(122)
أما المقابلة بين شخصية كافور وشخصي المعتصم فإن الشاعر يسلك إليها طريقًا أكثر خفاء وبراعة ، حيث لا يصرح بشخصية المعتصم ولا بموقفه من المرأة العربية التي استنجدت به من أسر الروم بصرختها المشهورة "وامعتصماه" فأنجدها واكتسح عمورية وحررها من الأر ، لا يصرح الشاعر بأي من هذه الملامح التي تمثل الطرف الآخر للمفارقة وإنما يضمرها ويضفي على كافور من الملامح ما يستدعي إلى ذهن القارئ موقف المعتصم العظيم ، حيث يروي عن كافور قصة مشابهة عن فتاة عربية هي "خولةتلك البدوية الشموس "حبيبة المتنبي التي التقى بها بالقرب منب أريحا وعندما سأل عنها القادمين في القوافل بعد أن تركها أخبروه"أنها ظلت بسيفها تقاتل في اللي تجار الرقيق عن خبائها" ولكنهم اختطفوها بعد أن جرحوا شقيقها وأباها ، وعجز الجيران عن إغاثتها .يقول الشاعر على لسان المتنبي ، الذي يرو القصة مصورًا حزنه لوقوع حبيبته العربية في أسر الروم :
ساءلني كافور عن حزني
فقلت : إنها تعيش الآن في بيزنطة
حزينة كالقطة
تصيح :"كافوراه ..كافوراه"
فصاح في غلامه أن يشتري جارية رومية
تجلد كي تصيح : وراوماه .. وراوماه"
لكي تكون العين بالعين
والسن بالسن
هكذا يستدعي الشاعر بهذا المسلك البارع إلى القارئ موقف المعتصم من الأسيرة التي استنجدت به ، وتنم المقابلة في صمتبين هذا الموقف الشامخ العظيم وموقف كافور الهزيل المثير للسخرية والازدراء ، دون أن ترد أية إشارة إلى المعتصم ، أو إلى موقفه من الأسيرة التي استنجدت به .
وهكذا عن طريق هذا التركيب البارع في بناء المفارقة وتعدد مستويات التقابل بين الطرفين فيها تزداد المفارقة غنى وعمقًا ، وتزداد المعاني التي تستثيرها اتساعًا ورحابة في وجدان القارئ وعقله ، ويزداد إحساسه من ثم بفداحة المفارقة قوة وشمولاً .