عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 19-07-2009, 03:41 PM   #327
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

في هذا العالم المليء بالصخب ، والذي ترتفع فيه أصوات كثيرة-غير صوت الحقيقة- تخرج من بين الفينة والأخرى زفرات صادقة دامعة تبحث عن كينونة الإنسان ومأزق وجوده في هذه الحياة ، وهل هذا الوجود وجودًا حقيقيًا يستحق الدفاع عنه أم أنه وجود عدمي شكلي يبحث عمّن يصب فيه الحياة؟

وإذ يمتلئ العالم بالمشاكل التي لا نهاية لها يثور ضمير المبدع في حالة ثورة على الذات للإجابة على هذا التساؤل ، لكنه ليس تساؤلاً بقدر ما هوإدانة لنا نحن معشر الأشباه بالأصنام البشرية ، في تلك الحياة التي تتحرك الدنيا وتتناثر الجبال من أماكنها ولكننا عاجزون عن أن نكون ، وأن نغير ما حولنا .لذلك تأتي هذه الزفرة متخذة شكلاً رومانسيًا في الظاهر إلا أنه إنساني يحمل هموم الإنسان المادية والمعنوية في باطنه وذلك لانتفاء أي دلالة تخص الهم الرومانسي ، إذ لا مكان لأنجم ولا أزهار ولا طيور ولا أشجار وإنما يتسع المكان لاثنين فاعل ومفعول به ، الأسد والفأرين . وإذ يدين العمل هذا الصمت الإنساني تجاه ما يحدث في هذا الكون المتلاطم الأحداث من جهة ، فإنه يدين هذا الوجود العدمي المتمثل في الفأرين واللذَين يمثلان قوة عددية سهلة الحركة والتأثير إلا أن الخوف من الأسد يسلبها كل القوى .

ومن جهة أخرى ، فإنه يدين الفرقة المتمثلة في فقدان (نا) الفاعلين وظيفتها الدلالية والموضوعية وهي التعبير عن الكثرة الحقيقية. ومن جهة ثالثة فإنها إدانة لهذه الرومانسية المتميعة التي يترك فيها المحبان-المحبون الحياة للانكفاء على أفراحهم المأساوية المحزنة والمخزية ، لينطلق صوت الضمير في آخر الأمر مناديًا بصدق مأساوي ينعي هذه العدمية (لا تقفوا على قبورنا) إن الشاعرة تتحددث بلسان الجماعة التي هي تجمعات العدم المتراكمة وتطلب أن يُعامل كل بما يستحق .وإن كنت أرى أن هذه الرؤية لا تُعدم وجود أمل في المخاطب الذي –ربما لتضليل ناله- وقف على قبورهم ، إنها رؤية تفترض في جيل آخر التأمل والتدبر والاتعاظ عند المرور على قبر الآخرين ، أي أنها تفترض بعض الوفاء في جيل آخر يختلف عن هذا الجيل كلية ، بما يستدعي –إحقاقًا للحق- أن تتطهر من آثام خداعها له بأن تطلب منه تركها وحدها ليأخذها التاريخ إلى قائمة منسياته ، تلك الجماعات التي لم تحرك ساكنًا ولم تحاول أن تنظر إلى ما أمامها شبرًا واحدًا.

كان السطر الأول الممثل في العبارة (تفرقنا الطرقات وتجمعنا أشلاء) قدر كبير من الرمزية والتوفيق في المطابقة بين التفرق والجمع والتي انتقلت بعد ذلك إلى كونها إلغاء للدلالة (التجمع )ليصبح التفرق والتجمع وجهين لعملة واحدة هي الإنسان والسعي .وتتسع دلالة الطرقات لتنتقل من الحياة وهمومها لتصبح الوطن و اللاعبين به وبين ذلك وذلك لا تُعدم دلالات أخرى كالمبادئ والأفكار ، أو المصالح والأحلام الزائفة ...وتتضح هذه العدمية من خلال الأريحية التي تتحرك بها (الطرقات) والتي هي عنصر ثابت –كما يفترض- لكنها رغم أنها طرقات ولا تستطيع فعل شيء إلا أنها تبرز المفارقة في أنها هي بنفسها التي تتحكم في الإنسان تفرّق وتجمع كما تشاء بينما الإنسان فردًا كما هو جماعة –كما قال أحمد بخيت-"فإنا كما شئتنا عاجزون" كل لا تأثير له ولا يحرك ساكنًا .وهذه التبادلية بين الطريق والإنسان هي أكبر سخرية من هذا التدني الذي جعل الإنسان له صنميته المتفردة عن سائر الجمادات!!



وتبدو هذه السخرية كأوسع ما تكون عندما تكون الحياة (الطرقات) على هذا النحو من التهكم بالإنسان بل الجموع الإنسانية التي لا حول لها ولا قوة رغم زيادتها العددية إلا أنها تداعَب مداعبة فأر من أسد ، ولعل هذا التعبير أعطى الحالة تراجيديا خاصة في جعل الإنسان هذا المفعول به الذي تتحكم به الطرقات جمعًا وتفريقًا .. ومداعبة .

ودلالة (مداعبة) قوية في أنها تثبت هذه اللاجدوى للإنسان في مقابل الطرقات التي ليس من الضرورة أن تلتهم ، بل قد تؤجل هذا إلى أن تنال متعتها الكافية من هذا الفعل وشبعها من التلاعب ،ليكون الإنسان بهذه العدمية الحياتية والتي يقع عليه فيها فعل المداعبة والذي يسلبه كينونته ويجعل حياته أشد عارًا من موته إذ لو مات لكان قتله دليل استحقاقه هذه القوة للقضاء عليه،لكنه أهون من أن يُترك ليموت ميتة ربما تكسبه بعض الشرف.

وهذه السخرية تتسع في مرارتها بهذا الفعل الذي يعبر عن السلبية المطلقة إذ أن المبدعة لا تترك الوصف فئران ، بل وتقيم نظيرًا للحياة الحيوانية في حيا ةالإنسان بالاختباء في جدارالحياة ، تلك الجدار التي تفصل الإنسان عن أحلامه وكبريائه ولكنها منفعة للضعفاء الخانعين ، وكان وصفها بالجدران مؤثرًا في كونه فاصلاً للآخر شبيه الأسد وفي نفس الوقت فاصلاً للكبرياء عن التواجد عى سطح الحقيقة!

والأجمل من ذلك كله أن يكون التعبير الموضح حالة الخوف محتويًا على مفارقة لغوية رائعة في تبادل الظروف ، وذلك في تعبيرها(داخل جدران الحياة) ، فالفئران فقط هي التي تتمكن من الحياة داخل الجدران إن وجدت جحرًا، لكن الوصف كذلك ينسحب على الإنسان ليكون كالشبح أو الظل الذي يخترق الجدران ، وهذه المفارقة الصورية تظهر حجم المأساة التي تخترق فيها السلبية جدار المعقول لتنفذ إلى اللامعقول .

وفي خضم هذه الحالات الحزينة تظهر المبدعة إذ تدين الجماعة تستخدم حرف النون الذي يعبر عن الفعل الجماعي في الكلمات نختبئ ، نستمتع ، ليكون السلوك الإنساني سلوكًا مستلبًا ويعيش الإنسان فيه لاهيًا كما الفأر يقنع بل ويفرح بجحر في الحائط، لقد كان دخول كلمة نستمتع زيتًا تصبه المبدعة فوق النار لأنه يعبر عن هذه المفارقة المليئة بالحزن والتي رغم اشتدادها واكتواء الإنسان بنارها إلا أنه بمجرد بعده عنها بعض الشيء ينسى كل ما كان فيه ويقنع بحياة أكثر سلبية من التي كان عليها .

وهذه الأصوات تصبح أنات مذبوحة لكنها ممتعة للجماعة التي صارت لا تشعر بالألم ، وهذا السطر يعبر عن اختناق هذه الأصوات وعدم جدواها كأنه إشارة إلى مألوف حياتنا من (الفضفضة) والثرثرة التي تصبح كصياح الديكة الذبيحة.

ويزداد ألم الحالة حينما يكون الذبح على أعتاب المستقبل ، ورغم بساطة هذا التعبير وتكراره وغناه عن التعبير عن وجه الجمال فيه إلا أن مجيئه مع الذبح أدى إلى حالة تنتفي فيها الحياة وينتفي فيها عنصر الزمن ، ليكون الخرس هو محصلة هذه الحياة. في الوقت نفسه أستطيع القول بأن التعبير على قوته كان فيه نوع من التعقيد والتركيب غير الضروري والزائد فقط لإضفاء حالة من التوتر قد تؤدي إلى استحالة منطقية .

ومرة أخرى يأتي الفعل تتقطع ليعبر عن شدة التمزق وتكون الإدانة لهذا السلوك الجمعي الذي لم يوحده الهرب من السكين ولا مواجهة الأسد بل يكون تبلد الحس هو الحالة التي تصيب هذه الجماعة التي تقهقه ناسية سوء معاناتها . إن المبدعة تنعي على المجتمع الذي صار يضحك على نفسه ويخادع نفسه داخليًا وبخادع بعضه بعضًا ،ويأتي الفعل نقهقه في مواجهة النفي (لا نحزن) وفي منطقة التوافق مع الفعل نستمتع ، لتؤدي الأفعال دورها في بث حالة الأسى في المجتمع .وأكدت المبدعة على هذا التفكك من خلال ضمير الجماعة (نا) والنون التي تبتدئ الفعل المضارع والذي هو مستمر ولم ينته وليست هناك بوادر على نهايته. والموت يستبيح المشاعر –وهو موت نفسي- يفقد الإنسان الإحساس بنفسه والأإحساس بأن هناك حياة وموتًا آخرين ، ولعل ذكر كلمة الموت صراحة بعد ذكر الذبح والحزن أتى ليعبر عن هذه الحالة من التبلد والتي يموت الإنسان فيها متبلد الإحساس عاري الشعور .

وكذلك ذكر كلمة المشتركة صراحة بعد تعدد (نا ) الفاعلين تحمل الإدانة لهذا المجتمع . وتنتهي الخاطرة بالحديث الموجه إلى جيل قادم –غالبًا في خيال المبدعة- بعد أن أنهت حديثها لأبناء هذا الجيل لتنشد الخلاص النهائي من هذا العار بنصيحتها لأبناء هذا الجيل الجديد بإيفاء الجيل السابق عليه حقه من خلال عدم الوقوف على قبور هؤلاء الراحلين .

بالطبع القبور والموت هنا هي تعبيرات مجازية عن التاريخ وخلود الذكر ، لكنها لا تخلو من دلالة تنسحب على الموت الحقيقي الذي لا تراه جديرًا بأن يُوقَف على قبر أصحابه. إن النعي هنا يذكرنا بقول القائل :

ذو العقل يشقى في الحياة بعقله

وأخو الجهالة في الغباوة ينعم

لتنشد الخلاص من الحال التي آل إليها المجتمع ، تكمن عنف المصيبة في أن المبدعة لا تنشد الخلاص وإنما مجرد الإحساس ، تلك النعمة –كما نقول في العامية –التي لو تواجدت لأشعرت الكاتبة ببعض الأمل ، لكنها بلسان حال المجتمع تشرك نفسها في الإدانة قائلة هذه الكلمات الأخيرة. أخيرًا : الحدث الذي تتناقشه متروك لذهن المتلقي ليصلح لكل زمان ومكان كما أنه قصير نسبيًا ومركز ليعبرعن حالة البوح الأخيرة ، وينسحب على الرومانسي من الأوضاع كما ينسحب على الاجتماعي ويشعر معه القارئ بأصداء حزينة وإيقاع بطئ يصل معه إلى التوحد بأحزان المبدعة تلك التي تبحث عن الخلاص ولا تجد إلا معاقبة الذات لو كانت تشعر.

عمل رائع أحييك عليه أختي العزيزة إيمان ، ودمت مبدعة دائمًا وفقك الله
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار





آخر تعديل بواسطة المشرقي الإسلامي ، 28-08-2010 الساعة 01:54 AM.
المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس