عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 19-12-2006, 10:07 PM   #57
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي


قام فقه الإمام أبي حنيفة على احترام حرية الإرادة، ذلك أن أفدح ضرر يصيب الإنسان هو تقييد حريته أو مصادرتها.. وكل أحكامه وآرائه قائمة على أن هذه الحرية يجب صيانتها شرعا، وأن سوء استخدام الحرية أخف ضررا من تقييدها!.



فإساءة الفتاة البالغة في اختيار زوجها أخف ضررا من قهرها على زواج بمن لا تريده. وسوء استخدام السفيه لماله، يمكن علاجه بإبطال التصرفات الضارة به، أما الحجر على حريته فهو إهدار لإنسانيته، وهو ضرر لا يصلحه شيء!! وعلى أية حال فأذى الحجر أخطر من أذى ضياع المال ـ فالحجر إيذاء للنفس، وإهدار للإرادة، واعتداء على إنسانية الإنسان!!

وأبو حنيفة لايجيز الوقف إلا للمساجد لأن الوقف أو الحبس يقيد حرية المالك في التصرف.. بل إن الإمام إمعانا منه في الدفاع عن الحية لا يجيز للقاضي أن يقيد حرية المالك، حتى إذا أساء التصرف على نحو يهدد الغير.. وهو يطالب بأن يترك هذا كله للشعور بالتعاون الإجتماعي الذي يجب أن يسود أفراد الأمة.. فيحترم كل منهم حرية الآخرين، ويمارس حريته بما لا يمس مصالح الغير أ» حريته هذا أمر يجب أن يترك للناس فيما بينهم ولا سبيل للحاكم أو القضاء الى التدخل لتقييد حرية المرء في التصرف مهما يكن من شيء!

ولقد جاءه رجل يشكو جاره لأنه حفر بئرا بجوار جداره مما يؤثر في بيت الشاكي، فطلب أبو حنيفة من الشاكي أن يحدث جاره ليردم البئر، ويحفر في مكان آخر، فقال الرجل: «حدثته فامتنع ظالما». فقال أبو حنيفة: «فاحفر في دارك بالوعة في مقابل بئره». وفعل الرجل، فاندفع ماء البئر الى البالوعة، فاضطر الجار أن يردم البئر، ويحفرها في مكان بعيد عن جدار الشاكي.



وهكذا مضى أبو حنيفة يوضح للناس ما في تعاليم الإسلام من احترام للحرية والإرادة، معتمدا على الكتاب، والسنة الصحيحة، والرأي الذي يستنبطه بالقياس، مراعيا تحقيق المصلحة، أو الأعراف التي لا تتعارض مع قواعد الإسلام ومبادئه.



وقد أغنت آراؤه في الفقه وجدان الناس وأيقظت ضمائرهم، وحركتهم للدفاع عن حرياتهم في التصرفات، متمسكين في ممارستهم للحرية بمبادئ الدين وأصوله..

وكانت هذه الآراء كلها تناقض روح العصر الذي عاش فيه وهو عصر يقوم نظام الحكم فيه على تكفير الخصوم، وإهدار دمائهم، وتقييد الحريات، وإطلاق يد الحاكم، وتمكين ذوي السطوة من الضعفاء.

من أجل ذلك اتهمه خصومه من الفقهاء أصحاب المناصب بالخروج عن الإسلام..!

ثم إنه أفتى بتحريم الخروج لقتال المسلمين والفتك بهم.



وبهذا صرف بعض قواعد الجيش في عصره عن حرب العلويين وخصوم الحكام ومعارضي آرائهم.!

ومن ذلك أن الحسن بن قحطبة أحد قواعد المنصور دخل على أبي حنيفة يسأله: «أيتوب علي الله؟». وكان الحسن هذا قد قاد جيوشا للمنصور فقتل العلويين وخصوم العباسيين فقال له أبو حنيفة: «إذا علم الله تعالى أنك نادم على ما فعلت، فلو خيرت بين قتل مسلم وقتل نفسك لاخترت ذلك على قتله، وتجعل مع الله عهدا على ألا تعود لقتل المسلمين، فإن وفيت فهي توبتك»، فقال القائد: «إني فعلت ذلك وعاهدت الله على ألا أعود الى قتل مسلم». ثم ثار العلويون فأمر المنصور القائد أن يفتك بهم، فجاء القائد إلى أبي حنيفة يسأله الرأي فقال له أبو حنيفة: فقد جاء أوان توبتك. إن وفيت بما عاهدت فأنت تائب وإلا أخذت بالأول والآخر».



فامتنع القائد عن تنفيذ أمر المنصور، وسلم نفسه الى العقاب وهو القتل، إذ دخل على المنصور فقال أنه لن يقتل المسلمين بعد! فغضب الخليفة عليه وأمر بقتله، حتى استشفع له أخوه قائلا «إننا لننكر عقله منذ سنة، وأنه قد جن».

وسأله الخليفة عمن يخالط القائد المتمرد، فقيل إنه يتردد على أبي حنيفة!

وأسرها الخليفة لأبي حنيفة.



على أن خصوم أبي حنيفة انتهزوا الفرصة فأوغروا صدر الخليفة وأوحوا إليه أن يقضي على أبي حنيفة واتهموه بإثارة الفتنة، وتثبيط قواد الجيش، وتأليب العامة على ولي الأمر، وتكوين حلقة من الفقهاء كلهم يدعو الى الثورة على الخليفة.



وكان من هؤلاء الخصوم فقيه أفتى للناس بأن تلاميذ أبي حنيفة خارجون على ولي الأمر ومرتدون عن الإسلام فأن يقال إن بالحي خمارا خير من أن يقال إن فيه أحدا من أصحاب أبي حنيفة..

وكان منهم فقيه آخر عرف وه في الحج أن أحد أصحاب أبي حنيفة سيصلي بالناس فلم يستطع كظم غيظه وصاح: «الآن يطيب لي الموت»..!





ورفض أبو حنيفة أن يقبل المناصب.. عرض عليه الأمويون منصب القاضي، فرفضه فسجنوه وعذبوه في السجن.. وظلوا يضربونه كل يوم بالسياط حتى ورم رأسه.. ومع ذلك فلم يقبل المنصب.. لأنه كان يرى أن تحمل المسؤولية في عهد يعتبر هو حاكميه ظالمين مغتصبين، إنما هو مشاركة في الظلم وإقرار للإغتصاب..

وفي السجن تذكر أمه الحزينة فبكى.. وسأله جاره في السجن عما يبكيه وهو الفقيه الجليل الصلب، فقال من خلال دموعه: «والله ما أوجعتني السياط. بل تذكرت أمي فآلمتني دموعها».

وساءت صحته في السجن. وبدأت الثورة تتجمع ضد الخليفة الأموي احتجاجا على ما يحدث لأبي حنيفة فأطلق سراحه.



ولم يعد له مقام في الكوفة التي شهدت عذابه.. فترك مسقط رأسه، ومرح شبابه، بكل ما فيها من ذكريات عزيزة وآمال عذبة، وأقام بالحجاز حتى سقطت الدولة الأموية، فعاد الى موطنه!

ولكن العباسيين لم يتركوه.. فمنذ شعر بخيبة الأمل فيهم لبغيهم واضطهادهم للعلويين، واصطناعهم المرتزقة من الفقهاء، بدأ يجهر برأيه في استبدادهم وطغيانهم.

ورفض كل هداياهم، كما رفض هدايا الأمويين من قبل.

وعرضوا عليه منصب قاضي القضاة فأبى.. وتمسك بالتفرغ للعلم.

قالوا له أنه قد حصل من العلم ما يجعله في غنى عنه فرد: «من ظن أنه يستغني عن العلم فليبك على نفسه».

بعد أن فرغ المنصور من بناء بغداد، وأقام فيها معتزا بها، حرص على أن يجعل أكبر فقهاء العراق قاضي القضاة فيها. وكان أبو حنيفة قد أصبح أكبر الفقهاء بالعراق حتى سماه أتباعه ومريدوه: الإمام الأعظم. ولكن الإمام صمم على الرفض.



كان يعرف ما ينتظره.. فابن أبي ليلى لا يكف عن الكيد له، وهو لا يغفر لأبي حنيفة ما يوجهه من نقد لاذع لأحكامه.



وقد ضم ابن أبي ليلى إليه حاجب الخليفة ووزيره الأول، وكان أبو حنيفة قد أحرجه وكشف أكاذيبه أمام الخليفة في محاورة حاول فيها الوزير الأول أن يوقع بالإمام ففضحه الإمام وأفسد حيلته.

وقد أفتى أبو حنيفة بأن الوزير لا تصح شهادته لأنه يقول للخليفة أنا عبدك «فإن صدق فهو عبد ولا شهادة له. وإن كذب فلا شهادة لكاذب»!!

وقد أخذ أحد تلاميذ أبي حنيفة بهذا النظر فيما بعد حين ولي القضاء فرد شهادة الوزير الأول لخليفة آخر، لأنه قبل الأرض بين يدي الخليفة قائلا له: أنا عبدك!





إتسعت الفتوحات حتى أصبح البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية، وحتى ارتفعت الراية الإسلامية فوق شرق أوربا وجنوبها والأندلس، وكل بلاد العالم التي عرفها إنسان ذلك العصر..

وعلى الرغم من ازدهار الحضارة، فقد شغل رجال الحاشية بالكيد لابي حنيفة يظاهرهم بعض الفقهاء أصحاب المناصب وأهل الحظوة عند الخليفة.



وأخذ الوزير الأول يكيد عند الخليفة لأبي حنيفة. وانتهز فرصة خروج أهل الموصل على الخليفة، وكانوا قد شرطوا على أنفسهم إن هم خرجوا على الخليفة أن تباح دماؤهم وأموالهم. وأرسل الخليفة الى ابن شبرمة وابن أبي ليلى ليسألهما رأي الدين في أهل الموصل، وكان قد أعد جيشا للفتك بهم. واقترح الوزير الأول على الوزير أن يدعو أبا حنيفة وكان يعرف أن تقواه وشجاعته وكل فضائله ستقوده الى مخالفة رأي الخليفة. وحضر الفقهاء الثلاثة فسألهم عن حكم الشرع في أهل الموصل. وسكت أبو حنيفة وأفتى الآخران بأن أهل الموصل يستحقون الفتك بهم!...

.
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس