عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 19-12-2006, 10:09 PM   #58
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

وأفتى أبو حنيفة بأن الخليفة لا يحق له الفتك بأهل الموصل، لأنهم بإباحتهم أرواحهم وأموالهم إنما أباحوا ما لا يملكون.



وسأل: «لو أن امرأة أباحت نفسها بغير عقد زواج أتحل لمن وهبته نفسها؟ فقال له الخليفة «لا».

فطلب الإمام أبو حنيفة منه أن يكف عن أهل الموصل فدمهم حرام عليه، وأن يوجه الجيش الى حماية الثغور، أو إلى فتح جديد لنشر الإسلام، بدلا من أن يضرب به المسلمين.

وضاق به الخليفة وأمره أن ينصرف.. ومن حول الخليفة أعداء الإمام يستفزونه للبطش به وفي مقدمتهم ابن أبي ليلى قاضي القضاة وتابعه شبرمة.



ومضى أبو حنيفة إلى داره وهو يقول لصحبه: «إن ابن أبي ليلى ليستحل مني ما لا استحله من حيوان!».

وفي الحق أن ابن أبي ليلى وشبرمة والعصبة المعادية لأبي حنيفة في قصر الخليفة زينت للخليفة أن يقهر أبا حنيفة على قبول ما يعرضه عليه من مناصب، فإذا أبى فقد امتنع عن أداء واجب شرعي فحق عليه العقاب، ووجب أن يشهر به في الأمة، لأنه يتخلى عن خدمتها.!

واقترحوا على الخليفة أن يبدأ فيمتحن ولاءه، فيرسل إليه هدية.

وكانوا يعرفون سلفا أن الإمام أبا حنيفة لن يقبل الهدية..!

وأرسل له الخليفة مالا كثيرا وجارية.. فرد الهدية شاكرا.

ثم أرسل الخليفة إليه يلح عليه في ولاية القضاء أو في أن يكون مفتيا للدولة يرجع إليه القضاة فيمن يصعب عليهم القضاء فيه..بما أنه يكثر من لوم القضاة على أحكامهم، ويكشف للعامة جهل شيخهم ابن أبي ليلى وتابعه شبرمة!



ورفض أبو حنيفة.. فاستدعاه الخليفة يسأله عن سبب رفضه فقال له: «والله ما أنا بمأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو الحكم لك لاخترت أن أغرق. ثم إن تلك حاشية يحتاجون الى من يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك.»

وكانت الحاشية كلها تحيط بالخليفة، وعلى رأسها وزيره الأول والفقيهان ابن أبي ليلى وشبرمة، فأبدوا التذمر وبان عليهم استنكار ما يقوله الإمام أبو حنيفة، فقال الخليفة محنقا: «كذبت».

فقال أبو حنيفة في هدوء: قد حكمت على نفسك.. كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كاذب؟!

وبعد قليل سأله الخليفة عن سبب رفض هداياه.. فقال له أبو حنيفة أنها من بيت مال المسلمين ولا حق في بيت المال إلا للمقاتلين أو الفقراء أو العاملين في الدولة بأجر وهو ليس واحدا من هؤلاء!

فأمر الخليفة بحبسه. وبضربه بالسياط حتى يقبل منصب قاضي قضاة بغداد.

وهاهو شيخ في السبعين أثقلته المعارك والدسائس والهموم، ومكابدة الفقه والعلم والتحرج.. هاهو ذا يضرب، ويظل يضرب بالسياط في قبو سجن مظلم، ورسل الخليفة يعرضون عليه هدايا الخليفة، ومنصب القضاء والإفتاء.. وهو يرفض.. فيعاد الى السجن ليعذب من جديد.. ويكررون العرض، وهو يكرر الرفض داعيا الله «اللهم أبعد عني شرهم بقدرتك».



وظل في سجنه يعرضون عليه الجاه والمنصب والمال فيأبى.. ويعذب من جديد!

وتدهورت صحته، وأشرف على الهلاك.

وخشي معذبوه أن يخرج فيروي للناس ما قاسى في السجن، فيثور الناس!.

وقرروا أن يتخلصوا منه فدسوا له السم،

وأخرجوه وهو يعاني سكرات الموت، وما عاد يستطيع أن يروي لأحد شيئا بعد!!

وحين شعر بأنها النهاية أوصى بأن يدفن في أرض طيبة لم يغتصبها الخليفة أو أحد رجاله. وهكذا مات فارس الرأي الذي عرف في السنوات الأخيرة من حياته باسم الإمام الأعظم.

وشيعه خمسون ألفا من أهل العراق واضطر الخليفة أن يصلي على الإمام الذي استقر الى الأبد في ركن هادئ من الدنيا لم يشبه غضب، والخليفة يهمهم: «من يعذرني من أبي حنيفة حيا وميتا؟».

وهكذا مضى بطل الفكر الشجاع شهيدا لحرية الرأي في محنة من العذاب لم يعرفها أحد من الفقهاء من بعده حتى كانت محنة الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة.. في عصر زري كذلك العصر.. عصر تحكمه الدسائس والسموم وسياط الجلادين، على الرغم من روعة الفتحات العسكرية، وانتصارات العقل الإنساني، ويبطش فيه المزيفون برهان الحرية وفرسان الفكر..

وتظل المنارات الشامخة فيه مضيئة على الرغم من كل شيء، تقدم للإنسانية جيلا بعد جيل عطاء خالدا من شعاع المعرفة، والقوة، وجسارة الكلمة الصادقة الأبية الفاضلة..!



المصدر: عبد الرحمن الشرقاوي ـ أئمة الفقه التسعة ـ العصر الحديث للنشر والتوزيع 1985




قالوا عنه
يقول عنه الشافعي: "الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة"،
وقال عنه النضر بن شميل: كان الناس نيامًا في الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة.
وقيل: لو وزن علم الإمام أبو حنيفة بعلم أهل زمانه؛ لرجح علمه عليهم.
وقال عنه ابن المبارك: ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة.
وقال عنه يزيد بن هارون: ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس