لقد ارتكب منظرو المشروع الاقتصادي الرأسمالي أخطاء مدمرة عندما شجعوا المواطنين على الانفاق غير المحدود. ففي أعقاب حوادث 11 ايلول/سبتمبر، وقف وزير الخزينة الامريكي، بول أونيل امام جلس الشيوخ قائلا: 'ان على كل امريكي ان يعلم ان الاستمرار في العمل والانفاق يعني قيامه بدوره في استعادة اقتصادنا وبلدنا'. وفي العام 2003، أصر السيد ألان غرينسبان، رئيس الاحتياطي الفيدرالي الامريكي امام إحدى اللجان الحكومية ان من الخطأ فرض المزيد من القيود على السوق. بينما كان المفترض ان تنشر ثقافة جماهيرية بترشيد الانفاق، وفرض قيود أشد صرامة على سياسات الاقراض التي تمارسها المصارف التي تقدم قروضا بأكثر من ستة اضعاف الاجور، الامر الذي يؤدي الى عدم قدرة المقترضين على ادائها. كان يفترض تثقيف المستهلكين بضرورة عدم الاستعمال المفرط للبطاقات الالكترونية التي تثقل كاهلهم وتوفر اموالا سهلة للشركات التي تصدرها. والأهم من ذلك كان على المنظرين الاقتصاديين استيعاب دروس الماضي، خصوصا مرحلة الكساد الكبير الذي حدث في الثلاثينات من القرن الماضي، بان إطلاق أيدي المصارف في الاقتصاد يعني اخضاع المستهلكين لاستغلال تلك المصارف والقائمين عليها. لقد حدثت هناك مفارقات كبيرة في الممارسات الاقتصادية. اذ ما معنى ان تتجاوز رواتب المدراء الكبار في الشركات والمصارف عشرات الملايين دولار سنويا، بينما لا يتجاوز معدل دخل الفرد في تلك البلدان 30 الف دولار سنويا؟ وما معنى بث ثقافة تملك البيوت في بلدان مكتظة بالسكان، وغير قادرة على تحمل ما يتطلبه التملك من سيولة للشراء والخدمة؟ كيف يسمح للشركات البشعة بالاستمرار في امتصاص دماء الآدميين بوسائل الترغيب تارة، والاستغلال أخرى، والتحايل المقنن ثالثة؟
ما الحل؟ لم يخرج أحد من السياسيين بحلول ممكنة للازمة التي تتعمق بشكل مضطرد، وربما لم تبلغ ذروتها بعد. ويبدو ان الغربيين بدأوا 'خطوات' نحو الحل، ليس باعادة النظر في فلسفة النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يزيد الثري ثراء، والفقير فقرا، بل بثلاث خطوات اساسية: اولها الضغط على دول النفط العربية لضخ ما حققوه من اموال نفطية هائلة في الاعوام الاخيرة، في الاقتصادات الغربية. ثانيها: اجبار بعض الدول النفطية على ضخ المزيد من النفط في الاسواق للضغط على الاسعار، حتى بلغت الآن نصف ما كانت عليه قبل شهور معدودة. ثالثها: السعي الحثيث لاستعادة الثقة بالنظام الاقتصادي ليس باصلاحه جذريا، بل بضخ المزيد من الاموال العامة لدعم المؤسسات التي هي سبب المشكلة اساسا، وتقييد حريات المواطنين في اختيار الحزمة المالية المناسبة لاحتياجاتهم من المصارف. انها اجراءات محدودة وغير فاعلة، ولا تتناسب مع حجم المشكلة وابعادها. انها محاولات تعكس ضعفا اداريا خطيرا، وابتعادا عن الاسباب الحقيقية وراء الكساد والتضخم. ولذلك فما تزال الاسعار في تصاعد مستمر في الوقت الذي بدأت فيه المصارف باعادة تملك البيوت عندما يعجز اصحابها عن سداد المستحقات المترتبة على قروضهم. وقد آدى ذلك الى تصاعد متواصل في اسعار الغذاء، حتى اصبح في اغلب بلدان العالم في غير متناول ايدي الطبقات الفقيرة في المجتمعات. وحتى الولايات المتحدة بدأت تخطط لدعم المواطنين ذوي الدخل المحدود بعد ان اصبحوا عاجزين عن تحمل نفقات العيش اليومي لعائلاتهم. ان العالم اليوم ينتظر على كف عفريت، بعد ان اصبح سكانه مرتهنين لدى المصارف والشركات المتعددة الجنسية وشركات المال القابضة، وكلها تضع الفقراء نصب اعينها، ليس بهدف مساعدتهم على تحمل شظف العيش، بل لامتصاص ما لديهم من اموال مهما كانت ضئيلة. فالنظام الاقتصادي الغربي لم يخلق لخدمة المواطنين، بل لحماية اصحاب رؤوس الاموال والتفنن في تحصيل القدر الاكبر من الفوائد من الضعفاء والفقراء. لقد حان الوقت لاعادة النظر في النظام الاقتصادي الدولي، والاستفادة من الرؤى الدينية التي ترفض الاستغلال ولا تقر مبدأ فوائد القروض التي تثقل أعباء الفقراء. فالأزمة هذه المرة ليست كبوة، بل سقوطأ مروعأ لنظام اقتصادي ـ سياسي يفرض على العالم بالقوة. ليس معلوما بعد ما اذا كانت إجراءات الانقاذ التي اتبعت حتى الآن قادرة على انعاشه واعادة فرضه على الآخرين.
' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
__________________
تحت الترميم
|