فشل الايديولوجيا أهم من أزمة المؤسسات المالية
د. سعيد الشهابي
15/10/2008
عندما تداعى الاتحاد السوفييتي قبل عشرين عاما، كان من بين العوامل التي طرحها الغربيون لتفسير ذلك، التفاقم التدريجي للأزمات الاقتصادية الداخلية الناجمة عن النظام الاشتراكي. واستنتجوا من ذلك ان النظام الرأسمالي الغربي ضمانة للمجتمع الدولي من الانهيار. فالاقتصاد الحر اذا ما اقترن بالديمقراطية الليبرالية استطاع تكوين الدولة العصرية المثالية التي كانت تمثل لدى فرانسيس فوكوياما ذروة العقل السياسي البشري. فبعدها ليس هناك سوى التداعي، والعد العكسي للتاريخ.
فماذا يقول المفكرون اليوم في ظل الازمة الاقتصادية التي لم تشهد الاجيال الحالية من البشر مثيلا لها؟ أهو سقوط نهائي للرأسمالية؟ ام هفوة قد تكون كبيرة ولكن يمكن السيطرة عليها؟ أم انها نهاية لسيطرة المال الغربي على العالم، كما يقول آية الله خامنئي، مرشد الثورة الاسلامية في ايران؟ فمن نيوزيلاندا الى اوروبا، تداعت اسعار الاسهم بشكل مروع، وتساقطت المصارف، الواحد بعد الآخر، وانتشر الهلع في نفوس القادة قبل العوام. وحتى الآن لم يطرح 'المنظرون' تفسيرات نهائية للمشاهد اليومية في الاوساط المالية العالمية، ربما لان فصول الكارثة الاقتصادية ما تزال تتوالى وتتجدد يوميا، ولأن سرعة ما يجري تحول دون امكان التوقف لامعان الفكر والبحث المتأني والعميق لتفسير منطقي مدعوم بالأدلة والاحصاءات. مع ذلك، لم يعد بامكان أحد من الزعماء السياسيين في الغرب انكار مقولة ان ما يجري ربما أصاب النظام الرأسمالي الغربي في الصميم، وان ذلك النظام لم يعد قادرا على تكرار الدعاوى التي اطلقها بشكل متواصل للايحاء بانه (النظام الرأسمالي) حتمية تاريخية للبشرية، لن تتمكن اية أيديولوجية أخرى من مواجهتها او تحديها. وثمة جانبان اساسيان لهذه 'الحتمية التاريخية': اولهما الاقتصاد، وثانيهما النظام السياسي الذي تمثله الديمقراطية. وفي ذروة الانتصارات العسكرية التي حققتها الولايات المتحدة في العقدين الاخيرين، كان القادة الامريكيون (ومعهم بعض الغربيين) لا يترددون في التباهي بهذا الثنائي المتلازم، الذي يطرح وكأنه الطريق الوحيد للخلاص من شرور الايديولوجيات والانظمة الاخرى في أي مكان من العالم. فالحرب الأمريكية الاولى التي حدثت في 1991 لـ 'تحرير' الكويت واخراج القوات العراقية من اراضيها، كانت تعبيرا عن ثلاثة امور: اولها الهيمنة العسكرية المطلقة للولايات المتحدة، وهي هيمنة لا يوازيها شيء. وثانيها: القوة الاقتصادية الامريكية التي مكنتها من امتلاك أشد الاسلحة فتكا، وأكثرها تطورا، وأقدرها على الفتك بالخصوم مهما كانت قوتهم. وثالثها: استعادة واشنطن الثقة الذاتية لاتخاذ القرارات الكبرى كقرار الحرب، وخروجها من عقدة فيتنام التي منعت قادتها في السابق من الاقدام على خطوات كبيرة من هذا النوع.
جاء ذلك في ذروة الشعور الامريكي بالانتصار، ليس على العراق فحسب، بل على المنافس الاقوى على مدى نصف قرن. فلم يكن تصدع الاتحاد السوفييتي آنذاك، حدثا سياسيا عابرا او تداعيا اقتصاديا او عسكريا فحسب، بل تم ربط ذلك بموقف ايديولوجي يؤكد انتصار النظام الرأسمالي على الشيوعي بشكل حاسم. وفي السنوات اللاحقة لم يستطع أحد وقف تسابق الدول التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي لكسب رضا الغرب، واعتناق ايديولوجيا السياسة والاقتصاد الغربية. والمعروف ان الاقتصاد كان من مرتكزات الاطروحة الشيوعية، وبالتالي بحث الغربيون كثيرا في الملف الاقتصادي السوفييتي على مدى السبعين عاما التي سبقت تداعيه. فالنظام الاقتصادي للاتحاد السوفييتي السابق كان يقوم على ملكية الدولة اي التأميم وتخطيط الدولة الواسع النطاق للنشاطات الاقتصادية . وقبل انهياره كان للاتحاد السوفييتي ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الامريكية. وبعد قيام الثورة البلشفيّة انتقل الاتحاد السّوفييتي من كونه دولة غير متطورة إلى قوة اقتصادية عظمى. وتؤكد الاحصاءات السّوفييتية تطوّر مساهمة الاتّحاد السّوفييتي في الصّناعة العالميّة من 5.5' الى 20' ما بين 1913 و1980. فما الذي حدث للاتحاد السوفييتي حتى تداعت قوته الاقتصادية. التحليلات الغربية تقول ان التورط السوفييتي في افغانستان كان من أهم عوامل ذلك التردي. فقد كانت خسارة السوفييت كبيرة في الجنود والمعدات، ويقدر عدد القتلى من جنوده ما بين 40 و50 الفا. ويمكن مقارنة ذلك بعدد الجنود الامريكيين الذين قتلوا في فيتنام والذين يقدر عددهم بأكثر من 58 الفا. وبلغ الانفاق اليومي على حرب افغانستان حوالي 40 مليون دولار. يضاف الى ذلك انه في الوقت الذي كان الاتحاد السوفييتي فيه مشغولا بتلك الحرب كانت الولايات المتحدة تطور قدراتها العسكرية وتحقق سبقا متميزا في ما سمي وقتها 'حرب النجوم'. لقد كانت افغانستان مستنقعا للقوات السوفييتية، لم تستطع الخروج منه الا بعد ان انهكت، وكان الانهاك هذه المرة قاتلا، أدى الى تداعي الكيان السياسي والاقتصادي والعسكري للقوة الكبرى الثانية في عالم ثنائي القطبية. ولكن الولايات المتحدة لم تتعلم من التجربة السوفييتية. فأعادت التجربة في العراق وافغانستان. وتقول التقارير ان امريكا وبريطانيا اصبحتا في مستنقع كبير في افغانستان، وانهما لن تحسما الحرب ضد حركة طالبان. هذا ما قاله القائد العسكري البريطاني في افغانستان، اللواء مارك كارليتون سميث، وما كرره رئيس الوزراء الكندي، ستيفن هاربر، وما قاله كاي آيدي، مبعوث الامم المتحدة في افغانستان. بعد هذا العرض، ألا يبدو ثمة تشابه غريب بين حالتي الاتحاد السوفييتي وهو يغزو افغانستان، وحالة الولايات المتحدة وهي متورطة ايضا في العراق وافغانستان؟ فاذا كان النظام الاشتراكي قد عجز عن توفير الامن الاقتصادي او السياسي لمواطني الاتحاد السوفياتي، فان حالة الاضطراب النفسي والتشوش الذهني اصبحت تلازم المواطنين الذين يعيشون في ظل النظام الرأسمالي اليوم. هذه المرة، كان للعولمة أثرها في فرض هذا النظام على العالم، ولذلك فعندما قرعت اجراس الانذار في الولايات المتحدة العام الماضي، بتراجع الاقتصاد نتيجة ازمة القروض السكنية وعدم قدرة المقترضين على الوفاء بالتزاماتهم، لم يستطع احد ان يحتوي الازمة برغم وضوح معالمها من جهة ومعرفة انها سوف تؤثر على الاقتصاد العالمي ولن تنحصر بالاقتصاد الامريكي. وعلى مدى الاثني عشر شهرا الاخيرة، انتشرت الازمة في العواصم الاوروبية وظهرت مشاكل النظام المصرفي العالمي الى العيان. ففي بريطانيا بدأت الازمة بداية هذا العام بأزمة بنك 'نورثرن روك' وتدخل الحكومة لانقاذه بأموال الخزينة. وفي الولايات المتحدة ظهرت ازمة شركة 'الاخوة ليمان القابضة' التي حاولت الادارة الامريكية انقاذها ولم تستطع، لتؤكد الازمة الخطيرة في سوق الشركات القابضة التي تصل قيمتها الى 55 الف مليار دولار. ويضاف الى هذه الشركات عدد آخر مثل شركتي فاني ماي، وفريدي ماك اللتين اشترتهما الحكومة وشركات اخرى مثل المجموعة الا مريكية الدولية وغيرها. والواضح ان المشكلة ليست مختصة بشركة دون غيرها، بل ان هناك نظاما ماليا يحمل اسباب فشله في داخله لان القائمين عليه 'يصنعون' اموالا الكترونية ليس لها وجود في الواقع، وليس هناك ما يدعمها. فمثلا يرى خبراء المال ان المصرف سيكون في مأمن نسبي من الكوارث المدمرة اذا حصر معاملاته المالية ضمن معادلة 1:8 في ما يتعلق بنسبة القروض الى الاستثمارات. اي انه في مقابل كل دولار ايداع، يستطيع البنك اقراض ثمانية دولارات. ومن الناحية المثالية فان المصرف يجب ان لا يقرض الآخرين الا بقدر ما يحصل عليه من ايداعات، وليس اكثر من ذلك. ولكن برغم ما يبدو من اجحاف واضح في النسبة المذكورة، فان القليل من المصارف يلتزم بها، بل ان بعضها يقدم قروضا تبلغ قيمتها مائة مرة ما يحصل عليه من ايداعات. وبالتالي فما ان تتدنى نسبة الثقة في هذا المصرف، حتى يبادر المودعون لسحب اموالهم، ولكن المصرف لا يستطيع تلبية ذلك، فتحدث الازمة، لان الايداعات أقل كثيرا من القروض. هذه المشكلة تتفاقم، ويضطر البنك لبيع بعض قروضه الى المصارف والشركات الاخرى، ولكن اذا تكررت الظاهرة في عدد من المصارف دخلت الازمة في دائرة مفرغة لا تستطيع الخروج منها. انها أزمة لا ترتبط بالاداء الآلي للمصارف والنظام الاقتصادي عموما، بل ترتبط بجوهر النظام وفلسفته ومرتكزاته. فالنظام الاقتصادي الدولي المهيمن على العالم حاليا لا يعتمد مبدأ الانتاج الحقيقي بل يميل بشكل اكبر لتقديم الخدمات المصرفية، ويسعى لمضاعفة العائدات التي تحصل عليها المصارف بدون بذل جهد حقيقي. ففي مقابل الدولار الواحد الذي يتم استيداعه في المصرف، تتم 'صناعة' اموال وهمية تقدم للمقترضين ورقيا او الكترونيا، بدون توفر ما يدعمها من اموال او ممتلكات حقيقية. وليس سرا القول بان الظاهرة المصرفية الحالية كانت توصف بشكل مستمر في وسائل الاعلام بانها 'فقاعة' تنتظر الانفجار. ولكن لا يبدو ان احدا كان يتوقع ان يكون الانفجار بهذا الحجم.
الولايات المتحدة سعت لاحتواء الازمة بالاعلان عن تقديم 700 مليار دولار للبنوك والشركات المهددة بالافلاس، لان ذلك يعمق الشعور ليس بفشل اداري لمصرف او شركة فحسب، بل بعدم جدوى ايديولوجية المذهب الاقتصادي الذي يحركها. الرئيس بوش لم يشأ ان يرى سقوطا مروعا للرأسمالية في عهده، فيتكرر المشهد الذي حدث قبل اقل من عقدين بسقوط النظام الاشتراكي بتصدع الاتحاد السوفييتي. أقرت خطة الانقاذ هذه بعد تلكؤ في اوساط الكونغرس، ومن السابق لاوانه التنبؤ بمدى فاعلية هذه الخطة والخطط الاوروبية والعالمية الاخرى لانقاذ النظام المصرفي، وان كانت هناك بوادر انتعاش محدودة في اسواق المال.
__________________
تحت الترميم
|