عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-04-2009, 09:09 AM   #33
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

المكان



كان أول سؤال سأله أينشتين :

هل يمكن تقدير وضع أى شىء فى المكان ؟

وهل يمكن الإثبات بشكل مطلق وقاطع بأن جسما من الأجسام يتحرك وجسما آخر ثابتا لا يتحرك ؟


راكب يمشى على ظهر سفينة فى عرض البحر .. لو أردنا أن نقدر موضعه فسوف نحاول أن نقيس مكانه بالنسبة للصارى أو المدخنة .. فنقول مثلا إنه على بعد كذا من مدخنة السفينة ..
ولكن هذا التقدير خاطىء لأن المدخنة ليست ثابتة وإنما هى تتحرك مع السفينة التى تتحرك بأسرها فى البحر ..

إذن نحاول أن نعرف موضعه بالنسبة للأرض فنقول إنه عند تقاطع خط طول كذا بخط عرض كذا ولكن هذا التقدير خاطىء أيضا لأن الأرض باسرها تتحرك فى الفضاء حول الشمس ..

إذن نحاول أن نقدر وضعه بالنسبة للشمس ، ولكن الشمس تتحرك مع مجموعتها الشمسية فى الفضاء حول مركز مدينتها النجمية الكبرى ..

إذن نحاول أن نعرف موضعه بالنسبة للمدينة النجمية الكبرى .. لا فائدة ايضا .. فالمدينة النجمية هى الأخرى جزء من مجرة هائلة اسمها درب التبانة ، وهى تتحرك حول مركز التبانة ..

إذن نحاول أن نعرف وضعه بالنسبة للتبانة .. للأسف .. لا أمل .. لأن التبانة هى الأخرى تتحرك مع عدد من المجرات حول مصيبة أخرى لا يعلمها إلا الله ..

وحتى بافتراض أننا أحطنا بكل مجرات الكون ومدنه النجميه الهائلة وعرفنا حركاتها كلها بالنسبة للكون .. لا فائدة ايضا .. لأن الكون كله فى حالة تمدد .. وكل أقطاره فى حالة انفجار دائم فى جميع الإتجاهات ..

إذا هناك إستحالة مؤكدة ..


لا سبيل لمعرفة المكان المطلق لأى شىء فى الفضاء .. وإنما نحن فى أحسن الأحوال نقدر موضعه النسبى بالنسبة إلى كذا وكذا .. أما وضعه الحقيقى فمستحيل معرفته .. لأن كذا وكذا فى حالة حركة هى الأخرى ..

وأغلب الظن أنه لا يوجد شىء اسمه "وضع حقيقى" ..

فإذا جئنا إلى الحركة فالمشكلة هى نفس المشكلة ..

فأنت فى قطار ، حينما يمر بك قطار آخر قادم فى عكس الإتجاه .. فإنك للوهلة الأولى يختلط عليك ، يُخيل إليك أن قطارك واقف والآخر هو الذى يتحرك .. وأنت عادة تقدر سرعته خطأ فيخيل إليك أنه يسير بسرعة خاطفة (بينما هو فى الواقع يسير بمعدل سرعة القطار الذى تركبه) ..

وإذا كان يسير فى نفس إتجاه قطارك وموازٍى له .. فأنت يخيل إليك أن القطارين واقفان ..

فإذا أغلقت نوافذ قطارك خيل إليك أنه ساكن لا يتحرك ..

ولا سبيل للخروج من هذا الخلط إلا بالمقارنة بمرجع ثابت .. كأن تفتح النوافذ وتنظر إلى الأشجار أو أعمدة البرق .. فتدرك بالمقارنة أن القطار يتحرك بالنسبة لها ..

فإذا كان قطارك واحدا من عدة قطارات فلا سبيل إلى تمييز حركاتها من سكونها إلا بالخروج منها ومشاهدتها من مكان بعيد من على رصيف محظة ثابتة ..

القطع إذا بحركة جسم وسكونه يحتاج إلى رصيف ثابت للملاحظة ، وبدون مرجع ثابت لا يمكن معرفة الحركة من السكون .. وعلى الأكثر يمكن معرفة الحركة النسبية فقط ..

فإذا تركنا القطارات وجئنا إلى الكون فالمعروف أنه فى حالة حركة ككل وكأجزاء .. الأرض مثلا تدور حول محورها بسرعة ألف ميل فى الساعة .. وحول الشمس بسرعة عشرين ميلا فى الثانية .. والشمس تتحرك ضمن مجموعتها الشمسية بسرعة 13 ميلا فى الثانية حول مدينتها النجمية .. والمدينة النجمية تتحرك داخل درب التبانة بسرعة مائتى ميل فى الثانية .. ودرب التبانة تتحرك نحو المجرات الأخرى بسرعة مائة ميل فى الثانية ... الخ

وقد تعب نيوتن من مشكلة البحث عن الحركة الحقيقية .. وظل يتخبط من حركة نسبية إلى حركة نسبية .. فحاول الخروج من المشكلة بافتراض أن هناك جسما ساكنا تماما يوجد فى مكان ما بعيد غير معروف ، تقاس به الحركة الحقيقية .. ثم عاد فاعترف بعجزه عن البرهنة على وجود هذا الجسم الثابت .. واعتبر أن الشىء الثابت هو الفضاء نفسه واستمر على هذه العقيدة بدوافع دينية ، قائلا أن الفضاء يدل على وجود الله .. ولم تنفع بالطبع هذه الدروشة ..

ولم يكن العلماء أقل دروشة من نيوتن فقد افترضوا مادة ثابتة تملأ الفضاء .. هى الإثير .. وبرهنوا على وجود الأثير بالطبيعة الموجية للضوء قائلين إن الأمواج لا بد لها من وسط مادىّ تنتشر فيه كما ينتشر موج البحر فى الماء وأمواج الصوت فى الهواء .. كذلك أمواج الضوء لا بد لها من وسط ..

وحينما أثبتت التجارب أن الضوء يمكن ان ينتشر فى الهواء المفرغ فى ناقوس ، قالوا بوجود مادة اسمها الأثير تملأ كل الفراغات الكونية .. واعتبروا هذا الاثير المزعوم مرجعا ثابتا يمكن أن تنتسب إليه الحركات وتكتشف به الحركات الحقيقية ..

وفى سنة 1881 أجرى العالمان ميكلسون ومورلى تجربة حاسمة بغرض إثبات وجود الاثير ..

وفكرة التجربة تتلخص فى أن الأرض تتحرك خلال الأثير بسرعة عشرين ميلا فى الساعة .. فهى بذلك تحدث تيارا فى الاثير بهذه السرعة .. فلو أن شعاع ضوء سقط على الارض فى اتجاه التيار فإنه لابد ستزداد سرعته بمقدار العشرين ميلا .. فإذا سقط فى اتجاه مضاد للتيار فلابد أن سرعته سوف تنقص بمقدرا العشرين ميلا .. فإذا كانت السرعة المعروفة للضوء هى 186284 ميلا فى الثانية ، فإنها ستكون فى التجربة الأولى 186304 وفى التجربة الثانية 186264 ..

وبعد متاعب عديدة قام ميكلسون ومورلى بتنفيذ التجربة بدقة .. وكانت النتيجة المدهشة أنه لا فرق بين سرعتى الضوء فى الإتجاهين ، وأنها 186284 بدون زيادة أو نقصان ..

وأن سرعة الارض فى الأثير تساوى صفر ..

وكان معنى هذا أن يسلم العلماء بأن نظرية الاثير كلام فارغ .. ولا وجود لشىء اسمه الأثير .. أو يعتبروا أن الارض ساكنة فى الفضاء ..

وكانت نظرية الأثير عزيزة عند العلماء لدرجة أن بعضهم شكّ فى حركة الأرض واعتبرها ساكنة فعلا ..

أما أينشتين فكان رأيه فى المشكلة .. أن وجود الأثير خرافة لا وجود لها ، وأنه لا يوجد وسط ثابت ولا مرجع ثابت فى الدنيا .. وأن الدنيا فى حالة حركة مصطخبة ..

وبهذا لا يكون هناك وسيلة لأى تقدير مطلق بخصوص الحركة أو السكون .. فلا يمكن القطع بأن جسما ما يتحرك وأن جسما ما ثابت .. وإنما كل ما يقال ان الجسم كذا يعتبر متحركا بالنسبة إلى الجسم كذا .. كل ما هناك ، حركة نسبية أما الحركة الحقيقية فلا وجود لها .

كما وأن السكون الحقيقى لا وجود له ايضا ، والفضاء الثابت لا معنى له ..

ويؤيد هذا رأى قديم لفيلسوف اسمه ليبنتز يقول فيه :

"إنه لا يوجد شىء اسمه فضاء .. وما الفضاء سوى العلاقة بين الأجسام بعضها البعض" .

وكانت هناك مشكلة ثانية تفرعت عن تجربة ميكلسون ومورلى هى ثبات سرعة الضوء بالرغم من اختلاف أماكن رصدها .. وقد تأكد بعد هذا أن هذه السرعة ثابتة لا بالنسبة لزوايا الرصد المختلفة على الأرض وحدها .. وإنما هى ثابتة بالنسبة للشمس والقمر والنجوم والنيازك والشهب وأنها أحد الثوابت الكونية ..

وقد استخلص أينشتين من هذه الحقيقة قانونه الأول فى النسبية ، وهو أن قوانين الكون واحدة لكل الأجسام التى تتحرك بحركة منتظمة .


ولشرح هذا القانون نورد المثل :

مَثل الراكب على السفينة الذى يتمشى على سطحها بسرعة ميل واحد فى الساعة .. لو أن السفينة كانت تسير بسرعة 15 ميلا فى الساعة (15 + 1) .. ولو أنه غيّر إتجاهه وسار بالعكس (عكس إتجاه السفينة) لاصبحت سرعته بالنسبة إلى البحر (15 – 1) أى 14 ميلا فى الساعة .. برغم أنه لم يغير سرعته فى الإتجاهين .. ومعنى هذا أنه وهو نفس الشخص يسير بسرعتين مختلفتين 14 و 16 فى نفس الوقت .. وهذه إستحالة ..

وأينشتين يكشف سر هذه الإستحالة قائلا إن هناك خطأ حسابيا ..

والخطأ الحسابى هنا هو الإضافة والطرح لكميات غير متجانسة .. واعتبار أن المسافة المكانية لحادثة يمكن أن ينظر إليها مستقلة عن الجسم الذى اتخذ مرجعا لها .. وهو هنا الراكب ..
والسرعة ميل واحد فى الساعة هى سرعة الراكب والمسافة هنا مرجعها الراكب .. أما الـ 16 ميل سرعة السفينة فهى بالنسبة إلى البحر .. ولا يمكن إضافة الـ 15 ميل إلى الواحد لأنهما مسافتين من نظامين مختلفين .. فالحساب هنا خطأ تبعا لقانون النسبية الأول الذى يقول بوحدة القوانين للأجسام التى تتحرك بحركة منتظمة داخل نظام واحد ..

والقانون لا ينطبق على المسافة المكانية وحدها وإنما هو ايضا ينطبق على الفترات الزمنية .. فالفترة الزمنية لحادثة لا يمكن ان ينظر لها مستقلة عن حالة الجسم المتخذ مرجعا لها ..

وهذا يجرّنا إلى الحلقة الثانية فى النظرية النسبية وهى الزمان ..

لقد رفض أينشتين فكرة المكان المطلق .. واعتبر أن المكان دائما مقدار متغير ونسبى .. واعتبر التقدير المطلق لوضع أى جسم فى المكان مستحيلا .. وإنما هو فى أحسن الحالات يقدر له وضعه بالنسبه إلى متغير بجواره ..

كما اعتبر إدراك الحركة المطلقة لجسم يتحرك بانتظام أمرا مستحيلا وبالمثل إدراك سكونه المطلق ..

إنه عاجز عن اكتشاف الحالة الحقيقية لجسم من حيث الحركة والسكون المطلقين طالما أن هذا الجسم فى حالة حركة منتظمة .. وكل ما يستطيع أن يقوله إن هذا الجسم يتحرك حركة نسبية معينة بالنسبة إلى جسم آخر ..

وهناك مثل طريف يضربه العالم الرياضى هنرى بوانكاريه على هذا العجز .. فهو يقول :

"لنتصور معا أن الكون أثناء استغراقنا فى النوم قد تضاعف فى الحجم ألف مرة .. كل شىء فى الكون بما فى ذلك السرير الذى ننام عليه ، بما فى ذلك الوسادة والغرفة والشباك والعمارة والمدينة والسماء والشمس والقمر والنجوم .. بما فى ذلك أجسامنا نحن أيضا .. بما فى ذلك الذرات والجزيئات والأمواج .. بما فى ذلك أجهزة القياس العيارية التى نقيس بها ..

ماذا يحدث لنا حينما نستيقظ ؟

يقول بوانكاريه فى خبث شديد .. إننا لن نلاحظ شيئا .. ولن نستطيع أن ندرك أن شيئا ما قد حدث ولو استخدمنا كل ما نملك من علوم الرياضة ..

إن الكون قد تضاعف فى الحجم ألف مرة .. هذا صحيح .. ولكن كل شىء قد تضاعف بهذه النسبة فى ذات الوقت .. والنتيجة أن النسب الحجمية العامة تظل محفوظة بين الأشياء بعضها البعض ..

ونفس القصة تحدث إذا تضاعفت سرعة الأشياء جميعها أثناء النوم وبنفس النسبة .. فإننا نصحو فلا ندرك أن شيئا ما قد حدث بسبب عجزنا عن إدراك الحركة المطلقة ..

هذا ما قاله أينشتين عن المكان وعن الحركة فى المكان ..

فماذا قال عن الزمان ..

إن المكان والزمان هما حدان غير منفصلين فى الحركة ..

فماذا قالت النسبية عن هذا الحدّ الثانى ؟
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس