عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-04-2009, 06:25 AM   #34
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

الزمان



لا شىء يبعث على الحيرة أكثر من هذه الكلمة المبهمة الغامضة .. الزمان ؟

ما هو الزمان ؟

هناك زمان نتداوله فى معاملاتنا ونعبر عنه بالساعة واليوم والشهر ..

وهناك زمان نفسانى داخلى يشعر به كل منا فى دخيلة نفسه ..

والزمان الخارجى الذى نتداوله زمان مشترك .. نتحرك فيه كما يتحرك غيرنا .. نحن فيه مجرد حادثة من ملايين الحوادث .. ومرجعنا فيه تقويم خارجى .. أو نتيجة حائط ..

أما الزمن الداخلى فهو زمن خاص .. لا يقبل القياس .. لأنه لا مرجع له سوى صاحبه .. وصاحبه يختلف فى تقديره .. فهو يشعر به شعورا غير متجانس .. لا توجد لحظة فيه تساوى اللحظة الأخرى .. فهناك اللحظة المشرقة المليئة بالنشوة التى تحتوى على اقدار العمر كله .. وهناك السنوات الطويلة الفارغة التى تمر رتيبة خاوية كأنها عدم .. وهو زمن متصل فى ديمومة شعورية وكأنه حضور ابدى ، الماضى فيه يوجد كذكرى فى الحاضر ، والمستقبل يولد كتطلع وتشوّف فى الحاضر ، اللحظة الحاضرة هى كل شىء .. ونحن ننتقل من لحظة حاضرة إلى لحظة حاضرة ولا ننتقل من ماضى إلى حاضر إلى مستقبل .. نحن نعيش فى حضور مستمر .. نعيش شاخصين باستمرار إلى سيّال من الحوادث ينهال أمام حواسنا لا نعرف فى هذا الزمن الداخلى سوى "الآن" .. ننتقل من "آن" إلى "آن" .. ولا يبدو انقطاع النوم فى هذه الآنات إلا كانقطاع وهمى ما يلبث أن تصله اليقظة ..

هذا الزمن الذاتى النفسى ليس هو الزمن الذى يقصده آينشتين فى نظريته النسبية .. إنه زمن برجسون وسارتر وهيدجر وكيركجارد وسائر الفلاسفة الوجوديين ، ولكنه ليس زمن آينشتين ..

أما زمن آينشتين فهو الزمن الخارجى الموضوعى .. الزمن الذى نشترك فيه كأحداث ضمن الأحداث اللانهائية التى تجرى فى الكون .. الزمن الذى نتحرك بداخله وتتحرك الشمس بداخله وتتحرك كافة الكواكب والنجوم ..

وهو زمن له معادل موضوعى فى نور النهار .. وانحراف الظل .. وظلمة الليل .. وحركات النجوم .. وهو الزمن الذى نتفاهم من خلاله ونأخذ المواعيد ونرتبط بالعقود ونتعهد بالإلتزامات ..

ماذا يقول آينشتين فى هذا الزمان ؟


إنه يتناوله فى نظرية النسبية بنفس الطريقة التى يتناول بها المكان ..
المكان المطلق فى النسبية لا وجود له ..
إنه لا أكثر من تجريد ذهنى خادع ..

المكان الحقيقى هو مقدار متغير يدلّ على وضع جسم بالنسبة لآخر ولأن الأجسام كلها متحركة فالمكان يصبح مرتبطا بالزمان بالضرورة .. وفى تحديد وضع أى جسم يلزم أن نقول إنه موجود فى المكان كذا فى الوقت كذا .. لأنه فى حركة دائمة ..

وبهذا ينقلنا أينشتين فى نظريته إلى الزمان ليشرح هذه الرابطة الوثيقة بين المكان والزمان ..

الزمن المعروف بالساعة واليوم والشهر والسنة ما هو إلا مصطلحات ترمز إلى دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس أو بشكل آخر "مصطلحات لأوضاع مختلفة فى المكان" .

الساعة هى دورة الارض 15 درجة حول نفسها .. اليوم هو دورة كاملة .. والسنة هى التفافها الكامل حول الشمس ..

حتى الساعة التى نحملها فى معاصمنا عبارة عن إنتقالات فى المكان (إنتقالات عقرب على ميناء دائرى من رقم إلى رقم) .

الزمان والمكان متصلان فى حقيقة واحدة ..

وينتقل بعد هذا إلى النقطة الثانية فيقول :

إن كل الساعات على الارض مضبوطة على النظام الشمسى .. لكن النظام الشمسى ليس هو النظام الوحيد فى الكون .. فلا يمكن ان نفرض تقويمها الزمنى على الكون ونعتبر الكميات التى نقيس بها كميات مطلقة منزلة ..

فالإنسان الذى يسكن عطار مثلا سوف يجد للزمن دلالات مختلفة .. إذ أن عطارد يدور حول نفسه فى 88 يوما .. وهو فى هذه المدة نفسها يكون قد دار أيضا حول الشمس .. ومعنى هذا أن طول اليوم العطاردى يساوى طول السنة العطاردية .. وهو تقويم يختلف تماما عن تقويمنا ..
وبذلك يكون الزمن مقدارا لا معنى له إذا لم ينسب إلى النظام الذى اشتق منه ..

ولا يمكن أن نفرض كلمة مثل "الآن" على الكون كله .. فهى أولا كلمة ذاتية نفسية .. وحتى إذا اقتصرنا على معناها الموضوعى وهو تواقت حدثين وحدوثهما معا فى ذات اللحظة .. فإن هذا التواقت لا يمكن أن يحدث بين أنظمة مختلفة لا اتصال بينها ..

ويشرح أينشتين هذه النقطة وهى من أعمق تطبيقات النسبية وأكثرها غموضا فيقول :

إن متكلما من نيويورك يمكن أن يخاطب فى التليفون متكلما آخر فى لندن .. ويكون الأول يتحدث فى ساعة الغروب بينما الآخر فى منتصف الليل .. ومع ذلك يمكن لنا أن نجزم بتواقت الحدثين وحدوثهما معا فى ذات اللحظة .. والسبب أن الحدثين يحدثان معا على أرض واحدة خاضعة لتقويم واحد هو التقويم الشمسى ..

أما القول بأنه من الممكن أن يحدث على الأرض وعلى الشعرى اليمانية مثلا .. أحداث متواقتة فى آن واحد .. فهو أمر مستحيل .. لأنها أنظمة مختلفة لا اتصال بينها ..


والإتصال الوحيد وهو الضوء يآخذ آلاف السنين لينتقل من واحد من هذه الأنظمة إلى الآخر .. ونحن حينما نرى أحد هذه النجوم ويخيل إلينا أننا نراه "الآن" .. نحن فى الحقيقة نراه عن طريق الضوء الذى ارتحل عنه منذ آلاف السنين ليصلنا .. نحن فى الواقع نرى ماضيه ويخيل إلينا أننا نرى حاضره .. وقد يكون فى الحاضر قد انفجر واختفى أو ارتحل بعيدا خارج مجال رؤيتنا .. ما نراه فى الواقع إشارة إلى ماض لا وجود له بالمرة ..

لابد أولا لكى نجزم "بالآنية" من أن نعرف العلاقات بين الحوادث والمجاميع الكونية .. ونعرف نسبية كل مقدار موجود فى إحدى المجاميع إلى المقادير الموجودة فى المجاميع الأخرى .. ولابد من وجود وسيلة إتصال حاسمة تنقلنا عبر الأبعاد الفلكية الشاسعة ..

ولكن للأسف أسرع وسيلة مواصلات كونية إلى الآن هى الضوء وسرعته 186284 ميلا فى الثانية .. وهذه السرعة تمثل حدود معلوماتنا والسقف الذى تنتهى عنده المعادلات والرياضيات النسبية الممكنة ..

ويعود اينشتين ليشرح هذا الكلام بتجربة خيالية ..

إنه يتصور شخصا جالسا على رصيف محطة فى منتصف مسافة بين النقطتين أ ، ب على شريط سكة حديد يجرى عليه قطار .. ويتخيل أن ضربتين من البرق حدثتا فى نفس الوقت وأنهما سقطتا على القضيب أ وعند ب وأن الشخص الجالس على الرصيف يراقب العملية مزودا بمرايا جانبية عاكسة ..

سوف يرى ضربتى البرق فى وقت واحد فعلا ..

فإذا حدث وجاء قطار سريع متجها من ب إلى أ وكان على القطار شخص آخر مزودا بمرايا عاكسة ليلاحظ ما يجرى فهل يلاحظ أن ضربتى البرق حدثتا فى وقت واحد فى اللحظة التى يصبح فيها محاذيا للملاحظ على الرصيف ؟

وليقرب أينشتين المثل إلى الذهن يفترض أن القطار يسير بسرعة الضوء فعلا .. ومعنى هذا أن ضربة البرق ب التى تركها خلفه لن تلحق به لأنه يسير بنفس سرعة موجة الضوء وهو لهذا لن يرى إلا ضربة البرق أ ..

فلو كانت سرعة القطار اقل من سرعة الضوء .. فإن ضربة البرق ب سوف تلحق بعده متأخرة بينما سيشاهد ضربة البرق أ قبلها .. وبذلك لن يرى الحدثين متواقتين .. فى آن واحد ..

بينما يراهما الملاحظ على الرصيف متواقتين فى آن واحد ..

وبهذا التناقض يشرح لنا اعمق ما فى نظريته .. ما يسميه "نسبية الوقت الواحد" .. وكيف أن الإنسان لا يستطيع أن يطلق كلمة الآن على الكون .. وإنما يمكن ان يطلقها على نظامه الزمنى .. لأن كل مجموعة من الأجسام لها زمنها الخاص ومرجعها الخاص ..

والنتيجة التى يخرج بها أينشتين أن الزمان مقدار متغير فى الكون وأنه لا يوجد زمان واحد للكون كله .. وإنما يوجد عديد من الأزمان .. كلها مقادير متغيرة لا يمكن نسبتها غلى بعضها إلا بالرجوع إلى أنظمتها واكتشاف علاقة حوادثها بعضها بالبعض وتحقيق الإتصال بينها ..

وهذا مستحيل .. لسبب بسيط ..

أن أسرع المواصلات الكونية وهى الضوء لا تستطيع أن تحقق تواقتا بين أطرافه ..

والنتيجة الثانية التى يخرج بها .. أنه بما أن سرعة الضوء هى الثابت الكونى الوحيد فينبغى تعديل الكميات التى نعبر بها عن الزمان والمكان فى كل معادلاتنا لتتفق مع هذه الحقيقة الاساسية ..

ومن الآن فصاعدا يصبح الزمان مقدارا متغيرا .. والمكان مقدارا متغيرا ..

وهذا يلقى بنا إلى نتائج مدهشة ..
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس