عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 05-08-2008, 08:49 AM   #5
olaegy
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2007
المشاركات: 34
إفتراضي أحمد عكاشه : المصري .. النجم .. المعلم

أتذكر هذه المعاني وأنا أرى أستاذي وأستاذ الأجيال الدكتور عكاشه وهو يقف في كل مكان في مصر وخارجها كفارس على المنصة ينشر العلم النافع , ويثري عقول أبنائه وتلاميذه الذين يعتز بهم ويرعاهم ويهتم بشئونهم ويدفعهم للنجاح والتميز . وعلى الرغم من أنه زار كل بلد في العالم تقريبا , وله رؤية إنسانية عالمية إلا أن مصريته مؤكدة وهو يعتز بها بين أبناء قومه وبين الأجانب , فكثيرا ما قدم تاريخ الطب النفسي عند الفراعنة وعند العرب والمسلمين , ولديه قدرة هائلة على الربط بين القديم والحديث في ولاف يظهر عظمة الإثنين ويجعلك مبهورا بتلك الشخصية الجميلة التي تلتقط الرقي والجمال في كل حقبنا التاريخية دون التصاق أو توقف أو تحجر أو تعصب . وعلى الرغم من اتصاله القوي بالغرب ثقافة ولغة وعلى الرغم من طلاقته في الحديث باللغة الإنجليزية إلا أنه يتحدث بها بلهجة مصرية ولا يتعمد اللكنة الأجنبية في النطق فهو ينطق الإنجليزية الفصحى بلسان عربي مبين , وإذا تحدث العربية فبسلاسة وانطلاق وتدفق ولا تعرف إن كان يتحدث بالفصحى أم بالعامية وذلك من بساطة وسيولة وصحة الألفاظ والكلمات .
وعلى الرغم من بلوغه قمة سامقة في تخصصه الدقيق إلا أنه لم يغرق في البحور الأكاديمية الجافة بل ظل متصلا بنبض الحياة اليومية , وعلى الرغم من عيشه في أجواء أرستقراطية إلا أن كلماته وتعليقاته تعكس إحساسا عميقا بمشاكل النالس على اختلاف طبقاتهم , فهو ملم بتفاصيل الحياة اليومية المصرية بشكل ميكروسكوبي وتلسكوبي معا , فلديه فرصة دائمة للقاء علية القوم وفي ذات الوقت لم يفقد صلته بالبسطاء من الناس , ولم يبتعد عن نبض وعرق المصريين في زحام الشوارع وتكدس العشوائيات . ربما يعود ذلك – كما ذكرنا - إلى العروق الوطنية التي تمتد بعمق في أسرته من أمه ووالده , وأخيه الدكتور ثروت عكاشة والذي شارك في قيام ثورة يوليو كأحد الضباط الأحرار ثم ساهم في إنقاذ معابد فيلة وأبو سنبل إبان عمله في وزارة الثقافة , بجانب إبداعاته ذات المستوى الرفيع في الأدب والثقافة وغيرها . ويبدو أن هذه الأسرة العكاشية لديها ميل شديد للإتقان الراقي الحضاري في عملها وإبداعاتها , وهذا ما يبدو جليا في إنتاج الدكتور أحمد عكاشه والدكتور ثروت عكاشه فكلاهما في تخصصه قمة شامخة , وقيمة عالية , ورقيا رائعا وجميلا . وكلا منهما صنع لنفسه مجدا شخصيا كبيرا , ولكن هذا المجد لم يكن أبدا مقطوع الصلة ببلده , فارتقى بذاته وبمن حوله , وكبر بإنجازاته وبأهله وناسه .
قد تكون طبيبا صغيرا تدرس دبلوما أو ماجستيرا في الطب النفسي وتلقى الدكتور عكاشه فتجده مهتما بك كأنك شخصية عظيمة , ويحفظ اسمك ونادرا ما ينساه , وهذه قدرة هائلة لديه فهو يحفظ أسماء الأطباء النفسيين المصريين والعرب والأجانب , ويعرف خصائص كل منهم بدقة , ويبهرك بذكائه المتقد وعينيه اللامعتين الصاحيتين , ولسانه الطلق وألمعيته الحاضرة وتعليقاته الواصلة إلى الجوهر من أقصر طريق .
قد يختلف معه البعض وقد ينتقدوه في أشياء ينكرونها عليه , ومع هذا تجدهم يقدرون أستاذيته وريادته , وإذا حضر يقدمونه على من سواه , فهو أب للجميع وأستاذ للجميع وقريب من الجميع , وهو لا يعلو فوقهم إذ يقدمونه ويرفعونه ولكن يعلو بهم ومعهم , وربما يتصل بأصغرهم يسأله عن شئ لا يعرفه أو يستفسر عن أمر استشكل عليه , وهو من هو علما وثقافة ورؤية . وبمناسبة الرؤية فهو لم يكتف بالإرتقاء الأكاديمي في مجال تخصصه وإنما له رأي ورؤية في مجالات الثقافة والدين والفن والأدب والإجتماع والسياسة , وهو يدلي برأيه في هذه المجالات وغيرها محتفظا بنطاق تخصصه فلا يتوه في مساحات يملكها غيره , ولا يستدرك إلى رمال متحركة يقع فيها آخرون حين يظنون أنهم يعلمون سر الكون . وحتى في مجال النفس الذي هو فارسه فإنه لا يتحدث عنها بغموض ولا يخوض في مناطق أسطورية وإنما يحترم وسائل الرؤية والرصد المتاحة ويفتح الباب أمام امتلاك وسائل جديدة لرؤية أكثر دقة وشمولا , ويقف بتواضع عند حدود الضوء المتاح في الوقت الحاضر وفي اللحظة الحاضرة .
أتعجب منه كيف يتابع أحدث مافي العلم وفي نفس الوقت يتابع الصحف والمجلات وكثير من البرامج والأحداث اليومية في مصر وغيرها ويشكل رؤية وموقفا ناضجا مبنيا على رؤية متسعة للناس والأحداث , رؤية لا تغفل الجانب الوطني والثقافي , وفي نفس الوقت ترى الآخر في الصورة , ذلك الآخر الذي تعامل معه الدكتور عكاشه كثيرا في حياته وتفهم ظروفه واحتياجاته وتحيزاته . وعلى الرغم من كثرة نشاطاته وتشعبها وتعددها إلا أن لديه نظاما في حياته يمكنه من يفعل كل هذا دون أن يلهث أو يتوتر أو يضطرب , وربما يكون لأسرته ولزوجته على وجه الخصوص إسهام كبير في ذلك كما ذكر هو في بعض أحاديثه .
دائما تلقاه غضا يقظا منتبها صاحيا نشطا مقبلا متفائلا متألقا مشعا دافئا دافعا ومحرضا ومحركا , يحوطه أبناؤه وتلاميذه أينما حل , وهو يقبل عليهم بروح الصديق القريب المتفحص لوجوههم والسائل عن أحوالهم والمداعب لهم والقريب منهم . متواضع في ترفع , وبسيط في كرم , ومحب بتعقل , ومتأمل في نظام , ومغامر بحساب . هو أكثر نشاطا وحيوية وسرعة في الحركة والتفكير من كل من حوله , ومع هذا فهو شديد التركيز وعميق الرؤية والإنتباه .
أحيانا تراه فيلسوفا متأملا , وأحيانا تراه براجماتيا واقعيا عمليا جدا , وأحيانا تراه ثائرا هادرا , وأحيانا تراه متفهما متقبلا , وحرصه على نجاحه وتألقه الشخصي يوازيه ارتباطا وثيقا بقضايا الوطن ورقي الناس . يخطئ من يقيسه بمقياس أحادي البعد , فهو متعدد المستويات والجوانب , وهذه التعددية قد تحير بعضا ممن يريدون أن يرونه كما يريدون . وعلى الرغم من إتقانه الهائل لفنون العلاج الدوائي إلا أنه يعالج كثيرا من مرضاه بتأثيره الشخصي الهائل وبكاريزمته المشعة , وبكلماته الطيبة الحازمة المؤكدة والمطمئنة بوعي وصدق وموضوعية , ويتحدث عن الوسائل غير الدوائية في العلاج باحترام وتقدير , وهذا يصحح سوء الفهم الذي لحق به من بعض من لم يعرفه بعمق من تلاميذه ومريديه. وليس هو وحده الذي ربما أسئ فهمه , فكثير من الرواد والمصلحين وأصحاب الرسالات قد أساء بعض تلاميذهم فهمهم ونسبوا إليهم مالم يقصدوه بالضبط , أو رأوا جانبا ولم يروا جوانب أخرى في شخصية متعددة الأبعاد والمستويات
قد يحسده البعض على استمرار تألقه وإشعاعه وجاذبيته ونجاحه وإنجازاته , وقد يلومونه على حرصه على كل ذلك متناسين أن كل الناجحين لديهم هذا القدر من الحرص على الصعود الدائم , وأن حضور ذواتهم بقوة جزء من منظومة النمو الشخصي المحرك للتنافس الدافع نحو التسابق على طريق النمو العام .
لا تراه في مكان أو زمان إلا وتسمع منه أو عنه شيئا مفيدا , ولست أدري كم عدد الساعات التي رأيته فيها على المنصة معلما وفي القاعات مفهما , وهو قد جعل للطب النفسي مذاقا خاصا حين مزجه بشخصيته وبروحه فأخرج مصطلحاته الصعبة ومفاهيمه العويصة في صورة سلسة وبسيطة وجذابة , ولهذا فهو فاكهة أي مؤتمر أو ندوة يعطيها بريقا ولمعانا وحضورا ودفئا وحرارة وأصالة . وحتى في الإمتحانات تغلب عليه صفة المعلم (وهي كما ذكرنا صفة محورية في شخصيته) فيمزج الأسئلة للطالب بكثير من المعلومات يعطيها إياه ومن حوله أثناء الإمتحانات , وكأنه لا يستطيع أن يتخلى عن دوره كمعلم حتى في الموقف الإمتحاني الذي يفترض فيه السؤال لا الإجابة من الممتحن . ومن النادر جدا أن يتخرج طالب دكتوراه دون أن يكون امتحنه الدكتور عكاشه , فرأيه في الطالب علامة مسجلة في تاريخه العلمي .
أما إذا تحدثت عن اعتزازه بنفسه وبكرامته , فهذا حديث يطول , فعلى الرغم من تواضعه وحديثه المتصل مع الكبير والصغير إلا أن له نفسا أبية لا يستطيع أحد ولا يقدر (مهما علا قدره) أن يقتحمها أو يتجاوز حدود الأدب والإحترام معها , وهذا هو ترفع العلماء .
وقد يكون الشخص ناجحا في العلم إلا أنه يخفق في مجالات النجاح الأخرى كالعلاقات الإجتماعية والمشروعات الكسبية , ولكن الدكتور عكاشة حقق معادلة الحكمة والملك , فعلى قدر نجاحه في علمه نجح أيضا في مشروعاته الخاصة وحقق إنجازات هائلة في عيادته ومستشفاه ومنتجعه وفي علاقاته العملية والإجتماعية , وهذا دليل على وجود أكثر من نوع من الذكاء لديه يتيح له الفرصة للنجاح المتألق على جوانب ومستويات عديدة .
نال جائزة الدولة التقديرية فشرفت به هذه الجائزة وفرحت بلقائه , فهو شخصية فريدة تشرف بها مصر والعالم العربي , ونشرف بها كأطباء نفسيين , فهو قد أعطى لهذا التخصص احتراما وتقديرا ومكانة من خلال احترامه لعلمه ولتخصصه ولمريضه . فعلى مستوى العلم تجد لديه كل جديد حتى آخر لحظة تقابله فيها , فهو يتابع بدقة شديدة أحدث التطورات في أرقى المجلات والدوريات العلمية العالمية والمحلية , وينقل كل معلوماته وخبراته إلى تلامذته في كل مكان بلغة بسيطة ومستقيمة ومحددة . وعلى الرغم من شهرته وذيوع صيته كطبيب ومفكر وأستاذ عظيم إلا أنه يهتم بتلاميذه –حتى الصغار منهم – ويعرف أسماءهم وأحوالهم ويقبل على كل منهم وكأنه له وحده ويعطيه كل الإهتمام , ويعلق على أشياء كتبها هذا الشخص أو قالها . أذكر أنني كنت أكتب أشياء بسيطة ومتواضعة في بعض الصحف , ففوجئت به في أكثر من مرة يتصل بي ليعلق عليها أو يناقشني فيها أو يمتدحها , وكنت أتعجب : كيف لأستاذ كبير في هامة الدكتور عكاشة أن يجد وقتا لمتابعة ما يكتب في الصحف والمجلات بهذه الدقة , ثم يهتم بها وبكاتبها إلى هذا الحد . فهو لا تفوته شاردة أو واردة في مجال تخصصه وما يتعلق به , ولست أدري من أين يأتي بالوقت ليفعل كل هذا , وأجندته مشحونة بمواعيد مؤتمرات عالمية في كل مكان ولديه عيادته ومستشفاه ومرضاه .
لا يتردد في إعلان رأيه في الكثير من سلبيات السياسة أو المجتمع بشكل واضح وصريح ولديه شجاعة يحسد عليها في هذا الأمر على الرغم من حساسية مكانه ومكانته كشخصية علمية وشخصية عامة في نفس الوقت . وله كتاب جميل لخص فيه رأيه ورؤيته في كثير من سلبيات حياتنا السياسية والإجتماعية , وهو كتاب "ثقوب في الضمير" , ومن كثرة إعجابي بهذا الكتاب اشتريته أكثر من مرة ووضعته في أكثر من مكان حتى لا يضيع مني .
وحين يظهر على شاشة التليفزيون في أي قناة يتحدث بتلقائية شديدة وصراحة مؤكدة ويتطرق إلى نقاط حساسة , وهو مع كل ذلك لا يغادر نطاق الموضوعية والأدب الرفيع . تجده يعيد الأمور إلى نصابها ويخلع عنها المفاهيم الخرافية والمبالغات والترهات . وعلى الرغم من علمه وموضوعيته إلا أنه شيق الحديث لا تمل أبدا من سماعه , وربما يعود ذلك إلى ما يتمتع به من أنواع كثيرة من الذكاء , فهو ذو ذكاء لفظي منطقي عال وذو ذكاء عاطفي هائل وذو ذكاء اجتماعي متميز وذو ذكاء تأملي عميق وله اهتمامات واسعة تجعل حديثه ملئ بالعلم والطرائف والإحصاءات والأرقام والدلالات والمعاني والتحذيرات والفكاهات جنبا إلى جنب في تركيبة رائعة .
قد يلومني البعض على هذا المدح وعلى هذا الإعجاب بالدكتور عكاشه , وأنا لا أنكر إعجابي به وتحيزي له , ولا أنكر على منتقديه جوانب انتقاداتهم , فهو مثل أي إنسان لديه مزاياه ولديه عيوبه , ولكن النجاح كثيرا ما يتجاوز العيوب ويجعلها تبدو صغيرة أو يغفر لصاحبه ما أضاف وأعطى , وقد يتساءل البعض مستنكرا : أما كان جديرا بك أن تكتب عن عيوب الدكتور عكاشه استكمالا للموضوعية وتوازن الرؤية , وهنا أقول بأن وقوف التلميذ أمام أستاذه يستلزم الكثير من الأدب , وأنا حين أقف أمام أستاذي لا أمد عيني لأتفحص عيوبه , وأكتفي بما وصلني منه من خير عميم , وأدعو الله أن يبارك في حسناته ويتجاوز عن سيئاته , وأن يكون ما كتبت عنه نموذجا للأجيال الجديدة التي تفتقر إلى القدوة والمثال وتتعجل الوصول إلى الغنيمة دون أن تبذل من الجهد والعرق ما بذله الرواد والعلماء . وأخيرا تحية عطرة أستاذي الجليل الجميل , أطال الله في عمرك ونفع بك , وجعل أعمالك كلها خالصة لوجهه الكريم , وأثابك عليها جنات النعيم , وأن تكون الشهادات المحلية والعالمية , وقبلها شهادة تلاميذك لك في ميزان حسناتك , وأن يمنحك الله الصحة لتعطي أكثر وأكثر , وتقبل اعتذاري إن لم أكن وفيتك حقك كعالم وكإنسان.

دكتور / محمد المهدي
olaegy غير متصل   الرد مع إقتباس