عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 27-08-2010, 04:25 AM   #3
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

ويبدأ الشاعر في بث لواعج الشوق المكنونة بداخله إلى محبوبته ، ناهيها عن هذه الرفقة التي هي مولودة من حدائق الزيف والتي تعمل – كما فهمت- على بعث رائحة البنفسج المخادِعة ، ويبدو أن المُهرة كانت في حالة غيبوبة وارتماء في أحضان الخضرة الزائفة بما جعل الشاعر يصرخ ويبدأ أول مراحل الحساب .. (إطراقِ) إنه في الوقت الذي لم يذكر لها فيه أنها هي الخضرة وكنى عنها بالعُشب فإنه قد أدان –صراحة- هذا الارتماء الغيبوبي في صالح هذه الحضرة الكاذبة

وبعد أربعة أسطر يصرخ لأول مرة ، وبعد ما يزيد عن خمسة عشر سطرًا مستخدمًا بقوة فعل النهي ،وهو الذي كان قبل يستعطفها من أجل السماع إليه ، ويقول :"فلا تمدي عينيك إلى الشعراء" ولم لا وأكثرهم كاذبون ، وأنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ؟! وهنا يلقي الشاعر باللائمة على هذه الفئةالتي قبلت المهادنةلتكون حارسة مجرد دالحراسة لهذه البساتين الزائفة مقابل ثمر زهيد . ويطل الجمال علينا بأروع معانيه من خلال الشطر "فلا تمدي عينيك إلى الشعراء ،كي يفتشوا فيهاعن زهور الأبجدية" حينما تكون الأبجدية تلك الزهور الرائعة التي تنبعث من عيني المُهرة فإن الشعراء لن يتوانوا في (السرقة والسطو) والنسبة إلى أنفسهم كما هي عادتهم في كل العصور . وهذا التعبير زهور الأبجدية كان يميزه بشدة القدرة على التعبير عن البراءة وجمالها تلك البدايات البكر التي لا يقبل الشاعر بالمساومة عليها ، لذلك يوجه إليها المهرة .(وإسقاطات ذلك بينة لكل القراء وارتباطها بالأرض\الوطن).

ومرة أخرى يتحرك بنا الشاعر إلى المنطقة الصوفية بعد أن تمكن مما يريد بضربة مزدوجة ينهى ويأمر"مدي فتنة البريق إلى عيني" . إن الشاعر ليس يعارض النظر في ذاته ، لأنه إذا أراد ذلك فهو مطالِب بالعمى ، ولكنه يطالب في الحقيقة بتوزيع الحب على مستحقيه ، تلك الفئة التي قدر لها دومًا أن ترى المُهَر ممتطاة من فرسان الوهم!
الفعل تحملي ، مدي هما فعلان للأمر يدلان على تخلص الشاعرمن جو الحياء المسيطر عليه ليبدأ في توجيه المهرة لما يراه ضروريًا حتى لا تنهبها الحدائق الزائفاات ، لكن مع ذلك عندما يقترب إلى منطقة التصوف فإنه يجعل رضاه باالإحراق في عينيها دليلاً على استتباب هذا الحب .بمعنى أنه استخدم فكرة التلذذ بالعذاب من أجل المحبوبة مرتين :مرة قبل العتاب ليوجهها إلى ما يراه خطرًا محدقًا بها وليضع أول لبنات الجرأة في النص ، وثانيها بعد أن وضعها فعلاً وبعد استخدام فعل الأمر ليوصل لها رسالة مفادها بأن هذا الحب باقي في حالة الحب والعتاب .وكان التعبير "كيف لا تدري الحرائق ما بقلبي من لظى اشتعال أعماقي "تعبيرًا عاديًا فيه مباشرة كان من المفترض التخلي عنها .
وينهي الشاعر الجزء الأول من هذه الرسالة بهذه النزعة الصوفية "انا المسقي والساقي" ليكون الحب والعذاب من أجل المحبوبة دائريًا ، فهو لا يكتفي بالشرب من كأس الحب بل إنه يسقي نفسه منه أي أنه يذكر نفسه به ويجبرها على الاستمرار فيه ليحقق هذا الألم المطهِر له من الحب والجوى وليكون الهوى هو مطلبه أينما حل أو رحل

المقطع الثاني يبدو وقد استكنت المهرة فيه ، وقد أسمعها العتاب القاسي ، إلا أن الشاعر –لأنه محب حقيقي لهذه المهرة- فإنه يبدأ في تحويل وجهة الحديث إلى الهوى الذي يريد أن يبوح به إليها ، بعد أن عاتبها ، جاء الدور ليشكوها .وهذه الانتقالات النفسية توحي بقدرة الشاعر على توظيف النص وفقًا لرؤيته الإنسانية . فلكل مقال مقام ، وهذا هو (مقام ) الشكوى

وتبدأ القصيدة بحرف النداء يا ، وفي رأيي أن هذا كان من الأفضل استبداله بأداة نداء للقريب ، لطالما أن المهرة اقتربت منه قلبًا وجسدًا هكذا اقترابًا ، وإن كان من الممكن تفسير استخدام النداء( يا) أنها حالة اعتيادية غير مقصود فيها الجانب المكاني أو الزماني لأن حرف النداء يا يأتي للقريب والبعيد معًا .ويتكئ الشاعر على هذا الرمز ليبث النشوة في فؤاد محبوبته التي لم تشأ التنازل عن هذا النعت الذي يزيدها عنفوانًا .وبعد عدد من الأسطر المفيدة التشويق يأتي هذا السؤال الذي يقصد به حثها على الاستماع ولفت انتباهها :"متى تدرين أن الحب أكبر من تجاهلنا ، وأشجى من تغانينا". يأتي هذا السؤال حاملاً رؤية عظيمة تجعل الحب هو ذلك الواقع الذي لابد أن تسكت كل الأصوات عند سماعه، ذلك الذي لا يحتاج إلى تغانٍ وادعاء زائف ، ولعل الشاعر بذلك ينفي بعض ما قدر أقره في الأسطر السابقة أو في المقطع الأول لكنه يجعل الحدث الأهم أو الحدث الأُم في واجهة الأحداث ليكون دربًا لا ينبغي الحيد عنه .ويأتي السؤال متى تدرين أن يا مهرتي حال ...وأن قلوبنا ليست بأيدينا " ليزيد من انتباه المهرة وإشعارها أن ثمة شيئًا طارئًا قد عن في الأفق . ولعل سبقها بعبارة أحبك يا فتنة العشاق كان مقصودًا منه إشعارها بقيمة الحب بعد هذا القدر الكبير من العذابات ليكون له طعم مختلف عما إذا كانت كلمة تُقال في أي موقف بشكل عادي

ويأتي هذا الاستعطاف الذي أعطى به الشاعر للمحبوبة حق الدلالة ليكون قد استكمل لعبة تبادل الأدوار ليكون على قاب خطوتين من شرفة عينيها ، وفي هذه الصورة من التداخلات الصورية ما يشرد به القارئ ، إذ أن اقتران الشرفات بالنيل يحيلنا إلى صورة المشربيات وما اتسمت به العمارة المصرية كأحد مكونات شجن هذه الحياة الجميلة الهادئة التي ينشدها الشاعر بشكل غيرمباشر

وهذا التشخيص للنيل في أبسط صور الاستعارة القديمة جاء ليتعانق الحب مع الأصالة ويكو ن النيل هو شاهد هذا العناق اللذيد وللمرة الخامسة تقريبًا يستخدم الشاعر كلمة المهرة مستدعيًا بذلك النظير (خيول العشق) ذلك الحب الذي يناسب كبرياء المهرة بعد أن استعطفها الشاعر وأنزلها منزلتها في ذلك ،يرجوها إطلاق خيول العشق في دمه ، وهو تعبير مركب يبرِز حالة العنفوان والتسرّب في كل قطرة من دمه ليقولها بصراحة " فحتام نتوارى شوقًا ..،وفينا من الأشواق ما فنيا " إن الشاعر قد التقط الخيط الأول للبلاد بجعلها صبابة تغرق البلاد كلها ثم باستخدام النيل ليعبر بشكل أقرب إإلى الصراحة عن المقصود وهو الأرض ، الوطن ذلك الذي لابد له أن يستمع إل ىأصوات من ينادونه ، لابد للأرض أن تسمع لصوت نباتاتها وألاّ تعبأ بشيء من هذه الجفاءات التي ستجرفها مياه النيل

عمل رائع لا أستطيع توفيته حقه ، ودمت مبدعًا على الدوام ، وفقك الله ورعاك وسدد على الدرب خطاك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس