وقد اعتبر أنصار النسخ وأخذوها قضية مسلمة أن كلمة "آية" في النصين السابقين والتي يقع عليها النسخ أو التبديل إنما يقصد بها النص القرآني، وبالتالي يكون المعنى نسخ نص قرآني متقدم بنص قرآني آخر متخلف أو متراخي كما يقولون.
وصحيح أننا جميعا نفهم من كلمة "آية" النص القرآني ونقول إن سورة كذا تضم كذا آية ... ونستشهد بالآيات آية آية ونرقمها ... ولكن هذا الفهم منا لهذه الكلمة شيء، والمعنى الذي يعطيه القرآن للكلمة شيء آخر، ولا تجوز لنا عندما نكون بصدد تفسير نص قرآني أن نفرض تعريفنا الخاص على القرآن الكريم، ونطرح تعريف القرآن نفسه والقرآن له مدلوله الخاص لكلمة آية ويكون علينا أن نلتزم بمدلول القرآن.
والقرآن الكريم لا يستخدم كلمة آية بمعنى النص ولكن بمعنى الحجة والدلالة والمعجزة والعلامة التي تثبت النبوات أو تبعث على الإيمان، وإذا أراد القرآن الإشارة إلى النصوص في الكتب المقدسة وما تحويه من توجيهات ثمينة فإنه قد يستخدم كلمة الآيات. ويبدو لنا أن الوجه في هذه التفرقة هو أن المعجزة عادة ما تكون واحدة بينما التوجيهات من تحليل وتحريم وأوامر ونواه إلخ ... تكون عديدة ... وقد ذكرت كلمة آية في القرآن الكريم على ما ذكر المرحوم محمد عبد الباقي في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم في اثنين وثمانين مرة ومن هذا الاستقصاء لكلمة آية في القرآن الكريم بأسره نجد أن القرآن لا يستخدم أبدا كلمة آية بمعنى نص أو جملة قرآنية، وإنما يستخدمها كمعجزة أو دلالة أو حجة أو علامة أو برهان على صدق النبوة، وقد تكون هذه الآية الشمس والقمر والليل والنهار والحياة والموت، وقد تكون مائدة عيسى أو عصا موسى أو جسد فرعون أو ناقة صالح، ويؤيد هذا استخدام القرآن تعبير "إن في ذلك لآية" أو "لتكون آية" ومطالبة المشركين بإنزال آية وجعلهم إيمانهم رهنا بذلك، وهي معظم الاستخدامات لكلمة آية في القرآن"
وقد فسر محمد عبده الآية 106 من سورة البقرة بما يؤيد قول البنا، حيث قال:"والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى آخره أن الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم، أي ما ننسخ من آية نقيمها دليلا على نبوة نبي من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها أو ننسها الناس لطول العهد بما جاء بها فإننا بما لنا من القدرة التامة والتصرف في الملك نأت بخير منها من قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك. ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه، والآية في أصل اللغة هي الدليل والحجة والعلامة على صحة الشيء، وسميت جمل القرآن آيات لأنها بإعجازها حجج على صدق النبي ودلائل على أنه مؤيد فيها بالوحي من الله عز وجل من قبيل تسمية الخاص باسم العام"
وهذا الكلام مردود على أهله فالآيات شاءوا أم ابوا هى في النسخ وهى التبديل والآيات المبدلة عديدة فمثلا الحق المعلوم وهو المعروف بالزكاة كان في مكة للسائل والمحروم كما قال تعالى :
" والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم"
وهو ما يخالف المصارف الثمانية في آية الصدقات والتى تسمى الزكاة فليس فيها السائل وأما المحروم فهو ينطبق على الفقير والمسكين وأحيانا غيرهم
وأمر وجود قبلة غير الكعبة معلوم من قوله " وما جعلنا القبلة التى كنت عليها" وهو ما غيره قوله :
" فول وجهك شطر المسجد الحرام"
فهنا تغيير معلوم في الحكم لا يمكن لأحد إنكاره
وكما سبق القول إن الأحكام المنسوخة يعمل بها مع وجود نواسخها إذا عاش المسلم في مجتمع كافر فالنسخ لا يعنى سوى تبدل الحال فقط
وتحدث الناصرى عن الغلو في القول بالنسخ فقال :
"المغالاة في القول بالنسخ ...
إنها اعتراضات وجيهة بالنظر إلى عدد الآيات التي حكم القائلون بالنسخ بنسخها، إذ "اعتبر ابن العربي المعافري عدد الآيات المنسوخة، مائة آية خمس وسبعون آية منسوخة بآية القتال، وذهب ابن حزم في كتابه معرفة الناسخ والمنسوخ أن آيات النسخ تبلغ مائتين وأربع عشرة آية، وذهب أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ إلى أنها تبلغ مائة وأربعا وثلاثين آية، وأوصلها ابن سلامة الضرير إلى مائتين وثلاث عشرة آية ... " في حين أوصلها ابن الجوزي إلى مائتين وسبعة وأربعين آية"
تعليق ... وإجمال
إن القول بنسخ هذا العدد من الآيات القرآنية أمر خطير يحتاج إلى أمر محقق. فالقول بآية السيف يعطل العمل بآيات قرآنية هي من القواعد الكلية والمبادئ العامة في الدين الإسلامي، من ذلك قوله تعالى "لا إكراه في الدين" "ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين" "فاصفح الصفح الجميل" "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". وغيرها ...
حيث "لم يترك الموسعون في النسخ آية تدعو إلى الرفق واللين أو العفو والصفح أو الصبر والدفع بالتي هي أحسن أو غير ذلك مما هو أساس في مكارم الأخلاق التي أعلن محمد عليه الصلاة والسلام أنه بعث ليتممها إلا قالوا عنها نسختها آية السيف"
الأمر الذي يجعل من القول بالنسخ أمرا في غاية الخطورة، لكن إذا سلمنا بصحة القول الرافض للنسخ بخصوص آية السيف، فبماذا نرد وقائع النسخ التي توافرت فيها شروطه، وقام الدليل الصحيح على النسخ فيها. كواقعة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة وواقعة تحريم الكلام في الصلاة بعد أن كان مباحا بالسنة العملية، وآية الصدقة بين يدي نجوى الرسول.
مما يجعل معه القول بإنكار النسخ أمرا لا يقل خطورة على القول به. إننا إزاء إشكالية خطيرة ومما يزيد من خطورتها ارتباطها بالمصدر الأول للتشريع الإسلامي الذي يفترض توحد كلمة علماء الأمة حول قضاياه."
والآيات المنسوخة في كتاب الله قليلة ولا وجود لما يسمى بآية السيف فهى اختراع بشرى لأن كلمة السيف نفسها لم تذكر في المصحف في أى مكان منه
والمنسوخ في ذلك الموضوع هى الآيات التى تتحدث عن العفو عن الظلمة الكفرة دون رد العدوان في المرحلة المكية كما في قوله تعالى :
" ادفع بالتى هى أحسن السيئة"
فهذه نسخت بقوله تعالى :
"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"
وأنهى الناصرى كتابه بالتوصيات التالية:
توصيات ومقترحات
"ولذلك نقترح في ختام بحثنا هذا:
1. إنه على الفكر الإسلامي المعاصر تحرير القول الفصل بخصوص موضوع النسخ في القرآن: إن إقرارا أو إنكارا، حتى يتسنى للمسلم الدفاع عن الشريعة الإسلامية السمحاء ومجاهدة أعدائها.
2. إن الناسخ والمنسوخ في السنة النبوية الكريمة يجب أن يحظى بنفس عناية موضوع النسخ في القرآن على اعتبار مكانة السنة في التشريع الإسلامي.
3. أن تقوم مراكز البحوث والمعاهد العلمية ووزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في مختلف بلدان العالم الإسلامي، بتحقيق ونشر بعض الكتب المخطوطة في موضوع الناسخ والمنسوخ وتكليف أهل الاختصاص بدراستها ونقدها وتمحيصها وفق المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل."
وبالقطع الفكر المسلم لا ينكر النسخ بمعنى تبديل الأحكام بسبب تغير المجتمع والمانعين للنسخ مثل المكثرين منه ليسوا على صواب وهذا بالتأكيد يفهمه الكل فالمجتمع الكافر الذى نعيش فيه لا يمكن للجهاد أن يكون موجودا فيه لعدم وجود جيش مسلم فإذا وجد المجتمع المسلم وجد وجود الجيش لرد العدوان كما قال تعالى :
" فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"
|