عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 16-01-2011, 10:42 AM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

ثانياً: الإعلام: حدود المهنية والحرية

1ـ تركتز مهنة الإعلام بالدرجة الأولى على (الدقة في نقل الخبر والسلوك المسؤول تجاهه)، ويمكن القول أيضاً أن الاعلام، فن وصناعة واستخدام الوسائل والأدوات السمعية، المرئية والمكتوبة، الناقلة للجمهور المتلقي في الفضاء المعلوماتي أو ما يشكل شبكة الاتصال بين البشر في المجتمع الإنساني.

وقبل أكثر من نصف قرن، وبالتحديد في عام 1952، وضعت لجنة حرية الإعلام التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي (إحدى منظمات الجمعية العامة للأمم المتحدة) عهد الشرف الدولي للصحافيين، ليكون "قانوناً" للسلوك المهني لكل فرد مكلف بتحري ونقل وإذاعة الأنباء وبث المعلومات والتعقيب عليها، أو معهود إليه في أن يصف الحوادث الجارية خطياً أو شفهياً أو بأي طريقة أخرى من طرق التعبير.

توضح المادة الثانية من الميثاق/العهد آداب الصحافة الجديرة بالاحترام كالتالي: ( تتطلب المزاولة الشريفة للمهنة الصحافية الإخلاص للمصلحة العامة، ولذلك يجب على الصحافيين أن يتجنبوا السعي وراء منفعتهم الشخصية أو تأييد المصالح الخاصة المتعارضة مع المصلحة العامة أياً كانت الأسباب والدوافع، فالافتراء والتشهير المتعمد، والتُهم التي لا تستند الى دليل، وانتحال أقوال الغير؛ كل ذلك يُعَدّ أخطاء مهنية خطيرة، وإخلاص النية تجاه الجمهور يعتبر أساساً للصحافة المحترمة الجديرة باسمها، وكل نبأ يتضح كذبه وضرره بعد إذاعته يجب تصحيحه على الفور طواعية، كما يجب صياغة الشائعات والأنباء التي تفتقر الى الإثبات في قالب متسم بطابعها الحقيقي.

لكن الإعلام عموماً لا يلتزم كلياً بهذا الميثاق. فالمؤسسات الإعلامية، مرئية كانت أم مكتوبة أم مسموعة، عادة ما تكون منحازة الى طرف سياسي (حكومي أو خاص) وخاضعة لسلطة مالية ما. وكثيراً ما يقع الصحافيون في فخ الانحياز ـ عمداً أو عن غير قصد ـ سيما في تغطية الحروب والأحداث الجسام. والأمثلة على ذلك كثيرة في تغطيات وسائل الإعلام الأمريكية والعربية لأحداث 11 أيلول/سبتمبر وحربي أفغانستان والعراق وتعاطيها مع صعود الإسلام السياسي، على سبيل المثال لا الحصر.

ويكشف تقرير لجنة خبراء تابعة لليونسكو منذ أيام الحرب الباردة، أن بعض الحكومات قد ((جندت في وقت ما بعض الصحافيين لكي يقوموا بنشاط تجسسي مختبئين وراء عملهم الصحافي، وتسبب هذه الممارسة إلحاق الضرر بسمعة المهنة، وتضع الصحافيين موضع الريبة، وتعرضهم للمخاطر الجسدية، وتطلب اللجنة من الصحافيين والمؤسسات الصحافية أن يقاوموا كل محاولة من هذا القبيل، كما تلح على الحكومات أن تمتنع عن استخدام الصحافيين في أعمال التجسس)).

ومن الممارسات الحكومية التي تسيء الى الأمانة الصحفية، لجوء حكومات ودول على اختلاف أنظمتها الى تزويد الصحافيين بتقارير كاذبة. ويقول روجرز ماثيوس في مداخلة في ندوة الصحافة العالمية: ((كل الحكومات من دون استثناء تكذب، وواجب الصحافي أن يكشف الحقيقة)). وبعد تجربة إدارة بوش وحملة الأكاذيب والأضاليل التي روجتها بتواطؤ بعض الإعلاميين الأمركيين البارزين في تبرير شن الحرب على العراق واحتلاله، لا نحتاج الى إثباتات قاطعة على استمرار هذا السلوك المشين.

2ـ على أن لمسألة العلاقة بين الصحافة والحكومات، من الوجهة الأخلاقية، أوجه تضارب مصالح تصل الى حد الصدام. فالحكومات تتذرع بالمصلحة العليا وحماية أسرار الدولة، والصحافة تنبري بالنشر وإطلاع الرأي العام على ما يجري من زاوية حرية الإعلام وحرية نقل وتداول المعلومات، بوصفها إحدى الحريات التي يكفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث تنص المادة 11 منه على (( أن حرية نشر الأفكار والآراء حق من أثمن حقوق الإنسان)).

ورغم شيوع مقالة أن السياسة هي (فن الممكن)، إلا أن المعنى الضمني يرمز الى أن السياسة هي فن وعلم اتخاذ القرار حيال الخيارات المتوفرة والمُدرَكة من مُتًخِذ القرار. وينطبق هذا الأمر على الحالات التي يواجهها الأفراد والمؤسسات والمنظمات والحكومات في مجرى الحياة اليومية، ولكن السياسة بالمفهوم الشامل على مستوى الدول، هي فن إدارة وممارسة السلطة، والبعض يقول أنها فن ممارسة الحفاظ على السلطة. وعموماً يبقى للمال دور مؤثر للغاية، وربما الدور الأكثر تأثيراً، في رسم اتجاهات السياسة والإعلام والرأي العام وقولبتها وِفق ميوله ومصالحه.


3ـ وللتدليل على العلاقة المترابطة والمعقدة بين الإعلام والسلطة والمال، يمكن الإشارة الى قرار شبكة (سي أن أن) الأمريكية أخيراً، إقالة الإعلامية اللبنانية الأصل (أوكتافيا نصر)، لتعليقها على موقع (تويتر) للتواصل الاجتماعي على وفاة المرجع الشيعي اللبناني السيد محمد حسين فضل الله بالقول: (إني حزينة لوفاة السيد محمد حسين فضل الله... أحد عمالقة حزب الله الذي احترمه كثيراً).

وجاء قرار الشبكة في ظل ردود فعل عارمة وضغوط لطرد نصر من جهات يمينية أمريكية وإسرائيلية ـ تملك رأس المال والنفوذ طبعاً ـ رغم تراجعها وقولها إنها أساءت التقدير، وإنها كانت تشير الى موقف فضل الله من حقوق المرأة. لكن الساسة التحريرية للشبكة وتبنيها الموقف الرسمي الأمريكي على حساب الحريات الإعلامية وخضوعها لسلطة رأس المال، كلها عوامل قضت بعدم التراجع عن قرار الفصل.

وكتب ستيف كراكيور محرر موقع Mediaite.com ((المدافعون عن فضل الله قالوا إن ردة فعل (سي أن أن) كان مبالغاً فيها... شددوا على أن الموضوعية الحقيقية في الصحافة هي مغالطة. قد يكونون على حق... إبداء نصر احترامها علناً لشخص يراه كثيرون متطرفاً، إن لم يكن خطيرا و مكروهاً، وداعماً لجانب مكروه وخطير من نزاع هش، أمر لا يمكن ل (سي أن أن) تخطيه. هذا لا يعني أن نصر تعتبر صحافية سيئة أو أنها تتقاسم وجهات النظر مع فضل الله!

لكن المؤسسات الإعلامية تجد نفسها بشكل متزايد، في صراع مع مفهوم التحيز في تغطيتها الإخبارية، نصر كانت أحدث مثال على شخص عبر عن نفسه ودفع الثمن. رأينا ذلك مع هيلين توماسأخيراً، وسنراه مجدداً في المستقبل. كانت (سي أن أن) على حق بفصل نفسها ومصداقيتها الثمينة عن وضع غير قابل للتصحيح.

هذه المصداقية قد توضع في دائرة الشك، إذا ما اعتبرنا أن شبكة بحجم (سي أن أن) لم تقدر على استنباط المواقف الحقيقية لمسؤولة عملت لديها طيلة أكثر من عشرين عاماً. فهل يعقل أن نصر نجحت في إخفاء مواقفها، وربما تحيزها، طيلة هذه المدة من قضايا ساخنة كالحروب الإسرائيلية على لبنان وغزة والانتفاضة وحربي العراق وأفغانستان وسواها؟ أم أنها نجحت الى حد بعيد في صون موضوعيتها حتى (زل لسانها) عند وفاة فضل الله؟

وبأية حال، فإن المصالح السياسية لأية وسيلة إعلامية، وتحديدا ل (سي أن أن)، تقتضي ازدواجية في المعايير، أكان في قضية أوكتافيا نصر أو هيلين توماس، التي اضطرت الى تقديم استقالتها بعد 70 عاماً من العمل كمراسلة في البيت الأبيض، بسبب تصريحها التالي: (( بحق السماء فليخرج اليهود من أراضي فلسطين. فليعودا من حيث أتوا. هذه أرض محتلة تعود الى الفلسطينيين وليست أرض الألمان أو البولنديين)).

إذن هو الإعلام في خدمة المصالح السياسية ورأس المال، حتى في أكثر الدول تقدماً وتحرراً، فدول كالولايات المتحدة، تلجأ الى ازدواجية المعايير كأداة لتكييف سياساتها مع مصالحها، حتى وإن كان ذلك على حساب الحريات العامة ومنها (حرية الإعلام) التي يكفلها الدستور.

وفي مقال في مجلة (فورين بوليسي)، يرى ستيفن وولت أنه ((لا حاجة للقول إن ازدواجية المعايير هنا ملفتة للنظر ومحزنة... فرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي امتدح فضل الله علناً بعد وفاته، بكلمات أكثر إسرافاً من التي استخدمتها نصر. المالكي قائد منتخب في العراق ويفترض أنه حليف للولايات المتحدة، فهل يعني مديحه لفضل الله أنه يجب ألا نتناوله بشكل إيجابي أيضا؟ والأهم، إن كثيراً من الصحافيين والسياسيين الأمريكيين أبدوا (احترامهم) (وفي بعض الحالات، إعجابهم الكبير) بشخصيات عالمية أيديها ملطخة بالدماء أكثر بكثير من فضل الله ـ بمن فيهم ماو سي تونغ، أرئيل شارون، شاه إيران ـ لكن ذلك لم يكلفهم ذلك وظائفهم.

(ودعونا لا ننسى أن كثيراً من الصحافيين والاعلاميين الأمريكيين يعاملون قادتنا بكثير من المراعاة و(الاحترام)، حتى بعدما شنوا حروباً غير ضرورية قضى فيها عشرات الآلاف أو سمحوا بتعذيب السجناء)*1. والسؤال هنا مشروع حول مهنية بعض الإعلاميين وحرفيتهم وحيادهم في التعامل مع الخبر، أي خبر، وبالتالي مدى ارتهانهم لتأثير، حتى لا نقول لسيطرة السلطة ورأس المال.

ويتابع وولت إن (إقالة نصر محزنة أيضاً لأن (سي أن أن) ترضخ لرؤية عالم أسود أو أبيض، نحن مقابل هم، الخير مقابل الشر المطلق). ويضيف (لأن الولايات المتحدة صنفت فضل الله " إرهابياً " فالتعبير عن أي نوع من التعليق الإيجابي كان إهانة تستحق الطرد... إن طرد نصر يعزز الصورة النمطية التسطيحية السائدة أصلاً في الخطاب السياسي العام). هذه هي الصور النمطية التي تصنعها القوى الكبرى وتروج لها عبر كل وسيلة متاحة، بما فيها الإعلام وشركات العلاقات العامة وإنتاج الأفلام والإعلانات، وحتى شركات الدمى والألعاب الإلكترونية.

وقد يكون قرار الطرد دليلاً على إفلاس أخلاقي، كما يصوره وولت بالقول: (إن رد فعل " سي أن أن " الضعيف على الحادثة يعطيني أكثر من سبب لتزايد النظر الى الصحافة السائدة على أنها مفلسة أخلاقياً وتزايد اللجوء الى المدونات)*2

يتبع

*1ـ Stephen M.Walt (CNN Cave In) Foreign Policy July 2010
*2ـ المصدر نفسه.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس