عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 25-01-2009, 07:08 AM   #23
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

وأشعل المسلمون النار في الأعشاب حول الإفرنج، فأصبحوا بين طوقين السهام والنيران، وبدأوا بالهجوم على جيش صلاح الدين ليكسروا الطوق من حولهم، وكانت هجمتهم ضارية شرسة، فقد كانوا يقاتلون طلبا للنجاة، بل خلاصا من الإبادة وصمد المسلمون لهجمات الإفرنج فقد كانوا بدورهم أمام إحدى الحسنين: النصر أو الشهادة، ذلك أن المسلمين، في تعبير ابن شداد "كانوا من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو، وإنهم لا ينجيهم إلا القتال والجهاد…"

وهنا يأتي أروع فصل من فصول القصة البطولية، يرويه، الأفضل، ابن صلاح الدين، وكان صبيا يقف إلى جانب والده في المعركة، وها هو يروي للمواطن العربي الفصل الأخير من المعركة.

قال الأفضل :"…كنت إلى جانب والدي في ذلك المصاف-الحرب-وهو أول مصاف شاهدته، فلما صار ملك الإفرنج على التل في تلك الجماعة، حملوا حملة منكرة على المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي، فنظرت إليه وقد علته الكآبة، واربدَّ لونه، وأمسك بلحيته وتقدم وهو يصيح "كذب الشيطان" فعاد المسلمون على الفرنج فرجعوا وصعدوا على التل…فلما رأيت الإفرنج قد عادوا، والمسلمون يتبعونهم صحت من فرحي :" هزمناهم"، فعاد الفرنج فحملوا ثانية مثل الأولى، وألحقوا المسلمين بوالدي، وفعل والدي مثل ما فعل أولا، وعطف المسلمون على الإفرنج فألحقوا بالتل، فصحت أنا أيضا "هزمناهم"، فالتفت إليَّ والدي وقال اسكت…. ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة. ووالدي يقول لي هذا، إذا الخيمة قد سقطت. فنزل السلطان وسجد شاكرا الله تعالى، وبكى من فرحه".

ويتحدث العماد الأصفهاني عن المعركة، بصفته المتكلم الحاضر، فيقول :"فرمى بعض مطوعة المجاهدين النار في الحشيش، فبلوا الإفرنج، من نار الدنيا بثلاث، نار الضرام (الأعشاب) ونار الأوام (العطش) ونار السهام، فاووا إلى جبل حطين. فأحاطت بحطين بوارق البوار، وحطوا خيامهم على غارب حطين، فأعجلناهم بضرب السهام…. فترجلوا عن الجبل، وتم أسر الملك، وأبرنس (أمير) الكرك، وهمفري أخي الملك، وأمير جبيل، وابن همفري، وأبن أمير إسكندرونة، وأمير مرقية. وأسر من الداوية معظمها، ومن اليارونية".

وختم العماد وصفه للمعركة كأنما يرسم لنا لوحة زيتية رائعة فيقول:"….ومن شاهد القتلى قال ما هناك أسير، ومن شاهد الأسرى قال ما هنالك قتيل. ولقد رأيت في الحبل الواحد ثلاثين وأربعين فارسا يقودهم فارس، وفي بقعة واحدة مائة ومئتين يحميهم حارس .

ومن الطريف، أن هذه المعركة قد استبدت باهتمام مؤرخها ومعاصرها ابن الأثير، فقد مر على حطين بعد عام من المعركة وقال: "وقد اجتزت موضع الوقعة بعدها بنحو سنة، فرأيت الأرض ملأى بعظام الإفرنج، ومنها المجتمع بعضه على بعض، ومنها المفترق، هذا خلاف ما جمحته السيول، وأخذته السباع".

ولم يخلد صلاح الدين إلى الراحة، بعد معركة حطين، فإن هذه الهزيمة الساحقة التي نزلت بالإفرنج لا بد من متابعتها، ولا بد من مطاردة الإفرنج واللحاق بهم في كل معاقلهم.

ورأى صلاح الدين الفرصة الذهبية أمامه لتصفية مواقع الإفرنج في حرب خاطفة، لا تعطيهم فرصة للاستجمام والاستعداد.

ويمضي العماد الأصفهاني يروي أن قوات صلاح الدين، قد نازلت الإفرنج في معارك سريعة كالبرق الخاطف، تنتزع منهم المواقع التي بأيديهم، مدينة بعد مدينة وحصنا بعد حصن .

وقد استمات الإفرنج في الدفاع عن عسقلان لأهميتها الاستراتيجية بين مصر والشام، ولما يئس أهلها من المقاومة طلبوا الأمان فرضي صلاح الدين، و"أقتيد أهلها إلى الإسكندرية حيث قضوا فصل الشتاء في رعاية صلاح الدين إلى أن تم ترحيلهم في ربيع العام التالي". وهذه واحدة من مكارم صلاح الدين التي أشادت بها المراجع الغربية قبل العربية.

ونحن لو أنعمنا النظر في معركة حطين من بدايتها لنهايتها لوجدنا أنها هي حرب الأيام الستة المجيدة، لا الزائفة، فقد بدأت في اليوم الرابع من شهر تموز، ولم يأت العاشر إلا وكانت مدن الإفرنج وقلاعهم وحصونهم، قد سقطت بيد صلاح الدين واحد بعد الأخرى.

وأقول حرب الأيام الستة المجيدة، لا الزائفة، فإن المعركة بين صلاح الدين والإفرنج كانت معركة كبرى تطاحنت فيه القوى العربية والقوى الأوربية، وجها لوجه.

أما معركة الأيام الستة لعام 1967 فقد كانت المهزلة المأساة، انتصرت فيها إسرائيل، لأن الفريق العربي لم يحارب، بل لم يكن يريد الحرب أصلا. ولكنها كانت مظاهرة هوجاء، عرفت إسرائيل كيف تبددها وتذروها للرياح.

ومع ذلك، فإن المواطن العربي يتساءل اليوم: وكيف استطاع صلاح الدين في حرب الأيام الستة، وقبل ثمانية قرون: أن ينتصر على تلك القوى الأوروبية، في حين الأمة العربية قد انهزمت هزيمة منكرة أمام إسرائيل في ستة أيام، وجلست في اليوم السابع تمسح عن وجهها غبار الهزيمة.

والجواب، في غاية البساطة، إن الذي انهزم مع إسرائيل هم حكام العرب المعاصرون، وليست الأمة العربية، جيوشا وشعوبا… إن الملوك والرؤساء العرب، يتحملون وحدهم عار الهزيمة، كل حسب قدراته وطاقاته، ودوره في المعركة.

لقد انتصر العرب في حطين، لأنهم كانوا دولة واحدة، وملكا واحداً، وجيشا واحدا، وقد انهزم العرب في سيناء والجولان والأردن، لأنهم كانوا أربعة عشر ملكا، وأربعة عشر جيشا، وأربعة عشر وزير دفاع.

في معركة حطين كان الجيش العربي مؤلفا من قوات مصرية وشامية وحجازية وعراقية ويمنية، كلها جيش واحد في ميدان واحد، تحت قيادة واحدة.

وفي أيام حطين كانت دولة الوحدة تمتد من البصرة إلى برقة، ومن حلب إلى عدن، وكان أمراء البلاد يحاربون في الميدان، وفي طليعتهم أمير المدينة المنورة عز الدين الحسني.

ولكن في حربنا مع اسرائيل فقد كانت الميادين متعددة والجيوش متبددة واسرائيل تضرب في ميدان بعد ميدان وجيشاً بعد جيش, وفي أيام حطين كتب صلاح الدين إلى البلاد مستنفرا يدعو إلى الجهاد فلبى الناس بداعي الأيمان، على حين أن الدول العربية في حرب الأيام الستة لم يكن بأيديها إلا اتفاقيات الدفاع الهزيلة. فكان اتفاق الدفاع بين مصر وسوريا قبل المعركة بخمسة شهور، وكانت اتفاقية الدفاع بين مصر والأردن قبل خمسة أيام. وكانت اتفاقية الدفاع بين مصر والعراق بليلة واحدة. ووصل الجيش العراقي إلى الميدان في الأردن في صبيحة المعركة، واصطادت الطائرات الإسرائيلية الدبابات العراقية كما تُصاد العصافير.

وكان مفهوم الوحدة عند صلاح الدين أصيلا عريقا فقد قال: " إنما نريد أن يسيرا الناس معنا على قتال الأعداء فقط، وليس قصدنا من الفتح البلاد بل العباد " ثم أكد هذا المعنى بقوله: "إني دخلت إلى الشام لجمع كلمة الإسلام، وسد الثغور، وكف عادية المعتدين، وما قصدي إلا جمع كلمة الإسلام على الإفرنج".

على حين أن الدول العربية قد دونت في دساتيرها هدف الوحدة وبقي اللفظ ميتا في دستور ميت.
وبلغ صلاح الدين بيت المقدس في العشرين من شهر أيلول، ونزل عند جانبها الغربي حيث أقام معسكره، وراح يضرب الأبراج والأسوار خمسة أيام بلياليها، وصمد الإفرنج واستبسلوا واستماتوا.

ثم أتجه صلاح الدين صوب الشمال فنصب مجانيقه وجميع أدوات الحرب، وأرسل إلى الإفرنج مرة ثانية يمنحهم الأمان ويطالبهم بالتسليم حقنا للدماء وصونا لبيت المقدس. ولم يأل صلاح الدين جهدا، كما ذكر أحد مؤرخي الفرنج، أن يجنب بيت المقدس ويلات الحرب وأن يمنع عن معابدها دمار القتال.

ولكن الإفرنج أصروا على القتال، ودارت رحى الحرب داخل الأسوار وخارج الأسوار، وراحت قوات صلاح الدين توجه للإفرنج ضربات قاتلة، فهلكت طلائع الإفرنج أمام الأسوار، واقتحمت قوات صلاح الدين الخندق، ووصلوا إلى السور، فنقبوه وبدءوا يعدون لإحراقه، وهال الإفرنج ما رأوا، وطافوا في شوارع بيت المقدس يبكون ويبتهلون التماسا للنجاة، ثم أيقنوا أنهم هالكون لا محالة، وأن الهزيمة أصبحت أمرا واقعا، فكاتبوا صلاح الدين يطلبون الأمان، وبعد تبادل الرسل، استقر الرأي، فرضي صلاح الدين ومنحهم عهد الأمان.

وطلع الفجر، فكان يوم الجمعة، 27 رجب وهو يوم الإسراء والمعراج. ووقف التاريخ وقفة طويلة وهو يبصر بالملك الناصر صلاح الدين الأيوبي يدخل بيت المقدس ومن حوله أمراء الجيش والجند، من غير زهو ولا خيلاء يهللون ويكبرون، وكانت مصادفة تاريخية عجيبة، التقى فيها الإسراء مع النصر، والمعراج مع التحرير.

وكان موكبا حفَّه الزمان بكل مفاخره وأمجاده، ولم توضع السيوف في أغمادها إلا حين بلغ موكب النصر ساحة المسجد الأقصى، حيث وقف صلاح الدين في رحاب القبلة الأولى متجها بفؤاده إلى القبلة الثانية، يصلي صلاة النصر، ويدعو دعاء الشكر، فيرسله من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام.

ولقد توَّج صلاح الدين هذا النصر المجيد بروائع من الإحسان والرحمة، شملت جموع الإفرنج، أمرائهم ورهبانهم، ورجالهم ونسائهم وصبيانهم، حتى بلغت حد الأساطير، وما لحمتها إلا الصدق وما سداها إلا الحق، وكان أكثر رواتها هم فرسان الإفرنج الذين عادوا إلى أوطانهم، فقصوا أخبارها، وأصبحت قصائدهم في سمرهم، وأناشيدهم في أعيادهم!!

ومن تلك الأخبار أن صلاح الدين قد أطلق سراح الملكة مارية أرملة عموري الأول، كما أخلى سبيل ابنته، وأرملة أرناط الذي عرف بغدره وكيده للعروبة والإسلام.

وكان في جملة من أُخلي سبيلهم البطريق بما معه من الأموال والجواهر ومقدم عسكر الإفرنج وما حمل من زينة الكنائس والذهب والفضة، وسائر الأمراء وما نقلوا معهم من متاع.

ومن تلك الأخبار أن صلاح الدين قد كفل الأمن والسلامة والمؤن وأسباب السفر لجميع اللاجئين من الإفرنج الذين نزحوا عن القدس.


ومن تلك الأخبار كذلك ما رواه مؤرخو الإفرنج، من أن صلاح الدين لم يكتف بإطلاق سراح الشيوخ والأطفال واليتامى بغير فدية، بل إنه أغدق عليهم عونا ماليا ييسر لهم سبيل العودة إلى أوطانهم.

لقد فعل صلاح الدين هذه المكارم، وأكثر وأكثر، وكأنما المذبحة الكبرى التي اقترفها الإفرنج يوم سقوط القدس قبل تسعين عاما ما جرت، وكأنما التقتيل والدمار والفظائع التي وقعت في شوارع القدس آنذاك ما وقعت، وكأنما الدماء التي كانت تخوض فيها خيول الإفرنج ما نزفت، وكأنما أولئك العلماء الذين سقطوا سبعين ألف شهيداً ما لقوا مصرعهم، بل لكأنما ما فعله الإفرنج كان إحسانا، فجزاهم صلاح الدين إحسانا بإحسان….وهذا هو صلاح الدين.

وقد رأى صلاح الدين أن المسجد الأقصى لم يعد مسجدا كما كان، إذ غير الإفرنج معالمه ومظاهره، فهدموا فيه وأضافوا إليه، وجعلوه معبدا لهم.

وقف صلاح الدين يشاهد ذلك كله، فأزال ما أضافوا، وأعاد المسجد إلى حاله، ولكنه كان شديد الحرص ألا تطيش أحلام العامة والجند فيثأروا للمسجد الأقصى من معابد الإفرنج ومقدساتهم، فأمر أن لا تمس كنيسة القيامة بأي ضرر أو أذى، وأن تحفظ للمقدسات قدسيتها فقد قال صلاح الدين :" عندما فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه القدس في صدر الإسلام، أقرهم على هذا المكان ولم يأمر بهدم البنيان".

بل إن صلاح الدين كان أكثر من ذلك سماحة ورحابة، فقد ذكر أحد مؤرخي الإفرنج أن الإمبراطور البيزنطي أوفد بعثة إلى صلاح الدين يهنئه بفتح بيت المقدس، ويرجوه إعادة الأماكن المقدسة المسيحية إلى الكنيسة الأرثوذكسية، فرد صلاح الدين التحية بأحسن منها، واستجاب لطلب الإمبراطور.

وفوق هذا وذاك فإن صلاح الدين، كما ذكر مؤرخ غربي حديث، "وثق في عالم مسيحي أرثوذكسي من بيت المقدس أسمه يوسف بابيط، فاتخذه مستشارا في كل معاملاته مع الأمراء المسيحيين.


__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس