09-06-2008, 09:00 AM
|
#10
|
|
قـوس المـطر
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
|
غزوة بدر
كان التاريخ على موعد آخر مع قوة ناشئة صغيرة ستولد من رحم الظلام لتغير ملامح الكون ولتبعث فيه الأمل والنور من جديد . لقد شهد الكون عبر تاريخه السحيق قوى الشر تدحرها قوى الخير إلا أن الأمر مختلف جد الإختلاف هذه المرة ، فلن تكون هذه اللحظة الوليدة باللحظة العابرة تدوم لوهلة من عمر الكون ، بل ستضع ملامحا ثابتة لا لجيل واحد بل لأمة بأسرها .
شهدنا فى التاريخ ما نسميه بالطفرات ، قوى النور تبدد قوى الظلام لكنها تلمع كالبرق لحظات وما تلبث أن تنمحى لتسيطر قوى الظلام مرة أخرى ولردح من الزمن وهكذا ، انتصر الإسكندر على الفرس وهم فى عدتهم أضعاف مضاعفة لكنه إنتصار عابر لم يكن من خلائق الإغريق فى كل زمان ، وسحق هانيبال قوات روما لكنها لحظات عابرة وهكذا تتجدد هذه اللحظات فى تاريخ كل أمة .
لكننا الآن على موعد مع حضارة جديدة وقوة جديدة ستضع ملامح لأمة من بعدها ستسير على نهجها وكأنها طبيعة وسجية فطرت عليها ، إنها أمة الإسلام . يخصنا منها الآن ملامحها العسكرية لأنها تتعلق بشكل أساسى ببطلنا الأسطورى . ستغير هذه الأمة مقاييس الحرب وعلى كل أمة ستلاقيها فى الميدان أن تعلم جيدا أن هناك مقاييس وحسابات أخرى عليها أن تدركها جيدا ، ألا تعتد بعددها وعدتها وحشودها . لأنها كلها على أرض الواقع لا تجدي نفعا ، ولأنهم بكل بساطة فى مواجهة مع جنود الله وحملة رسالته وأن أقصى ما يرجون هو الموت الذى يخشاه عدوهم . وأن شعارهم دائما وأبدا : " إحرص على الموت توهب لك الحياة " .
إن التاريخ عندما يتحدث عن النبى محمد يرى فيه الرجل الذى غير من تاريخ أمة ، نفض عنها أردية الجاهلية لتكتسى بالفضائل والأخلاق ، يرى فى شخصه النبى ، رجل السلام ، رجل السياسة .. لكن العسكريون فقط يدركون مدى براعته فى فن الحرب ، بل إن شئنا الصدق والدقة فهو يعد أبرع عسكرى فى التاريخ ، ولكن الحرب فى عقيدته ليست حرب المعتدى ولا ناهب الثروات ولا حرب الثأر ولا غيرها ، ولم تكن فنا يعشقه ، ولم تكن دائما خياره الأول على أنه قد حاول شتى الطرق لتجنب إراقة الدماء ، بل هى حرب للبقاء أولا والقضاء على كل خطر يهدد كيان أمته ، وحرب لإعلاء كلمة الله وتحطيم قوى الطغيان التى تحول بين حرية العقيدة وسلطان البشر ، فكم من أمة طاغية لا ترضى من يخالفها دينها لذا فللجميع هنا حرية الإختيار ، كانت حروب المسلمين تبدأ أولا برسالة إلى الخصم تدعوه إلى إحدى ثلاث : " الدخول فى دين الله غير مضطر ولا مجبر ولا مهان ، دفع الجزية وهى ضئيلة جدا لا ترهق إقتصاديات أمة ما بل على العكس إن حقوقا ينالونها بالمقابل تعد فائدة عظيمة جدا وخدمات لا حصر لها أولها هى الحماية والدفاع عنهم ضد أى خطر ، ثالثا تحكيم السيف " وفى كل حال كانت هناك مهلة ثلاثة أيام .
سنشهد عبقرية الرسول الحربية فى بدر وسنشهد ذروتها فى أحد بالرغم من هزيمة المسلمين وسنشهدها فى أكثر المواضع لكن سنفصلها كل فى موضعها .
لقد إبتهج كل شخص فى مكة بوصول القافلة من فلسطين . فقد كانت القافلة فى خطر كبير خلال الأيام القليلة التى مرت بها على طول الطريق الساحلى قرب المدينة ، وقد أوشكت أن تقع بيد المسلمين . ولكن بفضل مهارة وقيادة أبى سفيان للقافلة فقد أنقذت من الوقوع فى الأسر . وكانت القافلة تتألف من ألف بعير محملة ببضائع قيمتها خمسون ألف دينار ، وقد حقق أبو سفيان فى هذه القافلة ربحا مقداره 100% .
وبينما كان أهل مكة يرقصون ويغنون ، والتجار ينتظرون حصتهم فى الربح ، كان جيش قريش المنكسر يجر أذيال الخيبة والفشل فى طريقه إلى مكة . وكان هذا الجيش قد إندفع إستجابة لطلب النجدة من أبى سفيان عندما تحقق من خطر المسلمين المحدق به . وقبل أن يصل جيش قريش إلى مكان الإشتباك إستطاع أبو سفيان أن ينقذ القافلة وأرسل رسالة إلى قريش للعودة إلى مكة لزوال الخطر . لكن أبا جهل الذى كان يقود الجيش أدرك أنه لن يستفيد شيئا فى حال عودته وكان قد أمضى الـ 15 سنة الماضية فى معارضة مريرة مع النبى ، إذن فهو لن يسمح لهذه الفرصة أن تفوته . فبدلا من العودة تورط فى معركة مع المسلمين . وها هو الجيش المتشامخ يعود الآن إلى مكة وهو فى حالة من الذهول وذل الهزيمة .
وبينما كان جيش قريش فى طريقه إلى مكة منكسرا ، جاء مراسل منه على ظهر بعير سريع ، وعندما وصل هذا المراسل إلى تخوم مكة ، شق قميصه وأخذ يصرخ بصوت عال معلنا حدوث المأساة . فتجمع أهالى مكة حوله ليستفسروا منه عن أنباء المعركة . وبدؤوا يسألونه عن أبناءهم وأعزائهم فأخبرهم عن مصيرهم ، وكان بين الحاضرين أبو سفيان وزوجته هند .
لقد علمت هند من هذا المراسل عن أعزائها الذين فقدتهم وهم :
والدها عتبة الذى قتل على يدى علىّ وحمزة عم النبى ، وعمها شيبة على يدى حمزة ، وأخوها وليد على يدى علىّ ، وابنها حنظلة على يدى علىّ . فأقسمت على الإنتقام .
كانت أوامر النبى بالسيطرة على بئر الماء الوحيدة فى المنطقة عامل هام جدا إلى جانب الإستطلاع الدقيق للمسلمين فى تقدير قوة العدو ، لم تشهد بدر أى تكتيكات عسكرية فلم تكن قريش تشك للحظات فى نصر مؤكد فكان إساءة تقدير الخصم عامل خطير سيقصمها وسيقصم بعدها بعدة أعوام أكبر قوتين على وجه الأرض حين وقعتا فى الخطأ ذاته . ولم تكن قوة الفرسان فى قريش بالمؤثرة على إتباع أسلوب معين فكانت المعركة فى أرض مفتوحة .
مما أعطى ميزة لجيش المسلمين الصغير فى إستخدام سلاحه الأول و الخطير . كان المسلمون بارعون للغاية فى إستخدام السيف وكانت المواجهات الفردية تكاد تكون حاسمة لصالحهم ، ولهذه البراعة إلى جانب قوة العقيدة أكبر الأثر فى إنتصار المسلمين فى أغلب المواجهات رغم إنعدام التكافؤ العددى غالبا ويكاد يصل إلى أضعاف مضاعفة .
لقد كانت وقعة بدر أول صدام رئيسى بين المسلمين وأعدائهم إذ صمدت قوة صغيرة مؤلفة من 313 مسلما ، كالصخرة أمام غزو 1000 رجل من الكافرين . وبعد قتال عنيف دام 1 – 2 ساعة ، حطم المسلمون جيش قريش الذى فر بشكل فوضوى من ميدان المعركة وقد قتل أو أسر فى هذه الوقعة خيرة بنى قريش .
كما قتل سبعون مشركا ، وأسر سبعون آخرون على يد المسلمين الذين فقدوا 14 شهيدا فقط . وكان من بين قتلى المشركين 17 قتيلا من بنى مخزوم ، وكان معظمهم من أبناء عم وأبناء شقيقات خالد . كما قتل أبو جهل ، وأسر الوليد شقيق خالد .
وعندما أعلن المراسل أسماء القتلى ومن قتلهم ، لاحظت قريش تكرار إسمى حمزة وعلى . فقد قتل حمزة أربعة رجال واشترك مع على فى قتل أربعة آخرين . أما علىّ فقد قتل 18 رجلا بنفسه واشترك فى قتل أربعة آخرين . وهكذا فقد سيطر إسماهما على هذا الإجتماع الحزين . وكان أكثر المجتمعين هياجا وغضبا صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل .
وقد كان من الصعب كبح جماح عكرمة ، فأبوه كان له شرف قيادة الجيش فى بدر وقد قتل فى المعركة ، ووجد الإبن بعض العزاء والسلوى لكون أبيه قتل رجلا فى وقعة بدر كما أنه هو نفسه قتل آخر . لكن ذلك لم يكن كافيا ليطفىء تعطشه للإنتقام ، وتعهد الجميع فى هذا المؤتمر بالأخذ بالثأر . وسوف تجهز حملة لم تجهز مثلها فى من قبل فى مكة ، كما أن الربح الإجمالى ومقداره خمسون ألف دينار سوف يصرف على تمويل الحملة ، وانتخب أبو سفيان بالإجماع قائدا لجيش قريش .
إتخذ أبو سفيان قرارين : أولهما عدم البكاء حتى الأخذ بالثأر ، والثانى يتعلق بالأسرى لدى المسلمين ، فقد أمر بعدم بذل الجهود لإطلاق سراحهم خوفا من أن يؤدى ذلك إلى طلب الثمن من قبل المسلمين . ومع ذلك فإن هذا القرار لم ينفذ من الجميع إذ غادر بعضهم ليلا لدفع فدية أبيه وعندما علم الناس بذلك بادروا فورا إلى دفع الفدية وإطلاق سراح ذويهم واضطر أبو سفيان إلى إلغاء القرار .
إن خالد لم يشترك فى غزوة بدر بسبب غيابه آنذاك عن الحجاز ، لكنه عاد ليفدى أخيه الوليد ولما تم فداؤه وعاد به أعلن أخيه إسلامه وغادر إلى المدينه وأصبح من المقربين إلى الرسول ، لكن على الرغم من إعتناقه الإسلام ، فقد ظلت علاقاته مع أخيه خالد قوية وحميمة .
كان هناك عامل آخر قد دفع قريش إلى حرب المسلمين ، وهو عامل إقتصادى . فالمحور الرئيسى الذى كانت تسلكه قوافل قريش وهى ذاهبة إلى سورية وفلسطين يقع على الطريق الرئيسى الذى لم يعد مفتوحا أمامها بعد غزوة بدر ، وبعد حين لمس صفوان بن أمية الحاجة إلى مزيد من التجارة فأرسل قافلة بإتجاه سوريا على محور آخر ظنه آمنا . وغادرت القافلة على الطريق المؤدى إلى العراق وبعد أن سارت مسافة ما إتجهت شمال غرب نحو سورية ، وبعد أن اجتازت المدينة إعتقد صفوان أنها أصبحت فى أمان . لكن النبى علم بأمرها وأرسل زيد بن حارثة على رأس مائة رجل لأسرها وقد تم له ذلك .
بدأ الآن الإعداد للحملة بحماس كبير ، وأثناء ذلك ، جاء رجل غير مؤمن إلى أبى سفيان ومعه إقتراح . كان هذا الرجل يدعى أبو عامر من المدينة . وقد إعترض على وصول النبى إلى المدينة وعلى السرعة التى إعتنق فيها أفراد عشيرته "الأوس" الإسلام .كان أبو عامر يسمى فى الجاهلية بـ "الراهب" لكن النبى سماه بالفاسق وهكذا عرفه المسلمون بإسم : "أبو عامر الفاسق" .
قال لأبى سفيان : يوجد معى خمسون رجلا من عشيرتى . ولى نفوذ كبير على عشيرتى الأوس . وأننى أقترح عليك أن أخاطب الأوس بين المسلمين قبل أن تبدأ المعركة وإننى على يقين بأنهم سيهجرون محمدا وينضمون إلى جانبى . فقبل أبو سفيان هذا الإقتراح بسرور حيث أن الأوس يشكلون تقريبا ثلث جيش المسلمين .
بدأ التفاوض مع القبائل المجاورة ، وأخذت الإمدادات تصل من كنانة وثقيف . وفى هذه الأثناء كتب العباس عم النبى رسالة إلى الرسول يعلمه فيها بالإستعدادات التى تحضر ضده .
وبات الأمر وشيكا على مواجهة عسكرية ثانية ليست كالأولى ، بل ستكون أكثر منها شراسة ودموية ، مواجهة ستشهد براعة عسكرية من كلا الجانبين سيبدأ معها إسم بطلنا فى الظهور ، هذه المرة ، سيكتبه التاريخ فى قائمة أبطال الحرب و سيسجل فى خانته :
" بطل لم يخسر معركة قط " .
|
|
|