الحملة الصليبية الخامسة.. وغرور القوة
(في ذكرى جلائها عن مصر: 19 من رجب 618هـ)
لم يشك الصليبيون لحظة واحدة في أهمية أن تكون مصر تحت أيديهم؛ ضمانا لوجودهم بالشام، واستقرارا لنفوذهم وسلطانهم في تلك المنطقة، فسعوا للاستيلاء على مصر عقب تأسيسهم إماراتهم، فقام "جوديفري دي بوايون" أول حاكم صليبي على بيت المقدس بأول المحاولات لاستكشاف الأوضاع في مصر سنة (493هـ = 1099م)، ثم تبعه أخوه "بلدوين الأول" ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة (509هـ = 1116م)، ووصل إلى مدينة الفرما، فوجدها خالية بعد أن هجرها أهلها من المصريين.
ويروي ابن الأثير أن "بلدوين الأول" وصل إلى مدينة تنيس جنوبي بحيرة المنزلة ثم كرَّ راجعا، ولم يستكمل حملته العسكرية لصغر قواته ولمرضه الذي حلَّ به.
واستغل الصليبيون الصراع الذي اشتعل في أواخر الدولة الفاطمية بين شاور وضرغام فتدخلوا في شؤون مصر، ووقفوا إلى جانب أحد الطرفين ضد الآخر، ولولا تدخل نور الدين محمود فلربما وقعت مصر تحت سيطرة الصليبيين، لكن نور الدين محمود حسم الصراع لصالحه بفضل قواته التي بعثها، وكان على رأسها "أسد الدين شيركوه" وابن أخيه "صلاح الدين الأيوبي"، ثم تدخلت الأقدار فانفرد صلاح الدين بحكم مصر، ثم ضم الشام بعد وفاة نور الدين محمود، وقام بحركة الجهاد الكبرى، وحقق انتصارات عظيمة على الصليبيين، وتوج جهوده باسترداد بيت المقدس.
أدرك الصليبيون- بعد هزائمهم- أن وجودهم مرهون بالاستيلاء على مصر، وأنهم لن ينعموا بالراحة ما دامت مصر ليست في قبضتهم وتحت سلطانهم، ولا أمل في الاستيلاء على بيت المقدس مرة أخرى ومصر طليقة اليد تقود حركة الجهاد ضدهم.
الحملة الصليبية الرابعة
أخذ البابا إنوسنت الثالث (1198- 1216م) على عاتقه مهمة الدعوة إلى حملة صليبية جديدة على مصر؛ لإصلاح أوضاع الصليبيين في الشرق بعد انتصارات صلاح الدين، وبدلا من أن تتجه الحملة إلى مصر اتجهت صوب القسطنطينية، واقتحموا المدينة في (10 من شعبان 600هـ = 13 من إبريل 1204م)، وأزاحوا الإمبراطورية البيزنطية، وأقاموا مكانها إمبراطورية لاتينية غربية، وقد أدان البابا إنوسنت الثالث انحراف الحملة عن هدفها، ولم يعد أمام الصليبيين في عكا سوى عقد هدنة مع العادل الأيوبي الذي خلف أخاه صلاح الدين في حكم الدولة الأيوبية سنة (600هـ = 1204هـ).
الإعداد للحملة الصليبية الخامسة
عاود البابا إنوسنت الثالث الدعوة إلى حملة صليبية جديدة لتدارك ما فات، وفي الوقت نفسه طلب "حنا (جون) دي بريان" ملك مملكة بيت المقدس في عكا من البابا إرسال حملة على مصر، وفي مجمع اللاتران الكنسي الذي عقد في روما سنة (612هـ = 1215م) حرص البابا على ضرورة إيفاد الحملة لتوفير الحماية الصليبية في الشام، وقبل أن تبدأ عجلة الحملة الصليبية في التحرك تُوفِّي البابا إنوسنت الثالث سنة (613هـ = 1216م)، وخلفه هونر يوس الثالث الذي باشر إعداد الحملة.
بدأت قوات الحملة في التوافد على عكا، واستمر ذلك أربع سنوات إلا شهرا، حتى إذا اكتملت صفوفها وعتادها اتجهت صوب مصر، وكانت خطة حنا (جون) دي بريان تستهدف دخول مصر عن طريق الإسكندرية أو دمياط، ولقيت الخطة قبولا من جمهرة الصليبيين في الشام.
التوجه إلى دمياط
خرجت الحملة الصليبية من عكا تحت قيادة حنا (جون) دي بريان في (ربيع الأول 615هـ = مايو 1218م)، واتجهت إلى دمياط، ونزلت على الضفة الغربية للنيل المواجهة لدمياط، وأقامت معسكرها على الشاطئ؛ انتظارا للهجوم ومواصلة السير عبر فرع دمياط إلى داخل البلاد.
كانت مدينة دمياط محصنة تحصينا قويا، تحميها سلسلة عظيمة تمتد عبر النيل وتحول دون دخول السفن المعادية من البحر إلى داخل مجرى النهر، بالإضافة إلى برج السلسلة الموجود وسط مجرى النهر عند مصبه؛ لحماية دمياط، ودفع أي عدوان يقع عليها.
خرج الملك الكامل أكبر أبناء السلطان العادل وخليفته للدفاع عن دمياط، ونصب معسكره جنوبي دمياط، وقد عُرف هذا المكان منذ ذلك الوقت بمنزلة العادلية؛ حتى يكون على اتصال بالمدينة، ويمنع الصليبيين من العبور إلى الضفة الأخرى.
قضى الصليبيون ثلاثة أشهر كاملة يهاجمون برج السلسلة حتى تمكنوا في نهاية الأمر من الاستيلاء عليه في (جمادى الآخرة 615هـ = أغسطس 1218م)، وقطع السلسلة التي تعترض مجرى النهر، وكان ذلك نذير خطر للقوات المصرية.
وفي أثناء هذه الأحداث تُوفِّيَ السلطان العادل، ويُقال إنه لم يحتمل سماع تلك الأخبار السيئة فمرض مرض الموت، ثم لم يلبث أن تُوفِّيَ في (جمادى الآخرة 615هـ = أغسطس 1218م).
الدفاع عن دمياط
أدرك السلطان الكامل- الذي خلف أباه- خطورة الموقف، فتحرك سريعا لإعاقة حركة عدوه حتى لا يتوغل في البلاد، فأقام جسرا ضخما بعرض النهر، لكن الصليبيين تمكنوا من قطعه، فأسرع الكامل إلى إغراق سفن كبيرة في مجرى النيل لتعوق حركة السفن الصليبية، لكن ذلك لم يَحُلْ دون تقدم الصليبيين بعد أن حفروا خليجا هناك كان النيل قديما يجري فيه، وانتهى الأمر بدخول السفن الصليبية النهر حتى موقع مقابل لمنزلة العادلية حيث معسكر السلطان الكامل.
ولم يكن أمام أبناء السلطان العادل سوى التعاون الكامل والعمل معا في مواجهة هذا الخطر الداهم الذي حلَّ بهم، فكان على الكامل طرد الصليبيين من مصر، وأن يقوم السلطان المعظم عيسى- الذي خلف أباه في دمشق- بحراسة جبهة الشام والضغط على الصليبيين لإجبارهم على ترك مصر، وأن يهبَّ ملوك الشام من بني أيوب لنجدة السلطان الكامل في مصر، وتقديم يد العون والمساعدة له.
سقوط دمياط
حاول السلطان الكامل القيام بهجوم مفاجئ على المعسكر الصليبي فعبر نهر النيل وانقض عليهم، لكنهم صمدوا في وجهه وأجبروه على التراجع، وفي الوقت الذي كان فيه الكامل أحوج ما يكون إلى التماسك وتوحيد الهدف إذا به يتعرض لمؤامرة فاشلة من أحد قادته لعزله وإحلال أخيه مكانه في حكم مصر.
ألقت هذه المؤامرة فقدان الثقة في قلبه، فغادر معسكره ليلا وجنوده في إثره، فلمَّا أشرق الصباح وجد الصليبيون معسكر المسلمين خاويا من الجند، فعبروا إلى الضفة الشرقية وهم لا يصدقون ما حدث، وغنموا ما وجدوه من سلاح ومؤونة.
ازداد موقف المسلمين سوءا، وكاد يحل اليأس في قلب الكامل وتضعف عزيمته لولا أن تداركه أخوه المعظم الذي وصل بقواته، فأعاد الثقة في نفس أخيه، وبدأ في تنظيم الجيش الإسلامي الذي رابط عند فارسكور، وتمكنت دمياط من الصمود تسعة أشهر، لكنها لم تقوَ على الاستمرار بعد أن شدد الصليبيون هجماتهم عليها، فسقطت دمياط في أيديهم في (27 من شعبان 616هـ = 5 من نوفمبر 1219م).
العرض السخي
وفي أثناء حصار الصليبيين لدمياط قبل سقوطها كان السلطان الكامل قد يئس من إمكانية صمود المدينة بعد علمه بوصول نجدات قوية للصليبيين من قبرص وغرب أوروبا، فأرسل إلى الصليبيين بعرض سخي يقترح فيه أن يجلوا عن مصر مقابل أن يمتلكوا مدينة بيت المقدس ووسط فلسطين والجليل، أي يعيد لهم مملكة بيت المقدس، على ما كانت عليه قبل معركة حطين التي خاضها جده صلاح الدين سنة (583هـ = 1187م).
كان العرض الذي تقدم به السلطان الكامل غاية في الكرم والسخاء والتخاذل المهين، فقبله الملك حنا (جون) دي بريان وأمراء مملكته في حين رفضه الكاردينال بلاجيوس الذي أرسله البابا لتزعم الحملة الصليبية كلها، وتابعه فرسان المنظمات الرهبانية العسكرية من الداوية والإسبتارية.
الزحف إلى القاهرة
كانت الظروف قد تهيأت لصالح الصليبيين عقب سقوط دمياط، لكن الأهواء والنزاع حول الزعامة عصفا بوحدة الحملة وتماسكها، فعاد الملك حنا (جون) دي بريان بقواته إلى عكا في (المحرم 617هـ = مارس 1220م)، تاركا الأمر لبلاجيوس الذي ركن إلى الراحة والهدوء في دمياط، وظل نحو عام ونصف العام دون تحرك أو عمل جاد، فلما قرر الزحف بعث إلى حنا (جون) دي بريان يسأله العودة لمساعدة الصليبيين؛ فلبَّى على الفور حتى لا يُتهم بالتخاذل والتفريط في مصر، وهو صاحب الاقتراح بغزوها، ولما اكتملت القوات الصليبية شرعت في الزحف جنوبا بمحاذاة نهر النيل في (جمادى الآخرة 618هـ = يوليو 1221م).
لم يضيع أبناء السلطان العادل وقتهم وبذلوا ما في وسعهم من طاقة لإنقاذ البلاد، فأقام الكامل قبالة طلخا منزلة على الضفة الشرقية أطلق عليها اسم "المنصورة"، واستعدوا للمعركة الحاسمة، وكان السلطان الكامل لا يفتأ يكرر عرضه السخي على الصليبيين في مقابل جلائهم، لكنهم في كل مرة كانوا يكررون رفضهم.
واصل الصليبيون زحفهم وسط مثلث من الأرض تحيط به المياه من ثلاث جهات، كما هو مبين في الخريطة: بحيرة المنزلة شرقا، وفرع دمياط غربا، وبحر أشموم طناح جنوبا؛ فلما وصل الصليبيون إلى نقطة تفرع بحر أشموم طناح البحر الصغير من فرع دمياط قطع المسلمون السدود، وكان النيل مليئا بماء الفيضان فأغرق الأرض من تحت أقدامهم، وعاق الوحل حركة سيرهم.
وفي الوقت نفسه أبحر عدد من السفن الأيوبية في بحر المحلة- كان يخرج وقتذاك من النيل قرب بنها الحالية ويلتقي به جنوبي فارسكور- فحالت هذه السفن بين الصليبيين والنجدات التي تصل إليهم من دمياط، وقطعت خط الرجعة على السفن الصليبية.
فشل الحملة والجلاء عن دمياط
انحصر الصليبيون وتبددت آمالهم في الزحف جنوبا نحو القاهرة، ولم يبق لهم سبيل سوى أن يشقوا لأنفسهم طريقا نحو قاعدتهم في دمياط، فحاولوا في استماتة، لكن الماء وعسكر المسلمين حالاً دون تحقيق آخر أمل لهم في النجاة من المصير المحتوم، فأدركهم اليأس، ولم يبق أمامهم سوى طلب الصلح والجلاء عن دمياط دون قيد أو شرط، وهم الذين رفضوا من أشهر قليلة عروض السلطان الكامل المتكررة.
كان موقف الصليبيين حرجا وبالغ السوء، ولو صبر عليهم الكامل دون أن يجيب عليهم لأخذ برقابهم جميعا ولَمَا نجا منهم أحد؛ ولذلك عارض المعظم عيسى والأشرف موسى أخوا السلطان الكامل إجابته للصليبيين إلى الصلح، ورغبا في تركهم بمأزقهم؛ حتى تنفد أقواتهم، وتنتشر بهم المجاعة، ويأكل بعضهم بعضا، لكن الكامل مال إلى الصلح، وكان معروفا بسماحته، واتفق الطرفان على هدنة مدتها ثمانية أعوام، وتم جلاء الصليبيين عن دمياط في (19 من رجب 618هـ = 8 من سبتمبر 1221م) ودخلتها القوات المصرية عصر ذلك اليوم.
__________________
ابن حوران
|