(4)
تمنح الحركات المكررة، والأعمال المتراكمة في أي مجال، أصحابها مهارات يتميزون فيها عن غيرهم. وقد يتعب أحدنا نفسه في البحث عن تلك المهارات في بطون الكتب ولن يجدها، فالاصطفاف بحلقات (الدبكة) ومراسيم تحضير طعام شعبي، أو البداية في هتاف تشجيع أحد فريقي كرة قدم في مباراة، كلها مهارات من هذا النوع.
كذلك هي الحيل الشعبية في الانتخابات البلدية أو البرلمانية، لا تخضع لخطوات مكتوبة، ولم يناقشها السياسيون في كتبهم، حتى وإن فسروها بعد حدوثها، فإن التنبؤ بالكيفية التي ستسير عليها، يبقى مجالا لم تتناوله مثل تلك الدراسات المكتوبة.
كان أهل البلدة يعلمون أن من يُزاحم على رئاسة البلدية في الانتخابات سيكون عرضة لعدم النجاح لأن المتحالفين معه سيحجبون عنه الأصوات (هذا في الأنظمة التي تجعل من اتفاق الناجحين على تسمية أحدهم رئيسا كما هي حال البلدة موضوعة السرد). ولكي يتجاوزوا تلك العقبة، اتفقت جميع الأطراف لتسمية العقيد المتقاعد فؤاد مرشحا للرئاسة وكان له ذلك بعد نجاح تسعة من أعضاء كتلته.
(5)
بعد استقبال المهنئين وإتمام الاحتفالات، عقد المجلس البلدي أول اجتماعاته بغياب العضو (فهمي: الرئيس السابق).
كان أكثر من نصف أعضاء المجلس، يرغبون في الخدمة من أجل الخدمة، أو هكذا كانوا يعلنون، فبادر الرئيس المنتخب (فؤاد) بإحضار المصحف الشريف، وأقسم أنه لن يعود لترشيح نفسه مرة أخرى، وانتقل القرآن الى الأعضاء الآخرين فأقسموا عليه مثلما فعل رئيسهم.
انتقل المجلس لتوزيع مسميات العضوية، فابتدءوا بنائب الرئيس الذي تنافس عليه اثنان من الأعضاء، فوضعت ورقتان كتبا على كل منهما اسم مرشح، وتكريما لكبر سن الشيخ (مطيع) اتفق الجميع على أن يسحب ورقة من المغلف ليكون نائب الرئيس من كتب اسمه عليها، وتم ذلك دون أي خلاف.
تناوب معظم أعضاء المجلس على الحديث، فمنهم من قدم مشكلة التمويل على بقية المشاكل، ومنهم من قدم مشكلة مخالفات البناء على بقية المشاكل، ومنهم من اعتبر أن الكادر الوظيفي الذي يبلغ مائتان وخمسون موظفا وموظفة هم من أكبر المشاكل، حيث أن نسبة المعاقين بينهم تزيد عن الثلث، وعدم الكفاءة تسيطر على البقية، وأن هؤلاء الموظفين قد جيء بهم كترضية للمؤثرين في عمليات الانتخابات للتجديد لمن يسعى في توظيفهم، وقد تراكمت تلك العينات على المجالس البلدية فأصبح هذا الكادر يستحق لقب أسوأ جهاز وظيفي في تاريخ البلديات.
هنا، بادر المهندس (العضو المنتخب) وطلب إحضار القرآن ليقسم عليه الجميع، أن لا يسعوا بتوظيف أي مستخدم جديد، وأن يحاولوا تدريب الجهاز الوظيفي القائم قدر المستطاع، وأن من لم يتقدم في كفاءته أن يذهب لبيته وسيأتيه راتبه كل شهر، وأكد أن ذلك أقل ضررا على البلدية وعلى مصالح المواطنين، فهو لن يستهلك مياه ولن يهدر من القرطاسية ولن يقصر من عمر أثاث وبناء البلدية. ابتسم الجميع ووافقوا على ذلك.
استغل رئيس البلدية والذي يترأس الجلسة فرصة التقاط الأعضاء لأنفاسهم، وبلغهم بأن أحد وجهاء البلدة، ينتظرهم لتناول طعام الغداء. لم يعلق أحد على ذلك، فمنهم من اعتبر ذلك من مقتضيات العمل في مثل تلك المؤسسات، ومنهم من اعتبر ذلك تمهيدا لإثقال المجلس بتوسط لغض النظر عن مخالفة ما، ولكنه آثر السكوت، حتى لا تصل كلماته لصاحب الدعوة!
لكن المهندس، علق قائلا: لم يكن هذا الرجل يوجه لنا الدعوات لو لم نفز بانتخابات البلدية، إذن فهو يدعو شخصياتنا الاعتبارية، لا شخصياتنا المجردة، وإني أعلن أنني لن ألبي مثل تلك الدعوات لا هذه ولا ما سيتبعها من دعوات، وأنصحكم أن لا تستجيبوا لمثلها إن أردتم العمل النزيه. استجاب لطلب المهندس كل من نائب الرئيس والعضو (النقابي العمالي).
(6)
بعد مرور أسبوع، كان المجلس أو الأعضاء التسعة قد عقدوا خمسة اجتماعات في بيوتهم (بالتناوب) لبحث مسائل تتعلق بالسياسات الواجب إتباعها، فمنها ما كان يناقش عادات إطلاق الأعيرة النارية في الأعراس والاحتفالات، ومنها ما كان يناقش تعبيد 72 كم طولي من طرقات البلدة، وتقسيم هذه الخطة على أربعة سنوات (مدة الدورة الانتخابية) وكيفية التحايل على التمويل، ومنها ما كان يعني بتسرب التلاميذ من المدارس ومنها ما كان يتعلق بتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة بالاستعانة بالجامعتين القريبتين من البلدة، ومنها ما كان يتعلق بتشجيع الشعراء والكتاب والمبدعين وتنظيم مهرجان سنوي لهم في الملعب الرياضي.
في هذه الأثناء، وبعد أن ابتدأ الاجتماع الرسمي الثاني في مبنى البلدية، دخل الرجل صاحب دعوة الغداء، ومعه أحد أقاربه وكان في الستين من عمره، وقد كان يعمل في قطاع البناء قبل خمسة عشر عاما، فسلم على الجميع وقطع الجميع كلامهم، وأخذوا بمجاملات لا معنى لها معه، فانتبه نائب الرئيس أن ذلك مخالفا، ولكنه لم يشأ أن يكون فجاً ويطلب من صاحب الدعوة أن يخرج لأن المجلس في حالة اجتماع، فنبه الرئيس لوجوب العودة لجدول أعمال الاجتماع.
لكن صاحب الدعوة، التفت إليه، وعاتبه: (أنا زعلان منك)، فرد عليه النائب: لماذا؟ فقال: أطعامنا لا يؤكل؟ فاعتذر أنه كان مشغولا و أضاف (خيرك سابق) ..
أدرك الستة الذين لبوا الدعوة أن الممتنعين لتلبية الدعوة كانوا أكثر حكمة منهم.
قال صاحب الدعوة: أنا لا أريد أن أعطلكم عن اجتماعكم، ولكن حرصي على خدمة البلدية ومصالح المواطنين هو ما دفعني للحضور الى هذا الاجتماع، وأحال الحديث لمن معه، فقال: أعلم أن البلدية تهدر الكثير من الأموال لترميم القنوات والعبارات والأطاريف، وكلكم تعرفون أني خبير بأعمال البناء، وقد اعتزلت هذا العمل منذ مدة، ولكن إسهاما مني في خدمة بلديتكم التي هي بلديتنا والتي لم تحظ في يوم من الأيام بهذا القدر من الكفاءات الممثلة بهذه النخبة الشابة، قررت أن أعدل عن قراري في الاعتزال ووضع نفسي تحت خدمتكم!
قاطعه المهندس ضاحكا: من يسمعك سيقول أننا تحايلنا عليك كثيرا من أجل القبول بمثل هذا العمل. ثم جعل من لهجته أكثر صرامة وقال: أترى هؤلاء الأعضاء ؟ لقد أقسموا أيمانا غليظة على أن لا يوظفوا أحدا طيلة مدة دورتهم، أرح نفسك من تلك المهمة.
تجهم صاحب الدعوة، ونظر الى المهندس شزرا واستأذن وخرج.
__________________
ابن حوران
|