انتخابات غرفة تجارة
في كل الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، تلجأ بعض الحكومات في العالم الى تشجيع تكوين بعض المؤسسات التي يبنيها المواطنون المعنيون لتكون ممثلة لهم أمام الأجهزة الحكومية، ولتساعد المشرعين على سن قوانين يرضاها المواطنون المعنيون، فتكون متكاملة غير منقوصة، تؤمن حاجة الدولة (بجانبها الحكومي) لمراقبة ورصد حركات المجتمع، ولتحول دون انتشار الفوضى وإثارة المشاكل بين الأفراد أو المؤسسات.
هذا النمط من النشاط ينتمي لما يُسمى (المجتمع المدني). وقد يرتقي هذا النمط من النشاط في الدول المتقدمة الى أن يصبح التشكيل المدني شريكا معترفا فيه، يراقب الخلل وبوادر الفساد، ويترافق جهده مع جهد مؤسسة البرلمان التي تستجوب الجهاز الحكومي التنفيذي بمسائلة ترشد أجهزة الدولة بطرفيها الحكومي والشعبي على الكيفية التي تعيد فيه مسار الحركات لوضعه الصحيح.
في دولنا العربية، يقف الهاجس الأمني حائلا دون اكتمال نمو مثل تلك المؤسسات، فتؤسس مؤسسات للمجتمع المدني، لكن بشروط يصنعها الهاجس الأمني، فلا تدقق بكفاءة المرشحين لتبوء مقاعد إدارة مثل تلك المؤسسات، لا بل تمهد الطريق أمام أشخاص غير أكفاء ليحتلوا تلك المقاعد.
ومن بين تلك المؤسسات، غرف التجارة، وقد كانت غرفة تجارة دمشق أول غرفة تجارة في المدن العربية، حيث أسست عام 1840، ووضعت لنفسها أهدافا لخدمة الاقتصاد الوطني وحماية منتسبيها. ثم نشأت غرف تجارية في معظم المدن العربية، وتطورت خدماتها فأصبحت تنظم العقود التجارية، وتمنح الرخص التجارية والسجل التجاري الخ.
ومع ذلك، بقيت غرف التجارة قاصرة في أداءها من حيث أنها لم تستطع ربط نقل التقنيات مع العقود التجارية فبقي التاجر العربي مسوقا لبضائع غيره، في حين كان بإمكان غرف التجارة أن تربط تلك الخدمة مع نقل التقنيات و نقل التصنيع الى المنطقة العربية، وقد جاء إنشاء غرف الصناعة متأخرا ليقوم بدور مثل ذلك. وقد يكون لطبيعة انتخابات إدارات تلك الغرف أثر في تواضع أداءها لنرى.
(1)
دعا محمود خمسين تاجرا من أكبر تجار المدينة، وبالغ في دعوته حيث كانت أصناف الطعام الفاخر، والحلويات الفاخرة، والكلام المعسول، والتنقل بين مقاعد المدعوين بابتسامة ثابتة وكأنه قد ثبت خديه مبتسمين بملقطي غسيل غير مرئيين.
لم يكن لديه خطاب واضحا، فهو يعرف أن الخطاب المتعارف عليه هو أنه (مشتهي ليكون رئيسا للغرفة)، وحتى يكون خطاب الشهوة مؤثرا، لا بد أن يكون له قدرة على المقارنة، فكان قد بحث بحسه الفطري عن تاريخ كل تاجر من الحضور، ومعرفة من هم خصومه ومن هم منافسيه ومن هم الذين كادوا أن يخرجوه من السوق عندما طالبوه في دين كان لا يملك منه شيئا، ومن الذي أنقذه من مأزقه. فتكون حملة التعبئة العامة هي إحياء عداوات قديمة تتعلق بمن يفكر أن يكون منافسا لمحمود.
وبعد أن تمتلئ البطون، ويتجشأ الجميع، ويمسحوا (دلاغيمهم) من أثر الحلوى والشراب، تكون المرحلة الأولى قد اكتملت، فهم غير مطالبين بشيء غير أن يعلنوا عن تأييدهم لمحمود في حملته. أما ضمان الناخبين وتسديد رسوم تسجيلهم ونقلهم من أماكنهم الى موقع الاقتراع فهي مهمة محمود، وهنا يبرز المثل ( من يريد أن يصبح جَمَالاً عليه أن يُعلي باب داره).
(2)
كان (جاسر) كالكثير من أصحاب الدكاكين، الذين يفتتحون دكانا ببعض النقود، يضعون فيه حاجيات الجيران من مواد تنظيف وحلوى للأطفال وبعض المواد التموينية كالرز والسكر والزيوت، وهؤلاء قد لا يطيلوا مدة افتتاحهم لدكاكينهم فقد تنقل زوجاتهم محتويات الدكان الى البيت، فيضطرون لإغلاقها بسبب عدم النجاح بالمشروع. وكونهم كذلك، فلا خبرة لديهم بالإجراءات الواجب إتباعها لاكتمال شروط فتحهم للدكان، فلم يكونوا قد راجعوا البلدية أو غرفة التجارة، ولو علموا بالرسوم التي تترتب عليهم لما فكروا بفتح مثل تلك الدكاكين، ولكون دكاكينهم تقع في أطراف الأحياء، فإنهم لن يكونوا عرضة لمداهمة أجهزة الرقابة بسرعة، وقد يطول غياب تلك الأجهزة لسنتين أو ثلاثة أحيانا.
فوجئ (جاسر) بموظفين اثنين من البلدية والصحة، يحملون معهما دفاتر للإنذار وتحرير المخالفات، يسألان عن (الرخصة) وأوراق أخرى تتعلق بدكان (جاسر). لم يعرف جاسر ما سيقول لهما، ولكنه تذرع أنه لم يمر على فتحه للدكان سوى أيام قليلة، وهو في صدد التوجه لاكتمال أوراق الترخيص. كان يعلم أن أحد الموظفين كان قد اشترى من دكانه قبل عام بعض الخضراوات، فابتسم ذلك الموظف، وأعطاه إنذارا لتصويب وضعه خلال أسبوع.
كانت تلك الحركات، توجه من خلال (لوبيات) الكتلتين المتنافستين على انتخابات غرفة التجارة. فهم يعلمون أن أصحاب الدكاكين هؤلاء سيكونون مادة سهلة أمام من يسبق إليهم ويتبرع بتسديد ما عليهم من مستحقات للبلدية وغيرها من الدوائر.
(3)
في المساء، حضر (محمود) ومعه مجموعة من أصحاب الملابس المكوية جيدا، وأوقفوا سياراتهم الفارهة أمام بيت (جاسر)، فتفاجأ بهم وبهيبتهم، ولم يكن لأمثال هؤلاء أن يطرحوا على مثله السلام، فما الذي جاء بهم؟
شاغلهم قليلا، بعدما توجه بأكثر من نصف وجهه الى داخل المنزل، ليخبر زوجته بضرورة تهيئة مكان لاستقبال استثنائي. ثم طلب منهم الدخول.
لم يكن ضيوفه مهتمين بالمكان الذي سيجلسون فيه، ولم يكن واجب الضيافة الذي سيقوم به (جاسر) هو ما يهمهم. كانوا مهتمين بمسألة واحدة، هي أن يأخذوا وعدا صادقا منه على التصويت لهم.
كان (جاسر) يتوقع أن يتعرض الى زجر من هؤلاء على رداءة تهوية غرفته، فكان يهم بالاعتذار في كل لحظة، وكان يتحرك قياما وقعودا ليجعل من جسمه المتحرك عاملا لتشتيت تركيز هؤلاء على تواضع أثاثه، أو أنهم سيلحظون الرقعة على أحد (الوسائد).
طلب منه محمود، أن يجلس ويتوقف عن حركته، ففعل، وهم محمود بالكلام عن هدف الزيارة، فقاطعه (جاسر) بالسؤال: شاي أم قهوة؟ فهب به الجميع: أنهم لا يريدون شيئا، وطلبوا منه الاستماع. فانصاع لطلبهم وتحدث محمود عن هدفه بالترشيح، وعرض على جاسر أن يسدد ما عليه من رسوم للبلدية ويصوب وضع دكانه.
كان بؤبؤ عين (جاسر) اليمين لا يستطيع التناغم مع البؤبؤ اليسار، فكانا يدوران بحركات غير إرادية، لا يعلمان أين سيستقران من هول المفاجأة، فهؤلاء جاءوا لينقذونه مما هو فيه من حرج أمام البلدية.
قبل أن يكمل محمود شرحه، كان رأس جاسر يتحرك بالموافقة، وشفتاه يتحركان دون أن يخرج منهما حرف، كان موافقا على اقتراح محمود، فهجم عليه وقال ( احنا زلمك : نحن رجالك).
__________________
ابن حوران
|