الفصل الرابع: تعاليم عصر الثراء وحقائقه
ص 135
ديفيد ناسو *
(1)
السيدة (لايتفوت لي) وهي الأرملة الثرية بطلة رواية (الديمقراطية) التي وضعها (هنري آدامز) عام 1882، انتقلت الى واشنطن لأن الملل كان يعذبها، فمنذ وفاة زوجها قبل خمس سنوات، فقدت ولعها بمجتمع نيويورك؛ وهي لم تعد مهتمة بأسعار الأسهم أو بالأشخاص الذين تمارس التجارة معهم؛ فقد باتت جادة. كانت منزعجة من أصحاب الملايين في نيويورك الذين كدّسوا ثروات طائلة ولا يدرون ما يفعلون بها.
هكذا، بدأ الكاتب بمقدمة بحثه، ليشبه تلك السيدة براكب في سفينة أراد الدخول الى غرفة المحركات والحديث مع المهندس. وهذه الرغبة لم تقتصر على بطلة الرواية الخيالية، بل تجاوزتها للكثير من الموسرين الذين انتبهوا الى الحياة السياسية بعد أن شبعوا من ملذَّات الحياة.
يتحدث الكاتب، عن أصنافٍ من الأثرياء في الولايات المتحدة، الذين جمعوا ثرواتهم بمعدلات تفوق أثرى أثرياء أوروبا عشرات المرات، وبوقت سريع. وذكر أن أشهر تلك الأصناف ما عمل بالاستثمار بسكك الحديد، والصناعة والمناجم وتوضيب اللحوم الخ.
وكانت ثرواتهم مثار لنقاش كل الطبقات، السياسية الحاكمة أو العمالية أو الفكرية أو الصحفية الخ. وكانت ثرواتهم تنمو باطراد وبمعدل مثير، فبينما كان حديثو النعمة وأبناؤهم مضطجعين في أحضان الرفاهية، كانت أموالهم تتضاعف بسرعة أكبر مما يمكن إنفاقه.
(2)
تصاعدت حملات الانتقاد لأصحاب الثروات الطائلة، حتى وصلت الى أروقة الكونجرس، وكواليس الأحزاب والنقابات العمالية. فكان لا بُد لأصحاب تلك الثروات أن يتجمعوا لاتخاذ ما يُبعد خطر أولئك الأعداء. وبالرغم من أن العداء كان في البداية بين أصحاب تلك الثروات فيما بينهم، من باب المنافسة، أو على هامش تضرر مصالح فئة من أخرى كتضرر أصحاب المزارع الجنوبية من الرسوم الطائلة التي يفرضها عليهم المتحكمون بسكك الحديد؛ أو تضرر أصحاب الأفران من زيادة رسوم نقل الفحم الحجري أو المواد الى أفرانهم، فإن تلك العداوات تم تذليلها وتطويعها لتوجه ضد السياسيين والمشرعين وضد الحركات العمالية والسياسية.
كان لا بُد من ظهور مُنظرين ومفكرين لأصحاب الثروات لكي يوقفوا النظرات الحاسدة لثرواتهم، والتي لم تتوقف عند الحسد بل امتدت لتعيق جمع تلك الثروات.
كان الجشع وشهوة المال، هو تفسير الآخرين لجمع هؤلاء لثرواتهم. في حين ظهر من يرجع تلك الثروة لتوفيق الله ورضاه على هؤلاء الناس، وعندما تقارن أفعالهم ومجونهم وعربدتهم بما لا يرضي الله، كان الصحافيون الساخرون يقولون: لماذا لا يرضى الله عن الفقراء والمحتاجين ويرزقهم؟
ظهر (هربرت سبنسر) الفيلسوف البريطاني كمرشدٍ ودليل لطبقة أثرياء الولايات المتحدة، فهو صاحب كتاب (الرجل ضد الدولة) وهو صاحب مقولة (البقاء للأصلح) وإن كان الرجل من مذهب (اللاأدرية) التي تؤمن بنظريات دارون وتطورها، فقد كان بنظرياته خير نصير للأثرياء.
تأثر (أندرو كارنيغي) بأفكار هربرت سبنسر، وطور عليها، وأندرو هذا اسكتلندي مهاجر من فقر مدقع الى الولايات المتحدة، وعمل بالصلب والسكك حتى أصبح من كبار الأثرياء، ووكيل لوزارة الحربية. فلم يقبل بفكرة الحظ والتوفيق من الله ولم يقبل أن يُسمى أمثاله باللصوص والجشعين، بل دافع عن ذلك بقوله: إن الموهبة وحسن إدارة الأفراد لأموالهم هي من تجعلهم أكثر ثراء من غيرهم.
(3)
كَثُرت استجوابات لجان التحقيق للأثرياء عن مصادر رزقهم، وعن القلق الذي تتركه ثرواتهم على المجتمع والدولة. وقد أجاب أحدهم (جاي غولد) : (أظن أن لا داعي للخوف من الرأسماليين على حريات الشعب. فالرأسمالي محافظ ومرتعب؛ ولكن ما عليكم الخوف منه هي الجماهير العريضة من غير المثقفين والجهّال)*1
في عام 1886 حصل أكثر من 1400 إضراب عن العمل، لأكثر من 400 ألف عامل، و(هو العام الذي شهد 1أيار/مايو 1886 الذي يحتفل به عمال العالم كعيد للعمال).
كانت حجج أصحاب الثروات عندما خفضوا أجور العمال 10%، من أن العمل هو سلعة كأي السلع، يخضع للعرض والطلب. ونحن لم نخترع هذه القاعدة بل وجدت منذ القِدم.
لقد دفعت الإضرابات والتي تضرر منها أصحاب الثروات، الى التفكير الفوري بإنشاء مصانع للأسلحة والذخيرة وإنشاء المليشيات التي تجبر العمال على الانتظام بعملهم، طالما أن الجيش الحكومي والحرس الوطني لا يقوم بمهامه!
في عام 1890 انضمت 6 ولايات جديدة للولايات المتحدة هي (واشنطن وداكوتا الشمالية وداكوتا الجنوبية وأيداهو ومونتانا ووايومنغ) وهي ولايات غنية بالفضة، مما شجع على تمرير قانون يعتبر سك الفضة كعملة موازية للذهب، وهذا خلق حِراكاً جديداً*2
هذا الحراك أدى تجييش كبير من أنصار إبقاء الذهب كضامن رئيسي للعملة، الى تبرع (ستاندرد أويل) بمبلغ ربع مليون دولار، ومؤسسة روكفيلر بمبلغ مثيل، وساهم كارينغي ليس بالمال فحسب بل بطباعة خمسة ملايين نسخة من كراس معد للعقول الساذجة، فنجح مرشحهم في انتخابات 1896 (وليام مكينلي) وانهزم الديمقراطيون. *3
من يومها، انتبه أصحاب الثروة على ضرورة تمثيلهم بقوة في المجالس التشريعية بالولايات (منفردة ومجتمعة) وانتبهوا الى رشوة الصحافيين وشراء الذمم وإقامة دور النشر ومراكز الدراسات الموجهة.
هوامش من تهميش المؤلف
*ديفيد ناسو: أستاذ تاريخ، ومدير مركز العلوم الثقافية في مركز (كاني) للتخرج. مؤلف أربعة كتب، بما فيها الرئيس (حياة وليام راندولف).
*1ـ Jay Gould testimony, United States Congress, Senate, Committee on Education and Labor, Report upon the Relations between Labor and Capital (Washington, D.C.: Government Printing Office,1885), 1089
*2ـ Richard Hofstadter, The Age of Reform (New York: Vintage Books, 1955), 104
*3ـ Strouse, Morgan,355; Chernow, Titan,388; Mark Hanna to Andrew Carnegie, October17,1896, Vol. 39. Library of Congress
__________________
ابن حوران
|