الموضوع: لقاء تحت القصف.
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 05-09-2012, 08:51 PM   #1
عبدالحميد المبروك
عضو نشيط
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2005
المشاركات: 200
إفتراضي لقاء تحت القصف.

مسحت العرق المنصب على جبيني و عيني و خلعت نظارتي الشمسية التي ألفتها حتى ما عدت أشعر بوجودها و نفثت فيها ثم مسحتها بطرف قميصي و أعدتها إلى مكانها و لبست نظارتي الطبية المعلقة بعنقي فتأكدت أن المبتسمة التي على مرمى بصري هي ، هي ، لا أخرى تشبهها.
لقد كانت زميلتي لسنوات عديدة منذ أكثر من ثلاثة عقود مثلها مثل الكثيرات و الكثيرين و عشنا أيامها إخوة و أخوات لم نرضع من ثدي واحد ، فلقد كانت وشائج المودة و الإحترام و التقدير و الإكبار و الإيثار تطغى في كل علاقتنا ...كنا نعيش أسرة واحدة ...رغم إنحدارنا من أسر مختلفة ...
لقد مرت سنوات بل عقود لم ألتقيها و لم تقع عيني عليها ، إلا أن أخبارها لم تنقطع عني ، كلما مرت بي الأيام حنيت إلى مشاعري القديمة نحوها و التي لم تمت و لكنها دخلت طور الكمون ، تستثيرها وجوه مشابهة لوجهها أو أغنية كانت تحلق بي في أعالي الروح فصارت الآن تثقل الروح بألم ممض، أو ذكرى تطغى على نفسي أحيانا ، غير عابئة بجريان السنين ... تباطأت خطواتي و تثاقلت ، و تلاحقت أنفاسي و عاد العرق يسيل على جفوني... كان التوتر الباديء علي مثيرا لي ، قررت أن أقصدها مباشرة دون أن أهرب مثل عادتي حينما تقابلني إحدى زميلاتي في العمل ... كانت قدماي كأنها تريد أن تخذلني ، فتتردد ، و إضطربت خطواتي ، لكنني واصلت و أنفاسي تتلاحق ، فشعرت بإرتعاشات يدي... و خفقات قلبي تكادان أن تسمع ..... إبتلعت ريقي الذي جف فجأة ... ما إن إقتربنا من بعضنا حتى ألقينا السلام في لحظة واحدة و كأننا على موعد ، فإذا بإبتسامة ممزوجة يوقع المفاجأة و عينانا مصوبتان إلى بعض...
كان حاجباها مرتفعان... فبادرتني ... كيف أنت ؟ و كيف هي أحوالك ؟ كيف هم أولادك ؟ قالتها متتابعة متسارعة كأنها تحفظها أو كأنما لا تريد سوى الإجابة المعهودة، الحمد لله .. الحمد لله... قلتها و لبرهة أردت أن أسترسل لكن نظراتها المتراخية لم تشجعني فودعتها معربا لها عن سعادتي بلقائها هذا المصادف بعد هذه العقود و أثناء هذه الأحداث الدامية التي تمر بها البلاد ... و القصف على المدينة..
إنصرفت ، و إنصرفت و أنا لا أدري إلى أين و قد تشظت مرايا نفسي بعشرات الأسئلة و صور المشاعر المتماوجة و إن ظللت أردد في خاطري سؤال واحد ، هل يستحق الأمر كل هذا العناء ؟ ! ... حتى ساقتني قدماي إلى باب زوجة أولادي الذين تزوج معظمهم و لم يبق منهم أحد .. فوضعت المفتاح لأدخل عالمي فتعثرت على غير عادتي .. أعدت المحاولة أكثر من مرة فإذا بأم الأولاد تفتح الباب .. دخلت حجرتي ، و أنا أخبيء جهشة دفنتها بين شفتي و في صدري، و دمعة ساكنة قد سالت حارة في عيني على وجهي المكابر حتى لا تراها ... فأسرعت إلى الحمام بحجة الوضوء ... !!!
عبدالحميد المبروك غير متصل   الرد مع إقتباس