سألني الأصدقاء بعد أن أسندوني إلى فراش المرض في بيتي :
من تلك التي تحبها .. وأين رأيتها ؟ وما هو حُسنها وجمالها، حتى تُظلمُ بعشقها أنوارُ صحتك ؟!
فقلت لهم ما قاله الشاعر :
وما الحبُ عن حسنٍ وعن ملاحةٍ ** ولكنه شيءٌ بـهِ الـروحُ تكلـفُ !!
فقال أحدهم :
أأحبتها لمراسلةٍ بينكما ؟ أتعرف مكان بيتها أو من هم أهلها ؟؟
فقلتُ :
لا .. لا أعرف مكان بيتها ولا من هم أهلها، ولم تكتبُ لي من الحروف شيئًا .. إنما أنا واحدٌ من قراءها ! وكيف لذاك الحياء أن يفعل ؟!
رد الآخر :
أمجنون أنت ؟ أتحب واحدةً لم تعرفها ولم تعرف أين مسكنها، ولم تكتب لها، ولم تكتبُ هي لك ؟ بل كيف تعشقها وقد تمر عليكما من الأيام؛ ما لا تدخل أنت فيه ذاك المنتدى .. أو قد لا تدخله هي ؟؟
بل إنك كثيرًا ما تتأخر في الرد عليها إذا ما قدمت هي موضوعًا .. أليس ذاك التأخير من عدم الاهتمام ؟
فقلتُ له .. ما قاله "أثير الدين أبو حيان" :
لم أوخر عمن أحبُ كتابيَ ** لقلىً فيهِ أو لتركِ هواه ُ
غير أني إذا كتبتُ كتابًا ** غلب الدمعُ مقلتي فمحاه ُ !!
وحينها .. غلبني الدمع .. فتدفقت قطراته من بين جفوني الأربعة .. وقلتُ بأبياتِ "قيس ليلى" :
وقالوا : لو تشاءُ سلوتَ عنها ** فقلتُ لهم فإني لا أشاءُ !
وكيف وحبُّها علق ٌ بقلبي ** كما عَلِقَتْ بأرشيةٍ دِلاءُ ؟!
لها حبٌّ تنشّأ في فؤادي ** فليس له ــ وإن زُجـِرَ ــ انتهاءُ !
وعاذلةٍ تُقطّعني ملامًا ** وفي زجرِ العواذل لي بلاءُ !
فقالوا أين مسكنُها ومَنْ هِيْ ** فقلتُ : الشمسُ مسكنها السماءُ !
فقالوا : من رأيتَ أحبَّ شمسًا ؟ ** فقلتُ : عليَّ قد نزل القضاءُ !
إذا عقد القضاءُ عليَّ أمرًا ** فليس يحلهُ إلا القضاءُ !
اتسعت أعينُ الجميع .. وتقلبت بي النظرات .. واتفقوا بعدها على كلمةٍ واحدة :
متى أحببتها إذن ؟ فلم نعلم أن لك في بحر الغرام مراكبُ ؟
فعلام الصمت على ما يُكنُ فؤادكَ ؟!
أتريدُ أن تموتَ غمًا ؟!
فقلتُ شارحًا حالي لهم، بما قاله قبلي الشاعر :
يقولون إن جاهرتُ : قد عَضَّكَ الهوى ** وإنْ لم أبُحْ بالحبِّ قالوا : تصبَّرا
وليس لمن يهوى ويكتمُ حُبَّهُ ** من الأمر إلا أن يموتَ فيُعذرا !
قال لي أحد رفاقي :
ما سمعتُ عن حبٍ كالذي تحكي عنه !
ألا تستطيعُ تركها ؟
تطلعتُ للسماء .. وقلتُ ما أحفظه من شعر :
لا أستطيعُ نزوعًا عن مودّتها ** أو يصنعَ الحبُّ بي فوق الذي صنعا ؟
أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ** حتى إذا قلت : هذا صادق ٌ نزعا !
تطلع لي نفس الصديق مجددًا .. ثم قال :
لا تعرف عنها شيئًا .. وتريد أن تقنعنا بأنك تحبها .. حبًا لا رجعة فيه ؟!
أظنكَ قادرٌ على تركها !
فتحت فمي بأبيات "قيس ليلى" أتخيلها أمامي :
وإني لأهوى النوم في غيرِ حينهِ ** لعلَّ لقاءٌ في المنامِ يكونُ !
تحدِّثني الأحلامُ أني أراكمُ ** فيا ليتَ أحلامُ المنامِ يقينُ !
شهدتُ بأني لم أحُلْ عن مودَّةٍ ** وأني بكم لو تعلمين ضنينُ !
وأن فؤادي لا يلينُ إلى هوًى ** سواكِ وإن قالوا : بلى .. سيلينُ !
يتبع