عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 07-02-2009, 02:17 PM   #24
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

غزوة الخندق



إحتلت غزوة أحد تفكير خالد عدة ايام بعد عودته إلى مكة . فكر فى مناورته السريعة على جناح المسلمين بدقة والتى ستصبح فيما بعد إحدى أهم إستراتيجياته العسكرية . لم بكن هذا فقط ما يشغل باله ، فقد كانت هنالك حقيقة هامة لم يجد لها تفسيرا .. شجاعة وصلابة المسلمين .. إن الأمر غير طبيعى أن تصمد قوة صغيرة أمام قوة تفوقها مرات فى العدد .. وأمام هجمات من كل الإتجاهات .. كالصخرة فى تصميمها وإستعدادها للقتال دفاعا عن قائدها ودينها .. خاصة أن الفريقين من عرب قريش وكلاهما من بيئة واحدة فكيف صلابة هؤلاء عن هؤلاء .. لا شك أن للدين الجديد ولشخصية النبى عاملا فى كل هذا .. لم يعرف خالد فى حياته الكره والحقد .. وما كان قتاله للإسلام كقتال زعماء قريش من الحاقدين الموتورين على هذا الدين .. لم يكن الأمر سوى معركة كالتى تشهدها ساحات الرياضة ومباراة يرمى فيها كل خصم بفنونه سعيا للفوز .

فى السنتين التاليتين لم يحدث أى صدام عسكرى مباشر بين المسلمين والقرشيين .. ولكن جرت حادثة تعرف باسم "يوم الرجيع" وهى حادثة وحشية ومريعة أساءت إلى العلاقات بين مكة والمدينة .

كانت هذه الحادثة مكيدة مدبرة من قبيلتى عضل والقارة ، حيث اقدم وفد منهما إلى الرسول لإعتناق الإسلام وطلبوا منه أن يرسل معهم من يعلمهم الإسلام فأرسل النبى معهم ستة من صحابته .. وعندما وصلوا إلى مكان يسمى "الرجيع" ظهر كمين مؤلف من مائة مقاتل من هاتين القبيلتين . وقد قتل من الصحابة أربعة واقتيد أسيرين إلى مكة هم "خبيب بن عدىّ" و "زيد بن الدثنّة" وبيعا فى مكة بثمن باهظ لأقارب بعض المشركين الذين قتلوا على يد هؤلاء الأسيرين فى السابق ، وبعد رحلة من العذاب المضنى طلب من خبيب وزيد إعتناق الاصنام فأبيا سوى الموت .

قُتل زيد أولا وكان موته سهلا وسريعا ، ولكن إستشهاد خبيب كان إستعراضيا تجمعت كل مكة لمشاهدته . إنطلق 40 ولدا من فتيان مكة بإشارة من عكرمة بن أبى جهل وأخذ كل منهم بوخز خبيب بالرماح مسببا له جراحا غير مميتة وسرعان ما تغطى جسده بالدماء من جرّاء مئات من الجروح السطحية ، وبعد أن استمر هذا المشهد لفترة تقدم عكرمة وبيده حربة بإتجاه خُبيب وفرق الأولاد ، ربما لأنهم قد تعبوا وربما لأن المتفرجين قد سئموا اللعبة ثم رفع حربته وغرزها فى قلب خبيب وهكذا وضع حدا لآلامه .

لقد نظم هذا العرض من قبل عكرمة الذى جمع الأولاد ولقنهم ما يفعلون ، لم يعلم عكرمة أنه من الممكن أن يُسامح وأن يُعفى عنه لمعارضته الشديدة للإسلام وللدم المهراق الذى سفكه فى بدر وأحد .. لكن فعلته هذه لن تُغفر له ..

ففى هذا اليوم اصبح عكرمة "مجرم حرب" ..

من الجدير بالذكر أن أبا سفيان قد تحدى النبىّ قبل مغادرته ميدان المعركة فى أُحد لمقابلة المسلمين فى بدر بعد سنة كاملة وأن النبىّ قد قبل هذا التحدى . وهذا يعنى ان اللقاء بين المسلمين والقرشيين سيتم خلال شهر آذار عام 626 م لكن وعندما اقترب الموعد شعر ابو سفيان بعد الرغبة فى لقاء المسلمين ، كانت أمطار الشتاء قليلة وعندما انتهى الشتاء ارتفعت درجة الحرارة فجاة .. كان الطقس حارا وجافا ومبشرا بالسوء فى الموسم القادم .

لكن النبى حافظ على موعده وفى أواخر آذار تحرك من المدينة 1500 مقاتلا منهم 50 فارسا ووصلوا إلى بدر لكنهم لم يجدوا أثرا لجيش قريش .

وعندما وصلت أنباء مسيرة المسلمين وتحركهم من المدينة جمع أبو سفيان القرشيين وسار من مكة بجيش قوامه 2000 مقاتل و100 من الفرسان . وبعد سلسلة من المشاورات قرر ابو سفيان العودة لمكة متجنبا القتال فى هذا العام المجدب ومن ثم عادت قوات المسلمين إلى المدينة دون قتال .

وفى هذه الأوقات من الهدوء والسلام برزت قوة جديدة إلى مسرح الأحداث ..

إنها اليهود مجتمعة مع المنافقين فى المدينة ..

لم يكن للمسلمين من خطر على اليهود فى مجتمع المدينة من ذى قبل حيث كانت قوة المسلمين صغيرة وإلى جانب هذا كانت آيات القرآن وتعاليمه تعالج بشكل رئيسى الجوانب الروحية والدينية وعلاقة الإنسان بخالقه والبعث والحساب .

وعندما هاجر النبى إلى المدينة اتخذ الإسلام دورا أكثر فعالية فى حياة المسلمين وتطرق إلى مجالات المجتمع والسياسة والإقتصاد وبناء مجتمع مدينة فاضلة لم تشهد حضارة البشر مثلها من قبل ولن تشهد بعدها مثيلا لها . وهنا بدأ الصراع مع الديانات القديمة حيث أن الإسلام دين العالمين وفى الآيات المدنية التى تعامل اليهود حافز لهؤلاء أن يدركوا خطر الإسلام إذ أنه بدأ يشملهم بدعوته ويضمهم تحت لوائه .

وبعد إنتصار المسلمين فى بدر بات خطر المسلمين أكثر تهديدا ، بعدها نقضت قبيلة بنو قينقاع عهدها مع الرسول ودخلت فى مواجهة سافرة ضد المسلمين فحاصر النبى هذه القبيلة وأجبرها على التسليم وهاجروا بعدها إلى سورية .

أما القبيلة الثانية التى نقضت المعاهدة فهى بنو النضير وحدث ذلك بعد غزوة أحد مباشرة وكان أن عوقبت نفس العقاب فهاجر قسم منها إلى سورية والقسم الآخر إلى خيبر شمال المدينة .

واستمرت القبيلة الثالثة بنو قريظة فى سلامها مع المسلمين لكن يهود بنى النضير المطرودين إلى خيبر لم يهنأوا بسلام المسلمين مع يهود أو قريش على حد سواء وهنا كان القرار بتأليب الفريقين ضد أحدهما الآخر .

ذهب وفد من يهود خيبر - وعلى رأسهم حيىّ بن أخطب - إلى قريش للتفاوض مع أبى سفيان وكلاهما متفق على خطر المسلمين المنتشر فى الجزيرة العربية وضرورة مواجهة هذا الخطر ، والجانب الآخر إقتصادى ففى حال وصول الإسلام إلى اليمامة تنقطع طرق التجارة إلى العراق والبحرين . وطالما أن المسلمين محتفظين بقوتهم فى المدينة فقد اصبح طريق التجارة إلى سوريا مغلقا تماما وقد تم تعويض هذا النقص بالتجارة مع العراق والبحرين واليمن وهو بدوره أصبح فى خطر .

بعد ذلك ذهب الوفد إلى غطفان وبنى أسد وانضمت كلاهما للحملة . وبدأ رجال القبائل فى الإستعداد والتجمع فى شباط 627 م ..

كان تعداد هذه القوات بما فيها القبائل الصغيرة يبلغ 10 آلاف مقاتل تقلد أبو سفيان قيادتها ..
شاركت قريش بأربعة آلاف ، تليها غطفان بألفى مقاتل يليها عيينة بن حصن ، وبنو سلمة بسبعمائة محارب .

تحركت قوة "الأحزاب" وعسكرت فى نفس موقعها فى غزوة أحد إلى الغرب منه وبعد أن اكتمل تجمع قوى الأحزاب زحفت كلها على المدينة .

عندما بدأت تحشد الأحزاب وصلت التقارير إلى المدينة وتلقى النبى معلومات تفيد أن القوة المقدرة للأحزاب قرابة عشرة آلاف مقاتل وكان خبرا مفزعا لكل المدينة فقد كان المسلمون ، طبعا ودائما ، أقل عددا ..

وعندما إقتحمت طلائع الأحزاب المدينة كانت المفاجأة الكبرى ، لقد حفر المسلمون خندقا كبيرا حول المدينة يستحيل معه عبور هذه القوة الهائلة التى بات وجودها بلا معنى .

لقد أشار سلمان الفارسى على النبىّ بحفر هذا الخندق وأوضح أن جيش الفرس عندما كان يخوض معركة دفاعية ضد أعداء متفوقين يلجأ إلى حفر خندق عريض وعميق فى طريق العدو بحيث يصعب إجتيازه .



وعندما انتهى حفر الخندق أقام المسلمون معسكرهم فى "تل سلع" بقوة تبلغ 3000 مقاتل . كانت الخطة الرئيسية للنبى تقضى بألا تزج بالقوة الرئيسية للمسلمين فى القتال وذلك لكى تضرب فى أية بقعة يستطيع العدو أن يحصل على موطىء قدم عبر الخندق ، ولحراسة الخندق ضد أى مفاجأة فقد خصص 200 رجل من جيش المسلمين لهذا الغرض ووضعوا كالأوتاد على التلال المسيطرة على الخندق , واستخدمت قوة متحركة مؤلفة من 500 مقاتل للقيام بأعمال دورية ضد أى متسللين قد يعبروا الخندق دون أن يراهم أحد وكذلك لتأمين الحماية ضد المناطق غير المحمية بالخندق .

عندما رأى المشركون الخندق انفجر أبو سفيان غاضبا حانقا :

"والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها"

استمر الحصار عشرة ايام وكان كلا الطرفين يواجه صعوبات ما .. بدأ المسلمون يشعرون بوطأة الجوع ولم يكن فى المدينة مخازن كبيرة للطعام وأصبح المسلمون يعيشون على نصف تعيين يومى (حصة الجندى من الطعام) . وبدأ الموقف يسوء تدريجيا فى صفوف الأحزاب أيضا وبدأ التذمر يظهر بينهم فالعرب لم يكونوا معتادين على الحصار الطويل والطقس سىء وبدأ الطعام بالنقصان لأن أبا سفيان لم يتخذ تدبيرات لحصار طويل لم يكن فى الحسبان .

فى هذه الاثناء تسلل حيّى بن أخطب إلى بنى قريظة وهى على عهدها مع رسول الله ، فأغلق كعب بن أسد صاحب بنى قريظة باب الحصن دونه فناداه حيّى :"ويحك يا كعب افتح لى" فقال كعب :"إنك امرؤ مشئوم وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه ولم أر منه إلا وفاءا وصدقا" وفى النهاية دخل حيّى وأقنع كعب بالإنضمام لحلف قريش ونقض عهد الرسول .

كانت حصون بنى قريظة على بعد ميلين جنوب شرق المدينة وهم سوف يهاجمون من هذا الإتجاه ويطردون بعض المسلمين من الخندق بينما تهاجم الأحزاب جبهيا . وهكذا نقض اليهود عهدهم مع النبى ولم يدركوا أنهم سيدفعون ثمن هذا غاليا .

إزدادت الأمور صعوبة وأصبح الموقف الآن أكثر توترا وانخفضت التعيينات اليومية للمسلمين من نصف تعيين إلى ربع تعيين ومع ذلك فقد ظل المسلمون صامدين والجوع قد يجبرهم على الخضوع ولم تكن هناك حلول عسكرية مباشرة للمشكلة .

أدرك النبى أن الحل الوحيد للمشكلة يكمن فى كسر الحصار بمناورة دبلوماسية ولم تكن هذه المناورة سوى "نعيم بن مسعود" وقصته معروفة لدينا كانت من نتائجها زعزعة الثقة بين قريش ويهود وهكذا تم حل أزمة الثغرة من وراء ظهور المسلمين ولم تبق سوى قوة الأحزاب الرئيسية حول الخندق .

مَلّ خالد وعكرمة من الحصار وقررا العمل بشكل منفرد على إيجاد ثغرة بطول الخندق ، فتقدما للأمام بسريتيهما وفى إحدى مواقع الخندق بالقرب من "ضباب" والمواجه لمعسكر المسلمين كانت الثغرة ..

تقدمت سرية عكرمة أولا وقفزت مجموعة صغيرة الخندق وكان بين المهاجمين عكرمة ورجل ضخم ، هذا الرجل يدعى "عمرو بن عبد ود" وفى صوت جهورى أعلن عمرو هذا عن إسمه وتحديه طلبا للمبارزة ، وساد صمت طويل فى معسكر المسلمين فعمرو هذا لم يخسر مبارزة قط فى حياته بل نسجت حوله الاساطير فهو يحمل حصانه بكلتا يديه وهو بمثابة 500 فارسا وهو باستطاعته أن يحمل عجلا بيده اليسرى ويستخدمه كترس فى القتال وأنه يستطيع كذا وكذا ....

فى هذه الأثناء تقدم شاب من الصفوف الأولى إلى النبى طالبا الإذن بالمبارزة لكن النبى رفض عرضه فعاد إلى موقعه . ثم تقدم ثانيا وثالثا إلى أن أذن له النبى بالمواجهة حين رأى فى عينيه نظرة يعرفها جيدا ، نظرة لا يمكن كبح جماحه معها ، ولم يكن هذا الشاب سوى "علىّ بن أبى طالب" ، وأمده النبى بعمامته وسيفه ، وقد أصبح هذا السيف من وقتها أحد أشهر السيوف فى الإسلام فقد كان بعدها على موعد مع قتل الكثير من أبطال الحرب فى مبارزات متكافئة ، وكان اسمه "ذو الفقار" .



__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس