عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-06-2008, 03:20 PM   #1
جاسم محمد صالح
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: العراق
المشاركات: 24
إرسال رسالة عبر بريد الياهو إلى جاسم محمد صالح
إفتراضي قصة قصيرة : الجبل الصامت

الجبل الصامت

جاسم محمد صالح
gassim2008@gmail.com


أصوات متدافعة تحيط به من كل مكان , بعثرت وعيه المتناثر مثل ورق شجر يابس في أيام الخريف , حاول ان يقول شيئاً ... لكنه لم يهتدِ الى مخارج الحروف , لكنه نسي موقع فمه في الجمجة .
حاول ان ينطق بعض الكلمات , لكن الكلمات تيبّست مثل صخر بركاني عند دهليز حنجرته , فثمة جفاف يقطّع أوتار صوته وييبسها حد النهاية .

عجيب جدا ً أمر ما يجري , فالعرق الساخن شرع يتصبب بغزارة من مسامات وجهه ,مثل مطر في ليلة استوائية دافئة :

-ترى ماذا سيقول الناس عنه ؟
عالم متخصص في علم الأصوات و فقه اللغة , اخرس لا يعرف أين يقع لسانه ؟ ولا يستطيع حتى ان يحرك أوتار حنجرته ... صدقوني القول انه حاول جاهداً ان يتلفظ بصوت مسموع ولو كلمة : (( دار … دوران … دار … نير … نير ..ان)) , لكنه لم يستطع …
-يا للعار …. ويا للمصيبة , ماذا سيقول عنه زملاؤه .

إنهم سيقرؤون عنه في صحف الصباح وبعناوين بارزة وباللون الأحمر: ((عالم كبير متخصص في علم اللغة واللسانيات يجهل القراءة ؟ )) وفي صحيفة أخرى : (( مفكر اخرس في أرقى المجالس العلمية ) .

يا للعار ويا للخيبة من كل الذي يجري … وهذا خبر آخر في صحيفة مسائية : (( أمي ينتحل صفة عالم متخصص)) ... ولم ينسَ المصورون ان يأخذوا له صورة ... ليس بحكم الضرورة ان تكون له , ولكنها تشبهه الى حد ما , هذا صحيح … يا لعار ويا للخيبة … ويا للمصيبة , انه حقا لا يستطيع ان يخرج كلمة واحدة من شفتيه حتى ولا حرفاً واحد … ولا تأوهه واحدة .
تفكيره في هذه المصيبة جعله يغرق في كثير من الأمور , كم تمنى ان يمسك شهاداته العلمية ويمزقها أمام الناس , ليريح ... ويستريح , مثلما فعل أبو حيان التو حيدي من قبل , حينما احرق كتبه ليقول لهم :

- انتم لا تستحقون قراءتها .وانتم غير جديرين بها .
أخذت الأرض تدور أمام عينيه وشبابيك الغرفة صارت أبوابا , وتحول الباب جداراً … والسقف ما عاد سقفاً … فقد تبخر مثل عطر باريسي فاخر , تناثرت ذراته في فضاء المكان .
رفع رأسه الى الأعلى , كانت المروحة السقفية قد اختفت مع السقف كله وما عادت ترى إطلاقا … تلفت يميناً .. وشمالا ً في غرفته المليئة بعشرات من مؤلفاته بالغة التخصص , لكن الجو الخانق أنساه كل شيء وجعله يفكر بنفسه فقط ولاشيء غير ذلك :

- يا للهول...اتصل بك الحالة الى هذا المسار؟.

وكانت الشمس اللاهبة تحرق رأسه وتضرب بحرارتها الشديدة حتى العظام المختفية … كبر رأسه... وكبر , حتى ما عادت أجواء الغرفة تتسع له … والعرق مازال يتصبب منه مثل مطر شتائي .
تذكر ان في جيبه منديلا , فليحاول ان يخرجه ويمسح به وجهه … لم يستطع ان يفعل ذلك, فقد تلاشت الأبعاد الثلاثة واختلت المقاييس … لقد كذب من قال ان الجماد لا يتحرك , فقد أحاطت جدران الغرفة وجهه من كل جانب حد الالتصاق , ورأسه هو الآخر كبر حتى ما عادت الغرفة تتسع له , كثر السائلون هذه المرة .

ـ نسيت ان تقول لي من أنت ؟ … وكيف دخلت إلى هذا المكان ؟… عمرك ومواليدك ؟… برجك الذي ولدت فيه ؟… هل تحب ان تأكل كثيراً ؟… وهل تعلم ان طعم الماء لذيذ ؟… وهل تضع كثيراً من السكر في قدح الشاي ؟.

ظل السائلون يتساءلون ...ويتساءلون و يلحّون في السؤال , ولا يملون من كثرة الأسئلة, حتى ان الصباح بدأ يرسل تباشيره من بين سعفات النخيل التي تحيط بالغرفة ,على الرغم من ان الشمس كانت ساطعة وسط السماء قبل ثوان معدودات … ليس إلا .

كثرت عليه الأسئلة من جديد , وبدا أناس كثيرون من كل حدب وصوب يتجمعون حوله , كل واحد يردد أسئلة … لا تفرق عن أسئلة غيره , الفرق الوحيد أنها كانت تُقال بلغات مختلفة .
صعد اللغط الى عنان السماء , كلهم يتساءلون ... واحدا تلو الآخر … كل واحد يحمل في يده قائمة طويلة وعريضة من الأسئلة , ولكن قبل ان يفعل شيئاً آخر فكر مع نفسه :

ـ كيف يجب على أسئلتهم … ؟ وليس أمامه غير شباك واحد , لكنه ملتصق بوجهه حد العظم.
احد الحاضرين كان ذكيا حدّ الذكاء … فقال لأصحابه وهم في هرج ومرج :
ـ أنا استطيع ان اكلمه …. دعوا لي ذلك , فقد عجزتم عن فعل أي شيء , أعطوني فرصة , ولو لمرة واحدة فقط … من فضلكم .

قال ذلك بصوت عال جدا , ولكن لا احد كان يستمع إليه , فقد كثر اللغط والصياح والصخب , كل واحد منهم كان يستمع إلى كلماته فقط … ليس إلا.
اخرج ذلك الرجل علبة من جيبه وضع فيها ( السُعوط ) ولما لم يتمكن من فتح الشباك كسر زجاجه بسرعة فخدش بها وجه الرجل المحاصر , ثم وضع في منخريه قليلاً من السعوط , وراح يعطس … ويعطس بشكل متوال .

تناثرت أجزاؤه في كل مكان , وما عاد وجه الرجل محاصراً ولا حاجة به الآن لذلك السقف الذي طار مثل لقلق مبتعدٍ عن الريح الشتائية الباردة .
سكت الناس فجأة ,فقد بهتوا … ماذا حصل ؟ … ماذا دهاه ؟… أخيرا قد خرج الرجل من قفصه الويل له لقد فعلها وخرج … لنحط به من كل جانب ونمسكه .

ثم نظروا الى السماء وتعجبوا من الأعماق واخذوا يتهامسون فيما بينهم ,و لأول مرة عرفوا لغة الصمت … تلك اللغة البوهيمية التي افتقدوها منذ أزمنة سحيقة .
هذا فصل الصيف وقد أخذت الغيوم تكثر في الجو و أنها توشك ان تمطر … يا للعجب !! انظروا هنالك ... الى ذلك الأفق البعيد , انه جبل , جبل من نار محاط بالبراكين و الغيوم الملونة تحيط بقمته العملاقة … يا للويل يا للعجب … لقد بدأت السماء تمطر …أين نهرب ؟. أين نختفي ؟… عجيب أمر هذا المطر , انه يثقب كل شيء ويصل إلينا ساخناً مثل حديد منصهر .

تذكر فجأة جنود (أبرهة) وهم يحاصرون قدس الأقداس … مكة المكرمة .
بدا الناس يضحكون ويضحكون و يضحكون وكل يشير الى وجه صاحبه بإصبعه :
ـ انظر الى وجهك انه ملون بالون الدم , … انه احمر قان … يا للعجب … يا الاهي ؟… هل ان مطر السماء ذو لون احمر ؟.

ـ لنستفد من الواقع ونعرف لغتهم .

قالوا ذلك بصوت واحد , وتناسوا عجبهم المفاجئ وعادوا هادئين في كلامهم , لكنهم توزعوا في شوارع المدينة مثل أفراد النحل , يعملون بصمت , الخطاط غمز قصبته وراح يخط عبارات وكذلك الرسام يرسم مزرعة و أشجارا أوراقها حمراء , وجاء بعض الكتاب والقصاصين وكتبوا ما شاء لهم ان يكتبوا .

قفز فو ق غصن احد الشعراء وتدلى تحته مثل خفاش اسود وقال بصوت عال كلمات تعود ان يقولها منذ طفولته … كلمات كلها نفاق ودجل وكذب .

صفق الجميع له , وبدأت شركات السياحة تعلن للجميع من خلال شبكة ( الانترنيت ) العالمية عن استعدادها لتنظيم رحلات سياحية الى قمة ذلك الجبل ... وارتفعت أجور السفر بشكل مذهل … وعم الفرح كل فرد في المدينة , لكنهم نسوا شيئاً واحداً , نسوا ذلك المختفي … لا احد يتذكر ذلك . وبقي الرجل في مكان ما في هذا العالم الواسع يصارع ألمه لوحده ...وربما كانت تلك القمة البعيدة مكاناً له اعتكف فيه مبتعدا عن الناس , فانه لحدّ الآن لم يفكر في ان يقول شيئاً , أو ان يرد على سؤال واحد من آلاف الأسئلة المطروحة عليه , فقد تبدلت كل لغات التفكير في العالم و أصبحت غير مفهومة وربما هو الآخر نسي لغته التي كان يتكلم بها وما عاد يعرف وسيلة للتفاهم ,ما عاد … غير ان يصمت … ويصمت … مثل الموتى .



__________________
جاسم محمد صالح
باحث ومؤرخ عراقي
gassim2008@gmail.com
جاسم محمد صالح غير متصل   الرد مع إقتباس