عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 12-11-2009, 09:06 AM   #2
فرحة مسلمة
''خــــــادمة كــــــتاب الله''
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2008
المشاركات: 2,952
إفتراضي

تابع

لقد لبى السعداء الموفقون النداء، وأعرض التعساء المخذولون عنه، فبينما لبى الموحدون:«لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك»كان المشركون يلبون: «إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك»، وهذا على عادتهم في الكفر وعبادتهم الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.
وما كانوا يسوون آلهتهم بالله من كل وجه، فقد كانوا إذا ركبوا في البحر وهاجت الأمواج دعوا الله مخلصين له الدين، فلما أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون، كانوا يقذفون بالأصنام إلى البحر، ويقولون: يا رب، ولسفاهة عقولهم وضلالة أفئدتهم كانوا يعودون لعبادتها مرة ثانية!!
وكانوا قد مَلَئوا الكعبة بالأصنام، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف بثياب عصينا الله فيها.
لقد انتكست العقول وارتكست الفطر عند أهل الجاهلية الأولى، فكان التغيير والتبديل لمعاني التوحيد والتشريع في الحج وغيره.
والجاهلية ليست حقبة تاريخية حدثت وانتهت، بل هي تصورات ومعتقدات وظنون، وحمية، وتبرج، وحكم بغير ما أنزل الله، وكثير من الأوضاع ما زالت تتشبَّه بالجاهلية الأولى، فهذه الفلسفات والدساتير والنظم التي تخالف دين الله، وتشريع العباد للعباد، والذبح لغير الله، والتماس المدد من المخلوقين، والاستغاثة بالمقبورين، ودعاء الأولياء والصالحين... كلها صور تخالف معاني التلبية والاستجابة والطاعة لله رب العالمين، بل ما زال الناس يعبدون الأصنام في أدغال أفريقيا، ويجثون على الركب للعذراء في أوروبا، ويطوفون حول قبر لينين في روسيا (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(الروم:7).
إن التلبية بمثابة منهج حياة، ودلالة على معنى الوحدة والتوحيد، والملبِّي له أوفر الحظ والنصيب مما كان عليه الأنبياء والمرسلون (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام:90)، فحياة نبي الله إبراهيم -عليه السلام- ووصله وهجره، وحله وترحاله، ونقضه وإبرامه، كانت ترجمة حقيقية لهذه التلبية، فمناظرته لأبيه وقومه والنمروذ، وتركه لهاجر وولده الوحيد إسماعيل ببلد الله الحرام كانت استجابة لأمر الله، فلما أراد أن ينصرف إلى فلسطين تعلّقت به هاجر، وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال لها: نعم. قالت: فإنه لن يضيعنا، والله لا يضيع أهله. وبعد أن غاب عنهم توجه إلى ربه وقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(إبراهيم:37).
ثم رفع القواعد من البيت هو وإسماعيل نزولاً على أمره -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(البقرة:127،128).
ووقف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفات وقال: (قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الألباني.
ولبى -صلوات الله وسلامه عليه-: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك»، ولبى الصحابة معه، وسُمِع البعضُ يقول: «لبيك بحجة حقًا، لبيك تعبدًا ورقًا»، ولبى البعض: «لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل».
وحكى -صلى الله عليه وسلم- لأمته حال الأنبياء في تلبيتهم، فقال: (كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ)رواه مسلم، وقال:(وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا)رواه مسلم.
وحياتهم جميعًا -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وجهادهم ومواصلتهم الليل بالنهار، كانت إقامة لمعاني التلبية وتعبيد الدنيا بدين الله، ونشرًا للشرائع والشعائر في الأرض (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(الأنبياء:25)، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت)(النحل:36).
ولذلك يجب أن تكون حياتنا الخاصة والعامة استجابة من بعد استجابة، وطاعة من بعد طاعة، وكيف لا نعبد خالق الخلق، ومالك الملك، القلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب لديه مكشوف، وكل أحد إليه ملهوف، عنت الوجوه لنور وجهه، ودلَّت الفطرُ على امتناعِ مثله وشبهه، له الحمد بالإسلام، وله الحمد بالإيمان، وله الحمد بالقرآن، أظَهَرَ أمننا، وبَسَطَ رزقنا، وأحسن معافاتنا، له الحمد بالمال والأهل والولد (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)(النحل:53)، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(إبراهيم:34).
وإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر أين أقامك، جعلك مسلمًا، وأقامك في طاعته، ويسّر لك الحج وبلوغ بيته الحرام بمنّه وكرمه «إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».
وهل النعم بيد أحد سواه؟ وهو -جلّ في علاه- مالك الملك، وملك الملوك. الكبرياء رداؤه، والعظمة إزاره، فمن نازعه واحدًا منهما قصَمَه ولم يبالِ، ولذلك كان أخنع الأسماء رجل تسمى بملك الملوك أو شاهنشاه، ولا ملك على الحقيقة إلا الله، ومن أنكر ذلك عَلِمَه وتَيَقنَه في يوم يُقال فيه: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(غافر:16).
وإذا كانت النعم منه وحده، والملك بيده وحده، فكيف يخلق هو ويُعبَد سواه، ويرزق هو ويُشكَر غيره؟ لا شريك له في ربوبيته وألوهيته (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)(الأعراف:54)، التلبية التي يلبي بها الحجيج، حَرِيةٌ أن تـُبَحَّ بها الأصواتُ، وأن يُؤمَر بها العباد في كل زمان ومكان.
كلمة انعطفت لها الجمادات، فما من ملبي يلبي إلاّ لبى ما عن يمينه وما عن شماله من شجر وحجر ومدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا، نستشعر بها التناسب والإنسجام مع الكون من حولنا، وتزول النفرة بين ظواهرنا وبواطننا، ونسعد في دنيانا وأخرانا عندما تكون حياتنا طاعة من بعد طاعة لخالق الخلق ومالك الملك لا شريك له.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
__________________








فرحة مسلمة غير متصل