الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 17-11-2007, 11:14 PM   #49
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

حارس الزنزانة

كانت زنزانته رقم 11 قبالة تجمع الحراس الذين كانوا يجلسون لفترات بسيطة، إذا ما أحسوا أن كادر إدارة المعتقل قد هجع نشاطه، كان باستطاعته أن يسمع قليلا مما يتهامسون به، إذا ما اعتقدوا أنه نائم .. لم تكن لهم أسماء على صدورهم كباقي أفراد الجيش أو الشرطة، بل أرقام، شأنهم شأن مسئوليهم الذين لم يكونوا يناديهم أحد بأي اسم يدلل عليهم بل كانت لهم ألقاب ..

لم يكن يعرف الوقت، فقد أخذوا ساعته من ضمن الأغراض التي أودعوها بالأمانات هي والحزام وعلبة السجائر والولاعة، فالاحتياطات كانت واجبة، فقد تسول له نفسه أن يحرقها أو يستخدم الحزام ليموت مشنوقا، كما أنه لم يرى الشمس طيلة الفترة التي أعتقل بها، وزنزانته تقع في الطابق الثاني تحت سطح الأرض، وقد سمع أن هناك طابقا آخر تحته .. كان يتعرف على الأيام من خلال برنامج العشاء ..

في ذات الليلة كان العشاء مكونا من سلطة شيء أخضر مع لبن رائب وكبب مقلية، مكونة من بعض البقوليات، أي أنه كان يوم الثلاثاء.. كانوا قد أحضروا رجلا في متوسط عمره، لمحه عندما وضعوه في زنزانة رقم 5 التي كانت على ممر متعامد مع الممر أو (النفق) الذي تقع فيه زنزانته. كان شعره أسود اللون، فقدر أنه قد صبغه حديثا، كان مجيئه بعد تناول وجبة الغداء، وعندما تم تقديم مخصصاته من الطعام، قال: أنه لا يحب اللبن مع الشيء الأخضر الذي كان ممزوجا به، ولم يكن من الخيار أو الخس بطبيعة الحال.. فهمس بأذنه الحارس وقال فتت الخبز وضعه في داخل الطبق حتى لا يقال عنك أنك مضرب عن الطعام، فأجابه فليقولوا عني أني مضرب عن الطعام، ترجاه الحارس أن يفعل ما ينصحه به ولكنه أبى ..

مر من أمامه رجل في أوائل الخمسينات ومعه ثلاثة من الحراس، فهتف رئيسهم للحراس افتح رقم خمسة وأخرج (بارد الوجه) فسحبوه سحبا الى مكان لم يستطع رؤيته لكنه عد له حوالي تسعين صرخة، وبعدها أعادوه وكان شعره أبيضا كالقطن، وقدموا له طبق السلطة الخضراء باللبن فأكلها (ممتنا) .. فعاد إليه مَن سبق ونصحه قائلا : ألم أقل لك ما تعمل، لو فتفتت الخبز ووضعته بالصحن لما اعترض عليك أحد، هل تظن نفسك بالسويد؟

بعد ساعات قال أحد الحراس للآخر: هل تظن أن الله سيبارك لنا في رزقنا وأولادنا ؟ ما الذي يجبرنا على ضرب مثل هذا (الشايب ) .. هل انقطع الرزق إلا بتلك المهنة؟ لو أننا بين أولادنا الآن نتناول الشاي و نتسامر ونفلح أرضنا وإذا الله جابها نشتري بعض الحلقوم والبسكوت ونتلذذ من دون تلك الكوابيس .. وحدثه عن حالات سبقت تلك الحالة .. وانقطع كلامهم ..

في اليوم الثاني جاءوا بشاب مهندس كان قد عاد من كندا، ووضعوه في نفس الزنزانة 11 التي كان بها سريران ثبتا فوق بعض ليتركا جانبهما ممرا بعرض متر وأمامهما مسافة متر تفصلهما عن الباب الذي يشغل كل الواجهة لكنه لم يكن بابا بل شبكا بقضبان مربعة الشكل تحتاج لثنيها الى قوة ستين رجل أو مئة حصان ..

لم يتم التعارف بينهما، فقد كان كل منهما يخشى أن يكون الآخر قد وضعته الأجهزة الأمنية للتجسس على الآخر .. ولكنه بادر وقال لضيفه: ليس لدينا ما نقضي به وقتنا سوى القرآن الكريم الموضوع جنبنا، وقد تطول إقامتنا شهورا هنا، وأنت تخشاني كما أنا أخشاك، ماذا لو ابتكرنا طريقة لتمضية الوقت، كان ضيفه شابا مهذبا، فاستجاب بعد أن عرف منهج صاحبه في تمضية الوقت .. فكانا يمضيان وقتا في تعداد أسماء رؤساء لبنان أو أنواع السيارات أو العواصم التي تبدأ بحرف الباء .. فيطلب أحدهما من الآخر (هات لي خمسة أنواع ساعات) فيعد على أصابعه بهمس شديد .. ويطلب هات لي خمسة أنهار في البلدان العربية ..

كان الحارس الذي وشى بمن حاول الإضراب عن الطعام، لا يرتاح لهمسهما، فيأتي بحالات تنصت مختلفة أحدها أن يضع أذنه قرب أسفل الشبك، أو أعلاه من جهة كان يعتقد أنهما لا يرياه فيها .. ولكن دون جدوى .. فيبادر بخشونة : هل تعرفا بعضا سابقا، فلا يجيباه .. ماذا تعدان على أصابعكما ؟ فلا يجيبان .. فيلجأ لعقابهما .. أخرجا ونظفا الحمامات ..

كان يسيئه أن يأخذ حماما في مكان كمربط الخيل لا باب له إلا ما يغطي نصف متر مما داخل الحمام، وكان كأبواب مقاهي الكاوبوي، وكان يسيئه أكثر عندما يريد أن يقضي حاجته في الحمامات .. فالدجاجة تتضايق إذا ما أحست أن هناك من يراقبها في عمليتها (الأيضية) ..

في ظهر اليوم التالي أتى مندوب للصليب الأحمر ومعه مترجم .. وكان قد علم أن معظم موظفي تلك المنظمات يرتبطون بأجهزة استخبار معادية .. كان مندوب الصليب الأحمر سويسريا ربى شاربه ولف طرفيه الشقراويين بشكل حاد على غرار باشوات مصر الملكية .. فسأله كيف اهتمام إدارة السجن بصحتكم ؟ فأجاب على خير ما يرام.. ثم سأله: كيف طبيعة الطعام الذي يقدم لكم؟ فأجاب: تعجز زوجتي عن عمل مثل هذا الطعام اللذيذ .. ثم سأله : لماذا أنت موقوف؟ فأجاب: إنها قضية بيني وبين دولتي لا شأن لك بها .. فغادره حانقا ..

أخرج لفافة تبغ من علبته وتقدم الى الشبك، فإذا بمن أمر بضرب من حاول الإضراب عن الطعام يصيح بالحراس .. ولعوا للأستاذ سيجارته .. أدرك أنه تنصت على الحوار الذي دار بينه وبين مندوب الصليب الأحمر فكانت تلك مكافأة مع قدح شاي (بلاستيك!) ..

وكان قد تسمع لحوار في زنزانة رقم 4 التي تسبق زنزانته في السؤال، وكانت الإجابات مغايرة، حيث أن صحة الموقوف معتلة والطعام سيء و لا يعلم سبب توقيفه .. فتبعتها أسئلة أين تقيم وكم رقم تلفونك، فتهيأ له أن ذلك مشروع لاصطياد الجواسيس والمتعاونين مع الغرب من خلال المعتقلات!

بعدما ذهب مندوبو الصليب الأحمر أمرهم المسئول بفتح زنزانة رقم 4 فسحب على الأرض، وهم يخاطبونه سنمسح بك الأرض.. الأكل ليس جيدا؟ لا تعرف لماذا أنت هنا؟ واختفى من الطابق الى الطابق الأكثر عمقا ..

بعد سنوات رأى الحارس الذي أنبه ضميره على ضرب من حاول الإضراب عن الطعام، فأوقف سيارته جنبه، وسلم عليه، فأجاب الحارس بذعر شديد، فذكره أنه قبل عدة سنوات كنت أنت حارسا في المعتقل الفلاني .. فأنكر الحارس ورفض دعوة الغداء منه وقد يكون طلب نقلا من تلك المنطقة .. فلم يعد يراه ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس