عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-06-2008, 03:26 PM   #2
جاسم محمد صالح
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: العراق
المشاركات: 24
إرسال رسالة عبر بريد الياهو إلى جاسم محمد صالح
إفتراضي الضباب والجبل الصامت . قصتان قصيرتان . لجاسم محمد صالح .

الضباب



جاسم محمد صالح
gassim2008@gmail.com


كان يضحك ملء شفتيه حينما ينظر إليهم وهم يتراكضون … ربما هي الحقيقة وليس هناك من داع لان يتخيلها … حاول أن يجد لهم رمزا في مساحة تفكيره … لكنه لم يهتد إلى شيء , كان فراغ ممتدا … حد اللانهاية يتكور أمام عينيه ويصير أشكالا أخرى تضغط الزمن بأيدينا وتذكرنا بسهولة كيف كان الناس يصورون (الطنطل) في حكاياتهم حينما يشتد الظلام بجسمه الهلامي الخالي من العظام ، لقد تذكر كيف كان يلتصق بصدر أمه حد الالتصاق بعد كل حكاية يسمعها منها أو من غيرها؟ .

أزاح بيده اليمنى ستارة التذكر ، فليس ثمة داع لهذا الإبحار المغرق في القدم , فالسفينة حينما تترك الميناء مبحرة … فان عيون بحارتها تترصد الشواطئ البعيدة بحثا عن ميناء جديد أو شيء آخر … يالهم … من أذكياء اؤلئك البحارة المبدعين … وقبل أن يكمل جملته الصامتة هذه اخذ يعطس ويعطس بشدة , حتى أوشكت أسنانه أن تقفز من فمه … ربما أمعاؤه هي الأخرى في عمق ذلك الدهليز المظلم تتمزق بصمت … ولكن لا احد يدري .

أعاد النظر من الشباك , كان الغبار يتصاعد … ويتصاعد ، وصراخ المتدافعين يزداد بشكل مذهل … حتى ما عاد يرى منهم شيئا .

لقد عاد الضباب … الضباب … الضباب . وارتجف لبرهة وجيزة ، و كانت الكلمات التي يسمعها … تثير عنده معنى , لا احد من هؤلاء يعرف الآن ما يدور في ذهنه … ابتسم ابتسامة دافئة وأسرع إلى الباب … أراد أن يفتحه … فلم يقدر ، تصور انه مغلق … بحث في أرجاء الغرفة عن المفتاح … لم يجده ، تذكر الآن أن غرفته لا تُغلق … وان مفتاحها منذ زمن طويل قد كسر داخل القفل وصدي ، وقتها لم يفكر أبدا في أن يفتح الباب ، ولا حاجة تدفعه إلى ذلك أبدا .

لم يكن الضباب يشكل شيئا بالنسبة إليه, ومع هذا ترك كل شيء جانبا وحاول أن يتبين ما أمامه … لكنه لم ير شيئا غير عادي , نزع نظارته وحدّق من جديد … كان كل شيء عاديا … يا للغرابة … عجيب أمر هؤلاء … يتراكضون مثل الغزلان التي شمت رائحة قطيع من النمور … ضحك وهو يضرب يدا بيد ، والأصوات التي تحيط به تزداد ارتفاعا وقوة , حاول بيديه أن يتجنب هذه الأصوات … لكنه لم يفلح ، تحول هواء الغرفة إلى عذاب ومكابرة … لم يستطع أن يقاوم , خطرت في ذهنه فكرة الاستسلام لكنه سرعان ما طردها من تفكيره .

– ثلة من الغوغاء تهزمك... بهذه السهولة يا هذا وأنت؟؟؟ .

ومع ازدياد الضجيج اقترب من منضدة امتلأت بالتراب وأكداس من كتب قديمة كان يتمنى أن يقرأها حينما يشرق أول صباح … لكنه طال … وطال ,حتى اقترب من المستحيل , وضع رأسه فوق يديه اللتين اتكأتا على المنضدة بهدوء … نسي نفسه … نام نومة لم ينمها منذ زمن طويل .

– ياه ما أحلى النوم وأبهاه !!! ، أية نعمة هذه التي يتذوقها الإنسان حينما تلتقي الأجفان وتتحرر الروح من اسر هذا الجسد المتهالك .

توقف الخدر الساري في جسده فجأة … سحب نفسا مرة أخرى ، لكنه الآن غير الذي كان بالأمس ، حطم الغوغاء جدار غرفته … قذفوا السقف إلى مكان بعيد لا يخطر على بال احد … كان الباب المؤصد مقذوفا هو الآخر … أحاطوا به من كل جانب , اخذوا منه كل شيء … حتى ملابسه … جرجروه نحو مبنى حاكم المنطقة الذي أعلن حالة الطوارئ فيها ، فالضباب الذي يجتاح المنطقة سام … وخانق … ويصيب الدماغ بعصاب حاد يشله عن التفكير … لهذا فقد قرر حاكم المنطقة واستنادا لقانون الطوارئ أن يمنع كل شيء في المنطقة ماعدا الصياح والهرب ، فقد أباح القانون ذلك … ولم ينس المشرعون أن يقدروا وباعتزاز أولئك الذين يرتفع صياحهم … ويكونوا أسرع من غيرهم في الهرب .

رمته ألف يد ويد عاريا أمام المنطقة ، واللعنات تنثال عليه منصبة , مثل مطر شتائي , خجل من عُريه … إنسان ممدد أمامهم بلا شيء ، مثل مسمار فوق خشبة , قالوا بصوت واحد … وهو يتلوى أمامهم مثل أفعى مخدرة :

-انه كان يتنزه عند شاطئ المدينة … يغني ويخرج اصواتا من شفتيه ، يتنقل من مكان إلى آخر فرحا مثل فراشة برتقالية تستحم بعطر الزهور هنا... وهناك .

توقفوا فجأة حينما حاول أن يتلوى أكثر وأكثر وان يخرج صوتا من شفتيه , لكنه كان عاجزا ، فقد التصقت شفتاه , حتى خلا وجهه من فم … جرب أن يتكلم من عينيه … لكنه تذكر الآن أن عينيه قد قُلعتا عند الطريق الممتد … انه يسمع بوضوح … أذناه صارتا مثل أذني أرنب … انه بحاجة إلى عصا … حاول أن يقول لهم ذلك … لكن بأية لغة يكلمهم ؟

لكنهم أعادوا سيل ألفاظهم المتوقف وبدؤوا يشرحون لحاكم المنطقة صفحات أخرى من سجل الخدمة ، لكن حاكم المنطقة كان أشدهم ذكاء … فقد وضع نفسه في ناقوس زجاجي شفاف وأمر أتباعه بإحكام غلقه بالرصاص وبالشمع الأحمر ، وطلب منهم أن يدحرجوه على أرضية الغرفة بهدوء … لكنه كان يضحك ، لكن أيّ ضحك هذا الذي كان يخرج من شفتيه ؟ من يجروء أن يقول ؟ من ؟ .

الرافعة الشوكية ، تعمل المستحيل … وبمهارة سائق فذّ وتوجيه مخرج عبقري … بدأ الفصل الأول من مسرحية (الضباب) , فالمسرح الجوال تكامل نصبه والناس توافدوا لمشاهدة العرض من كل أرجاء المنطقة رغم أن الضباب شرع يملأ كل شيء , حتى الحوانيت التي تتعاطى بيع المعلبات , صفق الناس حينما رفعته الآلة القوية … وبقي مرتفعا والعيون شاخصة إليه .

مرّ عليه وقت طويل وهو على هذه الحالة , وقتها لم يمتلك ساعة أو تقويما , فالزمن تبعثر لديه مثل كومة رمل يابس , صفق الجميع فقد اعتلى المسرح مخرج ذكي , غُطيَ بين أكوام الباقات المتناثرة … وراح يصف إبداعاته المتميزة في عالم الإخراج … ومن لحظة إلى أخرى كان يشير بسبابته إلى ذلك المعلق محذرا … ومنبها … والتصفيق يتعالى , ولكن فجأة حدث ما لم يكن متوقعا حدوثه … سقط الرجل من أعلى الرافعة , احدث سقوطه هزة عنيفة في المسرح … تراكضوا أمامه كالجرذان … حتى امتلأت الطرق بهم … وقتها نسوا كل شيء … صياحهم … وضجيجهم وركضهم المتتابع … مشى بهدوء خلفهم … متوجها نحو الشاطئ … كانت السماء صافية حد الصفاء والجوّ عذب مثل بدايات الربيع .

- أي هوس أصاب هؤلاء ؟ ، أي جنون أعمى ذاك الذي امسك بهم ؟.

قال ذلك وهو يخلع ملابسه ليستحم … وما هي إلا أمتار قليلة وهو يخوض في الماء حتى اصطدمت رجلاه بشيء أملس … انحنى عليه ورفعه ، يا للعجب … انه الناقوس الزجاجي المغلق ، ومازال ذلك العفريت فيه ، وجه هذا العفريت ليس غريبا عليه أبدا.
- أين رأيته ؟… أين ؟ .

وما هي إلا لحظات حتى تذكر انه يشبه ذلك اللعين الذي ابتكر أسطورة الضباب ومسرحها للجمهور وخلق فيهم ذلك الهوس القاتل ، جمع كل ما يملك من قوة وقذف الناقوس هناك في البعد البعيد … واخذ يستحم بهدوء .
__________________
جاسم محمد صالح
باحث ومؤرخ عراقي
gassim2008@gmail.com
جاسم محمد صالح غير متصل   الرد مع إقتباس