بشعور مفعم بالقوَّة أدركتٌ أنني مقبل على رحلة بحرية طويلة . كل أفكاري تطلعت للوصول إلى قريتي ؛ هناك ! سأسير على طول الطريق المحفوف بأشجار الهيبسكس. لم يأخذ منّي التفكير بأبي وأمي الكثير ؛ ولم أكن أحس بالحنين والوحشة لبعدهم عنّي أبداً لأنَّ عمّتي عوضّتني حنانهم وعنايتهم وزادت . لم يكن للشمس المشرقة تأثير على رغبتي بالعودة إلا عندما قرأت قصة " عد إلى الجزر " ، فهي كافية لتذكيري بالدفء وملامسة الاشعة لبشرتي واسترجاع نسيم الجزيرة المنعش الطري . وللحق أقول أنَّ فاعلية الدواء والمزايا الجميلة لقصة " هيبسكس " والقصص الأخرى هي ما جعلت صحتي تعود والعافية تدخل إلى جسدي .
في الجزر احتفلنا بعيد الفصح ..
وعيد الفصح هو نفسه وقت تفتّح زهور الهيبسكس وتألقها . كنتُ كلَّ اسبوع أكتب إلى عمّتي في لندن من دائرة البريد الذي أصله بعد اجتاز طريق مشجّر .. وأكتب :
" عمّتي العزيزة :
كم أود لو كنتِ معي هنا . لقد حدثت تغيرات عديدة في القرية . دكاكين جديدة أنشئت ، وبيوت حديثة شيّدت ؛ والقار ! حتى القار ما زال جديداً على أعمدة الكهرباء . المحطة القديمة عند التل هُدِّمت ، والحكومة عازمة على بناء مدرسة جديدة . بيدَ أنَّ التغيير لم يزحف على طريق اشجار الهيبسكس ، ولا حتى ينابيع المياه . الأرض المتاخمة للينابيع هي .. هي ! خضراء يانعة تجاورها برك ماء صافٍ وعذب . والمياه جعلت من ازهار الهيبسكس أشد احمراراً وبهاء .
ما أن شرعت الشمس باشراقتها النضِرة حتى أدركت زوال " ذات الرئة " ومضاعفاته . طفقتُ أتساءل في سرّي عمّا إذا كان سي. سي ماثيوس قد كتب حول هذا المرض . كم راودتني السعادة لعودتي إلى الجزر رغم الألم الذي يداهمني لعدم سماعي ومعرفتي بـ سي. سي ماثيوس . لا أحد من الذين سألتهم سمع عنه . وحين قلت بأنّه كاتب ولديه مؤلفات أطلقوا ضحكاتهم ، قائلين لا وجود لكاتب يقطن قرية " مايارو " . سألوني إن كنت في انكلترا حقّاً ,. أقسمتُ لهم مراراً ؛ ولمّا أيقنوا صدق قولي قالوا : من المحتمل أن يكون ماثيوس هذا في انكلترا ، لأنَّ الانكليز مولعون بتأليف الكتب .. كان جوابهم باعثاً على الألم ! فالانكليز ليسوا وحدهم الذين يؤلفون ... تساءلتُ : كيف يكون ماثيوس انكليزياً ويكتب بهذا الاحساس المميز عن الهيبسكس ؟! . هكذا ، ورغم بهجتي وارتياحي لدفء الشمس وغرابة الليالي فقد ولَّت السعادة هاربة منّي ، إذء لا أحد يعرف ماثيوس . بل أنَّ أٌناساً قليلون تذكروني أنا .
رحتُ أتمشّى منحدراً صوب ينابيع الماء . لم أر ثمة فتاة صغيرة تشدو بصوتها العذب لزهور الهيبسكس ؛ والطيور الطنّانة ألفيتها هناك جوار البرك اللامعة نائيةً عن الزهور . حين أدركت دائرة البريد أبتعتُ نموذج رسالة ، كتبت :
" عمّتي العزيزة :
أنا الآن في الاسبوع السادس وسعيد جداً لأنّي سأعودُ إليكِ . "
لم تبقَّ سوى أيام قليلة وأغادر الجزر . كان والديَّ في غاية الانفعال بسببي ؛ وحتّى أصدقائي قراتُ في عيونهم حزن عودتي إلى انكلترا . فكّرتُ كم كنت مسروراً لو أنّي رأيتُ ماثيوس أو التقيت " ماريانا " ؛ أو أني لم أعرف عنهما شيئاً على الاطلاق .
وهكذا .. وفي ليلةٍ تركتُ البيتَ يلفّني الحزن والأسى ، منحدراً رحتُ باتجاه درب الهيبسكس . التقيتُ رجلاً عجوزاً عائداً بأبقاره . توقفت فادليت بسؤالي إليه .
_ ماثيوس ؟ ... قال متأملاً لبعض الوقت . لاكَ الاسم بطرف لسانه .
_ كان معتاداً على الكتابة ... قلتُ بشيء من الأمل .
_ معتاداً على الكتابة ؟! ..إيه ... طفق العجوز يتمتم ، وطفقتُ أنا أتابع عينيه الراحلتين بعيدا ً .
أعرف شخصاً باسم ماثيوس . كان قارع ناقوس الكنيسة وحفّار قبور أيضاً .
_ كلا ؛ لا يمكن أن يكون هو . لقد كتبَ حول الـ....
كبّلني الحرج . أردتُ أن أقول أنه كان يكتب عن الحب ، فتوقّفتُ مترددِّاً .
_ ماذا ؟ ... تساءل الرجل ، وأكمل : حولَ ماذا كان يكتب ؟
لمحتُ شيئاً غريباً يترقرق في عينيه فيما كانت أصابعهُ ترتعش . لم أكن أبغي تضليله فقلت :
_ لقد كتب حول الحب ... وأخفضت بصري نحو العشب خجلاً .
_ وماذا عن الحب ؟
صمتُّ فلم أُجِب ...
_ ما اسمكَ ؟ ... سألني .
_ روي .
_ حسناً ، يا روي . الحب هو كل شيء . فالحياة حب ، والله حب .
كان المكان يلفّهٌ الهدوء تماماً إلى درجة كنتُ أسمع الأبقار تمضغ العشب والسلاسل تجلجل بفعل تحرّكها خطوة فخطوة .
_ لا يبدو أنَّ أحداً يعرف ماثيوس ... قلتٌ مخاطباً العجوز .
_ أظنَّ ........ وتوقف قليلاً . ثم قال : أظنَّ أنهم كانوا يدعونه بغير هذا الاسم .
_ ربّما لا يكون هو الرجل نفسه . لكنّي أعتقد بوجود فتاة .. نعم فتاة صغيرة .
_ ماريانا ؟ ... بادرني الرجل العجوز متسائلاٍ .
انتفضتُ كالمصعوق !
_ نعم ؛ كان هو الرجل المقصود ! هل تعرف ماريانا ؟
_اعتدتٌ أن ........ توقَّفَ فجأةً . بدا كأنه يروم تغيير أفكارِه ؛ غير أنّه أكمل : لا أعرف الكثير بالرغم من ذلك سوى أنها رحلت إلى انكلترا للدراسة .. افتقدها ثم سقط أسير الهواجس والأحزان . لقد تأسى كثيراً عليها . كتب لها راجياً العودة فلم تلبِّ رجاءه حتى هذا اليوم .
_ لماذا ؟! ... صرختٌ بقلبٍ يختلج . تفرَّستٌ في وجهه فقرأتُ بواعث يأس وألم تمور في عينيه .
قال كأنّه يكلّم نفسه : أنتَ لا تفهم الكثير .. أنت .. أنتَ لا زلتَ صغيراً لا تفقه ماذا يعني مرض ذات الرئة .
آآآآه .. لقد ذويت أنا أيضاَ . أحسستُ بالضعف فلم أقدر على الرد . الحقيقة أنّي ما زلتً صغيراً فعلاً ، لكن يعلم الله أنّي فهمتُ كلَّ ما قاله . إتَّضح لي الآن لماذا لم تعُد ماريانا ؛ ولماذا أجهش الرجلُ العجوز بالبكاء .. تذكَّرتٌ " عٌد إلى الجزر " . أدركتُ أنَّ مرضَهُ لم تقدر كثرةُ العقاقير القضاءَ عليه .
داهمتني لوامس اغماء وشعرت كما لو أنَّ الحمّى عادت إلى جسدي من جديد ... نظرتُ واهناً إلى الرجل العجوز فأبصرته يتطلَّع بعيداً .. قال :
_ أنا أبكي .. مثل هذا يحدث بعض الأحيان .
كانت كلماته تخرج بصعوبةٍ بالغة من بين شفتيه :
_ أنا لا أبكي ؛ ولكن الكلمات القليلة ليست كافية ولا تعطي الحقيقةَ كاملةً . ولو كان لديك شيءٌ منها وليس لديك غيرها فإنَّها الشقاء بعينه .
(*) ولد ميشال انتوني في ترنيداد إحدى دول الكومنويلث القريبة من السواحل الفنزيلية . رحل في بداية شبابه إلى انكلترا . مارس أعمالاً عديدة منها عامل طباعة في وكالة رويترز ، وعامل في دائرة البريد العامة GPO . كما عمل في المركز الثقافي البريطاني بعد عودته إلى موطنه . استعين به في وضع المناهج التعليمية في بلاده . وقد عالفي أعماله عالم الطفولة وبيئة وعادات الهنود الحمر . قصته هذه التي نترجمها مأخوذة من مجموعته " كريكت في الطريق "
له ثلاث روايات منشورة :
1- عودة المسافات عام 1963
2- أيام السنة في فرناندو عام 1965
3- الأيام الخضراء عند النهر عام 1967
(**) الطيور الطنّانة طيور تصدر أجنحتها المهفهفة صوتاً كالطنين . وهب اذ تأتي لامتصاص رحيق الازهار بمناقيرها الطويلة المستدقة فإنها تزيل الغبار العالق بالوريقات فتجعل الزهور أكثر رونقاً وأشهى .
|