن للحظات الضعف وحالات البلاء أحيانا جميل الفضل وعظيم الأثر في إيقاظ قلوبنا الغافلة وتزكية نفوسنا من غبار المعصية وران الغفلة.. تماماً مثلما تزكي النار الذهب من العوالق الرديئة.. إنها لحظات نفيسة تتبدّى فيها الدنيا على حقيقتها الزائفة وقد سقطت أقنعتها وخرجت من مساحيقها المضلّلة.. إنها لحظات نفيسة تبيّن لك كم كنت معرضاً عن الله.. وكم كنت مفرطاً في جنب الله.. وكم كنت تعمل للدنيا كأنك تخلد فيها.. وكم كنت تلهو عن الآخرة كأنك لن تبلغها..
نويت الوضوء –كما علمني الشيخ- ومسحت ما أستطيع أن أمسح من مواضع الوضوء، ورفعت الأذان وأن أتذكر أني وإن كنت لوحدي نقطة ضائعة في هذا المدى المظلم فإن الله يسمعني.. والحيتان تسبّح من حولي.. وأجر المؤذن يبلغ ما بلغ أذانُه.. ثم أقمت الصلاة وصليت صلاة العشاء في وقت متأخر ولكني أظن أنها أخشع صلاة صليتها في حياتي.. إنها صلاة الخائف الذليل.. صلاة الضعيف الذي ينوء بأمانة عظيمة.. صلاة المضطر المكروب.. صلاة الغريب المستوحش.. صلاة المودّع الذي يوشك أن يغيب عن هذه الدنيا الفانية الرخيصة.. دنيا اللهو والغرور واللعب..
وأستأنف سباحتي الشاقة والطفل ينام على كتفي الأيمن تارة وعلى الأيسر تارة أخرى.. ويدور أمامي شريط حياتي.. وأتذكر كم من ذنوب خلت.. وغفلات ألهت.. وإعراض صدّ.. لقد أدركت في ذلك الموقف الخطأ الفادح في موازين اهتماماتنا، وفي جهل نظرتنا لواجبات الدنيا وأعمال الآخرة.. لقد تحقق لي حينها بأننا مشدودون لهذه الدنيا، مرتهنون بجاذبيتها ومحسوساتها، بها نفكر.. وفيها نوالي ونعادي.. ولها نبني ونخطط.. مشدوهين عن الآخرة بحقائقها العظيمة ومنازلها الخالدة الأبديّة.. كم هي هذه الدنيا في الآخرة وزناً وزمناً ومنازلاً ؟!! ما مقدار مكثنا في كلٍ منهما؟!! هل تفكرنا في ميزان الله البيّن: ( وللآخرة خيرٌ لك من الأولى ) ؟!!!
وتطوف بي أهم ذكرياتي ومراحل حياتي وحفظ الله لي.. وكان من بين ما برز أمام فكري قصة تعلّقي وأنا صغير على أحد الأسياخ الحديديّة لسور السطح المُشرف على الشارع من ارتفاع شاهق.. وقد بقيت معلّقا بطرف ثوبي موشكاً على السقوط الحُرّ المميت لفترة من الزمن لولا أن وفقني الله بعد معاناة للتخلص دون مساعدة أحد.. إنها أسهم القضاء التي يقدرها الله فتخطيء الشخص بأمر الله حتى يأتيه السهم المسوّم من عند ربّك.. ( فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستئخرون)..
عدت للأذكار والدعاء.. وانصهر قلبي بين يدي الله في هذا الموقف الحالك الذي ذكره القرآن مثالاً على الاضطرار وصدق اللجوء لله حتى من الكفار المشركين أولي القلوب المتحجّرة.. حينما تذيبها نار الكرب فتلين لله وتعترف بربوبيته فترجو فرجه.. لقد دعوت الله بكل قلبي دعاء المضطر إلى رحمته الراجي لاستجابته ( أمّن يجيب المضطر إذا دعاه )
بذلت أقصى الجهد في سباحتي باتجاه المعلم الذي كنت أراه من بعيد، ثم اكتشفت بعد ساعتين من الجهد والتعب أنني لم أحقق أي تقدم فالمسافة بيني وبين ذلك المعلم تبدو لي ثابتة كأنها لا تتغير.. وشعرت بأن الموج المعاكس – رغم ضعفه- قد كان يؤخر تقدمي نحو المعلم ..
أحسست بالهمّ وضيق الحيلة.. فبدأت أناجي ربي بصوت مرتفع .. بدأت أراجع نفسي متسائلا: هل ربي راضٍ عني أم غاضب ؟؟!!
وعدت للسباحة الجادة بعد أن تجدّد عزمي، وكنت أنظر إلى السماء فأرى النجوم على غير ما رأيتها من قبل فكأنها تشجعني بوميضها، وتسليني بثباتها.. فسبحان من سخرها.. وأنظر يميناً وشمالاً لعلي أرى أحداً، أتساءل هل سيتحرك خفر حرس الحدود للبحث عنا ؟؟ وأجيب على نفسي بأن ذلك مستحيلا لأني لم أترك اسمي لديهم ولم أركب البحر من بوابتهم!! ولقد يخيل إلي أحيانا – في غمرة الأفكار- رؤية بعض القوارب تمر أمام عيني، ثم ما تلبث في ثوان معدود أن تضمحل كالسراب العابر والطيف الوامض.. لأبقى في واقع يفيض بالخطر !!
قررت التركيز على السباحة الجادّة والذكر والدعاء.. وكان يقيني بالله يزداد في النجاة لأني أدركتُ أنّي بدأت أحرز تقدماً نحو هدفي.. وشعرت بالحماس.. وبدأت أشمُّ رائحة النجاة.. وذرات جسمي تتلهف في أعظم درجات الشوق لملامسة تراب الأرض.. والاستلقاء على أديمها في أمن وسلامة.. تماماً مثلما يرتمي الابن على صدر أمّه الرؤوم.. يستنشق عبيرها.. ويتدثر بحضنها.. ويتدفأ بحنانها..
ولا تجزع إذا أعسـرت يومـاً *** فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تظنن بربـك ظـن سـوءٍ *** فإن الله أولى بـالـجـمـيل
وإن العسر يتـبـعـه يسـارٌ *** وقول الله أصدق كـل قـيل
فلو أن العقول تسـوق رزقـاً *** لكان المال عند ذوي العقـول
يتبع
__________________
ان لم تكن معي والزمان شرم برم...لاخير فيك والزمان ترللي
|