خلاصة القول
إذا كانت الحاجة أم الاختراع، فإن الاختراع يكون لحل مشكلة ما أو ليؤدي غرضا ما، فذراع المطرقة الطويل يؤدي لزيادة العزم حيث أن العزم هو نتيجة ضرب الذراع بالقوة. كذلك كان تطور السيارات خلال قرن من الزمان، هو سلسلة من الحلول التي تريح مستخدم السيارة وتوفر عليه الوقت والوقود وتعطي للسيارة شكلا جذابا يدلل على نعيم وعلو شأن من يستخدمها.
والقوانين اختراع، وأشكال العقود بين المتعاقدين، فإنه يجري عليها تعديل بين فترة وأخرى ليعالج حالة من الارتباك والنقص في أداء ذلك القانون. إن فحص حالة النقص في التشريعات والقوانين، يشبه حالات الفحص عند المرضى، فلا تجرى فحوصات لكل المرضى بنفس المساقات، بل تعتمد الفحوصات المطلوبة على حالة التشخيص الأولي للمريض.
تساؤلات مهمة
هل لو أحضرنا الدستور الفرنسي وجرى عليه استفتاء بنعم في بلد عربي كمصر أو سوريا، سنصنع ديمقراطية كالديمقراطية الموجودة في فرنسا؟ وهل لو أحضرنا دستور سويسرا أو دستور جنوب إفريقيا (ديمقراطيات توافقية) هل سنصل الى حالة تشبه الموجودة في تلك الدول؟
إن الثقافة والعمل الأدبي الذي رافق نضال وصراع القوى في تلك الدول، يختلف في مساره عن الحالات الموجودة في بلادنا العربية. ففي الوقت الذي نمت الحاجة الى الديمقراطية و تم تناقل السلطة في تلك الدول بشكل محاذي ومرافق للأداء الثقافي والاقتصادي، فإنه في بلادنا لحد الآن لم نتفق على ضرورة الديمقراطية ولم نحسم الشكل الذي نريده من تلك الديمقراطية، علما بأنه لا يكاد يُعقد مؤتمر أو ندوة أو تكتب مقالة إلا ونجد لفظ الديمقراطية ماثلا في فضاءها بكثرة.
روح الفتوة والبلطجة لا تتفق مع الديمقراطية
لنفرض، أنه يوجد شخص ضئيل في سوق عامر، يملك متجرا للجواهر، يدر عليه ربحا يحس به الجميع. إن هذا الشخص الضئيل سيخترع طريقة لحماية رزقه الذي هو تحت أعين الحاسدين والطامعين، ويستخدم مجموعة من الفتوة لحمايته، ويدفع لهؤلاء ويضطر لسماع نصائحهم في إعطاء بعض (الخاوات) أو (الإتاوات) لمراكز قوى مثيرة للقلق. هذا هو حال معظم الحكومات والأنظمة العربية التي تعتمد على الجيوش وأجهزة الأمن لقمع وإسكات أصوات المتذمرين من مواطنيها، بعد أن تخترع تلك الأنظمة أشكالا من انتخابات صورية لا تقتنع بها لا هي ولا مواطنيها. فيسهم المواطنون غير المقتنعين بتلك الأنظمة بالعمل على انحراف مطالباتهم بحقوقهم الكاملة كمواطنين شركاء في الوطن، ويتجهون لبيع أصواتهم أو دعم أبناء عمومتهم ومناطقهم غير المؤهلين للقيام بدور المشرعين والمراقبين لسير أجهزة الحكم، فيطول عمر تلك الأنظمة وتخترع أولا بأول طرقا لإدامة حكمها.
الاقتصاديون والديمقراطية التوافقية
عادة يكون أصحاب المال على صلة مباشرة أو غير مباشرة بأنظمة الحكم، حيث تتأثر تجارتهم و نقل أموالهم وأعمال التصدير والترخيص والضرائب وغيرها بما تصدر الحكومات من قوانين. ولن يلتزم أصحاب المال بأي عقيدة مهما كان شكلها، فهم الذين تحالفوا مع نابليون الثالث وأعدموا لويس السادس عشر وهم الذين تحالفوا مع لويس الثامن عشر ضد نظام الجمهورية.
وهم الذين نمت قوتهم بالخفاء في رحم الأجواء السوفييتية وهم من استثمر الأموال بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وشكلوا مافيات تحمي أموالهم. وفي بلادنا من يبحث عنهم يجدهم في كل زمان يركبون موج الحكم من عهد الأمويين الى العهود الراهنة. وما يهمهم هو ألا تُمس مصالحهم.
وهم يفهمون أصول لعبة الحكم، وقد لا يزاحمون غيرهم على صفوف الصدارة، فليكن من يحكمهم أيا كان، فالمهم أن تبقى حقوقهم محفوظة، وإلا سيستخدمون ما لديهم من قوى مستترة، أحيانا يلبسونها ثوب العشائرية وأحيانا يلبسونها ثوب الطائفية، وأحيانا يلبسونها ثوب الوطنية، والنتيجة واحدة.
إن رجال المال في لبنان يعلمون مثلا، أن أموالهم ترتبط بعلاقة حتمية مع جيرانهم السوريين، حيث يشكل لبنان ما يشبه (الكِلْية) في خاصرة سوريا، فلا ممر لهم إلا من الحدود السورية برا الى دول المنطقة، لذا كان من يتخذ موقفا من سوريا لا يتوقف عند الإصلاحات في لبنان، بل يشترط تغيير النظام بسوريا، إنهم يفهمون اللعبة جيدا.
كذلك هم زعماء القبائل في الجنوب السوداني وشمال العراق، يغطون خطابهم بالحقوق القومية والمطالبة بالانفصال وهم يعلمون أن ذلك على الصعيد الاقتصادي والسياسي ليس بصالح من يدعون تمثيله، فأي كيان كردي سيستطيع العيش داخل وسط جغرافي لا يقبل به، فكيف سيتحرك على الصعيد الإقليمي، وهذا الأمر يتكرر في الحالة السودانية. ولكن بظهور النفط في تلك المناطق، أخذ النفط يتدخل في رسم حدود الإقليم لكي يتحسن الوضع التفاوضي لزعماء تلك الأقاليم والذين جعلوا من أنفسهم قديسين لا يناقشون فيما يفعلون، فيكون نصيبهم الشخصي أو الفئوي محددا ومعروفا وكبيرا، ورأينا ذلك في تلك المناطق أكثر من مرة، حيث نشبت خلافات بين مكونات هؤلاء المطالبين بالانفصال أو بوضع صيغة لديمقراطية توافقية.
خاتمة
إذا كانت اسم الديمقراطية التوافقية يُطلق على نوع محدد من الديمقراطيات، فإنه يمكن أن يقال عن أي ديمقراطية أنها توافقية، وتوافقيتها آتية من قوة متكونة (تكونت أو تتكون) بتحسين ظرف مكوناتها، فإذا كان الحزبان الأمريكيان الجمهوري والديمقراطي هما من يتناوبا الحكم في الولايات المتحدة، فهذا يعود لقوتهما، وعندما يبرز حزب ثالث فإن الخريطة ستتغير، كما تغيرت في الانتخابات المحلية في بريطانيا حيث حل حزب الأحرار محل حزب العمال في الترتيب. وكما أصبح حزب الله قوة مؤثرة في الساحة اللبنانية خلال ثلاثة عقود من الزمان، وكما برزت حماس في الساحة الفلسطينية بنفس الفترة وهكذا.
أما حكاية الثلث المعطل والإجماع الكامل واعتمادها كأساس محوري في عملية الديمقراطية التوافقية، فهي مسألة تعتبر مكمن مقتل تلك الديمقراطية الهشة.
فإذا شبهنا تطور الديمقراطية بقوانينها كتطور السيارة، فهناك من الزعماء من يغض النظر عن حركة السيارة بمحركها، فأحيانا يعتمد على الغوغاء لدفعها للأمام، وأحيانا يعتمد على قوة خارجية لسحبها!
انتهى
__________________
ابن حوران
|