ارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم}.
فاخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المذكورين ارتدوا من بعد ما تبين لهم الحق والهدى، وذلك {بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر .. }.
فإذا كان من وعد المشركين الكارهين لما أنزل الله تعالى بطاعتهم في بعض الأمر، وتعاهد معهم على ذلك؛ كافر وإن لم يفعل ما وعدهم به، فكيف بمن وافق المشركين الكارهين لما أنزل الله تعالى على عداوتهم لأهل التوحيد .. وصار من جندهم المحضرين الذين يبذلون مهجهم وأرواحهم في سبيل تثبيت عروشهم .. فهؤلاء أولى بالردة من أولئك الذين وعدوا المشركين بطاعتهم في بعض الامر ...
فكيف بمن زاد على ذلك أن نذر حياته كلها للطاغوت فكانت طبيعة عمله ووظيفته أنه من أنصارهم أو جواسيسهم يغدو في غضب الله حارسا لقوانينهم ويمسي في سخط الله؛ يسهر على حفظ عروشهم وكفرياتهم؟؟ لا شك أنه ممن اتبع ما أسخط الله وأنه ممن ارتدوا على أدبارهم.
6 - ويقول تبارك وتعالى {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا}
فهذا نص من الله تعالى صريح بأن الأصل في كل من قاتل في سبيل الطاغوت؛ أو نصره أنه من جملة الذين كفروا وأنه من أولياء الشيطان.
ومعلوم أن الطاغوت قد يكون مشرعا لما لم يأذن به الله، أو حاكما بغير ما أنزل الله، كما قد يكون قانونا أو حكما غير حكم الله أو تشريعا غير تشريع الله.
فهذه الأدلة المحكمة وغيرها مما لم نذكره تنص على أن من تولي الكفار بمعنى أنه نصرهم على الموحدين؛ أنه من جملتهم وأنه كافر مثلهم، فكيف إذا أضاف إلى ذلك نصرة قوانينهم وحراسة شركياتهم وحماية كفرياتهم وتثبيتها؟؟
وهي تدل على أن من أصول دين الإسلام وعراه الوثقى، أن المسلمين يجب أن يكونوا في عدوة وجهة، وعدوهم في عدوة وجهة أخرى، وأن من نصر صف الكفار وخذل صف الموحدين وأعان على طمس دعوتهم ورفع راية الشرك والمشركين، فإنه ليس من المسلمين بل هو من جملة المشركين.
وأي واقعة أخرى في السيرة أو قصة أو حادثة تأتي في ظاهرها معارضة لهذا الأصل الأصيل والقاعدة الجليلة المحكمة .. فلا يصح عند العارفين لدين الله الراسخين في العلم أن يعارض أو يهدم بها هذا الأصل، بل تفهم تلك الواقعة والحادثة المشكلة عند البعض على ضوء هذا الأصل الأصيل، ولا ينبغي أن تعارض أو تصادم نصوص الشرع بعضها ببعض.
بعد هذه المقدمة .. ننظر في حال حاطب .. ونسأل هذه الأسئلة: -
هل كان رضي الله عنه في شق المشاقين لله وشرعه؟ هل كان في حد المحادين لدين الله؟ أم هل كان في عدوة المعادين لله ورسوله .. ؟ أو كان جنديا من جنود الشرك؟؟؟ أم هل كان جاسوسا وعينا لهم؟؟ كهؤلاء العساكر وأولئك المخابرات أو المباحث أوالأمن الوقائي الذين يجادل عنهم أهل التجهم والإرجاء، ويمنعون ويرهبون من تكفيرهم، بل ويصفون من كفرهم بأنه من الخوارج وأنه يكفر المسلمين بالمعاصي؟؟؟!!!"
قطعا كل هذا الكلام هو فى سياق دفاع المقدسى عن جماعته ضد من يتحدث عنهم وقد ظل يتحدث طوال الكتاب مرددا نفس النغمة نافيا عن حاطب تهمة الجاسوسية أو الخيانة العظمى فقال :
"حاشا حاطبا، وحاشا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ..
وإذ لم يكن في حد أو شق أو عدوة أهل الشرك، ولا كان جنديا لهم ولا جاسوسا؛ بل كان في شق وحد وعدوة وصف أولياء الله وحزب الرحمن، فكيف يحل مقايسة حال هؤلاء المرتدين من جنود الشرك وعساكر التنديد، وأولياء الطاغوت؛ بزلة زلها أو خطأ ارتكبه متأولا ثم تاب، مهما كان حكم هذه الزلة ..
ثم أليس هناك فرق شاسع بين من كان جنس عمله وطبيعته وحقيقته؛ التجسس على المسلمين ومظاهرة المشركين فهم لهم جند محضرون (عبد مأمور) كما يقولون هم أنفسهم ..
وبين من زل زلة متأولا، فأفشى سرا للمسلمين في واقعة؟ وليس من عادته ذلك إذ هو في الأصل من جند الإسلام وعساكر التوحيد وفي شق وحد وعدوة القرآن والإسلام والإيمان، وكان من تأوله حين زل تلك الزلة أنه كان واثقا مصدقا بأنها لن تضر رسول الله ولا المسلمين لأنه موقن بنصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ..
والله ما استويا ولن يتشابها ... حتى تشيب مفارق الغربان
ولا يساوي بين الصورتين إلا من لا فرقان عنده بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
ففرق كبير واضح وجلي بين أن يكون المرء من أنصار الطواغيت ومن جواسيسهم الذين هم عيونهم وآذانهم وشوكتهم فيعمل ليل نهار على تثبيت عروشهم وشركياتهم ويظاهرهم على أعدائهم ولو كانوا من خيار الموحدين، وبين من كان جنديا من جنود الإسلام ومن خلاصة أنصار المسلمين؛ لكنه ضعف وزل زلة متأولا أن لا ضرر على المسلمين في هذه الزلة فأفشى سرا لهم، فالأول هو الذي يوصف بأنه تجسس للكفار ويسمى بجاسوس أو عين المشركين، أما الثاني فلا يحل وصفه بذلك بحال من الأحوال، ولذلك فقد أحسن البيهقي في سننه وأجاد؛ حين بوب لقصة حاطب بقوله: (باب: المسلم يدل المشركين على عورة المسلمين) (9/ 146)، وبعد ذلك مباشرة بوب بقوله: (باب الجاسوس من أهل الحرب) (9/ 147) لكنه أورد في هذا الباب حديث عين المشركين الذي قتله سلمة بن الأكوع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونفله سلبه، وكذا حديث فرات بن حيان، فتأمل التفريق بين من كان بالفعل جاسوسا وعينا للمشركين ويتجسس نصرة لهم وإضرارا بالمسلمين، وتأمل حكم الرسول فيه، وبين من لم يكن كذلك، بل هو من جملة المسلمين وخلاصة أنصار الدين لكن أفشى سرهم متأولا أن لا ضرر في ذلك.
- ومع هذا تعالوا فلننظر إلى ظاهر هذه الزلة التي زلها حاطب، وكيف كان ينظر إليها الصحابة، وما حكمها عندهم مع أنها حادثة عين وزلة واحدة لهذا الصحابي، وليست هي جنس عمله ومنهجه، كما هو حال عساكر الشرك والتنديد.
فحاطب نفسه كان يعرف أن ظاهر مثل هذا العمل الأصل فيه أنه كفر وردة عن الدين، ومن فعله فإن الحكم الظاهر له أنه كافر مرتد، بل هذا الظاهر دليل على فساد الباطن كما تقدم في قوله تبارك وتعالى {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} ولا يخصص من هذا الظاهر أو يستثنى إلا من استثناه الله تعالى المطلع على البواطن أو النبي الذي يوحي إليه، لذلك كانت أول كلمات اعتذر بها حاطب للنبي صلى الله عليه وسلم أن قال كما في البخاري (ما فعلت ذلك كفرا ولا إرتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام)
والمبادرة منه رضي الله عنه إلى هذا القول من أظهر الأدلة على أن الصحابة قد كان مستقرا عندهم أن الأصل في ظاهر هذا العمل أن يكون ردة وكفرا، وأنه دلالة على فساد الباطن كما في الآية ... ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (دعني أضرب عنقه)، ولا يقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر فهمه بأن تلك الفعلة الأصل فيمن أظهرها الكفر .. كلا، فما في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك؛ ومن قال ذلك، فقد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مالم يقله، وإنما الذي قاله الرسول عليه الصلاة و السلام؛ أنه استثنى حاطبا من أن يكون قد كفر في هذه الحادثة .. باطلاعه من طريق الوحي على سريرته وأنه لم يفعله نصرة للمشركين ومظاهرة لهم على الموحدين، وذلك بعد مقالة حاطب (ما فعلته كفرا ولا ارتدادا) فقال صلى الله عليه وسلم: (قد صدقكم .. )
وقال: (وما يدريك لعل الله اطلع على اهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فهذا الصحابي البدري قد استثناه النبي صلى الله عليه وسلم وزكاه وشهد بصدق سريرته وباطنه وأنه لم يفعل ذلك ردة أوكفرا أي لم يكن فعله نصرة ومظاهرة للمشركين على المسلمين، بل كان إفشاؤه لسر رسول الله مع تأوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منصور مؤيد لا محالة من الله؛ كبيرة من كبائر الذنوب اغتفرت مع كونه بدريا ..
|