انتخابات نقابة مهنية
تختلف النقابات المهنية عن النقابات العمالية أو الحرفية، بأن النقابات المهنية تضم في صفوفها أصنافا من المهن الطبية (أطباء وأطباء أسنان) والهندسية والجيولوجية والممرضين والبياطرة والزراعيين والمحامين وأحيانا في بعض الدول العربية تشمل الصحافيين ومهن أخرى. في حين لا تشمل في مسماها عمال البناء والسكك وعمال الكهرباء والحلاقين وعمال المطاعم الخ.
النقابة بشكل عام مخترع لم يُستنبت في بيئتنا، بل نشأ مع بدايات النهضة الصناعية في أوروبا، وقد جاء لرفع جور أصحاب العمل عن العمال ولتكون النقابة ممثلا لجمهور العمال الذين يريدون رفع أجورهم أو يريدون تقليص ساعات العمل، أو أي مطلب آخر.
هناك من يقول أن النقابة مخترع عربي، ظهر في العصر العباسي، عندما كان لكل حرفة شيخ يرجع إليه المختلفون ليحكم بينهم، فهذا شيخ للوراقين، وهذا شيخ للتجار، يضع ما يشبه القوانين لإبطال صفقة بين اثنين، الخ. وهناك من يقول أن (القرامطة) هم من ابتكر فكرة تنظيم أصحاب المهنة، فقد ابتدءوا بساسة الخيول من (الزنج ) ليحرضونهم على الدولة العباسية!
على أي حال، لقد دخلت فكرة النقابات الحديثة على بلادنا، كما دخلت معها أشكال من المفاهيم المهجنة فهذه قومية وهذه اشتراكية وهذه حزبية، لقد دخلت الى منطقتنا دون ربط ماضيها بحاضرها ودون تهيئتها لتكون خادمة لتحقيق المستقبل الذي يحلم به أبناء الأمة، فكانت كاستيراد أبقار (الفريزيان والهولشتاين) تعطي حليبا في هولندا وألمانيا ثلاثة أضعاف ما تعطيه في بلادنا، علاوة على أنها حلت محل أصناف محلية عاشت مع شعوبنا منذ الأزل!
(1)
كان (قمر الدين) ابن الخمسين عاما، خريج الجامعات التركية، وصاحب شركة هندسية تهتم في تزويد المنشئات بنظم الري الحديثة، كان شخصا أنيقا يعرف كيف ينتقي ملابسه الفاخرة وعطوره الملائمة التي كأن من ابتكرها وضع أمامه ربطات عنق (قمر الدين) وأخذ يجرب أي العطور أكثر ملائمة لتلك الربطات.
استطاع قمر الدين أن يجمع أرقام هواتف مجموعة من المهندسين الذين يتوسم بهم أن يكونوا مؤثرين في مناطقهم، وكان عندما يرفع سماعة الهاتف ليتصل بأحدهم، يبادر بصوته الدافئ القريب من القلب ليشعر المستمع أن حدثا مهما سيظهر من تلك المكالمة، فبعد أن يشعره بافتقاده الطويل، ويسأل عن صحته وشأن معين تدرب على معرفة تفاصيله، يستنهض همته في موضوع الانتخابات المقبلة، ولا بد أن يذكر له مسألة يكره الذي على الطرف الآخر من أنها ستتحقق إذا لم يبادر للوثوب والاصطفاف من أجل منع تحقيقها.
بعد يومين من مكالمة قمر الدين بالأسماء التي أدرجها في قائمته، يقوم أصحاب تلك الأسماء بالاتصال ببعضهم البعض، فتكون حركتهم كحركة الدوامة في ماء نهر تلتف لتعود الى مركزها. والغريب أن أحدا من هؤلاء لم يستنكف عن الاستجابة لنداء (قمر الدين)، ليس لأنه قائد فذ، وليس لأنه ابن مبادئ وابن نضال، وليس لأنه ودودٌ مع رفاقه، فلم يكن لديه واحدة مما ذكر. بل لأن هؤلاء الأفراد لا يريدون تفويت فرصة يؤكدون فيها ذاتهم. فأحدهم يفرح عندما يُنسب عنه قول يعاتبه فيه آخر، ويفرح أكثر عندما (يقبل) أحد المرشحين رأسه طالبا منه المساعدة.
يتفق الجميع على حضور اجتماع موسع لأنصارهم في قاعة النقابة المركزية، ويحددون موعدا لذلك.
(2)
كان (عصام) ابن تنظيم إسلامي سياسي، وهو يقف على رأس جماعة تنافس الجماعة التي فيها (قمر الدين). كانت جماعته تتقن لعبة الصوت بطريقة أفضل من الطريقة التي تتبعها الجماعة الأخرى. فالجماعة الأخرى تعتمد أسلوب التحالف بين مكونات المعارضة الكلاسيكية، فهذا يمثل حزب كذا، وهذا يمثل حزب كذا، وهذا من الجبهة الفلانية، وهذا من المستقلين القوميين وذلك من اليساريين المنشقين وهكذا، في حين كان عصام وجماعته يطرحون أنفسهم كفصيل نقي خال من أي عنصر خارج عنه.
كان عصام شابا ذكيا ابن ثمانية وثلاثون عاما، له علاقات واسعة مع الكثير من المهندسين، وفوق ذلك، كان ابن تنظيم سياسي خبر لعبة الصوت بإتقان، كان يخابر بعض المهندسين الذين يتمتعون بسمعة جيدة وسلوك قويم، وقد تنقلوا في سنوات عملهم بأكثر من أربعة أو خمسة شركات كبرى، وكونهم كذلك فإنهم ولا بد قد تعرفوا أثناء خدمتهم على المئات من المهندسين، خصوصا عندما ينتقلون من مدينة لمدينة لعرض سلعهم وخدماتهم.
كانت تلك الجماعة، تبحث عن وجوه (نجيحة : أي قابلة للنجاح في الانتخابات)، وكانت صيغة المخاطبة لهؤلاء المهندسين، أن الجماعة قد وقع اختيارها عليك لأن تكون أحد أعضاء الكتلة الانتخابية للنقابة، كان من يُعرَض عليه هذا الأمر، يشعر بدفقة من الاعتزاز بالنفس، أن الجماعة الفلانية قد زكته على أنه رجل مستقيم ومحبوب، وهذه فرصة لأن يصبح أحد أعضاء مجلس النقابة وبالتالي فإن باب الأحلام سيفتح أمامه ليكون مستقبلا شخصية عامة يُنسب عنها أنها قالت كذا وقد يُنسب عنها أنها حاولت فعل كذا.
كانت الجماعة تكتفي بواحد أو اثنين من أعضاء المجلس من الملتزمين تنظيميا، وتختار بقية أعضاء المجلس من الوجوه القابلة للنجاح، وهي بفعلها هذا، تضمن كسب أصوات هؤلاء المرشحين غير المنظمين، وتهيئ هؤلاء المرشحين لينخرطوا تنظيميا في صفوفها المنضبطة.
كان كل مرشح من المستقلين الذين خاطبتهم جماعة عصام يعتقد أنه الوحيد الذي أضيف للكتلة من خارج التنظيم، فكان يحرص على موافقة رئيس الكتلة الذي ينقل توجهات تنظيمه. ولم يحدث أن اعترض أي من هؤلاء المستقلين على توجه الجماعة، لشعوره بأنه مدين لتلك الجماعة بمنحه (حظوة) أن يكون محسوبا عليها.
__________________
ابن حوران
|