الـهـــويـــة والعــنـــف
امارتيا سن من مواليد الهند عام 1923. حاز عام 1998 على جائزة نوبل في الاقتصاد عن أعماله حول المجاعات والتنمية. وكان قد سبق له ونشر عام 1981 كتابا أصبح مرجعا في مجاله تحت عنوان: «الفقر والمجاعات» أثبت فيه أن المجاعات ترتبط بصورة وثيقة جدا مع ظاهرة التداخل بين أشكال عدم المساواة الاجتماعية ومنظومات التوزيع وليس بنقص المواد الغذائية في العالم.
المؤلف هو أول آسيوي يتولّى إدارة مركز للأبحاث الاقتصادية في إطار جامعة كامبردج. سبق له وقدّم العديد من المؤلفات من بينها: «ديمقراطية الآخرين» و«الهند: التاريخ والثقافة والهوية»، الخ. هذا الكتاب الجديد «الهوية والعنف» يندرج في نفس النهج من التحليل الذي شهدته أعمال امارتيا سن السابقة والمتمثل في الجمع بين الاقتصاد والفلسفة والعلوم الاجتماعية والتحليل السياسي، وذلك تماشيا مع مبدأ لم يحد عنه منذ البداية ومفاده أن «الاقتصاد علم أخلاقي» وأن مسيرة الحرية بالنسبة لأي شعب ولأي فرد تبدأ دائما من «التنمية». وبهذا المعنى يرى أن «الآليات الاقتصادية» هي ذات وظيفة «أخلاقية» و«إنسانية» و«اجتماعية». هذا إلى جانب تأكيده على الجوانب العملية في الحياة السياسة. فإذا كان يؤكد على أهمية الديمقراطية في الممارسة السياسية.
فإنه يرى ضرورة تأمين الشروط التي تسمح بممارستها بطريقة «واعية». ذلك بمعنى أنه إذا كان من المهم الحصول على حق الاقتراع فإن الأمر الأساسي هو امتلاك التربية الضرورية من أجل فهم الخيارات المطروحة على الناخبين. ولكن أيضا وأساسا امتلاك وسائل النقل الضرورية لتأمين وصول هؤلاء الناخبين إلى صناديق الاقتراع.
«الهوية والعنف» عمل يؤكد فيه مؤلفه على مقولة أن الهوية الإنسانية «متعددة الأبعاد ومعقّدة»، وبالتالي يرفض اختزالها إلى البعد العقائدي كما فعل المفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون في كتابه المعروف عن «صدام الحضارات». وبهذا المعنى يرد «امارتيا سن» على أطروحة هنتنغتون ويرى أنها تقدم مقاربة «ذات بعد واحد» لمفهوم الهوية، أي تقسيم العالم إلى «طوائف» وبالتالي إلى قوى «متنازعة» بالطبيعة، ذلك أنها تعبر عن «كتل ذات هويات محددة ومتناسقة فيما بينها».
ينطلق امارتيا سن في تحليلاته من حادث محدد كان قد عاشه هو نفسه عندما كان في حوالي العاشرة من عمره في بلدة «داكّا» حيث كان يعيش مع أهله عام 1944. فذات يوم وجد رجلا مضرّجا بدمه عند باب حديقة المنزل. كان مطعونا بعدة ضربات من آلة حادة، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يشاهد فيها الطفل مثل ذلك «العنف». لكن المشهد لم يبارحه طيلة حياته. ومنذ ذلك اليوم طرح على نفسه سؤال كبير: لماذا حاولوا قتل ذلك الرجل؟
وكانت الإجابة الوحيدة التي توصل إليها هي أنه قد فقد حياته لسبب واحد هو أنه كان مسلما، وأن سوء حظه قد دفعه إلى أن يكون في «المكان السيئ» وفي «اللحظة السيئة»، بحيث تضافرت الشروط لارتكاب الجريمة وخاصة توفر خلفية الحقد وعدم التسامح حيال «الآخر» لكون أنه «الآخر» دون أن يختار ذلك.
وفهم امارتيا سن أن ذلك الرجل ـ الضحية كان قد تلقّى من زوجته في صباح ذلك اليوم النصيحة بعدم الخروج من المنزل. لكن عدم الخروج كان يعني عدم توفير الطعام لأسرته. وبالتالي (لم يكن حرّا) في اتخاذ قرار عدم الخروج. هذا يعني أن الشروط الاقتصادية يمكنها أن تكبح ممارسة الحرية. هكذا خرج المؤلف انطلاقا من تلك الحادثة بقناعة كبيرة تقول بوجود «ارتباط كبير بين الاقتصاد والحرية». وشرح مثل هذه العلاقة الوثيقة يجدها القارئ في جميع أعمال حامل جائزة نوبل للاقتصاد بما فيها هذا الكتاب «الهوية والعنف».
«لذلك يخرج المؤلف من الحادثة نفسها ب«درس آخر» هو أن العنف الإنساني، ومهما بلغت درجة شراسته، لا يستطيع أن ينهي كل بعد إنساني لدى البشر. هكذا يروي كيف أن أباه، غير المسلم، لم يتردد لحظة واحدة في نقل ذلك الرجل الجريح بسيارته إلى المستشفى أملا بإنقاذ حياته، لكن الفرصة كانت قد فاتت.
وما يؤكده المؤلف هو أن فهم تلك الحادثة يتطلب الذهاب إلى ما هو أبعد من اعتبارها «قضية هندية ونزاع عقائدي، ديني» فقط. وإنما البحث عن خلفياتها العميقة في «المفاهيم المحدودة والجامدة للهوية». ويعتبر أن جميع التعريفات القائمة على أساس الانتماء إلى مجموعة معينة أو طائفة معينة إنما تقوم بعملية «اختزال»، و«قصر» الإنسان على بعد واحد، بينما أنه تجسيد ل«هويات متعددة» وإن هذه «التعددية» هي مصدر ثراء كبير له.
إن امارتيا سن يؤكد على تعقيد مفهوم الهوية وتنوعه، ولا يتردد في القول أنه «يمكن للشخص نفسه، دون الوقوع في أي تناقض، أن يكون مواطنا أميركيا تعود أصوله إلى منطقة الكاريبي، ومن جذور إفريقية، ويكون مسيحيا وليبراليا، امرأة أو رجلا،ومؤرخا أو معلما أو روائيا أو مدافعا عن حقوق المرأة أو عن حقوق الشاذين جنسيا، أو محبا للمسرح أو مدافعا عن البيئة أو موسيقيا يعزف الجاز، الخ». وضمن هذا النهج من التحليل يدين امارتيا سن، بأشكال مختلفة، كل تلك التيارات التي تحاول «سجن» الإنسان داخل أسوار «هوية مغلقة» و«منغلقة على ذاتها»، مما يفتح آفاق النزاعات والحروب على مصراعيها وتمنع الإنسان نفسه من «تحقيق إنسانيته ذات الأبعاد العديدة».
ويضرب امارتيا سن حالته الشخصية كمثال على الهوية ذات الأبعاد المتنوعة. فهو من مواليد الهند ويعيش حاليا في الولايات المتحدة، حيث يقوم بالتدريس في جامعة هارفارد، وبريطانيا والهند. ويؤكد أنه معجب ب«المطبخ الانكليزي» وأطباقه الشهية، ويستمع كثيرا إلى موسيقى الجاز والراب ولكن أيضا الموسيقى الهندية.
ويخرج بنتيجة مفادها أنه لا يحس أبدا أن ذلك التنوع يلغي واقع أنه هندي الأصل ومتعلق جدا بهويته «البنغالية».
ويشرح امارتيا سن أن فكرة الديمقراطية ليست منتوجا غربيا بصورة حصرية، كما يحلو لبعض المفكرين القول. بل إنه يؤكد على جذورها العالمية ذات البعد الإنساني. ويشير إلى وجود مثل هذه الجذور في تجارب سابقة بالهند وبالعالم الإسلامي في فترات سابقة متزامنة فيما بينها، هذا في الوقت الذي كانت فيه أوروبا «تقوم بحرق الهراطقة أحياء». وبهذا المعنى يؤكد المؤلف على أن «انتقال الديمقراطية» هو مشروع كوني ولا يمكنه أن يزدهر في إطار «العزلة الخانقة». كما يتم التأكيد في نفس الإطار على أن «الأشكال الديمقراطية للأنظمة الحديثة هي جديدة نسبيا في كل مكان من العالم».
كذلك يؤكد المؤلف على أن تفجيرات نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر 2001 وما أعقبها من تطرف هو الذي أعطى لمسألة «الهوية» بعدها الكوني المعاصر، كما أعطى لأطروحة صموئيل هنتنغتون الكثير من المصداقية.
ولا يتردد المؤلف في التأكيد على ضرورة بل على «أمله» الخروج من حالة «الانعزال» التي يحاول المتطرفون زج العالم الإسلامي فيها. ويتم التأكيد في هذا الإطار على الدور الكبير الذي يمكن للمفكرين المسلمين من دعاة التسامح أن يلعبوه من أجل ولوج فترات تنوير حقيقية. والتجارب التاريخية الخاصة ب«الحوار المنفتح والاختيار الحر» التي يتم ذكرها كثيرا وليس أقلّها شأنا ما عرفته قرطبة وغيرها من مدن الأندلس في العصر الإسلامي.
ويشرح المؤلف على مدى العديد من الصفحات كم هو من «المضحك والخطير» الحديث عن «هوية هندوكية» صافية. هذا لاسيما وأنه يوجد في الهند اليوم عدد من المسلمين يجعلها الأكبر في العالم الإسلامي بعد اندونيسيا والباكستان. ثم إن الهند ضمّت باستمرار عددا كبيرا من المدارس الفلسفية والصوفية والمادية أيضا.
ويؤكد المؤلف بخصوص هذه الأخيرة «أي الماديّة» إنها موجودة في الهند منذ القرن الثامن. وتتم الإشارة أيضا إلى أن ثلاثة أرباع أصوات الناخبين في الهند تذهب خلال العقود الأخيرة نحو أحزاب مستقلة عن الأديان. ويصل المؤلف في نتيجة التحليل إلى القول أن «عظمة الهند» تكمن في تنوعها. وأنه ليس هناك أي مستقبل لدعاة القومية الهندية «المتزمتة».
وبعد أن يشير المؤلف إلى أنه يتم النظر إلى العولمة على أنها منتوج «غربي» تحاول الحضارات الأخرى «مواجهته» بهوية ثقافية «خاصة»، يؤكد على خطأ مثل هذا الفهم، إذ لا يعتبر أبدا أن العولمة تعني الهيمنة الاقتصادية والثقافية للغرب. ذلك أن هناك قوى أخرى كبيرة فاعلة في عالم اليوم مثل الصين والهند. ويعيد امارتيا سن الخطأ الشائع في فهم العولمة على أنها غربية إلى أمرين.
الأول اعتبار أن العلم هو بالضرورة غربي، والثاني القناعة أن التجارة العالمية هي في قبضة الولايات المتحدة وأوروبا. وهذا ما يخالف واقع اليوم. الهوية والعنف... محركان للتاريخ اليوم... وموضوع كتاب لأحد أشهر المفكرين المعاصرين.
__________________
"Noble sois de la montaña no lo pongais en olvido"
|