عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-04-2008, 10:27 AM   #5
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

الدين الجديد


أطبق الظلام على شوارع مكة وخلت الطرقات من كل صوت إلا وقع أقدام هادئة ، بدا على وجه صاحبها الشرود والتأمل والتفكير العميق . كان هذا الرجل ينتمى إلى قبيلة هاشم الشريفة وكان جميل المحيا ، مربوع القامة ، ذا منكبين عريضين ، وكان شعره يتدلى بضفائر حتى أسفل أذنيه ، وكانت عيناه السوداوان الواسعتان ذات الأهداب الطويلة تبدوان حزينتين من عناء التأمل والتفكير .

كان هنالك الكثير من أساليب الحياة عند العرب التى سببت لهذا الرجل الألم . وحيثما نظر حوله كان يجد امارات الفساد ، فى الظلم الذى يرزح تحته الفقراء والبائسون ، وفى إراقة الدماء التى لا مبرر لها ، وفى معاملة النساء اللواتى يعتبرن كالبهائم ، وكان يشعر بألم عميق كلما سمع بوأد الأطفال الإناث وكانت بعض القبائل قد تناقلت هذه العادة السيئة ،
وكان هنالك أصنام الكعبة . كان يوجد داخل الكعبة وحولها 360 صنما وكانت الأصنام التى تعبد أكثر من غيرها : اللات والعزى وهُبل . وكان هُبل فخر الآلهة عند العرب وهو أكبرها وكان منحوتا من العقيق والطريف أنه عندما استورد أهل مكة هذا الصنم من سورية كان ينقصه اليد اليمنى وكأنهم تحرجوا أن يعبدوا إلههم وهو على هذه الحالة لذلك فقد صنعوا له يدا جديدة من الذهب ولصقوها فى ذراعه . كانت ديانة العرب مزيج غريب من الشرك والإيمان بالله بل كانوا يعبدوها كما زعموا لتقربهم إلى خالق الكون والإله الحقيقى . وكانت هناك عادات الثأر والنزاعات الدموية .

كان هذا العربى الذى ذكرناه آنفا فى طريقه إلى كهف ليس بعيدا عن مكة يعتكف فيه شهرا واحدا كل سنة . يتأمل ويفكر وينتظر وهو لا يعرف ماذا كان ينتظر .

إنها رسالة السماء ووحى النبوة .

ظل النبى يدعوا سرا ثلاث سنوات حتى جمع عشيرته يوما ما ودعاهم إلى الدين الجديد فاستهزأ به الحضور وسبه عمه أبو لهب فى حين نهض شاب دون العشرين وكان نحيلا ضامر الجسم هزيل الساقين ليعلن نصره وتأييده للدعوة الجديدة والدين الجديد ، كان هذا الشاب أحد أروع الشخصيات فى جيل فريد .. إنه ابن عم النبى على بن أبى طالب وسينبأنا التاريخ عنه فيما بعد .

بدأت الدعوة فى الإنتشار تدريجيا وبدأت المعارضة تزداد حدة وقسوة وقد تزعم هذه المعارضة بشكل رئيسى أربعة رجال :
" أبو سفيان (صخر بن حرب زعيم بنى أمية) والوليد بن المغيرة (والد خالد) وأبو لهب(عم النبى) وأبو الحكم (أبو جهل) وسنسمع الكثير عن الأول والرابع .

كان أبو سفيان والوليد عزيزى النفس وموضع الإحترام . وعندما قادوا المعارضة ضد النبى لم يسيئا التصرف ولم يستخدما الشتم والذم . كان رد فعل الوليد هى الكرامة المجروحة حيث رأى نفسه أحق بالرسالة لكونه زعيم قريش وسيدها وأعرف أهلها نسبا والحق أن عائلة النبى أعرق منه نسبا فعائلة محمد تتصل بأجيال عائلته الست وهاشم هى أشرف قبائل قريش وكان عبدالمطلب جد النبى هو زعيم قريش .

أما أبو الحكم فكان أكثر هؤلاء الزعماء حقدا وتعطشا للدماء وهو ابن عم خالد وصديقه . وبسبب معارضته الشديدة للإسلام فقد لقبه المسلمون بأبى جهل ولازمه هذا الإسم حتى آخر أيامه . كان أبو جهل رجلا صغير الجسم قوى البنية خشنا وقد وصفه أحد معاصريه (كان ذا وجه كالحديد ونظرة كالحديد ولسان كالحديد) دفعته الغيرة والحقد إلى إنكار الدعوة والتى بدأت منذ فجر الطفولة فلا ينسى فى صباه أن محمدا قد رماه أرضا عندما تصارع معه فى مباراة عنيفة وسببت له جرحا فى ركبته بقيت آثاره حتى مماته .

كانت كل الوسائل محط إهتمام هؤلاء فى سبيل قتل الدعوة ووأدها قبل أن يستفحل خطرها وكان التعذيب أول هذه البدائل ويوما بعد يوم أدرك هؤلاء أن التعذيب لا يجدى نفعا أمام إصرار المسلمين وتمسكهم بعقيدتهم ، أطلقوا ضد النبى سفهاء ومتشردى مكة وألقوا فى طريقه الأشواك ، والأقذار أمام منزله وشارك فى هذه الأفعال أبو جهل وأبو لهب .

حول المشركون شتى الطرق لإهانة النبى وتعذيب أصحابه . كان للنبى عم لم يؤمن اسمه راكان بن عبد يزيد وكان بطلا فى المصارعة يفتخر بقوته ومهارته ولم يستطع أحد من أهالى مكة إلقاءه على الأرض قط وفى محاولة منه إهانة النبى طلب تحديه فى مباراة مصارعة وقال له :" يا ابن أخى أعتقد أنك رجل وأنك كذاب فتعال فصارعنى فإذا ألقيتنى أرضا اعترفت بك نبيا حقيقيا " ، لقد قبل النبى التحدى وفى مبارة المصارعة هذه ألقى النبى الرجل على الأرض ثلاث مرات ولكن هذا الوغد حنث فى وعده .

كان من أشهر الذين عذبوا بلال الحبشى ، وبلال هذا يعرفه 7 أطفال مسلمين من اصل كل عشرة حول العالم . كان سيده أمية بن خلف يمدده على الرمال المحرقة وقت الظهيرة وأثناء الحر الشديد ويضع صخرة كبيرة على صدره لكن إيمان بلال كان قويا ونقل عنه التاريخ كلمات ناصعة . لم يدر بخلد أمية وهو يعذب بلال بأنه هو وابنه سوف يقابلان بلال الذى كان يوما ما عبده فى غزوة بدر وأن بلال سيكون منفذ حكم الإعدام به وبابنه .

كان النبى نفسه فى مأمن من الأذى الجسدى وذلك بسبب حماية عشيرته له ولأنه يستطيع أن ينزل الأذى بخصمه أثناء المبارزات لكن معظم المسلمين كانوا فى موقف ضعيف وأغلبهم من الرقيق . كانت توجد فتاة ضربها عمر عندما أسلمت وظل يضربها حتى كلّ ساعده ولم يستطع الإستمرار فى الضرب ومن المعروف أن عمر كان رجلا شديد البأس .

بالرغم من كل هذا الأذى والإضطهاد بقى النبى لطيفا رحيما بأعدائه وكان دائم الدعاء لعمر وأبى الحكم حتى استجاب الله دعاءه وأعز دينه بعمربن الخطاب وكان المسلم رقم 40 أما أبو جهل فقد مات على كفره .

كان أبو طالب عم النبى أحد هذه العقبات فجاءته الوفود بشتى العروض كما سنرى ، إنما ظل أبو طالب على إصراره بنصرة النبى والدين الجديد ، وللحق فإن موقفه هذا من أعجب المواقف لكنه وإن دل على شىء فإنه يعبر ولا شك عن شريحة عريضة من الزعماء كالوليد وأبى سفيان وهى كراهيتهم للتغيير ، ظهر الإسلام وهم فى أواخر العمر وبعضهم قارب الثمانين ورغم إعراضه عن الدخول فى دين ابن أخيه فقد تحمل عمه كل شىء ليدفع عنه الأذى وذات يوم وبعد أن أنصرف وفد قريش خائبا جدد النبى دعوته لعمه وفى عيونه ينطق الأسى والحب لتعلقه بعمه وحبه له ، فأطرق عمه هنيهة ثم قال :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أُوسد فى التراب دفينا
ولقد علمت بأن دين محمدٍ ** من خير أديان البرية دينا

لقد بقى النبى فى مكة يتحمل ما لا يُطاق . ثم قابل رجالا من يثرب كانوا قد اعتنقوا الإسلام فدعوه إلى مدينتهم وعرضوا عليه أنفسهم وأموالهم فى سبيل دعوة الله . وفى هذه الأثناء وفى إحدى أمسيات دار الندوة الحامية النقاش برز أبو جهل بفكرة شيطانية وقيل أن إبليس برز فى زى أعرابى ليعرض فكرته بنفسه . وفى كلا الحالتين فالفكرة شيطانية وتحل مشكلة بنى هاشم العويصة وهى أن يضعوها فى أمر واقع ومواجهة مع كل القبائل فيضيع دم النبى بين كل القبائل وترضى هاشم بالدية .
إلا أن جبريل كان قد أطلع محمدا مسبقا على كامل الخطة ليقرر النبى مغادرة مكة بصحبة أبى بكر الصديق حتى وصل يثرب ، وبدأ إسم هذه المدينة فى الظهور تدريجيا وأصبحت المدينة المنورة ، مدينة رسول الله ، عاصمة الدولة الإسلامية الناشئة ومركز الدين الجديد .



__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس