عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-04-2009, 09:01 AM   #27
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

غزوة مؤتة


أحاط بالنبى نخبة من كبار الرجال مختلفون فى الأعمار والأقدار .. مختلفون فى البيئات والأحساب .. مختلفون فى ملكات العقول وضروب الكفايات .. مختلفون فى فهم الدين وبواعث الإسلام .. فكان إختلافهم هذا آية من أصدق الآيات على رحابة الأفق وتعدد الجوانب فى نفس ذلك الإنسان العظيم ..

وما من عظيم من هؤلاء العظماء إلا كان تقدير النبى إياه بقدره الصحيح آية على عرفانه الشامل بخصائص النفوس وسبره العميق لأغوار الطبائع والأفكار .. ولكن تقديره لخالد بن الوليد على التخصيص كان آية الآيات فى هذا الباب .. لأنه لم يكبره إكبار السياسى الذى يستجمع القوة حواليه وينزل كل زعيم منزلة قومه .. وإنما أكبره لأنه عرف أقصى مستطاعه قبل أن يظهر من مستطاعه كثير .. وسماه "سيف الله" وبينه وبين الوقائع التى استحق بها ذلك اللقب الجليل بضع سنوات .. بل سماه سيف الله وهو قافل من معركة يتلقى المسلمون من عادوا منها بالنكير والتشهير .. ويحثون فى وجوههم التراب ويصيحون بهم أينما وجدوهم .. يا فرار .. يا فرار .. فررتم فى سبيل الله ..

لم يكبر النبى خالدا كما أكبر ابا سفيان تألفا له ورعيا لمكانته فى قومه ولكنه أكبره للصفة التى سيوصف بها فى تاريخ الإسلام بعد إهتدائه إليه ببضع سنوات ..

أكبره لأنه "سيف من سيوف الله" والناس لا يرون إلا الهزيمة والإرتداد .. ولم يكن النبى موليه القيادة فى المعركة التى ارتد منها بجيش المسلمين فيقول قائل انه ينصر المسئول عن إختياره ..

كثير من رؤساء الأمم يعرفون موضع الإكليل من رؤوس القادة وهم منتصرون ظافرون .. ولكنه موضع يخفى جد الخفاء عن أنظار هؤلاء الكثيرين إذا لم يدلهم عليه ضياء النصر والظفر .. ويبقى للعين الملهمة وحدها أن تراه فى ظلام المحنة والبلاء ..

وقد يعجب المؤرخون كيف سُمى "سيف الله" بعد مؤتة وفيم إستحق هذا اللقب الذى لا يعلوه لقب فى الإسلام .. والنبى توفاه الله فى السنة الهجرية العاشرة .. لكنه عرف أنه حقيق بذلك اللقب وسماه به قبل أن يهزم المرتدين وقبل أن يهزم الفرس والروم وقبل أن يصون للإسلام جزيرة العرب ويضم إليها العراق والشام .. وهى الأعمال التى استحق لأجلها كلها ..

سيف الله المسلول ..

كان خالد الذى بلغ الآن الثالثة والاربعين مسرورا فى المدينة حيث أصدقاءه القدامى ، ووجد أنه موضع حفاوة وتكريم من الجميع .. وتم نسيان النزاعات القديمة وسادت المدينة روح جديدة .. وعكف خالد على زيارة النبى باستمرار ليتعلم الإسلام ..

بعد وصول خالد إلى المدينة بثلاثة اشهر ، سنحت له الفرصة ليظهر ما يستطيع أن يفعله كجندى وكقائد للدين الذى اعتنقه ..

بعث رسول الله مبعوثا إلى أمير بصرى الغسّانى .. وحمّله رسالة تدعو هذا الزعيم لاعتناق الإسلام .. وعند وصول المبعوث إلى مؤتة اعترضه شرحبيل بن عمرو الغسّانى .. وقتله .. واعتبرت هذه الجريمة عملا شائنا بين العرب وغيرهم على حد سواء .. لأن المبعوثين الدبلوماسيين كانوا يتمتعون بحصانة ضد أى إعتداء بالرغم من عداوة الجانب الذى يمثلونه ..

وأُعدت حملة فى الحال لتأديب قبيلة غسّان .. وعيّن النبى زيد بن حارثة قائدا للحملة فتجهز الناس للخروج وعدتهم 3000 مقاتل من بينهم خالد جنديا ضمن صفوف المسلمين ، كانت المهمة تتلخص فى البحث عن الرجل المسؤول عن جريمة قتل المبعوث المسلم وقتله ثم الطلب إلى أهل مؤتة أن يدخلوا فى الإسلام ..

عندما انطلقت قوات المسلمين ، لم تكن تعرف مقدار العدو الذى ستقاتله .. وأوصاهم النبى :

"ألا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا كبيرا ولا فانيا ولا معتزلا بصومعة ولا تقربوا نخلا ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناء"

وأين منها تعاليم الحرب فى حضارة غير حضارة الإسلام ..

وما إن نزل المسلمون "معان" من أرض الشام .. حتى علموا بأن هرقلا قد عسكر بمآب فى مائة ألف من الروم ومائة الف من قبائل لخم وجذام .. وقد يقع فى الخاطر أن الروم علموا بمسير جيش المسلمين فأعدوا هذه الجحافل الجرارة ثم سيروها إلى تخوم الدولة فى مدى الأيام التى مضت من خروج جيش المسلمين إلى بلوغهم أرض معان .. وهو خاطر بعيد جد البعد لما هو معلوم من صعوبة جمع الجيوش وتسييرها فى مثل هذه السرعة ..

والأرجح أن هرقل إنما كان هنالك فى جموعه فى زيارة الشكر التى نذر لله أن يؤديها إذا هو ظفر بالفرس ورد منهم صليب الكنيسة الكبرى الذى حملوه معهم يوم فتحوا بيت المقدس ، وربما كان هرقل قد بارح بيت المقدس فى ذلك الحين وتخلفت جيوش ركابه لأداء الفريضة ..

كما رأى المسلمون أن الحرب بين عسكرين على هذا التفاوت عمل غير مجد .. ولم يكن منظورا ولا مقصودا عند مسير الجيش من المدينة .. فترددوا مليا يفكرون فى الأمر .. هنا غلبت حماسة الشاعر وحمية الشهيد على عبدالله بن رواحة فاتنتهر المترددين والمثبطين قائلا لهم :

"يا قوم ، إن التى تكرهون للتى خرجتم تطلبون .. الشهادة .. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هى إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة" .

إقترب العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها "مؤتة" ، نظم زيد قواته بالاسلوب التقليدى ، قلب وميمنة وميسرة ، وكان هو وخالد فى القلب ..

شكّل الغساسنة الذين كانوا بقيادة مالك بن زافلة ، قواتهم على شكل كتلة عميقة لمواجهة المسلمين . وبدأت المعركة .. قاتل زيد بن حارثة براية رسول الله حتى قتل .. ثم أخذ الراية جعفر بن ابى طالب فقاتل بها القوم حتى قُتل .. وهنا بدأت الفوضى تدب فى صفوف المسلمين ، لكن عبدالله بن رواحة أخذ الراية بسرعة ثم تقدم بها على فرسه ليستعيد النظام ، ثم قاتل حتى قُتل ايضا .

الآن بدأت الفوضى تدب فى صفوف المسلمين أكثر من ذى قبل حيث كان القتال عشوائيا وبشكل غير منظم فى مجموعات صغيرة تتالف من شخصين أو ثلاثة ، ولحسن حظ المسلمين فإن العدو لم يستغل هذه الفرصة ولو فعل لتمكن من إبادة جيش المسلمين الذين كانوا بدون قائد . وربما يرجع سبب ذلك للبسالة والشجاعة التى أظهرها قادة المسلمون ، وكذلك الجرأة التى قاتل بها المسلمون مما جعل العدو يتخلى عن القيام بأعمال حاسمة وجريئة ضدهم متوخيا الحذر .

عندما سقط عبدالله بن رواحة أخذ الراية ثابت بن ارقم ، فقال : "يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم" قالوا : أنت ، قال : ما انا بفاعل ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد" فأخذ الراية خالد وتولى القيادة .

أصبح الموقف الآن خطيرا ، لقد أظهر القادة الذين تولوا القيادة قبل خالد شجاعة أكثر مما أظهروا من فنون القتال . هنا إستعاد خالد السيطرة على جيشه الصغير ووضعه بترتيب قتال منسق ، وكان عليه ان يختار أحد الحلول الثلاثة التالية :

الأول ، أن ينسحب وينقذ المسلمين من الإبادة ولكن هذا الحل سيلام عليه خالد والمسلمون ..

والثانى ، أن يتحول إلى الدفاع ويستمر فى القتال وفى هذه الحالة فإن التفوق العددى الرهيب فى جيش العدو سيؤدى ولا شك إلى حسم المعركة ..

أما الثالث ، فهو أن يهاجم ويقلب توازن العدو وبذلك يكسب خالد مزيدا من الوقت لدراسة الموقف ووضع خطة أفضل للعمل .

كان الحل الثالث هو أقرب الحلول لطبيعة خالد ، فهاجم المسلمون بعنف على طول الجبهة وفى مقدمتهم خالد . تراجع الغساسنة قليلا تحت ضغط المسلمين على أمل أن يكتسبوا الوقت لإعادة تنظيم صفوفهم خاصة بعد أن نجح قائد ميمنة المسلمين "قطبة" من قتل القائد الغسانى "مالك" فى مبارزة ..

فى هذه اللحظة كان خالد يتناول السيف العاشر حيث كسر قبل ذلك تسعة من السيوف فى مبارزات عنيفة ، وأبلى خالد فى هذه المعركة ما لم يبله قط فى غزواته الكبرى على كثرتها .

عندما تراجع المسلمون ، جمع خالد قواته وقطع التماس مع العدو وانسحب الجيشان فى مواجهة بعضهما إلى الوارء بعيدا عن مرمى النبال ، وكان كلاهما يلتمس الراحة وإعادة التنظيم .. وانتهت هذه الجولة من المعركة لصالح المسلمين وفقد المسلمون حتى الآن 12 رجلا فقط .. أما العدو فلا توجد معلومات عن مقدار خسارته لكن لا شك أنها كانت جسيمة لأن كل قائد من قادة المسلمين كان مقاتلا بارعا كما أننا قد نتساءل أين كسرت هذه السيوف التسعة بيد خالد !

وعلى كل الأحوال ، فإن الموقف لم يظهر أى أمل فى نجاح آخر للمسلمين .. لقد أبعد خالد الهزيمة عن المسلمين وانقذهم من العار لكنه لا يستطيع فعل أكثر .. وفى المساء انسحب خالد بجيشه من مؤتة متجها إلى المدينة .

كان المسلمون العائدون من مؤتة فى حالة نفسية سيئة ، لأنه لم يسبق لهم منذ غزوة "أحد" أن يقطعوا التماس مع العدو ويتركوه يسيطر على ميدان المعركة .

يصف بعض المؤرخين مؤتة بأنها نصر للمسلمين ويصفها البعض بالهزيمة لكنها لم تكن ايا منهما .. كذلك لم تكن مؤتة معركة كبيرة أو حتى هامة لكنها منحت خالد هذا اللقب .. أعظم لقب عسكرى عرفته حضارة الإسلام .. سيف الله ..

وهنا تلميح يخفى على كثيرين .. هذا اللقب المذهل .. إن له معنى واحد فقط .. سيف الله .. إنها نبوءة النبىّ لهذا البطل ..

أنت يا خالد سيف من سيوف الله ..

فمن يستطيع كسر هذا السيف ! إنه سيف لن يكسره خصم ما كانت فيه حياة ..


وقد سمعنا فى عصورنا هذه بالالقاب الكبار تضفى على القادة لأنهم نجحوا فى خطة إرتداد لا محيص عنها .. فتلك هى السنة النبوية تسبق النظم العصرية إلى تقدير القائد البارع بقيمة النجاح فى ارتداده كما تقدره بقيمة النجاح فى تقدمه وانتصاره .
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس