عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 03-01-2009, 08:16 PM   #8
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

القدس بين سقوطين




إن أحداث غزة التى نشهدها اليوم ، ورغم تعاطف كل الشعوب العربية والغربية على حد سواء .. لا أكاد الوم فيها كلها سوى قطر واحد .. بلد واحد .. طالما كانت هذه البلاد تحت حمايته عبر هذا التاريخ وهو وحده منوط بها أكثر من غيرها .. مصر ..

ولماذا مصر ؟
فلسطين أرض رباط وثغر من ثغور الإسلام رغم ما يحيط بها من بلدان مسلمة لكنها مطمع لشعارات شتى أكانت صليبا أم نجمة زرقاء .. لذا كان على كل المسلمين واجبا مقدسا للجهاد والذود عنها وعلى مصر خاصة بحكم موقعها الجغرافى أن تحمل أكبر هذا الشرف وهذا العبء .. فلا أمان مطلقا لمن يملك فلسطين طالما لم يأمن مصر وسنجد هذا واضحا جليا منذ نشأة الحرب وفنونها .. أضف إلى كل هذه الأسباب أسبابا أخرى منها إرتباط شعب مصر بهذه الأرض إرتباطا روحيا وثيقا حتى تكاد القلوب فى هذه الأمة أن تخفق وتحلق مع النسائم شرقا كلما ذكر القدس أو استرجع الدهر أحداثه فيها .

لقد كانت الحملتين الصليبية والصهيونية متشابهتان إلى حد كبير ..
ومن أهم أوجه الشبه، أن الدين قد اتخذ ستارا وشعارا في الحملتين، ففي الأولى كان الصليب هو الشعار، وفي الثانية كان الشعار هو نجمة داود … وكان الهدف الظاهر في الأولى "إنقاذ القبر المقدس"، وفي الثانية كان الهدف "إعادة بناء هيكل سليمان".

ولكن الواقع الذي لا مراء فيه أن الحملة الصليبية كانت مجرد غزوة استعمارية استيطانية، كالغزوة الصهيونية المعاصرة سواء بسواء…والدلائل على ذلك سهلة المنال.

فهذا المستشرق المعروف لامونت يقول عن الصليبيين أنهم "لم يحاولوا الاستيلاء على البلاد الإسلامية لكونها بلادا إسلامية….بل خرجوا ليستولوا على البلاد وليؤسسوا فيها إمارات لهم…."وأن أمراء الإفرنج "كانوا يستهدفون غايات دنيوية محضة " …وأن الواحد منهم "لم يجد أي بأس في أخذ البلاد من أيدي المسلمين واليونان والأرمن أو من أيدي أبناء جنسه من الإفرنج".

وهذا مؤرخ غربي آخر هو "غروسيه" يقول في عبارة جازمة عن "الحاج" الذي ذهب لزيارة الأماكن المقدسة في بيت المقدس بأنه "أصبح رجل فتح يذهب لإنشاء ممالك تحت شمس الشرق، كما اتجه بارونات الأرض المقدسة إلى تطبيق سياسية استعمارية".

بل إن مؤرخا غربيا منصفا قد أدان الحملة الصليبية بأنها "أول تجربة في الاستعمار الغربي قامت بها الأمم الأوروبية خارج حدود بلادها لتحقيق مكاسب اقتصادية واسعة النطاق.

والواقع أن أهل الصليب أنفسهم لم ينجوا من الحملات الصليبية. فقد ارتكب الصليبيون مع أخوانهم في الدين في بلغاريا والمجر فظائع رهيبة، وهم في طريقهم إلى بيت المقدس. وحين وصولهم إلى القسطنطينية خربوا الكنائس ونهبوا نفائسها، واقتحموا كنيسة القديس أيا صوفيا وهم سكارى، وعبثوا بما فيها من ستائر وأدوات وكتب مقدسة فحرقوها وداسوها بأقدامهم، ونهبوا ذخائرها، وما حوته من آلات ورخام، وحملوه معهم إلى الديار المصرية والشام، وبيع في الأسواق، ووصل منه إلى دمشق رخام كثير.
ومثل هذا قد فعلته الحملة الصهيونية في فلسطين، فقد هدمت المساجد والكنائس والمقابر، وأحرقت جانبا من المسجد الأقصى، ونهبت النفائس الدينية من كنيسة القيامة.

وأوجه الشبه أكثر من أن تحصى بين الحملة الصليبية والحملة الصهيونية، والدين الحق براء من الحملتين.

لقد إقتربت الحملة الصليبية الأولى الآن على مشارف القسطنطينية وتوغلت في آسيا الصغرى، واخترقت جبال طوروس، وها نحن نجدهم في تشرين الأول سنة 1098 معسكرين حول أسوار أنطاكية، وسيوفهم مشرعة نحو ديار الشام، وبيت المقدس هوالغاية والنهاية.

ودارت معركة رهيبة من أجل أنطاكية والإفرنج يستميتون للاستيلاء عليها، فهي باب المشرق العربي….والعرب يستبسلون في الدفاع عنها، دفاعا عن الوطن العربي بأسره.
ولكن العرب الذين نعنيهم هنا، هم القوات العربية في أنطاكية وما حولها. أما حكام العرب في بغداد ودمشق والقاهرة، فلم يكن الأمر يعنيهم من بعيد أو قريب .

وكانت حلب ودمشق أقرب الحواضر العربية إلى أنطاكية، وهما أولى بالنجدة من غيرهما.... ولكن الذي جرى أن الصراع كان على أشده بين الأخويين – العدوَّين الألدَّين: رضوان ملك حلب، ودقاق ملك دمشق .
وبسبب هذا الصراع على دمشق….وقف الملكان، دقاق ورضوان، يشاهدان أنطاكية وهي تقاتل الإفرنج وحدها….دون أن يدريا أن القدر والإفرنج يخبئان لهما معا أوخم العواقب والنوائب…

وما أشبه اليوم بالبارحة ..


وقد لعبت الخيانة دورها في معركة أنطاكية ..


وسقطت إنطاكية ...


وكان سقوط أنطاكية في اليوم الثالث من حزيران عام 1098. وكانت هزيمة مروعة، لا تقل ضراوة عن هزيمتنا المعاصرة في حزيران المشؤوم…
ويشهد مؤرخ أجنبي أن الإفرنج قد ذبحوا في أنطاكية ما لا يقل عن عشرة آلاف من أهلها، واضطرالجند إلى المسارعة في دفن الجثث قبل أن ينتشر الوباء في المدينة .

وفي أوائل الشتاء (11 ديسمبر 1098) حين كانت الرياح الباردة تتناوح السهول السورية، اهتزت رفات أبي العلاء المعري فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وهي تضج في قبره…ذلك أن الإفرنج قد اقتحموا بلدته التاريخية "فقتلوا أكثر من عشرين ألف رجل وامرأة وصبي" في رواية اين العديم، "وما يزيد على مئة ألف" في رواية ابن الأثير. أما أحد المؤرخين الغربيين فقد ذكر أن الإفرنج قد أحرقوا المعرة أولا عن آخر.

ولكن ديار الشام كانت مهيأة للهزيمة أمام الإفرنج، فقد كانت البلاد مجموعة ممالك وأمارات.

فهذه إمارة في أنطاكية يحكمها أحد الأمراء، واسمه سيَّان.
وهذه مملكة في حلب على رأسها الملك رضوان.
وهذه مملكة في دمشق على رأسها المملك دقاق.
وهذه إمارة في حمص يحكمها شمس الدولة جناح بن ملاعب.
وهذه إمارة في الموصل يحكمها أحد أمراء التركمان واسمه كربوغا.
وهذه إمارة في حماة يحكمها سلمان، أمير آخر من أمراء التركمان.
وهذه إمارة في حصن عزاز، شمالي حلب، وعلى رأسها الوالي عمر.

كانت هذه هي الحال في ديار الشام، أما الحال في مصر والعراق فكانت أشد تمزقا….خلافة فاطمية شيعية في القاهرة، وخلافة عباسية سنية في بغداد، وأوصال مفككة، تسودها الشحناء والبغضاء…والشعوب هي الضحية، والوطن هو الثمن.

لقد كانت القدس تحت إمرة الخلافة الفاطمية ومقرها مصر .. شأن فلسطين عبر أكثر أوقات هذا التاريخ .. والأشد ألما أن سقوطها الأول والثانى كانت فيهما تحت حماية مصرية ..
إذا تصفحت أقرب خارطة لهذه المنطقة فسوف ترى بعينيك حقيقة هامة .. إن مصر إمتداد فلسطين وفلسطين إمتداد مصر .. ليس فحسب إمتدادا جغرافيا .. برا وبحرا ستجد أن فلسطين فى أحضان مصر .. أضف إلى هذا كثافة العدد والقدرات البشرية الكثيرة والخبرة العسكرية ووفرة المال ، كل هذه العوامل جعلت من شعب مصر جيشا من الفلاحين والتجار الذى يسهل تشكيله فى وقت جدّ قصير وهنا مكمن خطورتها .. لذلك لا تجد حملة صليبية على بغداد أو دمشق رغم تساوى الخطر فى هاتين العاصمتين .. لكن لا أمان أبدا لمن يملك فلسطين سوى بتشكيل عمق دفاعى له فى مصر .. وقد برزت هذه الحقيقة عند كل جنرالات وقادة الحرب منذ هذا الوقت السحيق .. بدءا من بلدوين وحتى عمورى ملك مملكة القدس الذى لم يهدأ إلى أن يضم مصر إلى سلطانه .. ولم يترك له صلاح الدين هذه الفرصة أبدا بل جاهده على كل بقعة فيها واستمات فى الدفاع عنها بشراسة عجيبة سنأتى عليها فى وقتها .. لم يكن كل هذا سوى لإدراكه بأهمية مصر الإستراتيجية فى خطة تحرير بيت المقدس ..

ظلت فلسطين وبالأخص القسم الجنوبى منها تحت رعاية وحماية مصرية وحتى العام 1967 حين إجتاحت الآلة النازية الصهيونية هذا القطاع وعجزت مصر فى الدفاع عنه ولا عن أرضها والأكثر ألما حين تخلى عنها جنرالات الحرب فى حرب العاشر من رمضان لتظل تحت الأسر والقيد إلى يومنا هذا ..


إستغاثت فلسطين ببغداد ولكن لا حياة لمن تنادى .. وكانت ذروة المآسي وقمة المخازي قد رست على رأس الخلافة الفاطمية في القاهرة، فلم يكتف الفاطميون بالقعود عن الجهاد والتخاذل في معركة العروبة والإسلام، بل راحوا يعملون على إقامة تحالف مع الإفرنج نكاية بالسلاجقة المسلين في سورية ، وبالخلافة العباسية في بغداد، ويا لخزي الزمان وعار الأبد!

وكان صاحب الأمر والنهي في القاهرة في تلك الأيام الحالكة السوداء، الخليفة الفاطمي المستعلي، والوزير الأفضل بن بدر الجمال، أثبتت الأيام أن نكبة الإسلام كانت على يد هذا "المستعلي" وذاك "الأفضل".

وموجز النكبة التي تستعصي على الإيجاز أنه حين كانت المعارك الطاحنة دائرة بين العرب والإفرنج حول أسوار أنطاكية، بعث الوزير الأفضل بسفرائه إلى معسكر الإفرنج لإقامة تحالف بين الفريقين، بحيث تكون أنطاكية للإفرنج، وبيت المقدس للفاطميين!!

وقد اهتز التاريخ العربي غداة أن سقطت أنطاكية ، وراح يصيح مستنكرا ومنددا بموقف الوزيرالأفضل .
بل إن التاريخ قد ذهب إلى أبعد من ذلك, واتهم الخلافة الفاطمية بمصر بأنها هي التي دعت الإفرنج لاحتلال ديار الشام نكاية بالسلاجقة المسلمين الذين كانوا ينافسونهم في المشرق العربي. وقال التاريخ بأفصح كلام "أن أصحاب مصر (الفاطميين) ,وقد رأوا قوة الدولة السلجوقية واستيلاءها على بلاد الشام….خافوا، فأرسلوا إلى الإفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوها ويكونوا بينهم وبين المسلمين ولو أن الفاطميين، قد ذهبوا إلى أنطاكية محاربين مجاهدين، لا مفاوضين لا خائنين….لو أنهم شدوا أزر القوات العربية التي كانت تتصدى للإفرنج، لأرتدت الحملة الصليبية الأولى على أعقابها، وما استطاعت أن تجتاح في ما بعد ديار الشام، وفلسطين، وسيناء، والقاهرة نفسها مقر الدولة الفاطمية ويغرق العالم العربي في النهاية في خضم المصائب والويلات عبر مئتي عام ويزيد..

ولم يكن الإفرنج بالقوة الخارقة التي لا تقهر، فإن حرب أنطاكية قد أرهقتهم إلى حد بعيد، وتخلى كثيرمنهم عن المعركة وعادوا إلى بلادهم وقد بلغ من الضائقة التي حلت بهم أنهم على حد تعبيرا بن الأثير، "ليس لهم ما يأكلون، وتقوَّت الأقوياء بدوابهم، والضعفاء بالميتة وورق الشجر .

__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس