وبتوضيح أصلهما المشترك يتوجه هيدجر إلى جوهر التقنية، أي
أن أسبقية النظرية أصبحت في خبر كان ولم تعد مسلم بها
اليوم. فالعلوم الحديثة فرضت نفسها بعد ما أصبحت تجريبية
وتقنية ورياضية، ولتحديد مرحلة هذا التطور أطلق عليه
المفكرون بما يعرف اليوم ب<< التقانية العلمية>>[6]. أما
بخصوص الأطروحة الثانية ينكر هيدجر وبشدة في حوار له مع
صحفيين من جريدة Speigel الأيديولوجيا المهيمنة في
الديموقراطيات الغربية التي تتغنى بقدرة الإنسان وتحكمه في
التقنية، قائلا قولته الشهيرة:<< التقنية في كينونتها شيىْ لا
يستطيع الإنسان التحكم فيه>>[7] ونحن بمعرض هذه النقطة،
لابد أن نشير إلى أن هذه النقطة تميز رؤية هيدجر للحداثة ككل:
فأيديولوجية التقانية العلميةTechno-science تتغذى من
عدم قدرة الإنسان الحديث أن يتعرف بواسطة الفكر على
<< القوة المتخفية بين ثنايا التقنية المعاصرة التي تحدد علاقة
الإنسان مع ما يوجد>>( تساؤلات، الجزء146:III). ومن ثم إن
غياب التأمل بالنسبة للإنسان المعاصر يجد سببه في الانبهار
أمام التقدم الباهر والفاتن للتكنولوجيات الجديدة.
تشهد الوقائع في خضم التطورات السريعة أن هناك قوة تتجاوز
إرادة ومراقبة الإنسان، لأنها لا تصدر عنه، بل تجعل أي
مشروع سياسي أو أخلاقي يريد توجيهها أو السيطرة عليها
محض تهويم وفرقعة في الهواء. والغريب في الأمر أن إرادة
التحكم هاته أصبحت خداع ليس إلا، مثقلة بعمي وتواطىْ الفكر
التقني نفسه الذي يحاصر الإنسان من كل جانب والذي يخفي
وجها آخر للعبودية التي يوجد عليها. إذ << يبدو صحيحا أن
النجاحات المتسارعة للتطور الباهر للتقنية لا تترك أو تعطي
انطباعا بأن الإنسان سيصبح سيد التقنية. فالحقيقة، تؤكد أن
الإنسان أصبح خادما للقوة التي تسيطر على كل إنتاج تقني من
جميع الجوانب >>[8].
ولذلك ما زال النقد الهيدجري يحتفظ براهنيته للتمثل
الأنثروبولوجي- الأداتي، فلقد برهن جاك إلول J. ELLUL في
كتابه النظام التقني(280:1977) بأن التقنية بعيدة كل البعد أن
تتطور عبر مسالك الغايات التي نطمح لتحقيقها، بل تتقدم في
الواقع عن طريق تطوير الإمكانيات الموجودة فيها أصلا للنمو
والتي أصبحت تقانية كوكبية Technocosme ،أي كأفق
أخير وليس كأفق للمعنى. بمعنى أن التقنية لا تخضع إلا إلى
حتميات نموها الخاصة والعمياء التي تتجسد في تحقيق جميع
التركيبات الممكنة التي تسمح بها جميع حالات التجريب بين
عناصرها. يوضح هيدجر هذه الضرورة المتخفاة في قلب جوهر
التقنية كنذير مستفزGe-stell يتجاوز الإنسان ومشاريعه
ونشاطه، بحيث لم يعد قادرا أن يترجم فعليا مبدأ المعقولية
الأخير الذي كان يضعه بين الغايات والوسائل.