عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 04-10-2010, 06:36 AM   #177
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الخطابي.. أمير ثائر ودولة ناشئة

(في ذكرى معركة أنوال: 25 شوال 1339هـ)


كان المغرب في بداية القرن العشرين يعاني من ضعف وانقسام شديد، تمثل في انقسام الأسرة الحاكمة وصراعاتها الداخلية، واستعانة أطراف هذا الصراع للبقاء على العرش بالقوى الخارجية، أما الوجه الآخر فتمثل في التنافس الاستعماري الشرس بين الدول الكبرى للسيطرة على المغرب وتأمين نفوذها ومصالحها فيه، وبخاصة فرنسا التي كانت تتحين الفرصة للانقضاض على المغرب، غير أنها وجدت إنجلترا وألمانيا واقفتين لها بالمرصاد؛ فلجأت إلى إرضاء إنجلترا من خلال الاتفاق الودي سنة (1322هـ = 1904م) الذي أطلق يدها في المغرب، أما ألمانيا فاضطرت إلى إعطائها جزءًا من الكاميرون حتى تقر باحتلال فرنسا لمراكش في (13 من ذي القعدة 1329هـ = 4 نوفمبر 1911م).

لم يكن دخول فرنسا مدينة "فاس"، أو إعلان الحماية عليها بالأمر الهين اليسير؛ نظرا لطبيعة البلاد الجبلية ذات المسالك الوعرة، وطبيعة السكان البربر الذين اعتادوا الاحتفاظ باستقلالهم الداخلي أمام جميع الحكومات المركزية، ومن ثَمَّ لم يتم إخضاع البلاد إلا بعد مرور أكثر من عشرين عاما لعبت فيها شخصية الأمير الخطابي دورا رئيسيا في الجهاد والمقاومة، ووصف أحد الضباط الفرنسيين الكبار هذه المقاومة الباسلة بقوله: "لم تستسلم أية قبيلة دون مقاومة؛ بل إن بعضها لم يُلقِ سلاحه حتى استنفد كل وسائل المقاومة، واتسمت كل مرحلة من مراحل تقدمنا بالقتال، وكلما توقفنا أنشأ المراكشيون جبهة جديدة أرغمت قواتنا سنوات طويلة على الوقوف موقف الحذر واليقظة في موقف عسكري مشين".

وفرض الفرنسيون الحماية على المغرب في (12 ربيع الثاني 1330هـ = 30 مارس 1912م) وبعد أيام قام المغاربة بثورة عارمة في فاس ثار فيها الجيش والشعب، تزعمها المجاهد "أحمد هبة الله"، وكانت الانتصارات فيها سجالا بين الفريقين، وانتهى الأمر بوفاة الرجل، وتمكن الفرنسيون من بسط نفوذهم على المغرب أثناء الحرب العالمية الأولى.

الريف والأسبان

كانت منطقة النفوذ الأسباني حسب اتفاقية (1322هـ = 1904م) مع فرنسا تشمل القسم الشمالي من مراكش، التي تنقسم إلى كتلتين: شرقية وتعرف بالريف، وغربية وتعرف بالجبالة، وتكاد بعض جبال الريف تتصل بمنقطة الساحل. وتتميز مناطقها الجبلية بوعورة المسالك وشدة انحدارها، غير أنها أقل خصبا من منطقة الجبالة. وتمتد بلاد الريف بمحاذاة الساحل مسافة 120ميلا وعرض 25 ميلا، وتسكنها قبائل ينتمي معظمها إلى أصل بربري، أهمها قبيلة بني ورياغل التي ينتمي إليها الأمير الخطابي.

وعندما بدأ الأسبان ينفذون سياسة توسعية في مراكش، صادفوا معارضة قوية داخل أسبانيا نفسها بسبب الهزائم التي تعرضوا لها على يد الأمريكيين في الفليبين وكوبا، فعارض الرأي العام الأسباني المغامرات العسكرية الاستعمارية، إلا أن المؤيدين احتجوا بأن احتلال مراكش ضروري لتأمين الموانئ الأسبانية الجنوبية، وضَمَّ رجال الدين صوتهم إلى العسكريين.

وكان الأسبان يعرفون شدة مقاومة أهل الريف لتوسعهم، فاكتفوا في البداية بالسيطرة على سبتة ومليلة، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى احتلال معظم الموانئ الساحلية المحيطة بمنطقة نفوذهم، وكانت خطتهم تقوم على أن تتقدم القوات الأسبانية عبر منطقة الجبالة لاحتلال مدينة تطوان، التي اتُّفق على أن تكون عاصمة للمنطقة الأسبانية، لكن ظهر في الجبالة زعيم قوي هو "أحمد بن محمد الريسوني" الذي حمل لواء المقاومة منذ سنة (1330هـ = 1911م) حتى تولاها منه الأمير الخطابي.

وقد اصطدم الريسوني بالأسبان عندما احتلوا ميناء أصيلة الذي كان يعتمد عليه في استيراد الأسلحة، وبعدها ساروا إلى احتلال مدينة تطوان، فوقعت مصادمات بينهم انتهت بصلح اتفق فيه على أن تكون الجبال والمناطق الداخلية للريسوني، والساحل للأسبان، غير أن الأسبان نقضوا العهد، وطاردوه، وتوغلوا في بلاد الجبالة بخسائر فادحة، واستطاعوا أن يحتلوا مدينة شفشاون أهم مدينة في تلك البلاد في (صفر 1339هـ = أكتوبر 1920م).



كانت الثورة الثانية ضد الأسبان هي ثورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، زعيم قبيلة بني ورياغل، أكبر قبائل البربر في بلاد الريف، وقد وُلد الأمير سنة (1299هـ = 1881م) في بلدة أغادير، لأب يتولى زعامة قبيلته، فحفظ القرآن الكريم صغيرا، ثم أرسله أبوه إلى جامع القرويين بمدينة فاس لدراسة العلوم العربية الدينية، ثم التحق بجامعة سلمنكا بأسبانيا، فحصل منها على درجة الدكتوراه في الحقوق، وبذلك جمع بين الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة وبعض النواحي من الثقافة الأوروبية، ثم عُين قاضيا بمدينة مليلة التي كانت خاضعة لأسبانيا، وأثر فيه عندما كان قاضيا مشهد ضابط أسباني يضرب عربيا بالسوط في شوارع مليلة، ويستغيث ولا يغاث، عندها رأى الوجه القبيح للاستعمار، وأدرك أن الكرامة والحرية أثمن من الحياة.

وكان الأسبان قد عرضوا على والد الأمير أن يتولى منصب نائب السلطان في تطوان التي تحت الحماية الأسبانية، وأن يقتصر الوجود العسكري الأسباني على المدن، إلا أنه اشترط أن تكون مدة الحماية محددة فلم ينفذ هذا العرض.

وبعد سيطرة أسبانيا على مدينة شفشاون وإخضاع منطقة الجبال، استطاعت أن تركز جهودها وقواتها في بلاد الريف، وأعلنت الحماية على شمال المغرب، فرفض الأب الخضوع للأسبان، وأعلن معارضته للاستعمار، ورفض تقديم الولاء للجنرال الأسباني غوردانا؛ فما كان من الجنرال إلا أن عزل الخطابي عن قضاء مليلة، واعتقله قرابة العام، ثم أطلق سراحه، ووضعه تحت المراقبة، وفشلت إحدى محاولات الخطابي في الهرب من سجنه، فأصيب بعرج خفيف لازمه طوال حياته، ثم غادر مليلة ولحق بوالده في أغادير، وفي هذه الأثناء توفي والده سنة (1339هـ = 1920م) فانتقلت الزعامة إلى الابن.

من القضاء إلى الثورة

تولى الأمير الخطابي زعامة قبيلة بني ورياغل، وقيادة الثورة في بلاد الريف، وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، فزحف الجنرال سلفستر قائد قطاع مليلة نحو بلاد الريف، واحتل بعض المناطق دون مقاومة تُذكر، واحتل مدينة أنوال، وتقدم اثني عشر ميلا بعدها؛ فظن أن قبائل بني ورياغل خضعت له، ولم يدرِ أن الأمير الثائر أراد أن يستدرجه إلى المناطق الجبلية ليقضي عليه تماما، وأنه ادخر رجاله لمعركة فاصلة.

بلغ قوام الجيش الأسباني بقيادة سلفستر 24 ألف جندي استطاع أن يصل بهم إلى جبل وعران قرب أغادير مسقط رأس الأمير، وعندها قام الخطابي بهجوم معاكس في (25 شوال 1339هـ = 1 يوليو 1921م) استطاع خلاله أن يخرج الأسبان من أنوال، وأن يطاردهم حتى لم يبق لهم سوى مدينة مليلة، وكانت خطة هجومه في أنوال أن يهاجم الريفيون الأسبان في وقت واحد في جميع المواقع؛ بحيث يصعب عليهم إغاثة بعضهم البعض، كما وزع عددا كبيرا من رجاله في أماكن يمكنهم من خلالها اصطياد الجنود الفارين، فأبيد معظم الجيش الأسباني بما فيهم سلفستر، واعترف الأسبان أنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل و570 أسيرا، واستولى المغاربة على 130 موقعا من المواقع التي احتلها الأسبان، وحوالي 30 ألف بندقية، و129 مدفعَ ميدان، و392 مدفعا رشاشا.

ولم ينتبه الخطابي إلى ما أدركه من نصر حاسم؛ إذ لو تابع القتال لما وجد أمامه قوة ولدخل حصن مليلة دون مقاومة تُذكر، ولأنهى الوجود الأسباني في بلاد الريف، غير أنه توقف ظنا منه أن للأسبان قوة، وقد هيأ التوقف للأسبان الفرصة لحشد ستين ألف مقاتل، وقاموا بهجوم معاكس في (10محرم 1340هـ = 12 سبتمبر 1921م)، فاستعادوا بعض ما فقدوه، وبلغ مجموع القوات الأسبانية في ذلك العام ببلاد الريف أكثر من 150 ألف مقاتل، ورغم ذلك أصبح وجود الأسبان مقصورًا على مدينة تطوان والموانئ وبعض الحصون في الجبالة.

ويعزو الأسبان وقوع هذه الهزيمة إلى طبيعة البلاد الصعبة، والفساد الذي كان منتشرا في صفوف جيشهم وإدارتهم، وأرسلت حكومة مدريد لجنة للتحقيق في أسباب هذه الكارثة المدوية، ذكرت أن الأسباب تكمن في إقامة مراكز عديدة دون الاهتمام بتحصينها تحصينا قويًّا، كما أن تعبيد الطرق التي تربط بين هذه المراكز كان خطأ كبيرًا من الناحية العسكرية، ويعترف التقرير بأنه لم يكن أمام المراكشيين إلا أن يلتقطوا الأسلحة التي تركها الجنود الفارون، وكشف التقرير حالات بيع بعض الضباط لأسلحة الجيش.

من الثورة إلى الدولة

بعد الانتصار العظيم الذي حققه الخطابي في أنوال ذاعت شهرته في بلاد الريف، وترسخت زعامته فاتجه إلى تأسيس دولة؛ لذلك دعا القبائل إلى عقد مؤتمر شعبي كبير تُمثَّل فيه جميع القبائل لتأسيس نظام سياسي، ووضْعِ دستور تسير عيه الحكومة، وتم تشكيل مجلس عام عُرف باسم الجمعية الوطنية مُثِّلت فيه إرادة الشعب، واتخذ أول قرار له وهو إعلان الاستقلال الوطني وتأسيس حكومة دستورية جمهورية في (المحرم 1340هـ = سبتمبر 1921م)، وتم وضع دستور لجمهورية الريف مبدؤه سلطة الشعب، ونص الدستور على تشكيل وزارات، ونص على أن رجال الحكومة مسئولون أمام رئيس الجمهورية.

وقد أعلن الخطابي أن أهداف حكومته هي عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية، وجلاء الأسبان عن جميع ما احتلوه، وإقامة علاقات طيبة مع جميع الدول، والاستفادة من الفنيين الأوروبيين في بناء الدولة، واستغلال ثرواتها؛ فشجع بعض شركات التعدين للعمل في الريف حتى قيل بأن تأييد بعض الأوساط الرأسمالية له في أوروبا إنما كان سببه ارتباط مصالحهم بمشاريع في الريف، كذلك تحول رجاله المقاتلون إلى جيش نظامي، له قواده ومقاتلوه من الفرسان والمشاة المدفعية، وعهد بالوظائف الفنية إلى المغاربة الذين سبق لهم الخدمة في الجيش الفرنسي، وعمل على تنظيم الإدارة المدنية، والإفادة من بعض وسائل الحضارة العصرية؛ فمدّ أسلاك البرق والهاتف وشق الطرق، وأرسل الوفود إلى العواصم العربية ليحصل على تأييدها، وطلب من فرنسا وبريطانيا وبابا الفاتيكان الاعتراف بدولته، وعاصمتهاأجدير (أغادير).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس